الطب النبوي لابن القيم - الفكر

ابن القيم الجوزية ت. 751 هجري
114

الطب النبوي لابن القيم - الفكر

الناشر

دار الهلال

رقم الإصدار

-

مكان النشر

بيروت

وَأَيْضًا فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ يَقْتَضِي تَجَنُّبَهُ وَالْبُعْدَ عَنْهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَفِي اتِّخَاذِهِ دَوَاءً حَضٌّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِيهِ وَمُلَابَسَتِهِ، وَهَذَا ضِدُّ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ دَاءٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ دَوَاءً. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُكْسِبُ الطَّبِيعَةَ وَالرُّوحَ صِفَةَ الْخُبْثِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ تَنْفَعِلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الدَّوَاءِ انْفِعَالًا بَيِّنًا، فَإِذَا كَانَتْ كَيْفِيَّتُهُ خَبِيثَةً، اكْتَسَبَتِ الطَّبِيعَةُ مِنْهُ خُبْثًا فَكَيْفَ إِذَا كَانَ خَبِيثًا فِي ذَاتِهِ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْأَغْذِيَةَ وَالْأَشْرِبَةَ وَالْمَلَابِسَ الْخَبِيثَةَ، لِمَا تُكْسِبُ النَّفْسَ مِنْ هَيْئَةِ الْخُبْثِ وَصِفَتِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي إِبَاحَةِ التَّدَاوِي بِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ النَّفُوسُ تَمِيلُ إِلَيْهِ ذَرِيعَةً إِلَى تَنَاوُلِهِ لِلشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا عَرَفَتِ النُّفُوسُ أَنَّهُ نَافِعٌ لَهَا مُزِيلٌ لِأَسْقَامِهَا جَالِبٌ لِشِفَائِهَا، فَهَذَا أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهَا، وَالشَّارِعُ سَدَّ الذَّرِيعَةَ إِلَى تَنَاوُلِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ سَدِّ الذَّرِيعَةِ إِلَى تَنَاوُلِهِ، وَفَتْحِ الذَّرِيعَةِ إِلَى تَنَاوُلِهِ تَنَاقُضًا وَتَعَارُضًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي هَذَا الدَّوَاءِ الْمُحَرَّمِ مِنَ الْأَدْوَاءِ مَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُظَنُّ فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ، وَلْنَفْرِضِ الْكَلَامَ فِي أُمِّ الْخَبَائِثِ الَّتِي مَا جَعَلَ اللَّهُ لَنَا فِيهَا شِفَاءً قَطُّ، فَإِنَّهَا شَدِيدَةُ الْمَضَرَّةِ بِالدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ الْعَقْلِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ أبقراط فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ فِي الْأَمْرَاضِ الْحَادَّةِ: ضَرَرُ الْخَمْرَةِ بِالرَّأْسِ شَدِيدٌ. لِأَنَّهُ يُسَرِّعُ الِارْتِفَاعَ إِلَيْهِ. وَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ الْأَخْلَاطُ الَّتِي تَعْلُو فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ يَضُرُّ بِالذِّهْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَامِلِ»: إِنَّ خَاصِّيَّةَ الشَّرَابِ الْإِضْرَارُ بِالدِّمَاغِ وَالْعَصَبِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: تَعَافُهُ النَّفْسُ وَلَا تَنْبَعِثُ لِمُسَاعَدَتِهِ الطَّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ بِهِ كَالسُّمُومِ، وَلُحُومِ الْأَفَاعِي وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، فَيَبْقَى كَلًّا عَلَى الطَّبِيعَةِ مُثْقِلًا لَهَا، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ دَاءً لَا دَوَاءً.

1 / 116