واستأنف البارون الكلام غير آسف على أن يشغل انتباه سيده بأمور أخرى غير مرضه، حتى وإن يكن ذلك على حساب أشخاص الأمراء وأرباب النفوذ، فقال: «وهناك أيضا كبير فرسان المعبد، مقدام صادق باسل في مواقع القتال، حكيم في مجالس الشورى، ليس له ملك خاص يصرف جهده عن استرداد الأرض المقدسة. ماذا ترى جلالتكم في هذا الرجل قائدا عاما لجيوش المسيحيين؟»
فأجاب الملك وقال: «ها! نعم الاختيار! إنا لا نستثني الأخ «جليزأموري» نعم إنه يعلم قواعد الحرب، ويعرف كيف يقاتل في الطليعة إذا نشبت المعركة؛ ولكن هل من العدل يا سير توماس أن نستخلص الأرض المقدسة من يد الرجل المسلم صلاح الدين - وهو يفيض كرما وفضلا - ونسلمها «جليز أموري»، وهو أشد من صلاح الدين شركا بالله، وثني يعبد الشيطان، عراف، يرتكب أشد الجرائم سوادا وأكثرها شذوذا تحت القباب، وفي الأماكن الخفية الذميمة؟»
فرد توماس دي فو وقال: «إن كبير الإسبتارية أتباع القديس يوحنا ببيت المقدس له صيت لم يلوثه السحر ولا الضلال.»
فأجاب رتشارد على عجل وقال: «ولكنه ضنين خسيس، أليس كذلك؟ ألم يساورنا فيه الشك - بل اليقين - بأنه قد باع المسلمين، تلك المزايا التي ما كان لهم أن يظفروا بها بالقوة الصراح؟ صه، صه، يا رجل! تالله إنه لخير لنا أن نسلم الجيش لملاحي البندقية وباعة لومباردي المتجولين من أن نوكل به كبير أتباع القديس يوحنا.»
فقال البارون دي فو: «إذن فلأتقدم باقتراح آخر، ماذا تقول في المركيز منتسرا الشهم الحكيم، ذلك الرجل الرشيق المبرز في القتال؟»
فأجاب رتشارد قائلا: «الرجل الحكيم؟ بل قل الماكر - رشيق في خدور النساء إن شئت، أي والله! - كنراد منتسرا، من ذا الذي لا يعرف الأخيل جميل الهندام؟ أجل، إنه سياسي متلون، يبدل من أغراضه كما يبدل من حواشي صداره بحيث لا تستطيع أن تعرف من ظاهر حلته لونها في الباطن؛ وتقول إنه رجل محارب، أجل، إن له لقدا ممشوقا على ظهر الجواد، وإنه لجريء تحت الخيام وداخل الحصون، حيث تكون السيوف مثلومة الظباة والشفرات، وتكون الرماح مركبة أطرافها من ألواح الخشب لا من أسنان الحديد. ألم تكن معي يوم قلت لهذا المركيز الطروب، ها نحن ثلاثة من خيار المسيحيين، وهناك في ذلك السهل ترى عصابة من الأعراب تبلغ الستين عدا، يضربون في الأرض، هلا هممت لتحمل عليهم، ولن يلتقي الفارس الحق منا بأكثر من عشرين من اللئام الكفرة الجاحدين؟»
فقال دي فو: «أذكر أن المركيز أجاب بأن جوارحه من لحم البشر لا من صلب الحديد؛ وأنه يضم بين جنبيه قلب إنسان لا قلب حيوان، حتى وإن يكن ليثا ذلك الحيوان. ولكني الآن أرى الأمر واضحا جليا، سننتهي حيث ابتدأنا، ولا أمل لنا في إقامة الصلاة عند قبر المسيح حتى يرد الله للملك رتشارد الصحة والسلامة.»
وبعد هذا القول الخطير، انفجر رتشارد ضاحكا من الأعماق ضحكا لم يقهقه بمثله من منذ زمن طويل، ثم قال: «عجبا لهذا الذي يعرف بالضمير، فعن سبيله استطعت - وأنت رجل من أشراف الشمال، قليل الفطنة والحصافة - أن تحمل مليكك على أن يقر برعونته! حقا إنهم لو لم يروا أنفسهم - كمثلي - أكفاء لأن يحملوا عصا القيادة، ما اكترثت قليلا ولا كثيرا لأن أجرد هذا الرتل من التماثيل البشرية الحقيرة، التي عرضت علي، واحدا بعد الآخر، مما ازينت به من زخرف الحرير. ماذا يعنيني من هذه الحلل المزركشة يختالون فيها؟ إنها لا تعنيني إلا إذا ذكر أربابها كنظراء لي في هذا العمل الجليل الذي وقفت له حياتي؛ أي دي فو! إني أقر بضعفي وجموح مطامعي، ولا ريب أن معسكر المسيحيين يضم كثيرا من الفرسان ممن يفضلون رتشارد ملك إنجلترا، وإنه لمن الحكمة والعدل أن نسند إلى خيرهم قيادة الجيش، ولكن ...»
وهنا واصل الملك المحارب حديثه، وقد هب من مرقده، وخلع عن رأسه غطاءه، وتطاير الشرر من عينيه - وكان هذا أبدا شأنهما في عشيات المواقع - وقال: «ولكن لو أن هذا الفارس أراد أن ينصب علم الصليب فوق معبد بيت المقدس حيث أكون أنا عاجزا عن أن آخذ بنصيبي في هذا العمل النبيل، إذن ليكابدن نزالي في ضراب قاتل، حينما يبيت في طوقي أن أطعن برمحي، لحطه من ذكري، واستباقه إلى هدفي ومرماي. دع هذا واستمع! إني لأسمع أبواقا على بعد، ماذا عساها يا ترى أن تكون؟»
فأجاب الرجل الإنجليزي البدين وقال: «إني لإخالها يا مولاي أبواق الملك فيليب.»
صفحة غير معروفة