283

الطب النبوي لابن القيم - الفكر

الناشر

دار الهلال

رقم الإصدار

-

مكان النشر

بيروت

وَاقْتِرَانُهُ بِالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ لَحْمِهِ حُكْمُ لُحُومِهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا فِي السَّهْمِ فِي الْغَنِيمَةِ حُكْمُ الْفَرَسِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْرِنُ فِي الذِّكْرِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ تَارَةً، وَبَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَبَيْنَ الْمُتَضَادَّاتِ، وَلَيْسَ فِي قوله: لِتَرْكَبُوها «١»، مَا يَمْنَعُ مِنْ أَكْلِهَا، كَمَا لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ غَيْرِ الرُّكُوبِ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَجَلِّ مَنَافِعِهَا، وَهُوَ الرُّكُوبُ، وَالْحَدِيثَانِ فِي حِلِّهَا صَحِيحَانِ لَا مُعَارِضَ لَهُمَا، وَبَعْدُ: فَلَحْمُهَا حَارٌّ يَابِسٌ، غَلِيظٌ سَوْدَاوِيٌّ مُضِرٌّ لَا يَصْلُحُ لِلْأَبْدَانِ اللَّطِيفَةِ.
لَحْمُ الْجَمَلِ: فَرْقُ مَا بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، كَمَا أَنَّهُ أَحَدُ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ. فَالْيَهُودُ وَالرَّافِضَةُ تَذُمُّهُ وَلَا تَأْكُلُهُ،؛ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ حِلُّهُ، وَطَالَمَا أَكَلَهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ حضرا وسفرا.
ولحم الفصيل مه مِنْ أَلَذِّ اللُّحُومِ وَأَطْيَبِهَا وَأَقْوَاهَا غِذَاءً، وَهُوَ لِمَنِ اعْتَادَهُ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ الضَّأْنِ لَا يَضُرُّهُمُ الْبَتَّةَ، وَلَا يُوَلِّدُ لَهُمْ دَاءً، وَإِنَّمَا ذَمَّهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الرَّفَاهِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَادُوهُ، فَإِنَّ فِيهِ حَرَارَةً وَيُبْسًا، وَتَوْلِيدًا لِلسَّوْدَاءِ، وَهُوَ عَسِرُ الِانْهِضَامِ، وَفِيهِ قُوَّةٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ، لِأَجْلِهَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِهِ فِي حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ «٢» لَا مُعَارِضَ لَهُمَا، وَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُمَا بِغَسْلِ الْيَدِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْهُودِ مِنَ الْوُضُوءِ فِي كَلَامِهِ ﷺ، لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ، فَخَيَّرَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَتَرْكِهِ مِنْهَا، وَحَتَّمَ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ. وَلَوْ حُمِلَ الْوُضُوءُ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ فَقَطْ، لَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» .
وَأَيْضًا: فَإِنَّ آكِلَهَا قَدْ لَا يُبَاشِرُ أَكْلَهَا بِيَدِهِ بِأَنْ يُوضَعَ في فمه، فإن كان وضؤوه غَسْلَ يَدِهِ، فَهُوَ عَبَثٌ، وَحَمْلٌ لِكَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى غَيْرِ مَعْهُودِهِ وَعُرْفِهِ، وَلَا يَصِحُّ مُعَارَضَتُهُ بِحَدِيثِ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مست النار» لعدة أوجه:

(١) النحل- ٨.
(٢) أخرجه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي.

1 / 285