وبينا هو كذلك مستغرق في الهم، إذا بصوت جهوري وقور وراءه وعلى مقربة منه ينطق بهذه الكلمات، برنين فيه نغم القراء في المساجد، وباللغة الفرنجية التي كان يفهمهما المسيحيون والأعراب على السواء. «إنما المصائب كالمطر المتلاحق؛ فيه للإنسان والحيوان برودة ومشقة وعداوة، وفيه كذلك حياة للزهر والتمر والورد والرمان.»
فتلفت السير كنث فارس النمر صوب المتكلم، ووقع بصره على الطبيب العربي وقد اقترب صامتا، وجلس خلفه وقريبا منه، ووضع ساقا فوق الأخرى، وأخذ - في هدوء ورزانة وبنغمة تنطوي على العطف - ينطق بالحكم والأمثال التي فيها للإنسان عزاء، وقد استمدها من القرآن وأقوال المفسرين. وليست الحكمة في الشرق في ما يظهر الحكيم من قوة الابتكار بمقدار ما هي في حضور الذاكرة وإجادة التطبيق والإشارة إلى «الكلام المسطور».
وخجل السير كنث إذ بوغت وهو ينفس عن أساه كما تنفس النساء ، فمسح دموعه، وأزالها حياء وخزيا، ثم أخذ يشتغل ثانية بكلبه العزيز وهو يفارق الحياة.
وواصل العربي حديثه، ولم يسترع التفاته أن الفارس قد أشاح ببصره، أو ما كان يعلو محياه من الاكتئاب، وقال: «لقد قيل: «الثور للحقل، والجمل للصحراء»، أليست يد الطبيب ألين من يد المقاتل لشفاء الجروح، وإن تكن أقل منها قدرة على ثلمها؟»
فقال السير كنث: «ليس لك بهذا المريض أيها الحكيم حيلة، وهو فوق ذلك حيوان نجس في شريعتكم.»
فقال الطبيب: «حيثما من الله بالحياة، وأوجد الحس باللذة والألم، فإنه لكبرياء باطل من الحكيم - وقد أنار الله بصيرته - أن يحجم عن أن يمد أجل البقاء، أو يخفف وقع الألم. إنما علاج الخادم البائس، أو الكلب المسكين، أو الملك الظافر، سواء لدى الحكيم؛ كلها أمور لا نفرق بين أحدها وبين الآخر. دعني أفحص هذا الحيوان الجريح.»
فأسلم له السير كنث صامتا، وأخذ الطبيب يفحص ما برزوال من جراح، ويقلبه بين يديه بحرص وعناية كأنه مخلوق آدمي، ثم استخرج حقيبة بها بعض آلاته, وأولج في جسم الكلب مسبرا بحكمة ومهارة، واجتذب من كتفه الجريحة شظايا السلاح، ثم أوقف بالأدوية الواقية والضمادات ما عقب ذلك من تدفق الدماء، والكلب خلال ذلك يكابد الألم صابرا، ويستسلم للطبيب وهو يعالجه برفق، كأنه يدرك طيب طويته.
وقال الحكيم موجها للسير كنث الخطاب: «إن في شفاء الكلب لرجاء لو أذنت لي أن أحمله إلى خيمتي وأعالجه بالعناية التي يستحقها نبل طبيعته، ولتعلم أن خادمك «أدنبك» ليس بفصائل الكلاب وكرام الخيل وسلالاتها وطباعها، أقل حذقا منه في الأمراض التي تصيب البشر.»
فأجاب الفارس وقال: «إذن فلتصطحبه، وإني أهبكه بغير مقابل إذا عوفي، إني مدين لك بالجزاء على عنايتك بخادمي، وليس لدي غير ذلك أرد لك به حسن صنيعك. أما أنا فلن أنفخ بعد اليوم في بوق أو أنادي كلبا!»
فلم يحر العربي جوابا، وإنما صفق إشارة بيديه أجيبت على الفور بمثول عبدين أسودين، أصدر لهما أمره بالعربية وأجاباه «سمعا وطاعة»، ثم حملا الكلب بين أذرعهما ، ورفعاه بغير كبير مقاومة من جانبه، لأنه - وإن يكن قد رفع بصره نحو سيده - لم يقو على المناضلة.
صفحة غير معروفة