فقال الحاجب وهو يرتعد: «إن الأطباء يقولون يا مولاي إن الماء البارد قد يكون فيه الهلاك.»
فأجاب الملك: «اذهب بالأطباء إلى الشيطان الرجيم! إذا كانوا لا يعرفون لي شفاء، أفتظن أني أسمح لهم بإيلامي وتعذيبي؟ هات الماء وحسبك هذا!» وبعدما اغتسل بالماء قال: «أدخل علي الرسولين الكريمين، وما إخال إلا أنهما سوف يريان الآن أن المرض لم يحد برتشارد إلى أن يتهاون في مظهره.»
وكان رئيس رجال المعبد الشهير رجلا طويلا نحيلا، برته الحروب، نظراته وئيدة إلا أنها نافذة، وله حاجبان طبعت عليهما ألوف الدسائس المظلمة لمحة من خفائها ودجنتها، وهو على رأس تلك الجماعة الفريدة التي ترى في نفسها متكاتفة كل شيء، ولا ترى في نفسها أفرادا شيئا، تلك الجماعة التي تسعى لإعلاء كلمتها حتى وإن استهدف للخطر في سبيل ذلك الدين ذاته، وقد تآلفوا متآخين من أول الأمر للذود عنه، وهم قوم يتهمون بالزندقة والسحر رغم ما لهم من صفة القساوسة المسيحيين، ويظن بعض الناس أنهم متآمرون مع السلطان سرا رغم اليمين التي أقسموها للإخلاص في الدفاع عن المعبد المقدس أو استرداده؛ هذه الجماعة كلها، وشخص زعيمها - أو قل سيدها الأعلى - كانت لغزا، إذا ذكر ارتعدت منه الفرائص؛ وكان الرئيس مرتديا ثيابا بيضاء تكسبه وقارا، ويحمل في يده عصا الحكم السحرية، التي كثيرا ما أثارت بشكلها العجيب التأويلات والظنون، مما كان يؤدي إلى الشك بأن هؤلاء الإخوة من الفرسان المسيحيين المعروفين، إنما يأتلفون تحت أحط رموز الوثنية.
أما كنراد منتسرا فكان ظاهره أسر للنفس من صاحبه الجندي القس ذي اللون القاتم الذي يحوطه الإبهام والغموض؛ كان منتسرا رجلا مليح الوجه، في شرخ الشباب أو جاوزه قليلا إلى الكهولة، جريئا في القتال، حكيما في المشورة، مرحا جذلا في أوقات اللهو والسرور؛ إلا أنه كثيرا ما كان يتهم بالتلون وبالأطماع الذاتية الضيقة، وبرغبته في مد إمارته دون اعتبار لخير المملكة اللاتينية في فلسطين، وبسعيه وراء صلاحه الذاتي بإجراء المفاوضة الخاصة مع صلاح الدين معتديا بذلك على حقوق الحلفاء المسيحيين.
تقدم هذان الرجلان ذوا المقام الرفيع إلى رتشارد بالتحية المألوفة، فردها الملك بلطف وبشاشة، ثم شرع مركيز منتسرا يشرح ما حدا بهما إلى تلك الزيارة، وقال إنهما مرسلان من قبل الملوك والأمراء الذين يتألف منهم مجمع الصليبيين، وقد ازداد قلقهم، «كي يستفسروا عن صحة حليفهم الكريم ملك إنجلترا الجسور.»
فأجاب الملك الإنجليزي قائلا: «إنا نعرف ما لصحتنا من أهمية لدى أمراء المجمع، وإنا نعلم حق العلم كم ذا يكابدون من كتمان كل ما بهم من طلعة بشأنها مدة أربعة عشر يوما، خشية منهم - دون ريب - أن تشتد بنا العلة لإظهارهم الجزع لما أصابنا».
وهكذا أوقف الملك تيار البيان الذي كان يتدفق على لسان المركيز، وتحير المركيز نفسه واضطرب لهذا الجواب، فوصل صاحبه - وهو أشد منه صراحة - ما انقطع من حبل الحديث، وفي هيبة جافة، وصيغة موجزة توائم الحضرة التي يوجه إليها الخطاب، قال للملك إنهما جاءا من قبل المجمع يتوسلان إليه باسم العالم المسيحي: «ألا يعرض صحته لطبيب مسلم يعبث بها، طبيب قيل إن السلطان قد بعث به إليه، وأن يتريث حتى يتدبر المجلس الريب التي يرون الآن أنها تلابس بعثة مثل هذا الرجل، فإما أزالوها أو أيدوها.»
فأجاب رتشارد: «أي رئيس فرسان المعبد الشجعان المقدسين، وأنت يا مركيز منتسرا يا ذا النبل الرفيع، لو تفضلتما وعرجتما على السرادق المجاور، لرأيتما أي وزن نقيم لهذا العتب الرقيق من زملائنا في هذه الحرب الدينية من ملوك وأمراء.»
فانسحب على أثر ذلك المركيز ورئيس الفرسان، ولم يتغيبا طويلا في السرادق الخارجي حتى وصل الطبيب الشرقي يصحبه بارون جلزلاند وكنث الاسكتلندي، وقد تأخر البارون في مقدمه إلى الخيمة قليلا عن الرجلين الآخرين، وربما تريث كي يصدر إلى الحراس خارج السرادق أمرا ما.
ولما دخل الطبيب العربي، انحنى على الطريقة الشرقية امتثالا وإجلالا للمركيز ورئيس الفرسان، وكانا باديي الوقار مظهرا ومخبرا، فرد رئيس الفرسان التحية بصيغة فيها برودة الأنفة والازدراء، أما المركيز فقد ردها بلطفه المعهود الذي ألف التقدم به إلى الرجال على اختلاف مراتبهم وأوطانهم، ثم كان سكون، لأن الفارس الاسكتلندي كان يرتقب دي فو، ولم يجرؤ على أن يدخل من تلقاء نفسه خيمة ملك إنجلترا، وفي غضون تلك الفترة، سأل رئيس الفرسان الرجل المسلم مقطبا عابسا وقال له: «أيها الرجل، هل لديك من الشجاعة ما يمكنك من ممارسة فنك في شخص ملك مبارك من جيوش المسيحيين؟»
صفحة غير معروفة