وكان الرجل الإنجليزي يصغي مطرق النظرات، كأنه يشك فيما يسمع؛ ولكنه لم يكن عن الاقتناع راغبا، وأخيرا رفع بصره وقال: «هل لي أن أرى خادمك المريض يا سيدي الكريم؟»
فتردد الفارس الاسكتلندي وعلا الدم في وجنتيه وأجاب أخيرا وقال: «بكل ارتياح يا لورد جلزلاند، ولكنك يجب أن تذكر، حين ترى حقارة مسكني، أن نبلاء اسكتلندا وفرسانها لا يسرفون في الطعام، ولا يتقلبون على الحرير، ولا يأبهون لجلال المقام، إنما هذي من خواص جيرانهم أهل الجنوب.» ثم استطرد وقال: «إني أقطن في بيت حقير يا لورد جلزلاند.» وشدد التأكيد على كلمة «حقير» في عبارته وهو يسير نحو مقر إقامته في شيء من التأبي والتمنع.
ومهما تكن أهواء دي فو ضد الأمة التي كان منها هذا الرفيق الجديد - ونشهد أنا لا ننكر أن بعض هذه الأهواء يرجع إلى ما سار عن هذه الأمة في المثل من الفقر والعوز - فقلد كان لديه من نبل المقصد ما لم يحبب إليه إذلال رجل باسل جريء، أكرهته الظروف على أن يبوح بفاقة كان يود إخفاءها.
فقال: «عار على مقاتل الصليب أن يفكر في زخرف الدنيا أو في رغد العيش وهو يشق الطريق للاستيلاء على الأرض المقدسة. إنا مهما تكبدنا من مشقة فنحن خير من جماعة الشهداء والقديسين الذين وطئوا هذه الأرض من قبلنا، وهم الآن يمسكون بمصابيح من ذهب وبنخيل دائم الاخضرار.»
ولم ينطق قط توماس الجلزلاندي حياته بحديث فيه من الكناية والاستعارة مثل ما في هذا الكلام، وربما كان ذلك لأن هذا الحديث لم يعبر عن كل ما كان يجيش في نفسه من إحساس وعاطفة، لأنه كان على شيء من حب اللهو ورخاء العيش؛ وقد بلغا حينئذ مكان المخيم الذي اتخذه فارس النمر له مسكنا.
وكان ظاهر المكان هنا يدل على أن قواعد التقشف، التي كان الجلزلاندي يرى أن الصليبيين جميعا يجب أن يلزموها، قد روعيت جميعا: مساحة من الأرض قد تتسع لأن تقام فيها ثلاثون خيمة، ترك بعضها خلاء وفقا لقواعد الصليبيين في ضرب الخيام - وذلك لأن الفارس كان قد طلب أرضا تتسع في ظاهر الأمر لحاشيته الأولى - وأقيم في بعضها الآخر قليل من الأكواخ الحقيرة المصنوعة من غصون الأشجار، والتي تظللها أوراق النخيل، وكان يبدو على هذه المساكن أنها قد هجرت كل الهجران، فخرب الكثير منها وتدمر، وكان الكوخ الأوسط - وهو يمثل سرادق القائد - يتميز بعلم صغير له ذيل كذيل السنونو، رفع على رأس رمح وتهدلت ثناياه الطويلة على الأرض في سكون، كأنه يتألم من حرارة شمس آسيا المحرقة؛ ولم يقف إلى جوار هذا الكوخ - وهو رمز نفوذ الإقطاع وشرف الفروسية - حاجب أو خادم أو حتى حارس واحد؛ فإذا كان اسم المكان لا يدفع عنه العدوان، فهو مكان لا يستحق الحراسة.
أرسل السير كنث حواليه نظرة كئيبة، ولكنه كبح إحساسه ودخل الكوخ، وأشار إلى البارون جلزلاند أن يتبعه، ثم تلفت حواليه ثانية، وأرسل نظرة فيها تمعن، تنم عن إشفاق مشوب بشيء من الازدراء، والإشفاق - كالحب - يسير دوما مع الازدراء كما يقولون؛ ثم نكس رأسه الشامخ، ودخل كوخا منخفضا كاد جسمه الضخم أن يملأ كل فراغه.
وكان أهم ما يشغل داخل الكوخ سريران، أحدهما خال، وقد انتثرت عليه مجموعة من أوراق الأشجار وانتشر فوقه جلد ظبي. وتدل الأسلحة الملقاة إلى جانبه، والصليب الفضي المرفوع إلى رأسه في عناية ووقار، على أن هذا السرير هو فراش الفارس نفسه؛ أما السرير الآخر فكان يضم العليل الذي تحدث عنه السير كنث، وهو رجل قوي البنية، غليظ الملامح، تدل نظراته على أنه قد تجاوز سن الكهولة؛ وكان سريره أكثر هنداما وأشد نعومة من سرير سيده، وقد بدا للعيان أن السير كنث قد وقف ثيابه الفاخرة وعباءته الفضفاضة، التي كان الفرسان يرتدونها في أوقات السلم، وغيرها من الأشياء الدقيقة التي تتعلق باللباس والتزين، على توفير الراحة لخادمه العليل. وفي مكان خارج الكوخ، يقع تحت بصر البارون، كان يجثو على ركبتيه غلام خشن الكساء، يلبس حذاء طويلا من جلد الغزال، وقلنسوة زرقاء، وصدارا له مشبك من الحديد انطفأ بريقه، إلى جوار صحفة بالية مملوءة بالفحم، وكان يطهي في طبق من الصلب خبزا من الشعير كان إذ ذاك - ولا يزال - طعاما مستحبا لأهل اسكتلندا، وكان جانب من ظبي يتعلق بدعامة من دعامات الكوخ الكبيرة، ولم يكن من العسير على الرائي أن يعرف من أين كان هذا الظبي، فلقد كان هناك كلب كبير من كلاب الصيد أكبر حجما وأنبل مظهرا من غيره، حتى من تلك التي تقوم على حراسة الملك رتشارد وهو في فراش المرض، وكان الكلب يرقد وهو يرقب بعينيه الفطير وهو يخبز، وحينما دخل الفارس وصاحبه الكوخ، أرسل الكلب الأريب نباحا مختنقا ينبعث من صدره العميق كأنه رعد يقصف على أمد بعيد، ولكنه لمح صاحبه، فهز ذيله ونكس رأسه اعترافا بوجوده ، وسكت عن تحيته ذات العجيج والضجيج كأن غريزته النبيلة قد علمته حشمة الصمت في غرفة المريض.
وعلى حشية من الجلد إلى جانب السرير كان يجلس الطبيب المغربي الذي تحدث عنه السير كنث، وقد وضع ساقا فوق الأخرى كما يفعل أهل الشرق عادة، ولم يبد منه في النور الضئيل غير قليل، إلا أن النصف الأدنى من وجهه كانت تحجبه لحية طويلة سوداء، أرسلها على صدره، وكان يرتدي تقية تترية من صوف الغنم، صنعت في «استراخان» لونها قاتم، وقفطانه الفضفاض - أو ثوبه التركي - كان كذلك ذا صبغة معتمة. وفي هذا الظلام، الذي كان يغشى ملامحه، لم يبد من أسارير وجهه غير عينين نافذتين، يتألف فيهما بريق غير معهود، فوقف اللورد الإنجليزي صامتا في تهيب ووقار، لأن هذا الرجل الماثل أمام دي فو - رغم خشونة هيئته - كان عليه سيماء الكرب والعوز يقاسيهما برباطة جأش دون شكوى أو أنين، ومثل هذا المشهد، في أي وقت كان، يدعو توماس دي فو إلى احترام لا تثيره في نفسه المظاهر الفاخرة التي تحيط بغرف الملوك، مع استثناء غرفة الملك رتشارد وحدها.
ولم يسمع لفترة من الزمن صوت غير أنفاس مطردة وئيدة يرددها العليل، الذي كان ظاهره يدل على أنه في سبات عميق.
صفحة غير معروفة