الطب النبوي لابن القيم - الفكر
الناشر
دار الهلال
رقم الإصدار
-
مكان النشر
بيروت
لِلْبُدْنِ، فَلِمَاذَا حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْفَاضِلَةُ الَّتِي أَبَاحَتِ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَتِ الْخَبَائِثَ؟
قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ يُجِيبُ عَنْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ بِجَوَابٍ، فَمُنْكِرُو الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ لِمَا رُفِعَتْ قَاعِدَةُ التَّعْلِيلِ مِنْ أَصْلِهَا لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى جَوَابٍ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ.
وَمُثْبِتُو التَّعْلِيلِ وَالْحُكْمِ- وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ- مِنْهُمْ مَنْ يُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ حَرَّمَتْهُ لِتَصْبِرَ النُّفُوسُ عَنْهُ، وَتَتْرُكَهُ لِلَّهِ، فَتُثَابُ عَلَى ذَلِكَ لَا سِيِّمَا وَلَهَا عِوَضٌ عَنْهُ بِغَيْرِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِلنِّسَاءِ، كَالْحِلْيَةِ بِالذَّهَبِ، فَحَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ مِنَ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْعُجْبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ بِمُلَامَسَتِهِ لِلْبَدَنِ مِنَ الْأُنُوثَةِ وَالتَّخَنُّثِ، وَضِدُّ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ، فَإِنَّ لُبْسَهُ يُكْسِبُ الْقَلْبَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْإِنَاثِ، وَلِهَذَا لَا تَكَادُ تَجِدُ مَنْ يَلْبَسُهُ فِي الْأَكْثَرِ إِلَّا وَعَلَى شَمَائِلِهِ مِنَ التَّخَنُّثِ وَالتَّأَنُّثِ، وَالرَّخَاوَةِ مَا لَا يَخْفَى، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْ أَشْهَمِ النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ فُحُولِيَّةً وَرُجُولِيَّةً، فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْقِصَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْهَا، وَمَنْ غَلُظَتْ طِبَاعُهُ وَكَثُفَتْ عَنْ فَهْمِ هَذَا، فَلْيُسَلِّمْ لِلشَّارِعِ الْحَكِيمِ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُلْبِسَهُ الصَّبِيَّ لِمَا يَنْشَأُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ التَّأْنِيثِ.
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لِإِنَاثِ أُمَّتِي الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ، وَحَرَّمَهُ عَلَى ذُكُورِهَا» . وَفِي لَفْظٍ:
«حَرُمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ» «١» .
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ حذيفة قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «هُوَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، ولكم في الآخرة» «٢» .
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف. والنسائي في الزينة والترمذي في اللباس وهو حديث صحيح
(٢) أخرجه البخاري في اللباس
1 / 61