وجاهد السير كنث أن يشكر الحكيم، ولكن قلبه كان مفعما، فصدرت عنه أصوات غامضة وهو يحاول دون جدوى أن يجيب، فدفعت هذه الأصوات الطبيب الشفيق إلى أن يكف عن محاولاته المبتسرة لتعزية الفارس، وخلف خادمه هذا الجديد - أو قل ضيفه هذا - وادعا ساكنا يسترسل في أحزانه. وبعدما أمر بكل ما يلزم من إعداد للرحيل صبيحة الغد، جلس على بساط الفسطاط، وتناول وجبة وسطا بين بين، ولما انتعش بالطعام قليلا، قدم للفارس الاسكتلندي قوتا كقوته. ورغم أن العبيد قد أفهموا السير كنث أنهم لن يقفوا في اليوم التالي للطعام إلا بعد أن تتقدم من اليوم ساعات عديدة، فإن الرجل لم يستطع أن يتغلب على النفور الذي كان يحس به من تناول القوت، وعبثا ألحفوا عليه أن يتذوق شيئا اللهم إلا جرعة من الماء البارد.
واستيقظ السير كنث بعدما أدى مضيفه فريضة الصباح ثم أوى «المضيف» إلى فراشه بزمن طويل. ولم يزر الكرى جفني العربي حتى انتصف الليل، وسرت بين خدمه حركة لم يصحبها حديث ولا ضجيج كثير، ولكنه علم منها - رغم ذلك - أنهم كانوا يحملون البعير ويتأهبون للرحيل، وبينا هذا الإعداد قائم على قدم وساق، كان فارس اسكتلندا آخر من هب من رقاده إذا استثنينا الطبيب. ولما كانت الثالثة صباحا أو ما إلى ذلك، قال له رئيس الخدم إنه ينبغي له أن ينهض، ففعل دون أن يحير جوابا، وتبعه في ضياء القمر حيث الجمال قائمة، وأكثرها يحمل على ظهره عبئه، ولم يبق منها غير واحد أناخ حتى يتم تحميله.
وعلى كثب من النوق وقف عدد من الخيل ملجمة مسرجة، ثم أقبل الحكيم نفسه وامتطى واحدا منها برشاقة تتفق ورزانة مركزه، وأشار إلى آخر كي يساق إلى السير كنث، وكان بانتظارهم ضابط إنجليزي كي يخفرهم خلال معسكر الصليبيين ويتثبت من رحيلهم آمنين. وكان كل شيء على أهبة للسفر، ثم اقتلع السرادق الذي خلفوه بخفة عجيبة، وكان حمل الناقة الأخيرة يتألف من أغطية الفسطاط وقوائمه العشرة، ثم كرر الطبيب هذه العبارة في مهابة وخشوع «الله يهدينا ومحمد يقينا في البر والبحر.» ثم فصلت القافلة بأسرها في الحال.
واعترض سبيلهم - وهم يشقون المعسكر - الخفراء العديدون الساهرون على الحراسة هناك، وإذا ما مرت القافلة بحي من أحياء الصليبيين الغيورين، سار رجالها اضطرارا في سكينة وهدوء، أو استمعوا إلى اللعنات تنصب على نبيهم تمتمة فغضوا عنها الطرف كارهين. وأخيرا تخطوا آخر العقبات، والتأمت جماعتهم وهي تسير سيرا عسكريا حذرا، وتقدمهم اثنان أو ثلاثة من الركبان طليعة لهم، يتبعهم واحد أو اثنان على قيد رمح، وكلما تهيأت الظروف انفصل بعض منهم ليرقب الجناحين، وهكذا سار الجميع قدما، ونظر السير كنث وراءه إلى المعسكر يفضضه ضياء القمر، فأحس إحساسا قويا بحرمانه من الشرف والحرية، وبإقصائه عن الأعلام الخفاقة التي كان يأمل أن يحظى تحت ظلها ببعد الصيت، وأحس كذلك ببعده عن خيام الفروسية والمسيحية و... عن أديث بلانتاجنت.
وكان الحكيم راكبا جواده إلى جواره، فأخذ بنغمه المألوف يسري عن السير كنث بسديد الحكم وقال: «إن كان السفر أمامك فليس من الحكمة أن تتطلع وراءك.» وبينما هو يتكلم زل جواد الفارس في مشيته زلة خطرة كأنها درس خلقي عملي يتمم قصة العربي.
وقد اضطر الفارس من هذه العثرة أن يشتد في امتلاك زمام الجواد، واضطر أكثر من مرة أن يلجأ إلى العنان ويستعين به، وأما فيما عدا ذلك فلم يكن ثمة أسلس قيادا ولا أخف حركة من هذه الفرس وهي تسير وخدا بخطى متزنة.
وقال الطبيب صاحب الأمثال: «ما أشبه جوادك هذا بحظ الإنسان. لا بد للراكب - والجواد يخف به بخطى هينة لينة - أن يحذر من السقوط، وكذلك الأمر إن بلغ بنا الجد ذروته، ينبغي لحكمتنا أن تتيقظ وتتنبه كي ننجو من سوء الطالع.»
ولكنا إذا ما امتلأت منا البطون، نفرنا حتى من أقراص الشهد؛ فليس عجيبا إذن أن يضيق بالفارس الصبر - وقد أذله نكد الطالع، وخارت عزيمته مما لحقه من الهوان - فلا يستمع إلى شقوته وقد باتت في كل مناسبة مضربا للحكمة والمثل، مهما صدق المثل وأصاب.
فقال متبرما: «ما أحسبني بحاجة إلى زيادة الإيضاح عن تذبذب الجد، ولأشكرنك يا سيدي الحكيم على حسن انتقائك لجوادي لو أنه زل زلة قاضية تنكسر فيها رقبتي ورقبته.»
فأجاب الحكيم العربي مهيبا رزينا رابط الجأش وقال: «أخي! إنما أنت تتكلم كما يتكلم الحمقى؛ أنت تقول في سريرتك إن الحكيم كان ينبغي له أن يعطيك - كضيف له - خير الجوادين وأصغرهما، وأن يحتفظ بالفرس العجوز لنفسه، ولكن اعلم أن مثالب الفرس العجوز يقابلها نشاط الراكب الشاب، وأن شدة الجواد الفتي يكسر من حدتها طبع الشيخ البارد.»
صفحة غير معروفة