شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: البالغون الثنائيو اللغة
1 - لماذا يصبح الناس ثنائيي اللغة؟
2 - وصف الأشخاص الثنائيي اللغة
3 - وظائف اللغات
4 - الوضع اللغوي واختيار اللغة
5 - التبديل اللغوي والاقتباس
6 - التحدث والكتابة بلغة واحدة
7 - امتلاك لكنة في إحدى اللغات
8 - تطور اللغات عند الشخص الثنائي اللغة على مدى حياته
9 - المواقف والمشاعر تجاه الثنائية اللغوية
10 - الثنائية الثقافية عند الأشخاص الثنائيي اللغة
11 - شخصية الأشخاص الثنائيي اللغة وأفكارهم وأحلامهم ومشاعرهم
12 - الكتاب الثنائيو اللغة
13 - الثنائيو اللغة المميزون
الجزء الثاني: الأطفال الثنائيو اللغة
14 - اكتساب الثنائية اللغوية والتحول عنها
15 - اكتساب لغتين
16 - الجوانب اللغوية للثنائية اللغوية لدى الأطفال
17 - الأسرة والأطفال الثنائيو اللغة
18 - تأثير الثنائية اللغوية على الأطفال
19 - الثنائية اللغوية والتعليم
خاتمة
الملاحظات
شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: البالغون الثنائيو اللغة
1 - لماذا يصبح الناس ثنائيي اللغة؟
2 - وصف الأشخاص الثنائيي اللغة
3 - وظائف اللغات
4 - الوضع اللغوي واختيار اللغة
5 - التبديل اللغوي والاقتباس
6 - التحدث والكتابة بلغة واحدة
7 - امتلاك لكنة في إحدى اللغات
8 - تطور اللغات عند الشخص الثنائي اللغة على مدى حياته
9 - المواقف والمشاعر تجاه الثنائية اللغوية
10 - الثنائية الثقافية عند الأشخاص الثنائيي اللغة
11 - شخصية الأشخاص الثنائيي اللغة وأفكارهم وأحلامهم ومشاعرهم
12 - الكتاب الثنائيو اللغة
13 - الثنائيو اللغة المميزون
الجزء الثاني: الأطفال الثنائيو اللغة
14 - اكتساب الثنائية اللغوية والتحول عنها
15 - اكتساب لغتين
16 - الجوانب اللغوية للثنائية اللغوية لدى الأطفال
17 - الأسرة والأطفال الثنائيو اللغة
18 - تأثير الثنائية اللغوية على الأطفال
19 - الثنائية اللغوية والتعليم
خاتمة
الملاحظات
ثنائيو اللغة
ثنائيو اللغة
تأليف
فرانسوا جروجون
ترجمة
زينب عاطف
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إهداء إلى هنري جان-باتيست وكارولين وفيث وجيل وبرجيت، وإلى ليزيان ومارك وإريك، الذين أصبحوا، من بين كثيرين غيرهم، ثنائيي اللغة دون أن يسعوا لهذا وعاشوا حياتهم وهم يستخدمون لغتين أو أكثر.
شكر وتقدير
أريد أن أعبر عن امتناني لكل الذين ساعدوني في إعداد هذا الكتاب، وأخص بالشكر العميق إليزابيث نول، كبيرة المحررين في مجال العلوم السلوكية والقانون في مطبعة جامعة هارفرد، التي شجعتني على «العودة إلى موطني» من أجل تأليف هذا الكتاب الجديد، وساعدتني كثيرا في مختلف مراحل إعداده؛ كما أنها تكرمت بالسماح لي باستخدام بعض المقتطفات المختارة بعناية من كتابي الأول «الحياة مع لغتين». وأتقدم بجزيل الشكر إلى جولي هاجين، التي بذلت مجهودا رائعا في إعداد الكتاب للطباعة، والتي استمتعت بالعمل معها كثيرا. وأنا ممتن أيضا لبعض الأشخاص المميزين الذين خصصوا بعض وقتهم للقائي أو التواصل معي على نحو كبير عبر البريد الإلكتروني للتحدث عن بعض جوانب الثنائية اللغوية، وأخص هنا إليزابيث بوجور، الخبيرة في الكتاب الثنائيي اللغة؛ وماريا بريسك، المختصة في مجال الثنائية اللغوية والتعليم؛ ونانسي هيوستن، الكاتبة الثنائية اللغة الشهيرة التي تستخدم اللغتين الإنجليزية والفرنسية؛ وأوليفيه تود، كاتب السير الذاتية والصحفي العالمي؛ وإلين بياليستوك، الخبيرة في تأثير الثنائية اللغوية على الأطفال؛ وأنيتا بافلينكو، المرجع في عدة جوانب للثنائية اللغوية؛ وكوري هيلر، رئيسة تحرير مجلة «مالتيلينجول ليفينج» التي ساعدتني في إعداد قائمة بالمخاوف التي توجد لدى الوالدين عند تنشئة أطفال ثنائيي اللغة. ويجب أن أضيف إلى كل هؤلاء مراجعين لا أعرف اسمهما وأحد كبار المسئولين في مطبعة جامعة هارفرد، الذين قدموا لي بعض النصائح القيمة للغاية. أتقدم إلى كل هؤلاء بخالص امتناني.
أوجه الشكر أيضا إلى الذين أرسلوا إلي أبحاثهم (وحتى كتبهم)، والذين تحدثوا معي أو راسلوني؛ ومن هؤلاء: كريستينا بانفي، وفيرونيكا بينيت-مارتنيز، وجون بيري، وفيليب بلانشيه، وروبنز بيرلنج، وسوزانا شافيز-سيلفرمان، وفيفيان كوك، وتيم كروكشانك، وجيم كومينز، وسوزان دوبكا، وناديا دريكوفا، وكارين إيموري، وليلي وونج فيلمور، وديفيد جرين، وجون هيل، وميشيل كوفين، وأسعد خطيب، وإليزابيث لانزا، وديفيد لونا، وستيفن ماثيوز، وتيريزا مكارتي، وإلينا نيكولاديس، ويوهان باراديس، وباربرا زيورا بيرسون، وجنيفر براذر (آريل دورفمان)، وبول بريستون، وكاثي برايس، وماري-إيف بيرو، وإيليوت روث، وروبرت شروف، وسيسيليا سيرا ستيرن، وتيموثي شاناهان، وميريل سوين، وجانين تريفيرز-دالير، وجوتسنا فايد، وجوادالوب فالديز، ومارلين فيمن، وفرجينيا يب، وكاثرين يوشيدا، ومارتين والش، وجانيت فيركر، وإيوار فيرلن، وجانين فورتس.
وأود أن أشكر الأشخاص التالي ذكرهم على السماح لي باستخدام بعض من موادهم في هذا الكتاب: كاميلا كاي على المقتطفات من كتاب أينار هوجن «اللغة النرويجية في أمريكا: دراسة في السلوك الثنائي اللغة» (بلومنجتون: مطبعة جامعة إنديانا، 1969)، ومقال أينار هوجن «سمات الثنائية اللغوية» من كتاب «اللغة والبيئة: مقالات لأينار هوجن» الذي حرره أنور ديل (ستانفورد: مطبعة جامعة ستانفورد، 1972)؛ ومطبعة جامعة هارفرد على المقتطفات من كتاب فرانسوا جروجون «الحياة مع لغتين: مقدمة للثنائية اللغوية» (كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفرد، 1982)؛ ودار نشر ماكآرثر آند كومباني على المقتطفات من كتاب نانسي هيوستن «فقدان الشمال: تأملات في الأرض واللغة والذات» (تورونتو: ماكآرثر آند كومباني، 2002).
وأخيرا أقدم امتناني العميق لأفراد أسرتي، ليزيان ومارك وإريك، الذين قدموا لي دعما رائعا على مر السنين، وكان التواصل معهم ممتعا للغاية عند الحديث عن حياتنا - من بين أشياء أخرى - بلغتين أو أكثر في ثقافات متعددة.
مقدمة
أثناء تأليفي هذا الكتاب، كم أدهشني حال الأشخاص الثنائيي اللغة، وهم الذين يستخدمون لغتين أو أكثر في حياتهم اليومية. ففي خلال بضع ساعات في صباح يوم الإثنين هذا، استخدمت اللغة الفرنسية في شراء كرواسون من زوجة الخباز، التي تعاملت مع العميل التالي لي باللغة الألمانية السويسرية؛ وذهبت مع زوجتي الثنائية اللغة إلى المدينة للقاء صديقتها الثلاثية اللغة التي تتحدث بالإيطالية والفرنسية والألمانية؛ ومررت بالميكانيكي الإيطالي الأصل الذي أتعامل معه ليقوم بفحص سيارتي، وقد شرح لي باللغة الفرنسية كيف يعمل نظام التبريد بالسيارة. ومع تنقلي من مكان لآخر استمعت إلى الراديو، وسمعت أن إنجريد بيتانكورت، السياسية الكولومبية التي ظلت مختطفة لفترة طويلة قبل أن يتم تحريرها، قضت يوم الأحد الماضي في باريس مع أصدقاء فرنسيين، وتحدثت بالإسبانية على محطة كاراكول الإذاعية الكولومبية إلى المختطفين الآخرين الذين كانوا معها ولم يتم تحريرهم بعد. استمعت أيضا إلى روجر فيدرير في لندن يتحدث عن مباراة النهائي التي لعبها في ويمبلدون؛ فقد كان متعبا بسبب انتهائه من مباراته ضد رافاييل نادال في وقت متأخر في المساء، ثم إجرائه مقابلات باللغات الأربع التي يتحدث بها: «الألمانية السويسرية، والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية». والآن وأنا أجلس في مكتبي، مستمعا إلى موسيقى جورج فريدريك هاندل، المؤلف الموسيقي الثلاثي اللغة الذي كان يتحدث بالألمانية والإيطالية والإنجليزية، أستطيع سماع الأطفال في مركز الرعاية النهارية على الجهة المقابلة من الشارع وهم يغنون أغنيات بالفرنسية والإيطالية. توجد الثنائية اللغوية فعليا في كل دولة في العالم، وفي جميع طبقات المجتمع، وفي جميع الفئات العمرية. لقد قدر أن نحو نصف سكان العالم، إن لم يكن أكثر، ثنائيو اللغة، وهذا الكتاب يتحدث عنهم.
لماذا أقدم كتابا جديدا بعد كل الكتب الكثيرة التي تتحدث عن الموضوع نفسه؟ يعود السبب إلى زمن بعيد؛ فعندما كنت طالبا في جامعة باريس أحاول التكيف مع ثنائيتي اللغوية والثقافية، بحثت عن كتاب عن الموضوع ولم أجد إلا المراجع المتخصصة التي كانت طويلة جدا وذات أسلوب شديد الصعوبة (فلم أكن حينها عالم لغة بعد). بالإضافة إلى ذلك، لم أشعر أنها كانت تتحدث عن القضايا الواقعية التي كنت مهتما بها في ذلك الوقت، كما أنها لم تجب عن بعض أسئلتي الأساسية، وهي: ما هي الثنائية اللغوية؟ وهل أنا فعلا ثنائي اللغة؟ ولماذا أواجه فجأة صعوبات في اللغة مع أن الأمور كانت تسير بسلاسة حتى ذلك الوقت؟ (كنت قد عدت إلى فرنسا للتو بعد غياب دام عشر سنوات.) وهل أنا إنجليزي كما صنع مني تعليمي، أم فرنسي كما كان يشير اسمي وجواز سفري؟ هل هناك مشكلة في كون المرء ثنائي الثقافة؟ هذه بعض الأسئلة التي كنت أبحث عن إجابات لها، وبالنظر إلى السنوات الماضية، أدرك الآن أن كثيرا من ثنائيي اللغة كانوا يطرحون على أنفسهم الأسئلة نفسها. لقد استغرق الأمر مني بعض الوقت والبحث المتعمق في مجال الثنائية اللغوية، أولا على مستوى عملي في رسالة الماجستير التي حصلت عليها، ثم في عملي كباحث، حتى وصلت إلى إجابات مرضية لهذه الأسئلة.
عقب مرور أكثر من أربعين عاما، وبعد نشري لكتابي «الحياة مع لغتين» و«دراسة ثنائيي اللغة» وكثير من الأبحاث العلمية، شعرت بالحاجة إلى تأليف كتاب يكون بمنزلة مقدمة بسيطة وأساسية عن الموضوع الذي كنت أبحث عنه وأنا ما زلت شابا. لا يمكن إنكار أن هذا الموضوع ألف حوله العديد من الكتب التي تعد بمنزلة مقدمات له (وقد ألفت أحدها)، والمجلدات المحررة والدراسات الأكثر تخصصا، كما أن هناك موسوعة، ودوريات أكاديمية (ساهمت في تأسيس إحداها) خصصت له، فضلا عن الرسائل الإخبارية الخاصة بالأسر الثنائية اللغة، والعديد من المواقع الإلكترونية المخصصة لهذا الموضوع. ومع هذا، وعلى الرغم من انتشار هذه الظاهرة، فإن الثنائية اللغوية كموضوع للبحث ما زالت غير مألوفة لمعظم الناس. كذلك يحيط بالثنائية اللغوية عدد من الخرافات مثل أن الأشخاص الثنائيي اللغة من النادر وجودهم ويتمتعون بمعرفة متساوية ومثالية بلغاتهم، وأن الأشخاص الثنائيي اللغة الحقيقيين قد اكتسبوا ما يجيدونه من لغتين أو أكثر في مرحلة الطفولة وليس لديهم لكنة في أي منها، وأن الأشخاص الثنائيي اللغة مترجمون بالفطرة، وأن تنقلهم بين اللغات هو علامة على كسلهم، وأنهم كلهم ثنائيو الثقافة، وأن لديهم شخصيات مزدوجة أو منفصمة، وأن الثنائية اللغوية تؤخر اكتساب اللغة لدى الأطفال ولها آثار سلبية على نموهم، وأنك إذا أردت أن تربي طفلك ليصبح ثنائي اللغة، فعليك استخدام أسلوب التزام كل من الوالدين بالتحدث إليه بلغة واحدة فقط، وأن الأطفال الذين ينشئون على الثنائية اللغوية يخلطون دوما بين لغاتهم، إلى آخر ذلك.
إن هدفي الأول في هذا الكتاب هو عرض الجوانب المختلفة لكون المرء ثنائي اللغة بأبسط وأوضح طريقة ممكنة، حتى أزيل الغموض المحيط بطبيعة هؤلاء الأفراد. وعلى عكس كتاباتي ذات الطابع الأكاديمي عن هذا الموضوع، أضع في ذهني هنا قاعدة قراء عامة أكثر تتألف من كل المهتمين بالثنائية اللغوية، أو كل من تربطهم علاقة، بنحو أو بآخر، بثنائيي اللغة؛ الطلاب والقراء العاديين، والآباء الذين يخططون لتنشئة أطفالهم أو ينشئونهم ليكونوا ثنائيي اللغة، والأزواج وأفراد العائلات الذين يتعاملون مع ثنائيي اللغة، بالإضافة إلى الزملاء والأصدقاء والمختصين الذين يتعاملون مع الأطفال الثنائيي اللغة، مثل المعلمين وعلماء النفس واختصاصيي التخاطب. أما هدفي الثاني، الذي هو على نفس قدر أهمية الهدف الأول، فيتمثل في تقديم كتاب للأشخاص الثنائيي اللغة يتحدث عنهم، من تأليف شخص هو نفسه ثنائي اللغة، تعرض لكل مميزات وعيوب العيش وهو يمتلك عدة لغات وينتمي لعدة ثقافات. لا يرى كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة أنفسهم أنهم كذلك، ويتشككون في كفاءتهم اللغوية؛ لذا أتمنى أن يساعدهم هذا الكتاب في التصالح مع حقيقتهم وتقبل هويتهم بوصفهم متمتعين بالكفاءة لكنهم نوع مختلف من مستخدمي اللغات.
لا أريد أن يتسم هذا الكتاب بالتفاؤل فحسب وإنما أيضا بالواقعية؛ فالثنائية اللغوية ليست عبئا أو مشكلة كما يصورها البعض، لكنها أيضا ليست ميزة رائعة كما يريد البعض الآخر منا أن نعتقد؛ فالثنائية اللغوية هي ببساطة حقيقة حياتية لملايين وملايين الأفراد، بكل مميزاتها وعيوبها، وأوقات نفعها وأوقات ضررها، وما ينتج عنها من لحظات بهجة (وهي كثيرة) ولحظات إحباط (وهي قليلة). ونظرا لكوني ثنائي اللغة والثقافة، سأحاول وصف الأشخاص الذين يعرفون ويستخدمون، مثلي، عدة لغات ويتعاملون مع ثقافات مختلفة، وسأحاول فعل هذا بأوضح وأكثر طريقة معبرة ممكنة.
يتكون هذا الكتاب من جزأين؛ يتحدث الأول عن البالغين الثنائيي اللغة، ويختص الثاني بالأطفال الثنائيي اللغة. ينقسم كل جزء إلى فصول قصيرة تشرح الجوانب المختلفة للشخص الثنائي اللغة. في الجزء الأول، أستعرض أسباب كون الأشخاص ثنائيي اللغة ومدى الثنائية اللغوية؛ ثم أصف الثنائيي اللغة من حيث الطلاقة اللغوية واستخدام اللغة، وأنظر في الوظائف المختلفة للغات الأشخاص الثنائيي اللغة. هذا وأخصص ثلاثة فصول للحديث عن طريقة تكييف الأشخاص الثنائيي اللغة لإنتاجهم اللغوي مع الموقف ومع الذين يتعاملون معهم - من الأشخاص الثنائيي اللغة الآخرين أو الأحاديي اللغة - وأتحدث عن سلوكيات متعلقة بالثنائية اللغوية؛ مثل: التبديل اللغوي، والاقتباس، والتداخل. بعد ذلك أخصص فصلا للحديث عن معنى أن تكون للفرد لكنة في لغة واحدة أو العديد من اللغات، وهو في الواقع أمر طبيعي جدا بالنسبة إلى ثنائي اللغة. ثم أتناول تطور معرفة الأشخاص الثنائيي اللغة بلغاتهم طوال فترة حياتهم؛ فأوضح كيف تزيد وتخبو المعرفة باللغات المختلفة واستخدامها بناء على الحاجة المتغيرة. يعرض الفصل التالي مواقف ومشاعر الأشخاص الثنائيي اللغة، والأحاديي اللغة أيضا، تجاه الثنائية اللغوية. يليه فصل عن الثنائية الثقافية، وهي ظاهرة لا ترتبط تلقائيا بالثنائية اللغوية، ولكنها تفرض نفسها على حياة كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة. تعقب هذا مناقشة لشخصية الثنائيي اللغة، وكيف يفكرون ويحلمون، وكيف يعبرون عن مشاعرهم بإحدى لغاتهم أو بها جميعا. يتحدث الفصلان الأخيران في الجزء الأول عن الكتاب الثنائيي اللغة وغيرهم من الأشخاص الثنائيي اللغة «المميزين». لقد وصفت، على مر السنوات، الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين ودافعت عنهم، وفي هذا الكتاب أواصل عمل ذلك؛ حيث إنهم يشكلون الغالبية العظمى من الثنائيي اللغة. إلا أنني قررت أيضا الحديث عن الثنائيي اللغة المميزين، والاستثنائيين أحيانا؛ معلمي اللغات والمترجمين التحريريين والشفويين والمشاهير من الثنائيي اللغة، وحتى العملاء السريين، بالإضافة إلى المؤلفين الثنائيي اللغة الذين يكتبون أعمالا أدبية بلغتهم الثانية أو بلغتيهم كلتيهما، وهو شيء مبهر في حقيقة الأمر.
أشرح في الجزء الثاني كيف يكتسب الأطفال الثنائية اللغوية ويتخلون عنها بسرعة كبيرة، وكيف أن هذا يعتمد إلى حد كبير على احتياجهم للغات التي يتعاملون معها. ثم أشرح الطرق التي يتحول بها الطفل إلى ثنائي اللغة، مثل اكتساب لغتين معا في مرحلة الطفولة، أو اكتساب لغة واحدة في مرحلة الطفولة ثم لغة ثانية في مرحلة تالية. أتبع هذا بفصل يتحدث عن الجوانب اللغوية للثنائية اللغوية في مرحلة الطفولة، وأناقش فيه سيادة إحدى اللغات، والتكيف مع الوضع اللغوي، و«الخلط» بين اللغات، وتصرف الأطفال الثنائيي اللغة مثل المترجمين الشفويين، وطريقة لعب الأطفال الثنائيي اللغة باللغات. كما أخصص فصلا للحديث عن الاستراتيجيات التي يمكن للعائلات تطبيقها لضمان أن يصبح أطفالهم ثنائيي اللغة؛ وعن الدعم الذي لا بد أن يحصلوا عليه هم وأطفالهم من أجل الحفاظ على لغاتهم الأصلية. وثمة فصل كامل عن آثار الثنائية اللغوية على نمو الأطفال يجيب عن سؤال يوجد في أذهان كثير من الآباء. هذا، وأستعرض المشكلات التي توجد في الدراسات السابقة عن الثنائية اللغوية، وما وصلت إليه الأبحاث في يومنا هذا، وأتحدث قليلا عن الأطفال الثنائيي اللغة واضطرابات اللغة. وأتحدث في الفصل الأخير عن التعليم والثنائية اللغوية، وأستعرض برامج لا يهدف فيها التعليم لاكتساب ثنائية لغوية، وأخرى يكون هذا هو أحد أهدافها.
ما الاختلاف بين هذا الكتاب الجديد وكتاب «الحياة مع لغتين»؟ أولا: هذا الكتاب أقصر، ويغطي جوانب محددة فقط للثنائية اللغوية؛ فيركز على البالغين والأطفال، فهذا الكتاب لا يتحدث مثلا عن الجوانب السياسية والديموغرافية والاجتماعية للثنائية اللغوية. ثانيا: ألفت هذا الكتاب ليكون سهل الفهم لقاعدة عريضة من القراء العاديين وليس فقط للطلاب والمختصين؛ ومن ثم فإن الفصول صارت أقصر، وأصبحت الإشارات أقل إلى الأعمال البحثية، وصار التركيز أقل على موضوعات متخصصة - بعضها ضمن نطاق تخصصي - مثل الجوانب الإدراكية واللغوية العصبية للثنائية اللغوية، أو نماذج المعالجة الثنائية اللغة. ثالثا: مر أكثر من 25 سنة على نشر كتابي «الحياة مع لغتين»، وتطورت طريقة تفكيري في بعض الموضوعات؛ إجمالا، يمكنني القول إن الكتابين مكملان كل منهما للآخر؛ فقد يرغب القارئ الذي ينتهي من قراءة هذا الكتاب ويكون مهتما بمعرفة المزيد، في الاطلاع على الكتاب الآخر الذي يغطي المزيد من الموضوعات، وهو الأكثر تفصيلا بالتأكيد، ويقدم المزيد من الإفادات الشخصية من أناس ثنائيي اللغة.
وتماما مثلما فعلت في كتاب «الحياة مع لغتين»، أترك في هذا الكتاب الفرصة لثنائيي اللغة للحديث بأنفسهم عن خبراتهم الشخصية بشأن الحياة مع لغتين وثقافتين أو أكثر. أدرجت أيضا بعض الاقتباسات القصيرة من أعمال لمؤلفين ثنائيي اللغة، مثل: إيفا هوفمان، ونانسي هيوستن، وريتشارد رودريجيز، وأوليفيه تود؛ إذ إن موهبة التأليف لديهم تسمح لهم باستخدام الكلمات المناسبة للتعبير عن مشاعرهم وخبراتهم مع الثنائية اللغوية التي مر بها كثير منا.
تمتد المراجع العلمية التي أستشهد بها في هذا الكتاب إلى عدة عقود، على الرغم من أن الغالبية العظمى منها حديثة للغاية. ما السبب وراء هذه الفترة الزمنية الطويلة؟ وما سبب الاستشهاد ببعض المراجع الأقدم؟ الإجابة بسيطة؛ فقد أصبح لدراسة الثنائية اللغوية الآن تاريخ طويل، ومن المهم ذكر الأعمال الكلاسيكية لبعض من أوائل الباحثين في هذا المجال، مثل: أينار هوجن، وأوريل فاينريش، وويليام ماكي، ووالاس لامبرت، وغيرهم؛ فقد مهدوا الطريق أمام العلماء من جيلي والأجيال التالية عليه. ومع هذا، فأنا في الحقيقة لا أكثر من الاستشهاد في هذا الكتاب؛ إذ لا أريد إدراج الكثير من الإحالات داخل الفصول، ويمكن للقراء الذين يريدون التعمق أكثر في جوانب معينة من الثنائية اللغوية الرجوع إلى أعمالي السابقة، بالإضافة إلى الكثير من الكتب التقديمية والأكثر تخصصا الأخرى التي تتحدث عن الموضوع.
الجزء الأول
البالغون الثنائيو اللغة
الفصل الأول
لماذا يصبح الناس ثنائيي اللغة؟
من قبيل الفضول، بحثت في محرك البحث جوجل عن مصطلح «ثنائي اللغة»، وظهر لي عدد هائل من النتائج (ربما يكون هذا العدد قد زاد عند قراءتك لهذا الكتاب). بحثت بعد ذلك عن أساليب استخدام هذا المصطلح، ووجدته يستخدم في سياقات القواميس الثنائية اللغة، والمهن الثنائية اللغة، والأشخاص الثنائيي اللغة، والقوانين الثنائية اللغة، والدول الثنائية اللغة، والكتب الثنائية اللغة، والألعاب الثنائية اللغة، والدراسات الثنائية اللغة، والاقتراع الثنائي اللغة، وقواعد البيانات الثنائية اللغة، والمدارس الثنائية اللغة، وما إلى ذلك. وبينما كنت أتصفح القائمة (لقد توقفت بعد بضع صفحات)، اتضح لي أن هذا المصطلح يستخدم بكثير من الطرق المختلفة، مثل: «الذين يعرفون ويستخدمون لغتين» (إشارة إلى الأشخاص الثنائيي اللغة)، أو «الذي يعرض بلغتين» (الكتب الثنائية اللغة والاقتراع الثنائي اللغة)، أو «الذي يحتاج إلى لغتين» (المهن الثنائية اللغة)، أو «الذي يعترف بلغتين» (الدول الثنائية اللغة)، أو «الذي ينتقل من لغة إلى أخرى» (القواميس الثنائية اللغة). اتضح لي أيضا أن بعض المصطلحات غير واضحة؛ فهل المدرسة الثنائية اللغة، على سبيل المثال، هي مدرسة تضم وترعى أفرادا أحاديي اللغة ينتمون للغتين مختلفتين، أم أنها مدرسة تستخدم لغتين في التدريس، أم أنها مدرسة تشجع الثنائية اللغوية لدى الأطفال المنضمين إليها؟ إن الرسالة المستفادة من كل هذا هي أنه يجب علينا أن نتوخى الحذر عند تفسير مصطلح «ثنائي اللغة» عندما نراه أو نسمعه.
في هذا الكتاب ستكون الأمور أبسط؛ إذ سنركز على البالغين والأطفال الثنائيي اللغة. بالإضافة إلى ذلك، أقترح من البداية هذا التعريف للأشخاص الثنائيي اللغة:
الثنائيو اللغة هم أناس يستخدمون لغتين (أو لهجتين) أو أكثر في حياتهم اليومية.
تجدر الإشارة إلى ثلاث نقاط بشأن هذا التعريف. أولا: يركز على الاستخدام المنتظم للغات وليس على الطلاقة اللغوية، كما سأستعرض بمزيد من التفصيل في الفصل الثاني. ثانيا: يشمل اللهجات إلى جانب اللغات؛ ومن ثم، فإن الإيطاليين الذين يستخدمون واحدة من اللهجات العديدة لإيطاليا - مثل البوليزية - مع اللهجة الإيطالية الرسمية، يمكن وصفهم بأنهم ثنائيو اللغة، تماما مثل الأشخاص الذين يستخدمون الإنجليزية والإسبانية بانتظام. ثالثا: يذكر التعريف لغتين أو أكثر؛ إذ يستخدم بعض الأشخاص ثلاث أو أربع لغات، إن لم يكن أكثر.
يسألني الناس دوما لماذا لا أستخدم كلمة «متعدد اللغات»؟ يوجد سببان لهذا؛ أولا: بعض الناس ثنائيو اللغة فقط (أي يعرفون ويستخدمون لغتين)، ويبدو من الغريب استخدام مصطلح «متعدد اللغات» عند وصف هؤلاء. وثانيا: مصطلح «متعدد اللغات» يستخدم أقل من مصطلح «ثنائي اللغة» عند الإشارة إلى الأفراد؛ ويوجد توجه قديم في هذا المجال نحو توسيع نطاق مفهوم الثنائية اللغوية ليشمل الذين يستخدمون لغتين أو أكثر بانتظام.
قبل تخصيص عدة فصول لدراسة الشخص الثنائي اللغة، لا بد أن نسأل أنفسنا: لماذا يصبح الناس ثنائيي اللغة؟ ولماذا يستخدم كثير من سكان العالم لغتين أو أكثر في حياتهم اليومية؟ في هذا الفصل سنفحص أولا العوامل التي تؤدي إلى ظاهرة الثنائية اللغوية، وثانيا سنفحص مدى انتشار تلك الظاهرة. (1) العوامل التي تؤدي إلى الثنائية اللغوية
إذا حاولت معرفة عدد اللغات الموجودة في العالم، فإنك ستصل إلى عدة إجابات مختلفة، والسبب الرئيسي في هذا هو كيفية تحديد اللغة مقارنة بالأشكال المتنوعة منها، التي يطلق عليها عادة اللهجات. فعندما تدرج كل لهجة على أنها لغة مستقلة، يرتفع عدد اللغات بالنسبة إليك؛ أما عندما لا تفعل ذلك، فإن العدد ينخفض. يعرض الموقع الإلكتروني والكتاب المرجعي «إثنولوج: لغات العالم» قائمة شاملة بجميع اللغات الحية المعروفة في العالم في عصرنا الحالي. إنه يطبق بنحو أساسي معايير الفهم المتبادل بين اللهجات والأدب السائد لتحديد ما إذا كانت لهجتان جزءا من اللغة نفسها أم لا، لكنه يسمح أيضا باستثناءات بناء على الهويات العرقية اللغوية. وبناء على الإحصاء الأخير لهذا الموقع، يوجد ما يقرب من 7 آلاف لغة في العالم (الرقم الموجود في نسخة عام 2005 هو بالتحديد 6912 لغة). إن أوروبا هي المنطقة التي يوجد بها أقل عدد من اللغات في العالم (239 لغة فقط)، وآسيا هي أكثر منطقة بها لغات (2269 لغة). وإحدى المناطق المميزة، التي نرى جميعا أنها مساحة شاسعة لكنها تخلو من كتل أرضية مهمة، ومن ثم من اللغات، هي المنطقة المطلة على المحيط الهادئ، لكن في الواقع توجد لغات يصل عددها إلى 1310 لغات تستخدم في الجزر المتفرقة العديدة الموجودة على امتداد المحيط الهادئ.
1
مع وجود هذا الكم الكبير من اللغات في العالم (مع أن نحو 516 منها شبه منقرض، وذلك وفقا لما جاء في موقع «إثنولوج»)، يجب أن يحدث قدر كبير من التواصل بين الناس من مختلف المجموعات اللغوية. وفي ظل وجود هذا التواصل اللغوي، تنشأ الثنائية اللغوية؛ فيتعلم أعضاء إحدى المجموعات لغة مجموعة أخرى، كما تعلم مثلا متحدثو الألمانية السويسرية اللغة الفرنسية، أو المهاجرون إلى الولايات المتحدة اللغة الإنجليزية. أحيانا يكون التعلم متبادلا، على الرغم من أن هذا نادر الحدوث؛ وفي أحيان أخرى، تتعلم المجموعات المتفاعلة لغة وسيطة (لغة للتواصل فيما بينها)، مثل اللغة السواحلية التي تستخدم في التواصل بين المجموعات الموجودة في شرق أفريقيا.
لنلق الآن نظرة أكثر تعمقا على أسباب التواصل اللغوي والثنائية اللغوية. (1-1) البنية اللغوية للدولة
إحدى الطرق التقريبية لتقدير مقدار التواصل اللغوي الذي يحدث في كل دولة؛ تتمثل في تقسيم عدد اللغات الموجودة في العالم (نحو 7 آلاف لغة) على عدد الدول (192 دولة وفقا للأمم المتحدة في وقت تأليف هذا الكتاب). تعطينا النتيجة - وهي 36 لغة في الدولة الواحدة في المتوسط - فكرة عن مدى التنوع اللغوي. مع هذا يرى العالم اللغوي ويليام ماكي أن هذا الرقم يتطلب بعض التصحيحات؛ أولا: يشير ماكي إلى أن هناك لغات عدد المتحدثين بها أكبر كثيرا من عدد متحدثي لغات أخرى. فيظهر موقع «إثنولوج» أن 94 في المائة من سكان العالم يتحدثون 347 لغة، أو ما يقرب من 5 في المائة من إجمالي عدد اللغات. ونجد من بين اللغات التي يتحدث بها معظم الناس في العالم لغة الماندرين الصينية، واللغات الإسبانية والإنجليزية والبنغالية والهندية/الأردية والعربية والبرتغالية والروسية واليابانية والفرنسية. ثانيا: تستخدم بعض اللغات بوصفها لغات رسمية في عدة دول (مثلا: يتحدث الناس بالإسبانية في جميع أنحاء أمريكا الوسطى والجنوبية، وتستخدم الإنجليزية في كثير من دول الكومنولث)؛ ومع هذا، يوجد كثير من الدول التي تضم عددا كبيرا من اللغات؛ فيوجد نحو 516 لغة في نيجيريا - وفقا لموقع «إثنولوج» - و427 في الهند، و275 في أستراليا، و200 في البرازيل، و280 في الكاميرون، إلى آخره. في الواقع، يصعب العثور على دول لديها لغة واحدة أو لغتان؛ عادة ما تكون هذه الدول منعزلة جغرافيا (جزر مثل جرينلاند وسانت هيلينا)، أو سياسيا (مثل كوريا الشمالية وكوبا).
2
يعتمد التواصل اللغوي، ومن ثم الثنائية اللغوية، داخل الدولة على العديد من العوامل، أحدها توزيع اللغة داخلها؛ فإذا كان التوزيع قائما على أساس جغرافي - أي إذا كانت اللغات المختلفة تستخدم في مناطق معينة - فإن فرص التواصل ستكون أقل مقارنة بوجود كل المجموعات اللغوية في المنطقة نفسها. أحد الأمثلة المألوفة لدي للغاية هو سويسرا؛ حيث توجد حدود لغوية واضحة نسبيا بين اللغات القومية الأربع المستخدمة؛ فيتحدث الناس بالفرنسية في الغرب، وتستخدم اللغة الإيطالية في الأساس في منطقة تيتشينو (الطرف الجنوبي الأوسط للدولة)، وتستخدم اللغة الرومانشية في منطقة صغيرة في الجزء الشرقي من الدولة، والألمانية في باقي أنحاء الدولة. تظهر الثنائية اللغوية دوما على طول الحدود اللغوية (فأنا أعيش في مكان يبعد نحو ثلاثة أميال عن الحد اللغوي الفرنسي الألماني)، وتظهر أيضا في المدن الحدودية مثل فرايبورج وبيال/بيين. في دول أخرى توجد لغتان أو أكثر في المنطقة نفسها (على سبيل المثال: الإنجليزية والإسبانية في جنوب غرب أمريكا)، وفي مثل هذه الحالات تكون فرص ظهور الثنائية اللغوية أكبر، مع تساوي كل العوامل الأخرى، نظرا لحدوث المزيد من التواصل بين المجموعات.
يتمثل أحد العوامل الأخرى في السياسة اللغوية للدولة. فإذا اعترفت الحكومة بالعديد من اللغات وأعطتها بعض المكانة الرسمية (مثلما فعلت كندا مع اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وبلجيكا مع اللغات الفرنسية والفلمنكية والألمانية)، فإن التواصل اللغوي ربما لن يكون كبيرا بالقدر الذي يوجد عليه في الدول التي تعترف بلغة رسمية واحدة من بين كثير من اللغات الأخرى العديدة المستخدمة فيها. في حالة بلجيكا، على سبيل المثال، يوجد بعض التواصل بين المجموعات اللغوية الأصلية، وتتعلم كل مجموعة لغة المجموعات الأخرى في المدرسة، لكن فعليا يستخدم كثير من الناس بنحو أساسي لغة واحدة فقط في حياتهم اليومية. على العكس من ذلك، عندما توجد في الدولة لغة قومية واحدة (سواء أكانت معترفا بها أم لا)، أو لغة وسيطة معترف بها، كما هو الحال في كثير من الدول الأفريقية، فإن أعضاء معظم المجموعات اللغوية لا بد أن يصبحوا ثنائيي اللغة (والمثال على ذلك شعب الإنويت في كندا، والنافاجو في الولايات المتحدة، وسكان منطقة القبائل في الجزائر، والألبانيون في اليونان، والمجريون في رومانيا، والفنلنديون في السويد، إلى آخره). بالطبع يكون لعوامل أخرى بعض التأثير، مثل السياسات اللغوية والتعليمية للدولة ومواقف المجموعات اللغوية المختلفة بعضها تجاه بعض. عبر شخص بلجيكي عن تقييمه للوضع اللغوي في دولته، فقال:
يتعلم كل طفل في المدرسة اللغتين كلتيهما في وقت مبكر بداية من المرحلة الابتدائية. فيتعلم المتحدثون بالفلمنكية اللغة الفرنسية ويجيدونها أكثر؛ لأن الفرنسية أكثر نفعا بكثير، وهي لغة عالمية.
3 (1-2) حركة الشعوب
في عصرنا الحالي، بالإضافة إلى التواصل اللغوي الذي يحدث بين مجموعات السكان الأصليين، يحدث تواصل بين هذه المجموعات والمتحدثين بلغات أخرى الذين يهاجرون إلى منطقتهم أو دولتهم. قد تؤدي أنماط عديدة إلى الثنائية اللغوية؛ يتمثل أكثر هذه الأنماط حدوثا، على الأقل في عصرنا الحالي، في أن المهاجرين (إلى الولايات المتحدة أو إنجلترا أو فرنسا، على سبيل المثال) يتعلمون لغة وطنهم الجديد، لكن قد يتعلم السكان الأصليون أيضا لغة هؤلاء المستوطنين (ومن ثم نجد تاريخيا أن الهنود الحمر تعلموا الإنجليزية في الولايات المتحدة، والمصريين تعلموا العربية عند استقرار العرب في مصر). في بعض الحالات، لكنها نادرة، تتعلم كل مجموعة لغة المجموعة الأخرى (مثلما حدث عندما تعلم المستوطنون الإسبان في باراجواي اللغة الجوارانية، وتعلم الشعب الجواراني الإسبانية).
ينتقل الناس دائما داخل الدول والقارات وعبرها لعدة أسباب مختلفة؛ فقد أدى البيع والشراء والتعاملات التجارية منذ قديم الأزل إلى التواصل اللغوي، ومن ثم إلى الثنائية اللغوية. ففي الماضي، عندما كان التجار يسافرون إلى مناطق تتحدث لغة أخرى أو تستخدم فيها لغة وسيطة، كان كثير من البائعين والمشترين يصبحون ثنائيي اللغة. كانت اليونانية اللغة الوسيطة المستخدمة في التجارة في منطقة البحر المتوسط خلال القرون الثالث والرابع والخامس قبل الميلاد، والآن الروسية هي اللغة المستخدمة في التجارة والأعمال في جميع أنحاء روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق (يتحدث الناس بأكثر من مائة لغة في روسيا الاتحادية)، وبالطبع اللغة الإنجليزية هي اللغة الأكبر للتجارة والأعمال في جميع أنحاء العالم. تجري التعاملات التجارية في عصرنا الحالي على نحو متزايد على أصعدة عالمية؛ فينتقل كثير من الناس إلى دولة أخرى لبضع سنوات للعمل في أحد الفروع الدولية لشركتهم، وعادة ما تصحبهم عائلاتهم، ويصبح كل من البالغين والأطفال ثنائيي اللغة. ويجب علينا الإشارة هنا إلى أنه ليس من الضروري دوما أن يهاجر الناس جسديا حتى يحدث التواصل اللغوي؛ إذ يتواصل كثير من رجال الأعمال بعضهم مع بعض عبر الهاتف أو شبكة الإنترنت، باللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الدولية، عبر الدول والمناطق الزمنية، ثم يعودون إلى حياتهم الطبيعية، التي يستخدمون فيها لغة واحدة عادة، في نهاية يوم العمل.
يتنقل الناس أيضا حول العالم لأسباب سياسية ودينية، ويزخر تاريخ العالم بأمثلة على انتقال شعوب إلى أراض جديدة، وفي كثير من الأحيان، إلى لغة أخرى، لأسباب سياسية؛ مثل الروسيين الذين هاجروا عقب ثورة عام 1917، والألمان في إقليم السوديت عقب الحرب العالمية الثانية، والكوبيين في أثناء عهد كاسترو، والفيتناميين عقب سقوط فيتنام الجنوبية. وأما فيما يتعلق بالهجرات الدينية، فقد فر البروتستانت الهيجونوت، على سبيل المثال، من فرنسا عقب إلغاء مرسوم نانت في عام 1685، واستقروا في روسيا وإنجلترا وهولندا وأمريكا؛ وفي القرن العشرين ترك اليهود الروسيون الاتحاد السوفييتي في ظروف صعبة، واستقروا في إسرائيل والولايات المتحدة، من بين دول أخرى؛ وفي السنوات الأخيرة ترك كثير من المسيحيين دولهم في الشرق الأوسط واستقروا في دول أخرى.
على الرغم من أن الغزوات العسكرية والحروب والاستعمار ربما أصبحت في عصرنا الحالي أقل حدوثا مما كان في الماضي، فإنها كانت سببا في قدر كبير من التواصل اللغوي؛ فقد أدخل الإسكندر الأكبر وجيوشه اللغة اليونانية إلى الشرق الأوسط، وأدخلت الإمبراطورية الرومانية اللغة اللاتينية إلى كثير من أجزاء أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ونشر الفاتحون الإسبان لغتهم في الأمريكتين، كما زادت الغزوات الاستعمارية في القرن التاسع عشر من عدد المتحدثين بالفرنسية والإنجليزية والروسية، إلى آخره.
وأخيرا، تعتبر الهجرة لأسباب اقتصادية واجتماعية عاملا رئيسيا في تنقل الشعوب، ومن ثم في التواصل اللغوي؛ فينتقل الناس دوما إلى مناطق أو دول أو قارات أخرى بحثا عن العمل وعن ظروف حياة أفضل. يزخر تاريخ كثير من الدول في جميع أنحاء العالم بعمليات نزوح الناس إليها، ونشأ كثير من الدول، مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين، اعتمادا على مثل هذه الظاهرة. وقد أصبحت الآن أوروبا الغربية بدورها - التي تركها كثيرون في القرون السابقة من أجل الحصول على ظروف حياة أفضل في أماكن أخرى - مقصدا لكثير من المجموعات المهاجرة الكبيرة التي كانت في مراحل مختلفة من الاندماج.
حدث قدر كبير من التواصل اللغوي ضمن الأجيال الأولى القليلة من المهاجرين مع استمرار المهاجرين وسلالتهم في الحديث بلغتهم الأصلية، والحديث أيضا، في معظم الوقت، بلغة (لغات) دولتهم الجديدة. فتظهر التقديرات، على سبيل المثال، أنه بسبب الهجرة، يستخدم حاليا في لندن نحو 300 لغة مختلفة، بل إن مدينة بوسطن التجارية الصغيرة التي توجد في لينكولنشير بإنجلترا، يتحدث سكانها البالغ عددهم 70 ألف شخص نحو 65 لغة.
4 (1-3) التعليم والثقافة
كان التعليم والثقافة دوما مجالين لتعلم اللغات الأجنبية واستخدامها، وسيظلان كذلك. منذ وقت طويل يصل إلى عهد الإمبراطورية الرومانية، كان كل الرومان المتعلمين تقريبا يتعلمون اللغة اليونانية، التي كانت لغة الطب والبلاغة والفلسفة وغير ذلك. فيما بعد في أوروبا ذهب هذا الدور إلى اللغة الإيطالية، ثم الفرنسية، وأصبحت الألمانية لغة المجالات العلمية في القرن التاسع عشر. والآن سيطرت اللغة الإنجليزية بوصفها اللغة الوسيطة الأساسية في التعليم والثقافة. بالإضافة إلى ذلك، لا يتعلم ملايين الأطفال والطلاب في كثير من الدول المختلفة لغة أو لغتين فقط كمواد دراسية في المدارس، وإنما يتعلمون أيضا بلغة ليست هي لغتهم الأم. يحدث هذا، على سبيل المثال، في كثير من الدول الأفريقية والآسيوية، بالإضافة إلى معظم الدول التي يوجد بها مهاجرون. كتب شخص ثلاثي اللغة يتحدث باللغة المراتية والهندية والإنجليزية قائلا:
عندما ذهبت إلى المدرسة لأول مرة لم أكن أعرف الإنجليزية، لكني بدأت تعلمها كمادة دراسية في المرحلة الثانوية، ثم أصبحت الإنجليزية لغة التدريس في الكلية.
5
ويقول شخص ثنائي اللغة يتحدث بالفارسية والإنجليزية:
لم أكن أعرف كيفية التحدث بالإنجليزية حتى أصبحت في العاشرة من عمري، عندما التحقت بمدرسة إنجليزية في طهران.
6
فعليا قد يقطع بعض طلاب المدارس أو الطلاب الأكبر سنا مسافة كبيرة للذهاب إلى مدرسة أو كلية تدرس بلغة مختلفة. يوجد مثال على هذا قريب من منزلي في سويسرا في منطقة الحدود الفرنسية؛ فيوجد تقليد راسخ منذ وقت طويل لدى الطلاب الألمان السويسريين، يتمثل في تجاوز الحد اللغوي والذهاب إلى مدارسنا الثانوية الفرنسية المحلية بدلا من الذهاب إلى مدارسهم الثانوية الألمانية؛ فنسمع عادة الطلاب وهم يتحدثون بالألمانية السويسرية أثناء سيرهم من محطة القطار إلى المدرسة، ويصبحون عند انتهاء فترة دراستهم ثنائيي اللغة يتحدثون الفرنسية والألمانية. أما بشأن الدراسة الجامعية، فلا يسع المرء إلا التفكير في الطلاب الذين يسافرون إلى فرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وغيرها، من أجل الحصول على درجة علمية؛ ويصبح هؤلاء الطلاب فعليا ثنائيي اللغة بسرعة كبيرة. (1-4) عوامل أخرى
من بين العوامل الأخرى التي تؤدي إلى الثنائية اللغوية، يتبادر إلى ذهني ثلاثة: العائلات الثنائية اللغة، ومهن الأفراد، والصمم. بالنسبة إلى العامل الأول ، يوجد عدد لا حصر له من العائلات الثنائية اللغة التي يتعلم فيها الأطفال لغة (لغات) العائلة التي يتحدثون بها داخل المنزل، بالإضافة إلى اللغة (أو اللغات) المستخدمة خارجه. وسنعود إلى الحديث عن هذا الموضوع في الجزء الثاني من هذا الكتاب، لكنها إحدى الطرق الشائعة جدا لتحول المرء إلى ثنائي اللغة. فيما يلي إفادة لشخص ثنائي اللغة يتحدث بالإنجليزية والإسبانية:
لقد ولدت ونشأت في كولومبيا، في أمريكا الجنوبية. وفي نوع البيئة الأسرية التي نشأت فيها، كان سماع لغتين والتحدث بهما أمرا طبيعيا؛ فقد كانت والدتي كندية ووالدي كولومبيا، وكان كل منهما يتحدث إلينا بلغته الأصلية.
7
يتمثل العامل الثاني ببساطة في أن وظائف معينة تتطلب معرفة عدة لغات واستخدامها، وقد ذكرنا بالفعل التجارة والأعمال المالية المختلفة. يتطلب أيضا كثير من المهن الأخرى معرفة العاملين بها للغتين أو أكثر؛ مثل: السياحة والسفر، ومجال الفندقة، والعمل الدبلوماسي، والأبحاث، والإعلام (بما في ذلك المراسلة الأجنبية)، ومجال الترفيه، وتدريس اللغات والتعليم الثنائي اللغة، والترجمتين التحريرية والشفوية، وتقديم المساعدات للدول النامية، إلى آخره. ومكان العمل في عصرنا الحالي في كثير من الأحيان ثنائي اللغة، إن لم يكن متعدد اللغات.
ثالثا: يؤدي عادة ضعف السمع أو الصمم إلى ثنائية لغوية في لغة الأغلبية (الإنجليزية في الولايات المتحدة على سبيل المثال)، وفي لغة الإشارة لدى مجموعة الصم الموجودة داخل الدولة أو المنطقة (لغة الإشارة الأمريكية في الولايات المتحدة على سبيل المثال).
8 (2) مدى انتشار الثنائية اللغوية
بناء على النقاش السابق بشأن اتساع مدى الثنائية اللغوية، يمكن للمرء التساؤل عما أدى إلى ظهور المفهوم الخاطئ التالي:
خرافة: الثنائية اللغوية ظاهرة نادرة
ربما يأتي هذا الانطباع الخاطئ من حقيقة أن المرء نادرا ما توجد لديه رؤية شاملة بشأن كم التواصل اللغوي الذي يحدث في العالم. وربما يكون السبب أيضا أن لدى بعض الناس تعريفات محدودة للغاية لمعنى الثنائية اللغوية (سنعود للحديث عن هذا في الفصل التالي). الأكيد أن الثنائية اللغوية موجودة فعليا داخل كل دولة في العالم؛ في جميع طبقات المجتمع، وفي كل الفئات العمرية.
إذا ، ما عدد الأشخاص الثنائيي اللغة الموجودين في العالم؟ على الرغم من عملي في هذا المجال لسنوات عديدة، فإنني لم أعثر بعد على إجابة جيدة لهذا السؤال. أزعم، مثل كثيرين، أن نصف سكان العالم - إن لم يكن أكثر - ثنائيو اللغة. لكن البيانات التي نريد جميعنا الحصول عليها في هذا الشأن غير متاحة؛ والسبب في هذا أن تحديد عدد مستخدمي لغة واحدة أمر بالغ الصعوبة فعليا (لاحظ مشكلة فصل اللهجة عن اللغة)، وأيضا لأن الدراسات الاستقصائية والإحصاءات السكانية لا تتفقان على نوعية الأسئلة التي يجب طرحها. فهل يجب سؤال الأفراد عن اللغات التي يعرفونها، أم التي يستخدمونها، أم التي تحدثوا بها منذ طفولتهم؟ هذا بالإضافة إلى أن الثنائية اللغوية والثنائية الثقافية أحيانا ما ينظر إليهما على أنهما ظاهرتان «تضعفان» المجموعة اللغوية أو الثقافية (فهل ينتمي الشخص الثنائي اللغة/الثقافة إلى المجموعة (أ) أم المجموعة (ب)؟)؛ ومن ثم، يكون من الأسهل طرح أسئلة بسيطة عن لغة واحدة وثقافة واحدة.
مع هذا، توجد بعض البيانات التي يمكننا استخدامها؛ على سبيل المثال: نشرت المفوضية الأوروبية تقريرا في عام 2006 يسأل الأوروبيين عن لغتهم الأم وعن معرفتهم بأية لغات أخرى. وفيما يتعلق بالسؤال عن اللغات الأخرى (باستثناء اللغة الأم) التي يجيد الخاضعون لاستطلاع الرأي (الذين كانوا من 25 دولة مختلفة) التحدث بها لدرجة تمكنهم من إجراء حوار بها، ذكر 56 في المائة منهم اسم لغة واحدة، ومن ثم يشير هذا إلى احتمال وجود ثنائية لغوية (حتى إن لم يكونوا يتحدثون باللغتين بصفة يومية)، وذكر 28 في المائة منهم اسم لغتين (مما يشير إلى احتمال كونهم ثلاثيي اللغة)؛ لذا على الأرجح يتسم أكثر من نصف سكان أوروبا قليلا بأنهم ثنائيو اللغة. وكما هو متوقع، فإن الدول التي تضم أكبر عدد من الأشخاص الثنائيي اللغة هي في الأساس الأصغر حجما، مثل لوكسمبورج وسلوفاكيا ولاتفيا وهولندا، ويجب أن نضيف إلى هذه الدول أيضا سويسرا التي لم تكن ضمن هذا الاستطلاع؛ إذ إنها رسميا ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي. وبالأساس تكون الدول الأكبر حجما أحادية اللغة أكثر؛ على سبيل المثال: بريطانيا العظمى التي، مع ذلك، ذكر 38 في المائة من الذين خضعوا للاستطلاع منها قدرتهم على التحدث على الأقل بلغة واحدة أخرى بخلاف لغتهم الأم.
9
ماذا عن أمريكا الشمالية؟ لنبدأ بالحديث عن كندا. تشير هيئة الإحصاء الكندية إلى أن أكثر من 5 ملايين شخص بقليل، أفادوا في الإحصاء السكاني الذي أجري في عام 2001 في كندا بأنهم ثنائيو اللغة، وأنهم يتحدثون الإنجليزية والفرنسية، وهو رقم أعلى بنحو 8,1 في المائة من الرقم المذكور قبل خمس سنوات. ويمثل هذا العدد نحو 18 في المائة من عدد السكان. وكما هو متوقع، فإن نصف الفرانكوفونيين (المتحدثين بالفرنسية) تقريبا ثنائيو اللغة، في مقابل 9 في المائة فقط من الأنجلوفونيين (المتحدثين بالإنجليزية). بالإضافة إلى ذلك، ذكر 18 في المائة آخرون من السكان أن لديهم لغة أما أخرى غير الإنجليزية والفرنسية؛ ونظرا لأن معظم هؤلاء الأفراد ربما يستخدمون أيضا إحدى اللغتين القوميتين، فإن عدد الأشخاص الثنائيي اللغة في كندا ربما يقدر بنحو 35 في المائة، وهي نسبة إلى حد ما أقل من النسبة الموجودة في أوروبا.
10
ما هو الموقف في الولايات المتحدة؟ منذ أكثر من ثلاثين عاما، في كتاب «الحياة مع لغتين»، حللت الدراسة الاستقصائية المتعلقة بالدخل والتعليم في أمريكا لعام 1976. طرحت هذه الدراسة أسئلة تتعلق باللغة على الذين ذكروا نشأتهم في أسر ليست لغتها الأم هي الإنجليزية، وقد توصلت في هذا الوقت إلى أن أقل قليلا من 13 مليون شخص (نحو 6 في المائة من عدد السكان) ذكروا أنهم يتحدثون الإنجليزية ولغة أقلية بصفة مستمرة؛ بمعنى أنهم ثنائيو اللغة. استنتجت عندها أن الولايات المتحدة دولة أحادية اللغة إلى حد كبير مقارنة بأية دولة أخرى في العالم.
11
ومنذ ذلك الحين تسأل الإحصاءات السكانية الأمريكية عن اللغة التي يتحدث بها المرء في المنزل غير الإنجليزية، ومدى إجادته للحديث بالإنجليزية. ذكر ما يقرب من 18 في المائة من السكان في إحصاء عام 2000 أنهم يتحدثون لغة أخرى في المنزل، وقد ارتفع هذا الرقم عن 14 في المائة في عام 1990، و11 في المائة في عام 1980. ومن بين 47 مليون شخص تقريبا ذكروا استخدامهم للغة أخرى، أعلن ما يقرب من 36 مليون شخص أنهم يتحدثون الإنجليزية على نحو جيد أو جيد جدا؛ مما يعني أن نحو 13,71 في المائة من إجمالي سكان الولايات المتحدة ثنائيو اللغة. وإذا أضفنا الذين ذكروا أنهم «لا يجيدون كثيرا» التحدث بالإنجليزية، فإن إجمالي نسبة الأشخاص الثنائيي اللغة سيزيد إلى ما يقرب من 17 في المائة.
12
وإذا أضفنا العدد الكبير من الأمريكيين الذين يستخدمون لغة ثانية أو ثالثة خارج المنزل، والذين لم يدرجوا ضمن مستخدمي اللغات الأخرى في الإحصاءات السكانية، فسنرى بالتأكيد زيادة في نسبة الأشخاص الثنائيي اللغة في الولايات المتحدة. بالتأكيد لن تصل الأرقام إلى تلك الموجودة في أوروبا، فضلا عن الموجودة في كثير من الدول الآسيوية والأفريقية، لكن الولايات المتحدة بالتأكيد هي دولة تحتوي على عدد كبير من الأشخاص الثنائيي اللغة؛ ما يقدر بنحو 55 مليون شخص في عام 2009.
فيما يتعلق باللغات المستخدمة في الولايات المتحدة بجانب الإنجليزية، فإن اللغة الأكثر استخداما حتى الآن - وفقا لإحصاء عام 2000 - هي الإسبانية (نحو 28 مليون متحدث، بزيادة قدرها عشرة ملايين بين عامي 1990 و2000).
13
ويلي اللغة الإسبانية، في قائمة العشر لغات الأولى، العديد من اللغات الآسيوية (الصينية والتاجالوجية والكورية والفيتنامية)، بالإضافة إلى بعض اللغات الأوروبية «القديمة» (الفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية والبولندية)، التي قل عدد المتحدثين بها (فيما عدا الروسية)، مقارنة بما كان عليه الوضع في الماضي. وجدير بالذكر أن عدة لغات من تلك التي كانت موجودة ضمن قائمة أول عشر لغات في منتصف القرن العشرين، مثل اليديشية واللغات الإسكندنافية؛ انخفض عدد المتحدثين بها بشدة في عام 2000؛ على سبيل المثال: انخفض عدد المتحدثين باللغة اليديشية من 1,7 مليون شخص في عام 1940، إلى أقل من 200 ألف شخص في عام 2000 (وكان أكثر المتحدثين بها في الأساس من كبار السن).
إجمالا، الثنائية اللغوية ظاهرة عالمية، توجد في كل القارات وفي غالبية دول العالم. وفي بعض الدول، مثل الدول الأفريقية والآسيوية التي مع الأسف لا توجد لدينا بيانات كافية عنها، على الأرجح تفوق نسبة الثنائية اللغوية فيها النسبة الموجودة في أوروبا وأمريكا الشمالية. كتب أحد المتحدثين باللغات اللوغندية والسواحلية والإنجليزية عن أوغندا قائلا:
يشجع كل شخص في بلدي على الحديث بأكبر عدد من اللغات يمكنه إجادته. ولكوني ثنائي اللغة أجد أنني أستطيع التحدث مع عدد كبير من الناس من مختلف أنحاء أوغندا.
14
ويقول أحد ثلاثيي اللغة من غانا، يتحدث بالأكانية والفانتية والإنجليزية:
يفخر الناس بكونهم ثنائيي اللغة لأن الناس بوجه عام ينظرون إليهم باحترام. توجد بعض اللغات السائدة، وتمثل القدرة على التحدث بها ميزة كبيرة. تشجع غانا بوجه عام على الثنائية اللغوية، وخبرتي كأحد الأشخاص الثنائيي اللغة رائعة؛ ويرجع هذا لتمكني من التواصل بحرية وسهولة مع الآخرين الذين لا تربطني بهم صلة قرابة.
15
الفصل الثاني
وصف الأشخاص الثنائيي اللغة
كنت أجلس في أحد الأيام على أحد المقاهي في الهواء الطلق وسمعت ثلاثة أشخاص يتحدثون عن معنى أن تكون ثنائي اللغة. أصغيت جيدا لكنني قاومت إغراء مقاطعتهم بشدة، على الرغم من أنهم كانوا يتحدثون عن موضوعي المفضل. أصر أحدهم على أن معنى كون المرء ثنائي اللغة أن يتحدث لغتين بطلاقة تامة. وافق شخص آخر على كلامه وأضاف أن الشخص الثنائي اللغة لا بد له أن ينشأ أيضا على اللغتين. أما الشخص الثالث فلم يكن متأكدا مثلهما، وذكر ببساطة أن الشخص الثنائي اللغة يستخدم لغتين بانتظام، ثم قال: «على أية حال، قد يعرف شخص ما لغتين بطلاقة، لكنه لا يستخدم إحداهما على الإطلاق تقريبا، فهل هذا يجعله ثنائي اللغة؟ وماذا عن شخص لا يعرف لغتين بالمستوى نفسه لكنه يستخدمهما بانتظام؟ ألا يمكن وصف هذا الشخص بأنه ثنائي اللغة؟» أخذت رشفة من قهوتي بهدوء وأنا أجلس على الطاولة المجاورة، وقطعت وعدا على نفسي بأن أكتب فصلا في كتابي القادم عن الثنائية اللغوية حول هذه النقطة.
سنعرض فيما يلي، بالإضافة إلى تناول معياري الطلاقة والاستخدام، بعض العوامل الأخرى التي تساعد في وصف الأشخاص الثنائيي اللغة، مثل: نوعية اللغات التي يستخدمونها، والغرض من استخدامها، وتاريخهم اللغوي، وإتقانهم للمهارات اللغوية المختلفة، والأوضاع اللغوية التي ينتقلون بينها، وما إذا كانوا ثنائيي الثقافة أيضا أم لا. (1) الطلاقة أم الاستخدام؟
منذ عدة سنوات سألت بعض الطلاب الجامعيين الأحاديي اللغة عما يفهمونه عندما أخبرهم أن شخصا ما ثنائي اللغة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فكانت الإجابة الأكثر ورودا (من 36 في المائة من الطلاب) أن هذا يعني أن هذا الشخص يتحدث باللغتين بطلاقة. وعندما طلبت منهم تحديد أهمية الطلاقة على مقياس من 1 إلى 5، بحيث يكون 1 ليست مهمة، و5 شديدة الأهمية، أعطوا «الطلاقة في اللغتين» متوسط تقييم مرتفعا وصل إلى 4,7.
تنتشر فكرة أن معنى كون المرء ثنائي اللغة أنه يتحدث لغتين بطلاقة. أمعنت نانسي هيوستن - الكاتبة الثنائية اللغة ذات الأصل الكندي لكنها عاشت في فرنسا لعدة سنوات - التفكير في ثنائيتها اللغوية والثقافية، وكتبت عن الأمر. وسأذكر آراءها في أجزاء كثيرة من هذا الكتاب. ترى هيوستن أن الأشخاص الثنائيي اللغة الحقيقيين هم الذين يتعلمون إتقان لغتين منذ مرحلة مبكرة في طفولتهم، والذين يستطيعون التنقل ذهابا وإيابا بينهما بسلاسة ودون عناء.
1
كما أن بعض علماء اللغة طرحوا الطلاقة اللغوية بوصفها السمة المميزة للأشخاص الثنائيي اللغة؛ فقد كتب عالم اللغة الأمريكي ليونارد بلومفيلد، على سبيل المثال، يقول إن الثنائية اللغوية هي التحكم في لغتين كأنهما لغتان أصليتان.
2
وبعد عدة عقود، تشدد أكثر المحاضر والمترجم الشفوي الدبلوماسي كريستوف تيري عندما كتب يقول:
إن الشخص الثنائي اللغة الحقيقي هو من يراه أعضاء مجموعتين لغويتين مختلفتين، لديهما المستوى الاجتماعي والثقافي نفسه تقريبا؛ واحدا منهم.
3
وقد أفاد بأن الأشخاص الثنائيي اللغة «الحقيقيين» الذين درسهم، قد تعلموا لغاتهم في صباهم (قبل سن الرابعة عشرة)، وتحدثوا باللغتين في المنزل، وتنقلوا ذهابا وإيابا بين مجتمعين لغويين، ودرسوا بلغتيهم. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد لديهم لكنة في أي من اللغتين، ويتقنون جميع المهارات اللغوية في اللغتين، ولا يدعون إحدى اللغات تتداخل مع الأخرى عند تحدثهم مع أحاديي اللغة.
إن أحد الأهداف الرئيسية لهذا الكتاب هو إظهار أن الغالبية العظمى من الأشخاص الثنائيي اللغة لا يشبهون ببساطة هؤلاء الأشخاص النادري الوجود؛ فعلى الرغم من وجود بعض الذين يشبهونهم، مثل المترجمين الشفويين والتحريريين (وسنعود إلى الحديث عنهم في الفصل الثالث عشر)، فإن معظم الأشخاص الثنائيي اللغة لا ينطبق عليهم ببساطة هذا الوصف؛ فربما لم يكتسبوا اللغتين في مرحلة الطفولة، أو لم يتحدثوا بهما في المنزل، أو ربما عاشوا في مجتمعين لغويين مختلفين. لم يدرس كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة بلغتيهم، وتوجد لدى كثير منهم لكنة في إحدى اللغتين، وفي كثير من الأحيان تتداخل إحدى اللغتين مع الأخرى. إذا كان يفترض بنا تطبيق وصف ثنائي اللغة فقط على الذين يتقنون كلا من اللغتين كأنهم أحاديو اللغة فيها، فلن يصبح لدينا تصنيف للغالبية العظمى من الذين يستخدمون لغتين أو أكثر بانتظام لكن ليس بطلاقة اللغة الأصلية لهم. فوفقا لتعريف الطلاقة اللغوية، هم ليسوا ثنائيي اللغة، وليسوا أحاديي اللغة أيضا؛ لأنهم يقضون حياتهم وهم يستخدمون أكثر من لغة.
أدت وجهة النظر الأحادية اللغة للأشخاص الثنائيي اللغة، التي ما زلنا نجدها لدى عامة الناس (لكن عادة بمعدل أقل بكثير لدى المختصين في الثنائية اللغوية)، إلى وجود سوء الفهم الشائع التالي:
خرافة: يتمتع الأشخاص الثنائيو اللغة بمعرفة متساوية وممتازة بلغاتهم
يضيف البعض أن الأشخاص الثنائيي اللغة لا بد أن يكونوا قد اكتسبوا لغاتهم في طفولتهم، ويزيد البعض على هذا فكرة ضرورة ألا يكون لديهم لكنة في أي من اللغتين. هؤلاء هم ثنائيو اللغة «الحقيقيون» و«الخالصون» و«المتوازنون» و«المثاليون»، أما كل الآخرين (في الواقع، الغالبية العظمى من الذين يستخدمون لغتين أو أكثر في حياتهم اليومية)، فينظر إليهم على أنهم أشخاص ثنائيو اللغة «غير حقيقيين» أو «أقل» في المرتبة من الأشخاص الثنائيي اللغة الحقيقيين. وإحدى تبعات هذا أن المهارات اللغوية لثنائيي اللغة تقيم طوال الوقت تقريبا من خلال المعايير الخاصة بالأشخاص الأحاديي اللغة. خضعت آثار الثنائية اللغوية لفحص دقيق، ونادرا ما يقيم الأشخاص الثنائيو اللغة كفاءتهم اللغوية ويرون أنها ملائمة؛ فهم يميلون إلى تبني وجهة النظر الأحادية اللغة للثنائية اللغوية والتضخيم من حجمها، ومن ثم ينتقدون ثنائيتهم اللغوية. فهم يشتكون من عدم قدرتهم على الحديث بإحدى لغاتهم جيدا، ومن أن لديهم لكنة، وأنهم يخلطون بين لغاتهم، إلى آخره. ولا يريد كثير منهم أن يصنفوا على أنهم ثنائيو اللغة، حتى إن بعضهم يخفون معرفتهم باللغة الأضعف من بين لغاتهم.
إن هذا كله أمر مؤسف؛ إذ إنه لا يضع في اعتباره الحقيقة، التي سنناقشها بمزيد من التعمق في الفصل التالي، المتمثلة في أن معظم الأشخاص الثنائيي اللغة يستخدمون لغاتهم لأغراض مختلفة، وفي مواقف مختلفة، ومع أشخاص مختلفين. فهم ببساطة لا يحتاجون إلى التمتع بطلاقة متساوية في كل لغاتهم؛ فمستوى الطلاقة اللغوية الذي يصلون إليه في إحدى اللغات (خصوصا في المهارة اللغوية) سيعتمد على احتياجهم لهذه اللغة، وسيكون خاصا بمجال معين؛ ولذلك فإن كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة بارعون بشدة في إحدى اللغات، وبعضهم لا يعرف القراءة والكتابة بإحدى اللغتين، بينما يعرف آخرون لغة دون أن يستخدموها. ربما يتمتع عدد قليل من الأشخاص الثنائيي اللغة بطلاقة متساوية وممتازة في لغتيهم، على الرغم من أن أينار هوجن - أحد رواد أبحاث الثنائية اللغوية، الذي شرفت بمعرفته - لا يعتقد أن هذا ممكن في الحقيقة؛ فقد كتب يقول:
هل يمكن الحفاظ على نقاء أنماط لغتين (أو أكثر) بالكامل، بحيث يصبح الشخص الثنائي اللغة بمنزلة شخصين من الأشخاص الأحاديي اللغة، يتحدث كل منهما إحدى اللغتين بإتقان لكنه يفهم أيضا اللغة الأخرى باقتدار، ويستطيع في إحدى اللغتين إنتاج المعنى المعبر عنه في اللغة الأخرى دون الإخلال في أي وقت بأسلوب استخدام أي من اللغتين؟ ظاهريا يميل المرء إلى الرد بالنفي. نظريا هذا الأمر ممكن تماما مثلما يمكن نظريا وجود خط مستقيم تماما، أو جمال لا عيب فيه، أو نعيم كامل. لكن عمليا من الضروري الرضا بأقل من هذا.
4
نظرا لأن اعتبار الطلاقة اللغوية معيارا لتعريف الثنائية اللغوية أمر مثير للجدل، اختار كثير من الباحثين بدلا منه «استخدام» اللغة، وبالتدريج زاد عدد الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يستخدمونه عند وصف ثنائيتهم اللغوية. اتبع هذا النهج كل من أوريل فاينريش وويليام ماكي، وهما اثنان من العلماء المهمين الذين أثروا مجال الثنائية اللغوية في النصف الثاني من القرن الماضي؛ فقد عرفا الثنائية اللغوية على أنها الاستخدام المتبادل للغتين (أو أكثر).
5
أما تعريفي الخاص، الذي يرى أن الأشخاص الثنائيي اللغة هم الذين يستخدمون لغتين (أو لهجتين) أو أكثر في حياتهم اليومية، فيشبه هذا التعريف كثيرا ويركز على استخدام اللغة.
يزيد عدد الذين يمكن وصفهم بأنهم ثنائيو اللغة كثيرا عندما نركز على استخدام اللغة؛ فمن ناحية، نجد العامل المهاجر الذي قد يتحدث ببعض الصعوبة لغة الدولة المضيفة له، والذي لا يستطيع القراءة أو الكتابة بها. ومن ناحية أخرى، نجد المترجم الشفوي المحترف الذي يتمتع بطلاقة لغوية تامة في لغتين. وبين هذين الاثنين، نجد العالم الذي يقرأ المقالات ويكتبها بلغة ثانية لكنه نادرا ما يتحدث بها، والزوج الأجنبي الذي يتعامل مع أصدقائه بلغته الأولى، وأحد أعضاء الأقليات اللغوية الذي يستخدم لغة الأقلية في المنزل فقط ولغة الأغلبية في كل مجالات الحياة الأخرى، والإنسان الأصم الذي يستخدم لغة الإشارة مع أصدقائه ولغة منطوقة (عادة في صورتها المكتوبة) مع شخص يسمع، إلى آخره. على الرغم من التنوع الكبير بين هؤلاء الأشخاص، فإنهم يشتركون جميعا في سمة مشتركة، وهي أنهم يعيشون حياتهم مع استخدام لغتين أو أكثر. (2) الطلاقة اللغوية واستخدام اللغة
على الرغم من التركيز المتزايد على استخدام اللغة عند وصف الأشخاص الثنائيي اللغة، فإننا لا نستطيع الاستغناء تماما عن فكرة الطلاقة؛ أي اللغات التي يعرفها الأشخاص الثنائيو اللغة ودرجة إجادتهم لها. هذا وقد صنعت الشبكة الموضحة في الشكل
2-1 ، بحيث تضع في الاعتبار كلا العاملين.
يعرض استخدام اللغة بطول المحور الرأسي للشبكة بتسلسل (بداية من عدم الاستخدام «على الإطلاق»، وحتى الاستخدام «يوميا»)، وتوجد الطلاقة بطول المحور الأفقي (بداية من الطلاقة «المنخفضة»، وحتى الطلاقة «العالية»). يمكن تحديد مكان لغات الأشخاص الثنائيي اللغة على الشبكة بناء على المستويات التي وصلوا إليها فيها في كل من البعدين. في المثال الموجود، أستعرض الثنائية اللغوية لدى آنا، وهي طالبة تدرس الكيمياء في سنتها الثانية في إحدى الجامعات الكبرى في وسط غرب الولايات المتحدة؛ فبسبب خلفيتها (فقد هاجر والداها من جمهورية الدومينيكان)، والسنة التي قضتها في إيطاليا، واللغات التي درستها في المدرسة، تمتلك أربع لغات: الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والفرنسية. وهي تتمتع بطلاقة عالية في اللغة الإنجليزية، وطلاقة متوسطة في الإسبانية، وتستخدم اللغتين كلتيهما يوميا. يعتبر مستوى طلاقة آنا في اللغة الإيطالية منخفضا إلى حد ما، وتستخدمها من حين لآخر مع صديقة التقت بها في إيطاليا (تعرف هذه الصديقة ثلاثا من اللغات التي تتحدث بها آنا)، كما أن مستوى طلاقتها في اللغة الفرنسية منخفض، ولا تستخدم هذه اللغة أبدا. (قد يرغب القراء المهتمون في ملء الشبكة بلغاتهم الخاصة بناء على استخدامها ومستويات الطلاقة فيها.)
شكل 2-1: وصف الأشخاص الثنائيي اللغة من حيث استخدام اللغة والطلاقة اللغوية. إن اللغات المعروضة في هذا المثال هي: الإنجليزية (اللغة الأولى)، والإسبانية (اللغة الثانية)، والإيطالية (اللغة الثالثة)، والفرنسية (اللغة الرابعة).
يضع التعريف القديم للثنائية اللغوية التركيز على الطلاقة اللغوية العالية (الجزء الأيمن من الشبكة). ونظرا لأن آنا لديها طلاقة متوسطة في اللغة الإسبانية، فربما لا يمكن اعتبارها ثنائية اللغة وفقا لوجهة النظر هذه. أما التعريف الحديث للثنائية اللغوية، فيضع التركيز على الاستخدام المنتظم للغة (الجزء العلوي من الشبكة)؛ فنرى أن آنا تستخدم كلا من الإنجليزية والإسبانية بصفة يومية؛ لذا يمكن اعتبارها من الأشخاص الثنائيي اللغة. ويعتمد كون آنا ثلاثية اللغة (في اللغات الإنجليزية والإسبانية والإيطالية) على وضعها فيما يتعلق بتسلسل استخدام اللغة. للوهلة الأولى يمكننا القول إنها ثنائية اللغة في اللغتين الإنجليزية والإسبانية وتعرف قليلا عن اللغتين الإيطالية والفرنسية، وهذا نمط شائع في عصرنا الحالي؛ فقد يستخدم ثنائيو اللغة لغتين أو أكثر بصفة منتظمة، ويكون لديهم أيضا قدر من المعرفة بلغة أخرى أو أكثر.
سأتحدث طوال الوقت في هذا الكتاب عن موضوع اللغات التي يعرفها الأشخاص الثنائيو اللغة، حتى إن كان مستوى طلاقتهم فيها منخفضا للغاية، واللغات التي يستخدمونها؛ وسأفعل هذا عن طريق الإشارة إلى هذه الشبكة. (3) تعقيد الأمور قليلا
يجب وضع الكثير من العوامل الأخرى - بالإضافة إلى البيانات الشخصية التقليدية (السن والجنس والوضع الاجتماعي والاقتصادي والوظيفة وغيرها) - في الاعتبار عند وصف الأشخاص الثنائيي اللغة. سأذكر القليل منها هنا وأتابع تناول بعضها في الفصول التالية.
أولا: كما أشرنا في الشكل
2-1 ، لا بد لنا أن نعرف اللغات التي توجد لدى الأشخاص الثنائيي اللغة معرفة حقيقية بها، وتلك التي يستخدمونها. يعرف كثير منا عدة لغات بدرجات متفاوتة (أربع لغات في حالتي)، لكننا نستخدم عددا قليلا منها على نحو منتظم (لغتين في حالتي). كذلك لا بد لنا أن نعرف نوع العلاقة بين اللغات التي يستخدمها الشخص؛ فسيساعدنا هذا على فهم التأثير الذي قد تمارسه لغة ما على اللغات الأخرى (فاللغات التي تكون قريبة بعضها من بعض، على سبيل المثال، يزيد احتمال تأثير بعضها على بعض).
من المهم أيضا معرفة ما إذا كان بعض اللغات لا يزال الشخص في مرحلة اكتسابها (تخيل شخصا لم يمض على وجوده في الولايات المتحدة إلا عام واحد، وما زال يحاول تحقيق تقدم في تعلم اللغة الإنجليزية)، وإذا ما كانت لغات أخرى في مرحلة إعادة الهيكلة؛ بمعنى تعرضها للتعديل نتيجة تأثير لغة أقوى منها عليها. ينطبق هذا، على سبيل المثال، على اللغة الهندية لدى الشخص الثنائي اللغة في الهندية والفرنسية الذي يعيش في فرنسا، والذي لا يستخدم الهندية كثيرا نظرا لعيشه في الخارج لعشر سنوات.
يمثل التاريخ اللغوي للشخص الثنائي اللغة العامل الثالث الذي يجب علينا وضعه في الاعتبار. فما هي اللغات (والمهارات اللغوية) المكتسبة؟ ومتى تكتسب؟ وهل اكتسبت اللغات كلها في الوقت نفسه (وهذا أمر من النادر نسبيا أن يحدث) أم الواحدة تلو الأخرى؟ على سبيل المثال: يكتسب كثير من الناس إحدى اللغات في المنزل، ثم يكتسبون لغة ثانية عند التحاقهم بالمدرسة. وما هو أسلوب اكتساب هذه اللغات؟ هل تكتسب في ظروف عادية أم في ظروف رسمية أكثر (في المدرسة)، أم في مزيج من الاثنتين؟ يمكن أن تؤثر طريقة اكتساب المرء للغة ما على درجة إجادته لها، خاصة فيما يتعلق بكفاءة استخدامها في القراءة والكتابة. نحتاج أيضا إلى معرفة نمط استخدام اللغة على مر السنين. إجمالا، يؤثر العمر الذي اكتسب فيه المرء لغة ما، وطريقة اكتسابها، ومقدار استخدامه لها على مر السنين؛ على مدى إجادته لها، وطريقة معالجتها، وحتى على طريقة تخزين العقل لها وتعامله معها. سنعود مرة أخرى إلى هذا الأمر في الفصل الذي يتحدث عن اللغات على مدى حياة المرء.
يجب أن نعرف أيضا مدى كفاءة (طلاقة) الشخص الثنائي اللغة في كل من المهارات الأربع (التحدث والاستماع والقراءة والكتابة) في كل لغة. (لم نذكر حتى الآن إلا معيار الطلاقة العام في كل لغة.) وأفضل طريقة لتوضيح هذا، ولوقت معين، تكون باستخدام أربع شبكات مثل الموضحة في الشكل
2-1 ، واحدة لكل مهارة، وملء كل منها على أساس استخدام كل مهارة ودرجة إجادتها. يمكن بعد ذلك إجراء اختبارات إجادة دقيقة، بالإضافة إلى استبيانات للتقييم الذاتي.
6
ما سيتضح لنا هو أن كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة قد لا يعرفون القراءة والكتابة بلغة معينة، على الرغم من أنهم يتحدثون بها ويفهمونها عند الاستماع إليها. بالإضافة إلى ذلك، من النادر أن تكون درجة إجادتهم متساوية لكل اللغات، كما شرحنا من قبل، وربما تكون لديهم لكنة في إحدى اللغات، وهو أمر سنعود إلى الحديث عنه في فصل لاحق من هذا الكتاب.
يتعلق أحد العوامل الأخرى التي تميز الأشخاص الثنائيي اللغة بوظائف لغاتهم؛ ما اللغات (والمهارات اللغوية) التي يستخدمونها، وفي أي سياق، ولأي غرض، وإلى أي مدى. فعلى سبيل المثال: نحن نعرف أن كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة يستخدمون لغة واحدة في مجالات معينة على وجه الخصوص (مثل اللغة المستخدمة في العمل وفي الممارسات الدينية)، بينما يمكن استخدام لغات أخرى في عدة مجالات (مثل استخدام عدة لغات مع الأصدقاء). سنفحص في الفصل التالي تأثير هذا على سيادة إحدى اللغات، بالإضافة إلى تأثيره على سلوكيات مثل الترجمة.
يتطلب تقديم وصف كامل للأشخاص الثنائيي اللغة أن نضع في اعتبارنا الوضع اللغوي، المتمثل في تفعيلهم للغاتهم، بناء على عوامل مثل الموقف والمتحدث والموضوع. في بعض المواقف، مثل الحديث مع أحاديي اللغة، لا تفعل ولا تستخدم إلا لغة واحدة؛ على سبيل المثال: عندما أتحدث إلى جمهور فرنسي، فإنني لا أستخدم إلا لغتي الفرنسية وأوقف عمل لغاتي الأخرى بحيث لا تدخل في حديثي. مع ذلك، في مواقف أخرى، مثل الحديث مع شخص آخر ثنائي اللغة يعرف اللغات نفسها التي أعرفها، يمكن تفعيل لغتين أو أكثر، ويمكن أن تظهر في الحوار؛ على سبيل المثال: عندما أتحدث بالفرنسية إلى زوجتي، وهي ثنائية اللغة في الفرنسية والإنجليزية، يمكنني ذكر كلمات أو جمل باللغة الإنجليزية، وفقا لاحتياجي إليها؛ إذ أعرف أنها ستفهمني. في هذا الموقف (الذي يسمى الوضع الثنائي اللغة)، يستطيع الأشخاص الثنائيو اللغة ببساطة تفعيل لغة أخرى لإدخال كلمة أو عبارة أو جملة منها (عبر آليتين هما التبديل اللغوي والاقتباس)، أو يمكنهم فعليا تغيير اللغة التي يتحدثون بها (وهو ما يطلق عليه تغيير اللغة الأساسية). وسوف أخصص ثلاثة فصول كاملة للحديث عن مثل هذه الظاهرة؛ إذ إنها أساسية في التواصل الثنائي اللغة.
آخر عامل يجب وضعه في الاعتبار هو الثنائية الثقافية؛ أي ما إذا كان الأشخاص الثنائيو اللغة يتعاملون مع ثقافتين أو أكثر أم يعيشون حياتهم بثقافة واحدة. ليس كل الأشخاص الثنائيي اللغة ثنائيي الثقافة أيضا؛ على سبيل المثال: إن الشخص المغربي الذي يعرف اللغة العربية المغربية واللغة العربية الحديثة ويستخدمهما، والذي عاش طوال حياته في المغرب؛ ثنائي اللغة لكنه ليس ثنائي الثقافة. ومع ذلك، فإن كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة، مثل الجيل الأول من المهاجرين، يكونون ثنائيي الثقافة أيضا، ويلعب هذا دورا في ثنائيتهم اللغوية. سنناقش هذا في الفصل العاشر.
الفصل الثالث
وظائف اللغات
سنبدأ هذا الفصل بزيارة قصيرة إلى بلدة بوميرود في ولاية سانتا كاتارينا في البرازيل. في هذا المجتمع الذي يضم 20 ألف شخص، والذي أسسه المهاجرون الألمان القادمون من منطقة بوميرانيا في ألمانيا، تتحدث الغالبية العظمى من السكان باللغتين الألمانية (البوميرانية، على وجه الدقة) والبرتغالية . الأمر المثير للاهتمام هو طريقة توزيع السكان للغاتهم في المجالات الحياتية المختلفة؛ فبعض المجالات تغطيها لغة واحدة، وتستخدم اللغة الأخرى في بعض المجالات الأخرى، وتستخدم اللغتان في مجالات ثالثة.
1
فعلى سبيل المثال: تستخدم اللغة البرتغالية فقط في مواقف معينة (مع السلطات، وفي النوادي، وفي الرياضة، وفي الكتابة)، وفي مواقف أخرى لا تستخدم إلا اللغة الألمانية (في الكنيسة، على سبيل المثال)، وفي بعض المجالات تستخدم اللغتان (في العمل، والمتاجر، وفي المنازل، ومع الأصدقاء).
ينطبق حال الأشخاص الثنائيي اللغة في بوميرود الذين يتحدثون البرتغالية والبوميرانية على معظم الثنائيي اللغة في العالم، سواء أكانوا يعيشون مع ثنائيي اللغة آخرين أم وحدهم؛ فهم يوزعون لغاتهم على مجالات الحياة المختلفة، ويستخدمون لغات مختلفة مع أشخاص مختلفين. بعد مناقشة المبدأ الذي يعبر عن هذه الظاهرة، سنتعرف على تأثيرها على الطلاقة اللغوية لدى الأشخاص الثنائيي اللغة، وسيادة إحدى اللغات، وقدرات الترجمة، بالإضافة إلى تأثيرها غير المباشر على الذاكرة. (1) استخدامات اللغات
يمكن صياغة ما أطلق عليه اسم مبدأ التكامل على النحو التالي:
يكتسب عادة الأشخاص الثنائيو اللغة لغاتهم ويستخدمونها لأغراض مختلفة، وفي مجالات مختلفة من الحياة، ومع أشخاص مختلفين. فتتطلب جوانب الحياة المختلفة دوما استخدام لغات مختلفة.
يعرض الشكل
3-1
مبدأ التكامل. في هذا الشكل أخذت مثال آنا من الفصل السابق، ونسبت لغاتها للمجالات التي تستخدمها فيها. ولتبسيط الأمور، قللت عدد المجالات الموجودة؛ ففي الحقيقة يوجد أكثر من ذلك بكثير. لا توجد لغة آنا الرابعة (الفرنسية) في هذا الشكل؛ إذ إنها لا تستخدمها. يعرض كل مجال في شكل سداسي، ويمكن استخدام لغة أو لغتين أو ثلاث لغات للتعامل معه. نرى أن اللغة الإنجليزية (أفضل لغة تعرفها آنا وأكثر لغة تستخدمها وفقا للشكل في الفصل الثاني) تستخدم وحدها في خمسة مجالات في الحياة؛ في الجامعة والتسوق والتنزه ومع الحبيب وفي الأمور الرسمية. أما اللغة الإسبانية (التي تستخدمها أيضا كثيرا لكن مستوى طلاقتها فيها متوسط) فتستخدم وحدها في مجالين في الحياة؛ مع الوالدين والأقارب البعيدي الصلة. وتستخدم اللغتين الإنجليزية والإسبانية معا في ثلاثة مجالات؛ مع الإخوة والأصدقاء وفي الطقوس الدينية. أخيرا، نشير إلى أن اللغة الإيطالية، التي لا تستخدمها آنا كثيرا ولا تعرفها جيدا أيضا، تشترك في مجال واحد مع اللغتين الإنجليزية والإسبانية (الأصدقاء غير المقربين).
2
يمكننا رسم النمط نفسه لاستخدام اللغة لجميع الأشخاص الثنائيي اللغة ليغطي مجالات مثل: الوالدين، والأطفال، والإخوة، والأقارب البعيدي الصلة، والعمل، والرياضة، والدين، والمدرسة، والتسوق، والأصدقاء، والتنزه، والهوايات، وغيرها، ونخرج منه بتوزيع للغاتهم. ستغطي بعض اللغات الكثير من المجالات، وستغطي لغات أخرى مجالات أقل، وستغطي بعضها مجالات بجانب لغة (أو لغات) أخرى. ومن النادر أن يستخدم ثنائيو اللغة كل لغاتهم في كل مجالات حياتهم (اللغة الإنجليزية والإسبانية في العمل، وفي المنزل، ومع أفراد الأسرة). فإذا كانت جميع اللغات تستخدم في كل المجالات، فعلى الأرجح لن يوجد سبب لأن يصبح المرء ثنائي اللغة؛ فستصبح لغة واحدة كافية بطبيعة الحال.
شكل 3-1: توضيح لمبدأ التكامل. المجالات التي تغطيها اللغات الإنجليزية (اللغة الأولى)، والإسبانية (اللغة الثانية)، والإيطالية (اللغة الثالثة)؛ ممثلة في صورة أشكال سداسية.
تجدر الإشارة إلى أنه في حالة الازدواجية اللغوية - وهي أحد أشكال الثنائية اللغوية المجتمعية؛ حيث تستخدم إحدى المجموعات لغتين أو شكلين من لغة واحدة - تستخدم كل لغة في مجال معين؛ ومن ثم فإن المبدأ المذكور سابقا لا ينطبق على الازدواجية اللغوية؛ إذ يوجد عدد قليل جدا، إن وجد، من المجالات التي يمكن أن تغطيها لغتان أو أكثر. (2) تأثير مبدأ التكامل
أول تأثير يوجد لهذا المبدأ يكون على الطلاقة اللغوية. بوجه عام، إذا كانت إحدى اللغات تستخدم في عدد قليل من المجالات ومع عدد محدود من الأفراد، إذا فإنها لن تتطور مثل لغة تستخدم في مجالات أكثر ومع عدد أكبر من الأفراد. يرجع هذا إلى أن حاجة الأشخاص الثنائيي اللغة للغاتهم واستخداماتها تكون عادة مختلفة بدرجة كبيرة، بحيث لا تكون اللغات لديهم متطورة بالقدر نفسه، ولا يكون مستوى طلاقتهم فيها واحدا. ينطبق هذا أيضا على مهارات لغوية معينة، مثل القراءة والكتابة؛ فلا يضطر كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة للقراءة أو الكتابة بواحدة أو أكثر من لغاتهم، ومن ثم لا تنمو لديهم هذه المهارات. وحتى إن كانت لديهم مهارات القراءة والكتابة بكل لغة، فإن مستويات الإجادة ستكون على الأرجح مختلفة؛ لأن حاجتهم لهذه المهارات ليست واحدة في حياتهم اليومية.
إذا لم تستخدم إحدى اللغات للتعامل مع أحد المجالات، فلن يمتلك الثنائيو اللغة ببساطة المفردات اللغوية الخاصة بهذا المجال، ولا التنوع الأسلوبي، وأحيانا حتى لا توجد لديهم القواعد النظرية والعملية الضرورية لهذا المجال. دعني أقدم لك مثالا شخصيا: عندما عملت ضمن أعضاء هيئة التدريس في جامعة نورث إيسترن في بوسطن في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، درست مادة مبادئ الإحصاء، من بين مناهج أخرى؛ ومن ثم عرفت «لغة الإحصاء»، لكني كنت أعرفها بالإنجليزية فقط. عندما عدت إلى أوروبا وعرضت تدريس مادة الإحصاء بالفرنسية، وجدت نفسي فجأة في مأزق؛ فلم تكن لدي ببساطة مفردات المادة بالفرنسية، ولم أكن أعرف كيف أعبر عن مفاهيم مثل «التوزيع المعياري» و«مخطط التشتت» و«اختبار الفرضية» وغيرها. كان هذا شعورا غريبا جدا؛ فأنا أجيد التحدث بالفرنسية، ومع ذلك لم أكن أعرف كيف أعبر عن تلك المفاهيم.
أعلم أن كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة تعرضوا لتجربة الاضطرار فجأة إلى استخدام لغة لا يستخدمونها عادة في مجال معين. يحدث عندها أمر مثير للاهتمام، لكنه يكون محبطا في بعض الأحيان؛ فأنت تلجأ إلى تحسس طريقك في اللغة التي تكون جديدة في هذا المجال، وعندما لا تجد الكلمة أو التعبير المناسب، ينشأ لديك دافع إلى الاقتباس من اللغة أو اللغات الأخرى التي تعرفها، وهي طريقة تنجح أحيانا إذا كنت تتحدث مع آخرين من الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يشتركون معك في اللغات التي تعرفها، لكنه لا يكون مناسبا عند الحديث مع أحاديي اللغة. لذا تستمر في المعاناة، وربما تلجأ في النهاية إلى إدخال بعض الكلمات من اللغة (أو اللغات) الأخرى على أية حال، مع ملاءمتها للسياق وشرحها، وأحيانا تحاول ببساطة تقصير الحوار. كتب أحد الأشخاص الثنائيي اللغة يقول:
عندما أضطر إلى أن أشرح بالفرنسية أي شيء عن أنشطتي المهنية أو خبرتي المدرسية السابقة في الولايات المتحدة، يصعب علي للغاية عدم استخدام كلمات إنجليزية؛ لأن هذه التجارب تنتمي إلى «خلفيتي الإنجليزية»؛ فقد تعلمت لغة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة، ويصعب علي للغاية التعبير عن الأفكار نفسها بالفرنسية. لحسن الحظ يحدث هذا الأمر في أغلب الأوقات مع أصدقاء ثنائيي اللغة؛ ومن ثم لا يستاء أحد من التحول من لغة لأخرى، أو من الخلط بين اللغتين في الحوار نفسه.
3
أجرى ثلاثة من طلابي (كريستين جاسر، وروكسان جاكارد، وفانيسا سيفيدين) مقابلات مع أشخاص ثنائيي اللغة، البعض منهم في الإنجليزية والألمانية، والبعض الآخر في الفرنسية والإيطالية، بشأن المجالات التي ترتبط بلغات معينة (مثل العمل والأسرة والتسويق والهوايات).
4
قبل هذه المقابلات تعلموا كيفية توزيع لغات المشاركين على المجالات المختلفة، وقسموا هذه المجالات إلى فئتين لكل لغة: مجال قوي (المجال الذي تستخدم فيه اللغة)، ومجال ضعيف (الذي لا تستخدم فيه اللغة). بعد ذلك لاحظوا طريقة حديث المشاركين عن هذه المجالات. (في هذه المقابلات، كان المشاركون يعرفون أنهم كانوا يتحدثون إلى ثنائيي اللغة مثلهم، ومن ثم كانوا يستخدمون لغتهم الأخرى عند الحاجة.) وجد الباحثون أن هؤلاء المشاركين استخدموا لغتهم الأخرى من مرتين إلى خمس مرات أكثر عند الحديث عن مجال ضعيف، مقارنة بمجال قوي. ففي المجال الضعيف لم يكن لديهم ببساطة المفردات التي يحتاجون إليها للحديث بهذه اللغة وحدها؛ ومن ثم كانوا يستخدمون اللغة الأخرى؛ الأقوى. يظهر هذا مدى صعوبة الحديث إلى شخص ما باللغة «الخطأ»؛ تزداد الأمور سوءا عندما يكون هذا الشخص أحادي اللغة ولا يعرف اللغة المفضلة أكثر للمتحدث.
تعتبر السلوكيات المكتسبة حالات خاصة لمبدأ التكامل؛ نظرا لسيطرة لغة واحدة على السلوك ذي الصلة على نحو شبه حصري؛ على سبيل المثال: يقوم الفرد بإجراء عمليات العد والعمليات الحسابية الأخرى عادة باللغة التي تعلمها بها. كتب لي ذات مرة شخص ثلاثي اللغة في اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية قائلا:
يوجد نوع واحد فقط من الأنشطة أستخدم فيه دوما اللغة الفرنسية، وهو العمليات الحسابية الذهنية؛ فقد تعلمت علم الحساب بالفرنسية، وأجد أنني أتذكر جداول الضرب على أفضل نحو بهذه اللغة، وأستمر في استخدامها لهذا الغرض.
5
وقال شخص ثنائي اللغة في اللغتين الألزاسية والفرنسية:
أنا لا أعرف العد جيدا باللغة الألزاسية؛ فيجب علي التفكير في الأرقام فوق العشرين وخاصة التواريخ.
6
أنا أعرف ثنائيي اللغة يجرون العمليات الحسابية البسيطة بإحدى اللغات، وأكثر العمليات الرياضية تقدما بلغة أخرى؛ لأنهم غيروا لغة تعليمهم بين الاثنتين. الصلاة أيضا أحد المجالات المميزة التي ينطبق عليها مبدأ التكامل؛ فيستطيع معظم الأشخاص الثنائيي اللغة الصلاة بإحدى اللغات، لكنهم يواجهون صعوبة بالغة في فعل ذلك باستخدام لغة أخرى؛ لأنهم ببساطة لم يتعلموها بهذه اللغة. يمكن أن تمثل أرقام الهاتف أيضا مشكلة؛ فعندما كنت أعيش في الولايات المتحدة، كنت أعرف رقم هاتفي باللغة الإنجليزية فقط، وكنت أضطر إلى خوض عملية مضنية لتحويله إلى الفرنسية عندما كنت أريد إعطاءه بهذه اللغة (عند الحديث بالفرنسية مع ثنائيي اللغة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، كنت ببساطة أتحول إلى الإنجليزية عند إعطاء رقم هاتفي حتى لا أضطر إلى خوض مثل هذه العملية). والآن بعد عودتي إلى أوروبا، أصبح رقم هاتفي الحالي بالفرنسية في ذاكرتي ونسخته الإنجليزية ليست حاضرة في ذهني بالقدر نفسه.
يتعلق تأثير آخر لمبدأ التكامل بسيادة إحدى اللغات؛ فيلاحظ في مجال الثنائية اللغوية سيادة أو هيمنة إحدى اللغات لدى الأشخاص الثنائيي اللغة، بدلا من وجود «توازن» بين لغاتهم. على الرغم من أنه من الصعب تعريف مفهوم السيادة هذا (أي هل تعتمد على الطلاقة فقط، أم الطلاقة والاستخدام، أم على القدرة على القراءة والكتابة أيضا بهذه اللغة؟)، فإن معظم المتخصصين يركزون على الطلاقة؛ سواء أكانت الطلاقة الذاتية (التي يعبر عنها الأشخاص الثنائيو اللغة بأنفسهم)، أم الطلاقة الموضوعية (التي تقيمها أدوات التقييم).
7
من أجل تقييم الطلاقة الذاتية، يحصل الثنائيو اللغة على استفتاءات عن الخلفية اللغوية، تضم مقاييس لتقييم الذات في لغتيهم الاثنتين أو في أكثر، ولتقييم المهارات الأربع في كل لغة (التحدث والاستماع والقراءة والكتابة).
8
نجد ضمن الأدوات المستخدمة في تقييم الطلاقة الموضوعية قياسات لتقييم اللغة يطبقها حكام خارجيون (بما في ذلك تقييم النطق)، بالإضافة إلى مهام سلوكية تقيس، من بين أشياء أخرى، الوقت الذي يحتاجه المرء لتنفيذ أحد الأوامر، أو ذكر اسم صورة أو عدد، أو قراءة أحد النصوص. تحتوي هذه الأدوات أيضا على مهام ترجمة. وبناء على القياسات المتنوعة التي يحصل عليها القائمون على التقييم في هذا الشأن، يحددون مستوى سيادة أي من لغتي الشخص الثنائي اللغة؛ هل اللغة «أ»، أم اللغة «ب»، هي اللغة السائدة لديه، أم أنه يستخدم اللغتين بتوازن؟
تعرضت هذه الأساليب المتنوعة للنقد لأنها تختزل السلوك اللغوي المعقد لدى الأشخاص الثنائيي اللغة في عدد من المهام البسيطة للغاية. لا يمكن إنكار أن بعض التقييمات قد تنتج مقياسا عاما للسيادة؛ فتأكد - على سبيل المثال - أن اللغة السائدة لدى آنا (في مثالنا) هي بالفعل اللغة الإنجليزية. في الشكل
2-1 ، رأينا أنها بوجه عام أكثر طلاقة في اللغة الإنجليزية من اللغة الإسبانية، وبالطبع أكثر طلاقة في الإنجليزية من الإيطالية أو الفرنسية. ولاحظنا في الشكل
3-1
أنها تستخدم اللغة الإنجليزية في مجالات أكثر من مجالات اللغة الإسبانية أو الإيطالية؛ فتستخدم اللغة الإنجليزية في تسعة من إجمالي عدد المجالات، بما في ذلك المجالات المشتركة مع لغات أخرى، مقارنة بستة مجالات للغة الإسبانية، ومجال واحد فقط للإيطالية. لذا تبدو آنا للوهلة الأولى ثنائية اللغة «تهيمن» على حياتها اللغة الإنجليزية أكثر من كونها ثنائية اللغة لديها «توازن» في استخدام لغاتها. لكن المشكلة فيما يتعلق بتقييمات السيادة العامة أنها لا تضع في اعتبارها كيفية توزيع اللغات على المجالات؛ فحتى إن كانت اللغة الإنجليزية هي اللغة السائدة بالنسبة إلى آنا بوجه عام، فإننا نرى أنها تستخدم اللغة الإسبانية وحدها فقط في مجالين. فعلى الأرجح اللغة الإسبانية هي السائدة بالنسبة إليها في هذين المجالين، كما يمكن أن يظهر باستخدام أدوات التقييم الصحيحة. في الواقع أظهر بالفعل روبرت كوبر في عام 1971 أدلة على هذا الأمر؛ فقد اكتشف أن الأشخاص الثنائيي اللغة في اللغتين الإسبانية والإنجليزية حققوا نتائج مختلفة تماما في تسمية الأشياء بناء على نوع المجال المقترح، سواء أكان الأسرة أم الجيران أم المدرسة أم الدين. في بعض المجالات يمكن اعتبار استخدام اللغتين متوازنا، لكن الأمر يختلف في مجالات أخرى.
9
خلاصة القول، أنه يجب ألا يفاجئ الأشخاص الثنائيي اللغة أنه حتى إن كانت لديهم بوجه عام لغة معينة سائدة، فإنهم قد يشعرون أن سيادة هذه اللغة تقل، أو تنعدم، في مجال معين؛ هذا ببساطة انعكاس لعمل مبدأ التكامل.
يتعلق آخر تأثير لمبدأ التكامل بالترجمة، إليك المعتقد التالي الراسخ منذ وقت طويل:
خرافة: الأشخاص الثنائيو اللغة مترجمون بالفطرة
كم مرة طرح عليك كثنائي اللغة هذا السؤال: «حسنا، نظرا لأنك ثنائي اللغة في اللغتين «س» و«ص»، فهل يمكنك أن تترجم لي هذا؟» وشعرت بعدم القدرة على تقديم ترجمة؟ بالطبع نحاول نحن الأشخاص الثنائيي اللغة إرضاء من نتحدث معه (إلى أن تصبح الطلبات كثيرة أو صعبة أكثر مما ينبغي)، لكننا نضطر كثيرا إلى شرح سبب عدم قدرتنا على إجادة هذا الأمر؛ لأننا لا نعرف كثيرا من المفردات والتعبيرات المقابلة الخاصة بالترجمة، على سبيل المثال، أو لا نفهم جزءا متخصصا خاصا بمجال معين من النص. يكون دوما الرد الذي نحصل عليه: «حسنا، لكني كنت أظنك ثنائي اللغة!»
يمكن تفسير افتقار ثنائيي اللغة لمهارات الترجمة من خلال مبدأ التكامل؛ فإن لم تكن لدى ثنائيي اللغة مجالات تغطيها لغتاهم، أو إن لم يكونوا قد اكتسبوا اللغة التي يترجمون إليها (اللغة المستهدفة) بطريقة تركز على المفردات والتعبيرات المقابلة الخاصة بالترجمة، ومن ثم على بناء جسر بين اللغتين الأولى والثانية، فإنهم قد يجدون أنفسهم دون مصادر تمكنهم من إنتاج ترجمة جيدة؛ فقد يفتقرون في مجالات معينة إلى المفردات أو مجموعة التعبيرات المطلوبة. هذا بالضبط ما حدث معي عندما اضطررت إلى ترجمة مصطلحات إحصائية من الإنجليزية إلى الفرنسية؛ فببساطة لم أكن أعرفها. بالإضافة إلى ذلك، قد يفتقر الأشخاص الثنائيو اللغة إلى التنوع الأسلوبي في اللغة المستهدفة، أو إلى المعرفة الثقافية أو الفنية المطلوبة لفهم ما يقال في اللغة المراد الترجمة منها. ومن ثم، على الرغم من أن الأشخاص الثنائيي اللغة يستطيعون عادة ترجمة أشياء بسيطة من لغة إلى أخرى، فإنهم عادة ما يواجهون صعوبات مع أكثر المجالات تخصصا. هذا لا ينتقص أبدا من كونهم ثنائيي اللغة، وإنما يعكس ببساطة حقيقة أن لغاتهم المختلفة موزعة على مجالات حياتهم المختلفة، وتتداخل فقط في بعض منها.
يوجد تأثير آخر أقل مباشرة إلى حد ما لمبدأ التكامل يتعلق بالذاكرة؛ فيبدو أن الأشخاص الثنائيي اللغة يتذكرون الأشياء على نحو أفضل عندما تكون اللغة المستخدمة في التذكر هي نفسها اللغة التي استخدموها في وقت وقوع هذا الحدث في مجال معين. يذكر الباحثان أولريك نايسر وفيوريكا ماريان قصتين قصيرتين كدليل على هذا عند تقديمهما دراسة تؤكد هذه النقطة. قدمت القصة الأولى الباحثة المتعددة اللغات أنيتا بافلينكو؛ فعندما سئلت، بالروسية، عن رقم شقتها في الولايات المتحدة، قدمت خطأ رقم شقتها القديمة في وطنها الأصلي، الذي كانت تعرفه بالروسية. أما القصة الثانية فقدمتها إليزابيث سبلكي، التي حكت أن أحد الأطفال الثنائيي اللغة تعلم أغنية بالفرنسية في أثناء قضائه إحدى الإجازات في فرنسا، لكنه لم يستطع تذكرها عند عودته إلى الولايات المتحدة. مع ذلك، عندما عاد مرة أخرى إلى بيئة تتحدث بالفرنسية، تذكر الأغنية دون أي عناء.
10
أجرى نايسر وماريان لأجل هذه الدراسة مقابلات بالإنجليزية والروسية مع عدد من ثنائيي اللغة في هاتين اللغتين، فأعطيا المشاركين كلمات إنجليزية محفزة في الجزء الإنجليزي من الدراسة، وكلمات روسية محفزة (مقابلاتها المترجمة) في الجزء الروسي. تضمنت الكلمات الإنجليزية، مثلا، كلمات «صيف» و«جيران» و«عيد ميلاد» و«قطة» و«طبيب». تمثلت مهمة الأشخاص الثنائيي اللغة في وصف حدث من حياتهم جعلته هذه الكلمة المحفزة يرد على أذهانهم. طلب الباحثان أيضا من المشاركين، عقب انتهاء المقابلة، تحديد اللغة التي تحدث الناس إليهم بها، أو تحدثوا بها، أو أحاطت بهم في أثناء وقوع الحدث الذي تذكروه. إذا وقع الحدث الذي استحضرته كلمة «قطة» بالروسية ، فإن الباحثين كانا يعتبرانه ذكرى روسية، وإن كان بالإنجليزية، فإنهما كانا يعتبرانه ذكرى إنجليزية. اكتشف الباحثان أن المشاركين تذكروا عند الحديث معهم بالروسية ذكريات روسية أكثر من التي تذكروها عند الحديث معهم بالإنجليزية، وتذكروا عند الحديث معهم بالإنجليزية ذكريات إنجليزية أكثر من التي تذكروها عند الحديث معهم بالروسية. استنتج نايسر وماريان أن الأشخاص الثنائيي اللغة يزيد احتمال استرجاعهم لأحداث (ذكريات) حدثت بلغة معينة، إذا استخدمت هذه اللغة نفسها أيضا في سياق الاسترجاع؛ وأطلقا على هذا «التذكر القائم على اللغة». من ثم، يظهر مبدأ التكامل أيضا في عملية تذكر الأحداث التي تقع باللغات المختلفة للأشخاص الثنائيي اللغة، التي ترتبط عادة - كما رأينا - بمجالات مختلفة.
إن مبدأ التكامل بالتأكيد هو أحد أكثر الجوانب انتشارا في الثنائية اللغوية للفرد، ويشعر الأشخاص الثنائيو اللغة الذين يتحدثون لغتين أو أكثر بوجوده المستمر في حياتهم اليومية. ويمكنهم حتى التعليق بصراحة على مظاهره المختلفة، دون العثور على الكلمات الدقيقة التي تعبر عنها.
الفصل الرابع
الوضع اللغوي واختيار اللغة
عند التواصل مع الآخرين، يجب أن يطرح الأشخاص الثنائيو اللغة على أنفسهم سؤالين (وهو ما يفعلونه دوما دون أن يعوا ذلك): ما اللغة التي عليهم استخدامها، وكيف يمكنهم إدخال اللغة (اللغات) الأخرى في الحوار إذا احتاجوا إلى ذلك؟ يوضح الشكل
4-1
عملية طرح هذين السؤالين والإجابة عنهما. ولتبسيط الأمور، يدور المثال حول شخص يستخدم لغتين فقط، وسنتحدث عن ثلاثيي ورباعيي اللغة لاحقا.
تكون لغتا هذا الشخص الثنائي اللغة - الموضحة كل منها على هيئة مربع في الشكل - غير مفعلتين (أو معطلتين) قبل عملية التواصل (المربعان مظللان بخطوط مائلة). في هذا المثال، تكون إجابة هذا الشخص الثنائي اللغة عن سؤال «أي لغة سأستخدم؟» هي اللغة الأولى، فتفعل هذه اللغة ويعبر عنها بمربع أسود. يطلق على هذه العملية الأولى، المتمثلة في اختيار اللغة المستخدمة، اسم «اختيار اللغة»، ويطلق على اللغة المختارة اسم «اللغة الأساسية».
شكل 4-1: تحديد اللغة التي سيتم استخدامها، وما إذا كان سيتم إدخال اللغة الأخرى أم لا.
أما عن السؤال الثاني ، فهو: هل أدخل اللغة الأخرى؟ على سبيل المثال: إذا كان الشخص الثنائي اللغة يتحدث إلى شخص أحادي اللغة لا يعرف لغته الأخرى، فإن الإجابة تكون لا، ونرى في هذا الشكل (في الجزء الأيسر السفلي) أن اللغة الأخرى (اللغة الثانية) تظل غير مفعلة؛ فلا تفعل غير اللغة الأولى (المربع الأسود). في هذا الموقف، يقال إن الشخص الثنائي اللغة أصبح في وضع لغوي أحادي اللغة، حيث لا تفعل لديه إلا لغة واحدة. عندما تتحدث زوجتي، مثلا، إلى عمتها فإنها تختار الفرنسية كلغتها الأساسية، وتوقف عمل لغتها الإنجليزية، لأنها تعلم أن عمتها لن تفهمها إذا أدخلت اللغة الإنجليزية في الحوار؛ ومن ثم فإن وضعها اللغوي يصبح أحادي اللغة. مع ذلك، إذا تحدث شخص ثنائي اللغة إلى شخص آخر ثنائي اللغة يشاركه في لغتيه (الأولى والثانية)، ولا يجد غضاضة في إدخال اللغة الأخرى في الحوار مع هذا الشخص، فإن اللغة الثانية ستفعل، لكن أقل من اللغة الأولى (انظر الخطوط المتقاطعة التي تملأ مربع اللغة الثانية في الجزء الأيمن السفلي). يطلق على هذا الموقف اسم وضع لغوي ثنائي اللغة. إذا عندما أتحدث أنا وزوجتي، فإننا نختار اللغة الفرنسية كلغتنا الأساسية، لكن تظل لغتنا الإنجليزية مفعلة أيضا، وأحيانا نستخدمها في الإشارة إلى أماكن وأشخاص نعرفهم في بريطانيا أو الولايات المتحدة، أو الإشارة إلى أشياء فعلناها في هذه الأماكن. معنا تكون اللغة الفرنسية هي أكثر اللغات المفعلة؛ فهي اللغة الأساسية، لكن اللغة الإنجليزية تظل في حالة تأهب إذا دعت الحاجة إليها. يتمحور قدر كبير من السلوك اللغوي للأشخاص الثنائيي اللغة حول الاحتمالات الموضحة في الشكل
4-1 ، كما سنرى فيما يلي وفي الفصلين التاليين. (1) الوضع اللغوي
عند النظر إلى الشكل
4-1 ، نرى أن الوضعين اللغويين الأحادي اللغة والثنائي اللغة هما نقطتا النهاية في تسلسل (يربط بينهما خط سهمي). في الحياة اليومية يجد الأشخاص الثنائيو اللغة أنفسهم في نقاط مختلفة على طول هذا التسلسل تنتج عنها أوضاع لغوية مختلفة؛
1
ففي أحد طرفي هذا التسلسل، يكون الأشخاص الثنائيو اللغة في وضع أحادي اللغة؛ كما يحدث عند حديثهم مع أشخاص أحاديي اللغة (أو الكتابة إليهم) بلغة من اللغات التي يعرفونها (مثل أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو الزملاء). يمكن أن يصبحوا أيضا في هذا الوضع عند قراءتهم كتابا مكتوبا بإحدى لغاتهم، أو مشاهدتهم برنامجا تليفزيونيا بلغة واحدة فقط. أما في الطرف الآخر من هذا التسلسل، يجد الأشخاص الثنائيو اللغة أنفسهم في وضع لغوي ثنائي اللغة عند تواصلهم مع ثنائيي اللغة آخرين يشتركون معهم في اللغتين نفسهما، مثل الأصدقاء المقربين أو الإخوة، ويشعرون معهم بإمكانية إدخال اللغة الأخرى. قد يصبحون أيضا في وضع لغوي ثنائي اللغة عند استماعهم إلى حوار بين ثنائيي اللغة آخرين تستخدم فيه اللغتان. قد يصبح ثنائيو اللغة أيضا في وضع متوسط على هذا التسلسل؛ على سبيل المثال: عندما يكون المتحدث معهم ثنائي اللغة لكنه لا يحب إدخال اللغة الأخرى في الحوار، أو عندما يتحدثون عن أحد الموضوعات باللغة «الخطأ» (فعلى الأرجح تفعل لغتهم الأخرى في هذا الموقف، حتى إن لم يستخدموها).
يختلف بعض الأشخاص الثنائيي اللغة عن بعض فيما يتعلق بمقدار تحركهم عبر تسلسل الوضع اللغوي؛ فيبقى البعض عند نقطة الوضع الأحادي اللغة، بينما يتحرك آخرون يمينا عبر التسلسل، ويختارون نقاطا مختلفة بناء على الموقف، والشخص الذي يتحدثون إليه، والموضوع، إلى آخره. وقد يجد الذين يعيشون في مجتمعات ثنائية اللغة أنفسهم عند نقطة الوضع الثنائي اللغة خلال الجزء الأكبر من يومهم. قد يحدث التحرك عبر التسلسل في أي وقت، بمجرد وجود حاجة إليه؛ فربما نبدأ عند نقطة الوضع الأحادي اللغة ثم ندرك، في منتصف الحوار، أن الشخص الذي نتحدث إليه ثنائي اللغة، فننتقل إلى الوضع الثنائي اللغة. كذلك قد نبدأ عند نقطة الوضع الثنائي اللغة ثم ندرك، بمجرد بدء الحوار، أن الشخص الذي نتحدث إليه لا يحب التبديل بين اللغات؛ وعندها سنوقف تفعيل اللغة الأخرى ونتحدث بلغة واحدة فقط.
يعتقد كثير من الباحثين أنه في الوضع الأحادي اللغة، لا تعطل اللغة التي لا تفعل بالكامل (لاحظ أن المربعين الموجودين في الشكل
4-1
اللذين يعبران عن اللغتين غير المفعلتين ليسا باللون الأبيض، وإنما يمتلئان جزئيا بخطوط مائلة)، والسبب في ذلك أن الأشخاص الثنائيي اللغة يتأثرون دوما بلغتهم الأخرى، حتى في المواقف الأحادية اللغة. ونستطيع أن نرى هذا في التداخلات القوية التي تحدث؛ وهي التغييرات التي تحدث نتيجة للغة غير المفعلة، مثلما يحدث عندما يقول المرء بالإنجليزية:
He liked very much the person ، بناء على التركيب الفرنسي:
Il aimait beaucoup la personne (فقدم الحال تماما كما في ترتيب الجملة في الفرنسية).
في الوضع الثنائي اللغة، تكون اللغة الأساسية عادة أكثر تفعيلا من اللغة الأخرى (الثانوية)، لكن توجد حالات يجب فيها تفعيل اللغتين بالكامل، مثلما يحدث عندما يستمع شخص ثنائي اللغة إلى شخصين يتحدثان لغات مختلفة، أو عندما تقوم بترجمة شفوية. في الحالة الثانية، لا بد من تفعيل المرء للغتين بالكامل؛ اللغة الرئيسية (اللغة المترجم منها) واللغة المستهدفة (اللغة المترجم إليها). لاحظ أيضا أنه في الوضع الثنائي اللغة يمكن أن تتغير اللغة الأساسية؛ فقد يبدأ المرء متحدثا باللغة الأولى إلى من يتحدث إليه، ثم يتحول إلى اللغة الثانية عن طريق تغيير مستويات تفعيل اللغتين (وهو أمر لا يمكن حدوثه في الوضع الأحادي اللغة).
توجد أيضا حالة الشخص الثلاثي أو الرباعي اللغة. يوضح الشكل
4-2
كيف يمكن تفعيل لغات الشخص الثلاثي اللغة بدرجات مختلفة. لقد اختار هذا الشخص الثلاثي اللغة استخدام اللغة الثانية كلغته الأساسية، وفعل أيضا اللغة الثالثة وليس اللغة الأولى؛ نظرا لأن الشخص الذي يتحدث إليه لا يعرف إلا لغتين فقط من لغاته الثلاث؛ ومن ثم يصبح وضعه ثنائي اللغة. ويصبح وضعه اللغوي ثلاثي اللغة مع شخص يعرف لغاته الثلاث، ويستطيع إدخال لغتيه الثانية والثالثة بحرية عند الحديث معه. يمكن أن يحدث الأمر نفسه مع الذين يستخدمون أربع لغات أو أكثر في حياتهم اليومية. (2) اختيار لغة أساسية
كما رأينا في الشكل
4-1 ، يجب أن يختار الأشخاص الثنائيو اللغة، عند التواصل في الوضع الثنائي اللغة، أولا لغة أساسية (يطلق عليها أيضا اللغة المضيفة أو اللغة الرئيسية)، لاستخدامها مع الذين يتحدثون إليهم. إن عملية اختيار اللغة هي على الأرجح إحدى أكثر ظواهر الثنائية اللغوية المثيرة للاهتمام ، على الرغم من أن الأشخاص الثنائيي اللغة لا يمعنون التفكير فيها كثيرا. درست عالمة الأنثروبولوجيا كارول باربر السلوك اللغوي لاثني عشر شخصا ثلاثي اللغة من هنود الياكي من قبيلة باسكوا ياكي في ولاية أريزونا؛ فقد كانت مهتمة بفهم متى يستخدمون الياكية والإسبانية والإنجليزية، فكتبت تقول:
يرى الرجال عادة الأسئلة المتعلقة باستخدامهم للغاتهم سخيفة إلى حد ما؛ فهم بطبيعة الحال يستخدمون الياكية مع الياكيين، والإسبانية مع المكسيكيين، والإنجليزية مع المتحدثين بالإنجليزية. وقال أحدهم: «أنا أستطيع التحدث معك بالياكية، لكنك لن تفهميني.» مع ذلك، يبدو أن المشكلة ليست بمثل هذه البساطة، عندما ندرك أنهم يتعاملون في كثير من علاقاتهم الاجتماعية مع أشخاص يتحدثون على الأقل لغتين من لغاتهم. لماذا إذا يختارون التحدث بإحدى اللغات في وقت ما وبلغة أخرى في وقت آخر؟
2
شكل 4-2: الوضع الثنائي اللغة لشخص ثلاثي اللغة.
فيما يلي سنلقي نظرة على عوامل اختيار اللغة وفقا لأربع فئات رئيسية: المشاركين، والموقف، ومحتوى التفاعل، والغرض من التفاعل. سنستعرض مدى تعقيد هذه الظاهرة وسنرى كيف يمكن أن تتعقد وتفشل في بعض الأحيان.
داخل فئة المشاركين، يوجد عامل مهم للغاية في اختيار اللغة، وهو إجادة كل من المتحدث والمستمع للغة؛ فعادة يحاول المرء استخدام اللغة التي ستسهم على أفضل نحو في نجاح التواصل؛ فقد سمعت كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة يقولون إنهم يستخدمون لغة معينة مع شخص محدد لمجرد أنه لا يجيد استخدام اللغة الأخرى بالقدر الكافي. ثمة عامل آخر يبدو أنه يلعب دورا مهما، وهو التاريخ اللغوي بين المشاركين؛ فيختار المرء استخدام لغة معينة مع أشخاص محددين بعد الاتفاق معهم على استخدامها، حتى إن لم يتناقشوا قط في هذا الأمر، وتصبح هذه هي لغة التواصل بينهم منذ ذلك الوقت. في الواقع، يكون هذا الاتفاق قويا للغاية بحيث يشعر المستمع بالارتباك أو يتفاجأ إذا أخل به (على سبيل المثال: إذا حدث تغير مفاجئ في اللغة الأساسية عند الحديث في الهاتف).
يمكن لتوجه أحد المشاركين حيال إحدى اللغات أو إحدى المجموعات أن يفسر أيضا عملية اختيار اللغة. فقد لا يرغب أعضاء الأقليات المنبوذة في التحدث بلغة الأغلبية؛ ينطبق هذا على الذين عانوا في الماضي على يد الأغلبية (مثل اليهود الألمان في أثناء الحرب العالمية الثانية واليهود الروس مؤخرا، الذين رفضوا استخدام اللغتين الألمانية والروسية، على التوالي، في دولهم الجديدة). تضم العوامل الأخرى في فئة المشاركين السن، والوضع الاجتماعي والاقتصادي للمشاركين، ودرجة الألفة بينهم، وقوة العلاقة بينهم، إلى آخره.
3
الأمر المذهل هنا أنه في المجتمعات الثنائية اللغة تنمو لدى بعض الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يتعاملون على نطاق واسع مع الناس - مثل أصحاب المحلات ومندوبي المبيعات وضباط الشرطة وغيرهم - بعض المهارة في كيفية تحديد اللغة التي يستخدمونها مع من يتعاملون معهم؛ فيتخذون قرارهم بناء على علامات مثل تصرفات الشخص وملابسه وتعبيرات وجهه، وعادة ما يكونون على حق.
بالنسبة إلى الفئة التالية، وهي الموقف، فإن مكان عملية التواصل أحد العوامل المهمة في اختيار اللغة؛ فعلى سبيل المثال: في مجتمع باراجواي الثنائي اللغة، يميل المرء إلى استخدام اللغة الجوارانية عند الحديث مع شخص في الريف، لكنه يستخدم الإسبانية في المدن.
4
وفي أماكن أخرى، قد يتحدث أعضاء الأقليات لغة الأغلبية عند وجودهم معا في أماكن عامة، ويستخدمون لغتهم في منازلهم (لاحظت هذا في الشباب القادمين من شمال أفريقيا الذين يعيشون في فرنسا). تمثل رسمية الموقف أيضا عاملا مهما؛ فعلى سبيل المثال: في سويسرا لا يستخدم عادة أعضاء الحكومة الفيدرالية اللغة الألمانية السويسرية عند إلقائهم خطابا في التليفزيون (بل يستخدمون الألمانية)، على الرغم من أنهم قد يستخدمونها وهم ذاهبون إلى الاستوديو لإلقاء الخطاب، ومع أصدقائهم وزملائهم بعد ذلك. بالطبع يكون وجود أشخاص أحاديي اللغة أحد العوامل المهمة للغاية؛ فكثيرا ما رأيت الموقف التالي: تتحدث مجموعة من الأشخاص بلغة ما معا حتى يأتي شخص أحادي اللغة يتحدث لغة أخرى، فيتحول الجميع إلى استخدام هذه اللغة من أجل إشراك هذا الشخص في الحديث؛ لكن تتحول هذه المجموعة مرة أخرى إلى استخدام اللغة الأولى عندما يجري هذا الشخص الأحادي اللغة حوارا جانبيا، أو عندما يتنحى جانبا لبضع دقائق! للأسف، قد يتعرض المرء إلى الإقصاء أحيانا لأنه لا يجيد لغة الآخرين (أو لا يجيدها بالقدر الكافي). يمكن أن يكون هذا أمرا محبطا للغاية، وعادة ما ينتهي هذا الموقف سريعا؛ فإما يذهب الشخص وإما يشركه الآخرون في حديثهم، حتى إن كان هذا يعني أن يترجم له شخص ما النقاط الأساسية التي يتحدثون عنها.
فيما يتعلق بمحتوى التفاعل، فقد ناقشنا هذا بالفعل عند تناولنا مبدأ التكامل؛ فبعض الموضوعات يفضل ببساطة الحديث فيها بلغة معينة دون الأخرى، وقد يغير ثنائيو اللغة، عند تحدث بعضهم مع بعض، اللغة الأساسية عند تغييرهم للموضوعات. في باراجواي مرة أخرى، يجري التعامل في المدارس والمسائل القانونية والتجارية باللغة الإسبانية بدلا من اللغة الجوارانية. أنا أعرف أنني أغير اللغة الأساسية عندما أتحدث، على سبيل المثال، عن علم النفس المعرفي مع ابني، الذي أتحدث معه عادة بالفرنسية؛ فكلانا لديه مفردات أكبر باللغة الإنجليزية في هذا المجال، ومن الأسهل علينا الانتقال إلى التحدث بهذه اللغة عندما نريد الحديث عن بعض الأبحاث الحديثة.
أخيرا، بالنسبة إلى الفئة الرابعة - الغرض من التفاعل - لا بد أن نضع في أذهاننا أن الناس يتواصلون عادة من أجل تحقيق شيء ما، وليس لمجرد نقل معلومات إلى شخص آخر؛ لذا يوجد كثير من الأمثلة على اختيار لغة معينة من أجل رفع مكانة المرء، أو لخلق مسافة اجتماعية، أو لإقصاء شخص ما، أو لطلب شيء ما، أو لإعطاء أحد الأوامر؛ على سبيل المثال: ذكر جيرارد هوفمان في دراسة أجراها أن بعض المشرفين على العمال البورتوريكيين في المجتمع البورتوريكي في مدينة جيرسي سيتي، في ولاية نيوجيرسي، يغيرون لغاتهم عند تغيير الأدوار التي يؤدونها؛ فيتحدثون بالإسبانية إلى غيرهم من البورتوريكيين أثناء وقت الغداء، لكنهم يتحدثون معهم بالإنجليزية أثناء ساعات العمل، عندما يتحولون لدور المشرفين على العمال.
5
أما فيما يتعلق بإقصاء شخص ما، فجميع الأشخاص الثنائيي اللغة «يتلاعبون» باختيار اللغة، على الرغم من تعرضهم دوما لخطر تحول الموقف إلى موقف محرج يأتي بنتائج عكسية. أخبرتني سيدة شابة أمريكية من أصل يوناني ذات مرة عن موقف حدث لها عندما كانت تجلس في مطعم مزدحم بالطلاب مع صديقة تتحدث معها عادة بالإنجليزية. ثم تحولتا إلى الحديث باليونانية حتى يستطيعا التعليق على الناس من حولهما، ظنا منهما أن أحدا لن يفهمها. وبعد بضع دقائق، طوى أحد الأشخاص الذي تحدثتا عنه صحيفته، والتفت إليهما وقال لهما بابتسامة عريضة «إلى اللقاء» باليونانية.
تفسر عدة عوامل مجتمعة عادة سبب اختيار الأشخاص الثنائيي اللغة للغة التي يستخدمونها، وتكون لبعض العوامل أهمية أكبر من عوامل أخرى. كتبت جوان روبن، في كتابها الكلاسيكي عن الثنائية اللغوية الجوارانية-الإسبانية في باراجواي، تقول إن ثمة ثلاثة عوامل (وهي: الريف، والمدرسة، والوظائف العامة في العاصمة) تحدد بوضوح اللغة المستخدمة (الجوارانية بالنسبة إلى العامل الأول، والإسبانية بالنسبة إلى العاملين الآخرين)، لكن العوامل الأخرى من الأفضل وضعها في شجرة قرار من أجل ترتيبها.
6
يأتي على قمة هذه الشجرة عامل المكان، يليه الرسمية، ثم الألفة، ثم جدية الحوار، وإذا كنت لا تزال محتفظا بتركيزك، فلا تزال ثمة ثلاثة عوامل متبقية: أول لغة مكتسبة، ومستوى الإجادة المتوقع من الشخص، وجنس المشاركين. لا تحتاج كل القرارات اللغوية إلى الخوض في العديد من الخطوات، لكن يظل اختيار اللغة عملية معقدة، حتى إن كان سلوكا مكتسبا يحدث بسلاسة وبسرعة. عادة لا يدرك ثنائيو اللغة العوامل الكثيرة الموجودة وراء اختيارهم؛ فهذا مجرد جزء من طبيعتهم الثنائية اللغة.
على الرغم من المحاولات المضنية التي يبذلها المرء من أجل تحديد اللغة المناسبة لسياق معين، فقد لا يتمكن من الوصول لحل مرض. تعرضت لمثل هذا الموقف عندما كنت أجلس أنا وزوجتي في مطعم في الجزء الألماني من سويسرا في أحد الأيام؛ لاحظت أن الأشخاص الخمسة الجالسين على الطاولة المجاورة لطاولتنا لا يتحدثون جميعا اللغات نفسها. رسمت مخططا للوضع على طاولتهم عندما عدت إلى المنزل (انظر الشكل
4-3 )؛ كان من الواضح أن الوالد والوالدة والابنة من بين هؤلاء جاءوا في زيارة من الولايات المتحدة ، وقد دعوا جدة هذه الابنة لأبيها وأختها على العشاء. كان الوالد والابنة يتحدثان بلغتي السيدتين الهرمتين (الألمانية والفرنسية) بالإضافة إلى الحديث بلغة الأم الوحيدة (الإنجليزية). وضحت في الشكل من كان يتواصل مع من، واللغة المستخدمة في ذلك (يرمز «ج» للغة الإنجليزية، و«م» للألمانية و«ف» للفرنسية). أوضحت كذلك، باستخدام الخطوط المتقطعة، الأشخاص الذين لم يستطيعوا التواصل بعضهم مع بعض؛ الأم مع الجدة، والأم مع خالة الأب. لاحظ أن ثمة شخصين كانا محورين طوال الوقت؛ الأب والابنة؛ فقد كانا يعرفان اللغات الثلاث ويستخدمانها؛ ومن ثم استطاعا تسهيل عملية التواصل. إن هذا مثال جيد على التعقيد الذي قد يواجه المرء في مواقف اختيار اللغة، وأيضا على حقيقة أن بعض الأشخاص قد يهمشون عندما لا تكون لديهم معرفة بلغة (لغات) الآخرين. كذلك يوضح مدى أهمية الوسطاء؛ فهم يلعبون دورا محوريا قد يكون مرهقا جدا في بعض الأحيان.
شكل 4-3: اللغات المستخدمة على طاولة عشاء.
يوضح مثال آخر كيف يمكن لعامل نرى لأول وهلة ضرورة أن يلعب الدور الأهم في اختيار اللغة الأساسية، أن يوضع جانبا لبعض الوقت من أجل عامل آخر أقل أهمية. كنت أجلس في مكتبي في أحد الأيام عندما جاءت إلي طالبة وسألتني بالفرنسية، بتردد بالغ ولكنة أمريكية واضحة، إن كنت أنا جروجون. أجبتها بالإيجاب، ونظرا لإدراكي مستواها الضعيف للغاية في اللغة الفرنسية، وإدراكي أهمية التواصل الجيد فيما يتعلق بالموضوعات الإدارية، اقترحت عليها بالإنجليزية استخدام الإنجليزية في التحدث، لكني فوجئت بأنها لم تقبل عرضي، واستمرت في التحدث بلغتها الفرنسية الضعيفة جدا، التي وجدت صعوبة في فهمها. سألتها مرة أخرى، بالإنجليزية، إذا كانت تريد تغيير لغة الحوار إلى الإنجليزية، فردت علي، بالفرنسية، قائلة إنها أتت إلى سويسرا لتتعلم الفرنسية وتريد التحدث بها؛ وعليه، استمر الحديث بيننا بالفرنسية، لكن نظرا لعدم تأكدي من أن كلا منا كان يفهم الآخر، أعطيتها بعض الأوراق لتأخذها معها وأنهينا الحوار. عند استرجاعي لهذا الموقف، أعتقد أنه كان يفترض علي أن أوافق على تأدية دور معلم اللغة لها ، وتلبية رغبتها في التحدث بالفرنسية، لكنه كان يوما حافلا ولم أكن أرى أننا نتواصل جيدا. مع ذلك جعلني هذا أشعر بالامتنان أن معظم حالات التواصل في مواقف اختيار اللغة تكون عادة أكثر سلاسة وفاعلية.
الفصل الخامس
التبديل اللغوي والاقتباس
رأينا أنه إذا كان شخص ثنائي اللغة يتواصل مع شخص آخر ثنائي اللغة يشاركه في اللغات التي يعرفها، فإن هناك لغة أساسية ستكون مفعلة طوال عملية التواصل بينهما، واللغة الأخرى ستكون مفعلة أيضا، لكن بقدر أقل. ويستطيع المتحدث الثنائي اللغة إدخال اللغة الأخرى هذه إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وإذا شعر بأن من يتحدث معه لا يمانع في ذلك. إليك مثالا على هذا؛ تشاهد أسرة فرنسية مجموعة من الصيادين تصطاد في الجليد في بركة والدن بوند في الشتاء القارص. يظهر الابن الصغير مارك اهتماما كبيرا بالمعدات التي يستخدمونها والأسماك التي يصطادونها، والأم - التي تدخل دوما اللغة الإنجليزية عندما تتحدث بالفرنسية - تشعر ببرد شديد وتقول لزوجها:
Va chercher Marc and bribe him avec un chocolat chaud with cream on top . تعني العبارة الفرنسية
Va chercher Marc : «اذهب وابحث عن مارك»، في حين تعني العبارة الفرنسية الأخرى
avec un chocolat chaud : «بكوب من الشوكولاتة الساخنة»، أما العبارة الإنجليزية
and bribe him
فتعني: «أغره»، وتعني عبارة
with cream on top : «عليه كريمة على الوجه». توجد طريقتان لإدخال اللغة الأخرى «الثانوية»: من خلال ما يعرف باسم التبديل اللغوي (كما في هذا المثال)، ومن خلال الاقتباس. (1) التبديل اللغوي
التبديل اللغوي هو الاستخدام المتبادل للغتين؛ بمعنى تحول المتحدث بالكامل إلى لغة أخرى من أجل استخدام كلمة أو عبارة أو جملة، ثم عودته مرة أخرى إلى اللغة الأساسية. ومن ثم، فإن الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يقومون بعملية التبديل اللغوي يتحدثون لغة أساسية محددة في وضع ثنائي اللغة، ثم يستخدمون لغة ثانوية لوقت قليل. في المثال السابق، أدخلت السيدة الثنائية اللغة عبارتين كاملتين من الإنجليزية. يمكن أن يحدث التبديل اللغوي أيضا باستخدام كلمات فردية، كأن يقول المرء:
On a pris un trail
بإدخال كلمة
trail
الإنجليزية، التي تعني «الأثر»، على الجملة الفرنسية، وهكذا تعني الجملة في النهاية: «لقد اقتفينا الأثر»؛ أو باستخدام عبارات كاملة كما في العبارة الفرنسية
le vin est tiré et qu’il faut le boire
في الجملة الروسية التالية:
Chustvovali, chto le vin est tiré et qu’il faut le boire (لقد شعروا بأن زجاجة النبيذ قد فتحت من قبل، وأنه لا بد من شربها).
1
يتعرض التبديل اللغوي لكثير من النقد، ليس من الأشخاص الأحاديي اللغة فقط، لكن من بعض الأشخاص الثنائيي اللغة أيضا؛ فيشعر كثير من الناس أنه ينتج مزيجا مستهجنا من اللغات على يد أشخاص يتحدثون بعدم اكتراث. أدى هذا إلى ظهور مفهوم خاطئ شائع آخر، وهو:
خرافة: يستخدم الأشخاص الثنائيو اللغة التبديل اللغوي بسبب كسلهم
أطلق على التبديل اللغوي عدة أسماء ازدرائية مثل «فرانجليز» (الخلط بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية)، و«تكس-مكس» (الخلط بين الإنجليزية والإسبانية في جنوب غرب أمريكا). قد تكون ردود الفعل تجاه التبديل اللغوي قوية إلى حد كبير، وقد ذكرت أحدها لين هاني في سيرتها الذاتية عن المغنية والراقصة الشهيرة الأمريكية التي من أصل أفريقي جوزفين بيكر. ينبغي ذكر أن بيكر عاشت معظم شبابها في فرنسا، وتتحدث بالفرنسية بطلاقة. كتبت هاني تقول إن بيكر عندما ذهبت في زيارة إلى الولايات المتحدة، حضرت حفل عشاء وكانت تستخدم بعض الفرنسية في حديثها بالإنجليزية، هذا بالإضافة إلى أن لكنتها الإنجليزية كانت متأثرة قليلا باللغة الفرنسية. عندما طلبت بالفرنسية كوبا من القهوة من خادمة أمريكية من أصول أفريقية، نهرتها الخادمة وأخبرتها بأن تتحدث بما يتوافق مع أصلها!
2
أدت مثل هذه المواقف السلبية، بالإضافة إلى الخوف من احتمال أن يؤدي التبديل اللغوي إلى أحد أشكال ما يعرف ب «النصف لغوية» (وهو وجود تساو في الضعف في اللغتين)، إلى عدم تشجيع بعض الأشخاص الثنائيي اللغة، مثل معلمي اللغات والوالدين الثنائيي اللغة، على القيام بالتبديل اللغوي وتجنبه. أما أنا فأود تقليل مخاوف القارئ من خلال الاستشهاد بأحد أقوال عالم اللغة الشهير أينار هوجن، الذي يعد حكيما للغاية؛ حيث إنه مبني على سنوات عديدة من البحث في مجال الثنائية اللغوية:
نسمع أحيانا عن أشخاص «لا يتحدثون لغة واضحة على الإطلاق»، ويخلطون بين لغتين لدرجة يستحيل معها تحديد اللغة التي يتحدثون بها. لم تحدث مثل هذه الحالات طوال سنوات خبرتي، على الرغم من قضائي سنوات عديدة في الاستماع إلى حواراتهم.
3
أنا شخصيا لم أر التبديل اللغوي الخارج عن السيطرة إلا لدى المرضى الثنائيي اللغة الذين يعانون من حبسة الكلام، وهم مرضى يعانون من إعاقة لغوية تنشأ من حادثة وعائية دماغية (أو سكتة دماغية). لكن حتى في هذه الحالة، فإن التبديل اللغوي الخارج عن السيطرة لم يحدث إلا لدى عدد قليل من الأفراد؛ فمعظم مرضى حبسة الكلام يتحكمون جيدا في آلية التبديل اللغوي.
يستخدم الأشخاص الثنائيو اللغة آلية التبديل اللغوي لعدة أسباب. يتمثل أحد الأسباب الرئيسية في أنه يفضل ببساطة التعبير عن أفكار أو مفاهيم معينة باللغة الأخرى (فهم يبحثون عن
le mot juste
أو «الكلمة المناسبة» كما يقال بالفرنسية). فإذا كان الشخص الذي تتحدث إليه يفهم لغتك الأخرى، ويتقبل التبديل اللغوي، وكان التعبير أو الكلمة الأفضل يقال بهذه اللغة، فبإمكانك أن تدخله ببساطة فيما تقوله. أشبه هذا بتناول قهوة مع الحليب بدلا من تناولها سادة؛ فإن الكلمة أو التعبير من اللغة الأخرى يضيف شيئا بسيطا يكون أكثر دقة من محاولة البحث عن مقابل في اللغة الأساسية. أستعرض فيما يلي مثالا أذكره في كثير من الأحيان؛ فقد استخدمت أنا وزوجتي كلمة
playground (منطقة للعب)، في أثناء إقامتنا في الولايات المتحدة؛ إذ إنها تعبر على نحو أفضل عن البيئة الحرة التي يمكن أن يحظى فيها الأطفال بالمرح، مقارنة بالكلمة الفرنسية التقليدية
parc (متنزه)، بقواعدها الصارمة والعدد المحدود للأرجوحات. (يسعدني أن أقول إنه منذ ذلك الحين تغيرت الأمور كثيرا في فرنسا وسويسرا، وأصبحنا، أنا وزوجتي وكثيرون غيرنا، نستخدم مصطلحا جديدا يعكس هذا المفهوم وهو
terrain de jeu .)
يتمثل السبب الثاني في استخدام آلية التبديل اللغوي في تلبية الحاجة اللغوية لكلمة أو تعبير؛ فكما رأينا في الفصل الثالث عند الحديث عن مبدأ التكامل، إذا كان أحد المجالات تغطيه كليا أو جزئيا إحدى اللغات بخلاف اللغة التي يتحدث بها المرء، والموقف يستدعي التبديل اللغوي، فإننا ندخل الكلمات والتعبيرات التي نحتاج إليها، إما لأنها الوحيدة الموجودة لدينا وإما لأنها المتاحة بسهولة أكبر. كتبت لي سيدة ثنائية اللغة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية ذات مرة تقول:
إن السبب في استخدامي لكثير من الكلمات الإنجليزية عند حديثي مع أشخاص يتحدثون الفرنسية؛ أنني أجد أنه من الصعب توصيل أفكار أو معلومات معينة عن حياتي اليومية في الولايات المتحدة بلغة غير اللغة الإنجليزية. فمفاهيم ومصطلحات مثل
day care center (مركز الرعاية النهارية)، و
finger food (الطعام الذي يؤكل باليد مباشرة)، و
window shopping (التفرج على المحلات دون رغبة في الشراء)، و
pot-luck dinner (التجمع الذي يحضر فيه كل شخص نوعا من الطعام ويشاركه مع الجميع)؛ تحتاج كلها إلى جمل لشرحها بالفرنسية.
4
بالنسبة إلى هذه السيدة الثنائية اللغة، فهي تستخدم الإنجليزية بالأساس في المنزل ومع أطفالها الصغار، لذا فإنها تتحول إلى الإنجليزية عند الحديث عنهم. يتمثل أحد الأسباب الأخرى للتبديل اللغوي في نقل كلام قاله شخص ما باللغة الأخرى؛ فقد يبدو من الغريب أن تترجم هذا الكلام لشخص ثنائي اللغة يفهم اللغة الأخرى جيدا.
يستخدم التبديل اللغوي أيضا كاستراتيجية تواصلية أو اجتماعية؛ لإظهار اندماج المتحدث، وتمييز هوية المجموعة، وإقصاء شخص ما، ورفع مكانة المرء، وإظهار الخبرة، إلى آخره. فيما يتعلق بالإقصاء، دعني أستعر مثالا من أحد كتبي السابقة؛ عينت نيكول، وهي سيدة ثنائية اللغة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية تعيش في الولايات المتحدة، ممرضة معتمدة في وحدة الرعاية القلبية الوعائية في أحد المستشفيات الحضرية الكبرى على الساحل الشرقي. لقد كانت تستخدم الإنجليزية في العمل، لكن منذ وصول زميلة لها كندية فرنسية، أصبحت تستخدم معها أحيانا اللغة الفرنسية عند وجودهما وحدهما. في أحد الأيام كانت الاثنتان تسألان أحد المرضى بعض الأسئلة عن نوبته القلبية الأخيرة، وقبل نهاية الحوار، تحولت نيكول بسرعة إلى الفرنسية دون الالتفات عن المريض وقالت بهدوء:
Ça me paraît grave (يبدو الأمر خطيرا). ثم طرحت على المريض بعض الأسئلة الأخرى بالإنجليزية.
5
يمكن لكل الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يقرءون هذا أن يفكروا في موقف أو موقفين تحولوا فيه بسرعة للغة أخرى للتعبير عن شيء ما لشخص واحد فقط من الموجودين. إلا أن أسلوب التواصل هذا قد يكون خطيرا، بالإضافة إلى النظر إليه على أنه غير مهذب؛ إذ من المحتمل أن يكون الشخص المستثنى من الحوار على دراية باللغة الأخرى بما يكفي لفهم ما يقال.
قدمت عالمة اللغة كارول مايرز-سكوتون، في بحث لها بالتعاون مع الباحث ويليام أوري، مثالا على التبديل اللغوي الهادف لرفع المكانة. يحدث المشهد في حافلة في نيروبي؛ فيصعد أحد الركاب ويخبره المحصل، باللغة السواحلية، أن أجرة الذهاب إلى مكتب البريد خمسون سنتا، فيعطيه الراكب شلنا ويخبره المحصل بأن ينتظر الباقي. وعندما تقترب الحافلة من مكتب البريد ولم يحصل الراكب بعد على الباقي، يقول الراكب للمحصل إنه يريد الباقي، فيجيبه المحصل بأنه سيحصل على الباقي. عندها يتحول الراكب إلى الحديث بالإنجليزية ويقول: «لقد اقتربت من وجهتي.» إن هذا التحول محاولة من الراكب لتغيير مكانته من شخص مساو للسائق في المكانة، إلى شخص أعلى مكانة منه، ومن ثم تصبح لديه سلطة أكبر (فالإنجليزية هي لغة النخبة المتعلمة في كينيا). لكن في هذه الحالة، يواجه المحصل هذه المحاولة ويقول بالإنجليزية: «هل تظن أنني سأهرب بأموالك المتبقية؟» ليعيد بذلك التأكيد على المساواة في المكانة بينهما.
6
يجدر بنا ذكر أن التبديل اللغوي يمكن أن يحدث أيضا بأشكال مختلفة؛ فيغير بعض الأشخاص الثنائيي اللغة لغاتهم عند الكتابة، على سبيل المثال (في الخطابات، ورسائل البريد الإلكتروني، إلى آخره)، لكنهم يميلون إلى تمييز الكلمات بعلامات اقتباس أو بوضع خط تحتها؛ فهم يدركون أن القارئ قد يتعرض للتضليل إن لم يتخذوا هذا الإجراء الاحترازي. بالطبع عندما تكتب لنفسك (عند تسجيل ملحوظات على سبيل المثال)، فإنك تستخدم أية لغة، وكثير من الأشخاص الثنائيي اللغة أمثالنا يسجلون ملاحظات متعددة اللغات مع عدم تمييز التبديل اللغوي الذي تمتلئ به. قد يحدث التبديل اللغوي أيضا بين لغة شفوية ولغة إشارة. أجرى بول بريستون، وهو ثنائي اللغة في لغتي الإشارة الإنجليزية والأمريكية، مقابلة مع عدد من البالغين الثنائيي اللغة ممن يستطيعون السمع وولدوا لوالدين أصمين. بينما أجريت معظم المقابلات باللغة الإنجليزية، فإنه لاحظ أن المشاركين كانوا يتحولون أحيانا إلى استخدام لغة الإشارة. الأسباب التي قدمها لذلك تشبه كثيرا تلك التي ذكرتها للتو؛ فقد تحول المشاركون لديه إلى استخدام لغة الإشارة عندما شعروا أنها ستعبر عن مفهوم ما على نحو أفضل، وعندما عجزوا مؤقتا عن التفكير في مقابل إنجليزي للمفهوم، وعندما كانوا يعبرون عن الصم، وعندما تأثروا عاطفيا لدرجة عدم قدرتهم على التحدث.
7
في السنوات الأخيرة، أجرى علماء اللغة أبحاثا كثيرة لكي يفهموا على نحو أفضل طريقة حدوث التبديل اللغوي؛
8
وكانت إحدى النتائج إدراك أن التبديل اللغوي، بدلا من كونه خليطا اعتباطيا وغير نحوي للغتين، يتبع ضوابط صارمة للغاية، ويطبقه الأشخاص الثنائيو اللغة الذين يجيدون لغتيهم. كتبت عالمة اللغة شانا بوبلاك، الخبيرة الرائدة في مجال التبديل اللغوي تقول:
إن التبديل اللغوي مهارة شفوية تحتاج إلى درجة كبيرة من الإجادة اللغوية في أكثر من لغة، وليس قصورا ينتج عن عدم كفاية المعرفة بإحدى اللغات. فبدلا من كونه يعبر عن سلوك شاذ، هو فعليا مؤشر معبر عن درجة الإجادة للغتين.
9
تظهر أبحاثي في الجوانب الصوتية في آلية التبديل اللغوي حدوث تحول صوتي مفاجئ وكامل إلى اللغة الأخرى في عملية التبديل، لكن قد يتم الاحتفاظ أحيانا بوزن اللغة الأساسية.
10
وفي دراسة استطلاعية أجريتها مع زميلي كارلوس سواريز، أظهرنا أنه إذا كان التبديل اللغوي قصيرا ويتمثل في وحدة نحوية ثانوية، كما في المثال الوارد في بداية هذا الفصل، فإنه يندمج مع وزن اللغة الأساسية. وعلى العكس من ذلك، إذا كان أطول ويتمثل في وحدة نحوية أكثر أهمية، فإنه يجلب معه أنماط وزن من اللغة الثانوية. ومن ثم، في جملة
Marc, savonne-toi. You haven’t used soap for a week! ، فإن الجزء الأول الذي يعني «مارك، نظف نفسك بالصابون» له طابع الوزن الفرنسي (منحنى صوتي طويل ومنخفض)، في حين أن الجزء الثاني بمعنى «فأنت لم تستخدم الصابون منذ أسبوع!» يحافظ على نمط الوزن الإنجليزي التقليدي (ارتفاع في النهاية يعبر عن الدهشة). أما فيما يتعلق بإدراك المستمع للتبديل اللغوي، فإن مدى كفاءة التبديل يعتمد على عوامل مثل: دقة الأصوات ومجموعات الأصوات في اللغة الثانوية (كلما زادت دقة الأصوات، سهل إدراك التبديل)، ووجود كلمة لها الصوت نفسه في اللغة الأساسية (فهذا من شأنه تأخير عملية الإدراك)، وعدد عمليات التبديل اللغوي ومدى تكرارها، إلى آخره. (2) الاقتباس
أحد الأساليب الأخرى التي يدخل بها ثنائيو اللغة لغتهم الأقل استخداما؛ هو اقتباس كلمة أو تعبير قصير من هذه اللغة وتعديلها صرفيا (وعادة صوتيا) لتتلاءم مع اللغة الأساسية. فعلى عكس التبديل اللغوي، الذي يتمثل في استخدام لغتين بالتناوب، يتمثل الاقتباس في دمج إحدى اللغات في أخرى. يوضح الشكل
5-1
هذا المفهوم.
كما نرى في الجزء العلوي من الشكل، الذي يمثل التبديل اللغوي، فإن الشخص الذي يتحدث باللغة الأولى (المستطيلين الفارغين) يتحول بالكامل إلى اللغة الثانية (المستطيل المظلل)، ثم يعود إلى اللغة الأولى (المستطيلين الفارغين مرة أخرى). على الجانب الآخر، في حالة الاقتباس، فإن العنصر المقتبس من اللغة الثانية يندمج في اللغة الأولى، ويظهر هذا في الجزء الأسفل من الشكل في صورة المستطيل الذي يحتوي على خطوط مائلة، تعبر عن «دمج» اللغة الثانية واللغة الأولى.
يوجد شكلان من الاقتباس؛ على الأرجح أكثرهما استخداما هو اقتباس كلمة ما شكلا وموضوعا (من أجل إنتاج ما يعرف باسم «كلمة مستعارة» أو «اقتباس وقتي»، أو مجرد «اقتباس») مثل المثالين التاليين المأخوذين من ثنائيي اللغة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية:
Ça m’étonnerait qu’on ait code-switché autant que ça (أنا لا يمكنني تصديق أننا استخدمنا التبديل اللغوي إلى هذا الحد) و
Maman, tu peux me tier/taie/mes chaussures? (أمي، أيمكنك أن تربطي لي حذائي؟) في هذين المثالين، دخلت كلمتان باللغة الإنجليزية هما
code-switch (التبديل اللغوي) و
tie (تربط)، ودمجتا في الجملة الفرنسية. إن أكثر أجزاء الكلام التي تقتبس هي الأسماء، تليها الأفعال (كما في المثالين السابقين) والصفات، أما أجزاء الكلام الأخرى فتقتبس على نحو أقل بكثير.
شكل 5-1: يوضح الشكل الفرق بين التبديل اللغوي (استخدام لغتين بالتناوب)، والاقتباس (دمج إحدى اللغات في أخرى).
ركز كثير من الأبحاث على عملية دمج عناصر الكلام المقتبسة. ولا يزال يوجد بعض الجدل حول تكيفها الصوتي (فهل تتكيف بالكامل مع اللغة الأساسية، أم تحتفظ ببعض من السمات الصوتية للغة الثانوية؟) لكن يوجد جدل أقل حول التكيف الصرفي؛ فكما يمكن أن نرى في المثالين السابقين، فإن الكلمة الإنجليزية
code-switch
دخلت إلى الفرنسية وأدخل عليها لاحقة اسم المفعول
é ؛ والأمر نفسه ينطبق على المثال الثاني الذي أضيفت فيه لاحقة المصدر
er (التي تنطق /e/ ) للكلمة الإنجليزية
tie . في حالة الأسماء، فإنها تتكيف مع التركيب الصرفي للاسم للغة الأساسية؛ على سبيل المثال: قد تضاف إليها صيغة جمع أو صيغة لتحديد النوع عندما تقتضي اللغة المقتبسة ذلك. لذا نجد الكلمات الإنجليزية المقتبسة التالية في الإسبانية:
el trainer (المدرب)، و
esa girl (هذه الفتاة)، و
la responsibility (المسئولية).
11
لاحظ أنه عند دخول كلمة مقتبسة على إحدى الجمل دون أن تتطلب علامة صرفية، ودون أن تندمج صوتيا، بحيث تنطق بصوتيات اللغة الأساسية؛ فإنه يصعب تمييزها عن التبديل اللغوي في كلمة واحدة. سبب هذا جدلا كبيرا بين المتخصصين حول ما إذا كنا نتعامل مع حالة للتبديل اللغوي أم الاقتباس.
يوجد نوع آخر من الاقتباس، يسمى التغيير الاقتباسي، والذي يحدث عندما يدخل المتحدث كلمة في اللغة الأساسية ويوسع معناها ليشبه معنى كلمة في اللغة الأخرى، أو عندما يعيد ترتيب الكلمات في اللغة الأساسية على أساس أحد أنماط اللغة الأخرى، ومن ثم يكون معنى جديدا. يوجد مثال على الشكل الأول من هذا النوع من الاقتباس في استخدام الأمريكيين الذين من أصل برتغالي لكلمة
humoroso
بمعنى
humorous (فكه)، في حين أن معناها الأصلي في البرتغالية هو
capricious (متقلب). ومثال آخر على هذا هو استخدام كلمة
soportar
في اللغة الإسبانية البورتوريكية؛ فهي تعني عادة
endure (يتحمل)، لكنها اكتسبت الآن أيضا المعنى الإنجليزي لكلمة
support (يدعم). أما فيما يتعلق بإعادة ترتيب الكلمات، ذاك النوع الذي يطلق عليه أيضا الاقتباس الدلالي أو الاقتباس بالترجمة، فنرى مثالا عليه في فلوريدا عندما يتحدث ثنائيو اللغة باللغة الإسبانية فيقولون:
tener buen tiempo (بناء على التعبير الإنجليزي
to have a good time
بمعنى «يحظى بوقت جيد»)، بدلا من استخدام الكلمة الإسبانية
divertirse .
12
يوجد مثال آخر على هذا الشكل، وهو عبارة:
I put myself to think about it (بدأت أفكر في الأمر) التي يقولها شخص ثنائي اللغة في اللغتين الإسبانية والإنجليزية بناء على التعبير الإسباني
me puse a pensarlo .
13
لماذا يقوم ثنائيو اللغة بعملية الاقتباس؟ تشبه الأسباب هنا تلك الأسباب التي أعطيناها للتبديل اللغوي كثيرا، على الرغم من وجود أهداف تواصلية أقل. يأتي على رأس القائمة استخدام الكلمة المناسبة، بجانب استخدام كلمة من المجال الذي تغطيه اللغة الأخرى (وهو مثال آخر على تطبيق مبدأ التكامل). قضى علماء اللغة وقتا طويلا لتفسير سبب اقتباس المهاجرين، عند الحديث بلغتهم الأصلية، قدرا كبيرا من لغة الدولة المضيفة؛ فقد وجدوا أنفسهم فعليا بين عشية وضحاها يعيشون مع واقع جديد، واختلافات جديدة في مجالات مثل العمل والإسكان والمدرسة والطعام والرياضة والحياة النباتية والحيوانية وغيرها. وفي كثير من الأحيان لا تكون مفردات لغتهم الأولى كافية للتعبير عن حياتهم الجديدة. قال أوريل فاينريش، الباحث الشهير في مجال الثنائية اللغوية، في إحدى المرات، إنه لأمر طبيعي أن تستخدم كلمات جاهزة من اللغة الأخرى بدلا من ابتكار كلمات جديدة؛ ففي النهاية، قليل من مستخدمي اللغة شعراء!
14
من المهم أن نميز بين حالات الاقتباس العفوي للأشخاص الثنائيي اللغة (الذي يسمى أيضا الاقتباس الكلامي أو الوقتي) من الكلمات التي أصبحت جزءا من مفردات جماعة لغوية ما ويستخدمها أحاديو اللغة أيضا (والتي تندرج تحت ما يسمى بالاقتباس اللغوي أو الاقتباس الثابت)، والتي يستخدمها كل المتحدثين باللغة، على الرغم من أن الأشخاص الثنائيي اللغة هم الذين أدخلوها. في الجملتين التاليتين، تمثل كل كلمة ترتيبها الثالث أو الرابع مثالا على الاقتباس اللغوي من الفرنسية لكلمات أصبحت حاليا جزءا من اللغة الإنجليزية:
The “poet” lived in the “duke’s” manor. That day, he “painted”, played “music”, and wrote “poems” with his “companions” . إن العملية التي أصبحت بها بعض الكلمات المقتبسة، التي يستخدمها الأشخاص الثنائيو اللغة، جزءا لا يتجزأ من لغة الأشخاص الأحاديي اللغة؛ عملية معقدة ولها عدة أشكال؛ فبعض الكلمات تقتبس سريعا للغاية، بينما تمر كلمات أخرى بعملية طويلة، وبعض الكلمات يدخلها أحد الأشخاص الثنائيي اللغة، والبعض الآخر لا بد أن تتقبله مجموعة كبيرة من الأشخاص الثنائيي اللغة قبل انتقاله إلى مجموعة أحاديي اللغة. يشبه فاينريش الاقتباس العفوي بالرمال التي يحملها أحد المجاري المائية، بينما يشبه الاقتباس اللغوي بالرمال التي تترسب في قاع البحيرة؛
15
فإن استمرار تحرك الرمال أو ترسبها يعتمد على كثير من العوامل، وكذا الحال بالنسبة إلى أنواع الاقتباس.
عندما يتحول الاقتباس العفوي إلى اقتباس لغوي، فإن هذا لا يعني أنه تعرض لعملية دمج فحسب، ولكنه نجا أيضا من مقاومة بعض متحدثي اللغة المعنية. فقد يظن المرء أن الفرنسيين يعارضون استخدام الكلمات الإنجليزية، لكن بعض شرائح المجتمع لا تتردد - على نحو غير واع عادة - في استبدال كلمات أو تعبيرات جديدة من اللغة الإنجليزية بالكلمات أو التعبيرات الفرنسية القديمة البالية؛ ومن ثم ظهرت كلمات إنجليزية جديدة في اللغة الفرنسية اليوم، مثل:
cool ، و
top ، و
look ، و
best of ، و
too much ، وغيرها. على الرغم من ذلك، فإن هناك بعض المؤسسات التي تحاول تقليل قدر الاقتباس اللغوي الذي يحدث؛ ففي فرنسا، على سبيل المثال، تقدم الأكاديمية الفرنسية باستمرار كلمات فرنسية لتحل محل الكلمات الإنجليزية التي تعبر عن مفاهيم جديدة. يستخدم الفرنسيون بعضا منها (على سبيل المثال: كلمة
courriel
التي تستخدم الآن كثيرا مثل
e-mail (البريد الإلكتروني))، لكن يظل البعض الآخر ببساطة غير مستخدم، مثل:
bouteur
بدلا من كلمة
bulldozer (بلدوزر). تعرف اللغات كيف تستفيد جيدا من الكلمات الجديدة، كما تستطيع الكلمات أن تتسم بطابعها الخاص ولا تخضع لسيطرة أحد. إليك مثالا من اللغة الفرنسية: كلمة
people
دخلت حاليا إلى اللغة الفرنسية، لكن بمعنى المشاهير (نجوم الأفلام أو المسلسلات والمغنيين والممثلين). لقد اندمجت تماما في اللغة وأصبحت الآن تكتب أحيانا
les pipols ؛ وأدى هذا إلى اشتقاقات مثل
la pipolisation .
إن معارضة الاقتباس من اللغات الأخرى ليست أمرا جديدا، ولم تسر دوما في الاتجاه نفسه؛ ففي عام 1300، كتب المؤرخ روبرت الجلوستري ما يلي عن سيادة اللغة الفرنسية على الإنجليزية:
إذا لم يكن الرجل يعرف شيئا عن الفرنسية ... فإن الناس ستقلل من شأنه. وأنا أتصور أنه في العالم كله لا توجد دولة لا تحافظ على لغتها الأصلية إلا إنجلترا.
16
من كان يظن أنه بعد مرور سبعمائة سنة سينقلب الوضع وتصبح الإنجليزية هي المسيطرة على الفرنسية؟
الفصل السادس
التحدث والكتابة بلغة واحدة
عند التواصل مع الآخرين يسأل الأشخاص الثنائيو اللغة أنفسهم دوما - لا شعوريا في معظم الأحيان - عن اللغة التي يجب عليهم استخدامها، وعما إذا كان باستطاعتهم إدخال لغة أخرى. عندما يتعرضون لوضع لغوي أحادي اللغة - أي عند وجود أشخاص أحاديي اللغة، أو ثنائيي اللغة لا يشاركونهم في لغاتهم نفسها (أو مع أشخاص لا يشعرون معهم أنهم يستطيعون استخدام آلية التبديل اللغوي أو الاقتباس) - فإن الإجابة تكون بسيطة على ما يبدو؛ وهي أنه يجب عليهم استخدام اللغة التي يعرفها الآخرون، ولا يدعون لغة أخرى تتدخل، إن أمكن. إلا أن الأمور لا تكون دوما بمثل هذا الوضوح فيما يتعلق بالنقطة الثانية، وهي وجود لغة أخرى غير مفعلة. (1) اختيار اللغة
قد يبدو للوهلة الأولى اختيار لغة التواصل في الوضع الأحادي اللغة عملية بسيطة؛ فنحن نوقف عمل لغتنا أو لغاتنا الأخرى ونتحدث بلغة واحدة فقط. ففي النهاية، إذا بدأنا بتحدث لغة لا يعرفها الطرف الآخر، فإننا لن نصل إلى أي شيء. وكما قال أحد هنود الياكي المذكور آنفا: «أنا أستطيع التحدث معك بالياكية؛ لكنك لن تفهميني.»
1
لقد انبهرت على مر السنين بمدى براعة ثنائيي اللغة في اختيار اللغة المناسبة، ومدى كفاءتهم في عدم تفعيل لغاتهم الأخرى؛ ففجأة يمكن أن يصبح الأشخاص الثنائيو اللغة أو المتعددو اللغات، الذين توجد لغتان أو أكثر تحت تصرفهم، متحدثي لغة واحدة. أنا أتذكر دوما بطل التنس روجر فيدرير الذي يجري مقابلات بأربع لغات (الألمانية السويسرية والألمانية والإنجليزية والفرنسية)، ويفعل هذا عادة دون أن يدع لغاته الأخرى تتدخل. فهو يكون عادة، في مثل هذه المواقف، في وضع أحادي اللغة؛ إذ لا يمكنه توقع أن يعرف الذين يجرون معه المقابلة، ولا سيما الجمهور الذي يتحدث إليه، لغاته الأخرى.
إن الأشخاص الثنائيي اللغة، الذين يتمكنون من البقاء داخل وضع أحادي اللغة، وبالإضافة إلى ذلك يتحدثون هذه اللغة بطلاقة ودون لكنة، يمكن وصفهم في الغالب بأنهم أحاديو اللغة. فوجئت بشدة في أحد الأيام، منذ عدة سنوات، عندما سمعت زوجة الخباز، التي يوجد متجرها في نهاية الشارع الذي أعيش فيه، تجيب على الهاتف بطلاقة باللغة الألمانية السويسرية. كنت أعرفها منذ ما يقرب من عشر سنوات، وكنت أتصور دوما أنها فرنسية سويسرية؛ فكنت أتوقع أنها تعاني عند استخدام الألمانية مثل معظم الفرنسيين السويسريين (فضلا عن الألمانية السويسرية التي نادرا ما يتحدث بها الفرنسيون السويسريون)، لكنها كانت تجري حوارا بطلاقة باستخدام لغتها الأم، كما أدركت فيما بعد. وأصبت بدهشة مماثلة عندما علمت أن الممثلة ناتالي وود، بطلة فيلم «قصة الحي الغربي» الذي ظهر في عام 1961، التي كنت أعتقد أنها كانت شخصا أحادي اللغة بالكامل؛ ولدت في الواقع في عائلة تتحدث بالروسية، وكانت هي ثنائية اللغة في اللغتين الروسية والإنجليزية. يرد على الذهن كثير من الأمثلة على هذه «المعجزة» الخاصة بالثنائية اللغوية؛ وهي اللغات المخبأة التي يعرفها الناس لكنهم لا يستخدمونها أبدا في وجودنا.
إن اختيار لغة أساسية والالتزام بها في حالة التواصل الأحادي اللغة، سواء أكان في التحدث أم في الكتابة، هو جزء من كون الفرد ثنائي اللغة. فأحيانا توجد على المحك أمور أكثر من مجرد عملية التواصل، ويكون الالتزام بالوضع الأحادي اللغة هو أهم شيء. يصف أوليفيه تود، الصحفي والكاتب الفرنسي البريطاني، في سيرته الذاتية كيف أنه هو ووالدته البريطانية فشلا في اللحاق بآخر سفينة متجهة إلى إنجلترا عندما غزا الألمان فرنسا؛ فظلا في فرنسا أثناء الحرب، وكانت والدته مختبئة جزئيا؛ إذ إنها قد ترسل إلى معسكر اعتقال إذا عرف الألمان جنسيتها. يصف تود كيف أنهما اتفقا على عدم التحدث بالإنجليزية أمام الناس؛ في الشارع، وفي المقاهي، وفي الحافلات، وإذا أخطأت ونطقت بكلمة أو جملة إنجليزية رغما عنها، فإنه يتوجب على تود، الذي كان طفلا صغيرا في هذا الوقت، أن يضغط على يدها. المشكلة أن والدته كانت ضد الألمان بشدة، وفي أحد الأيام في مترو الأنفاق لم تتمالك نفسها، وتحدثت بالإنجليزية بعنف شديد ضد المحتلين، أمام ضابط ألماني. يخبرنا تود أنهما كانا محظوظين في هذا اليوم ولم يحدث شيء. تمكنت والدة أوليفيه تود من النجاة أثناء فترة الحرب دون أن تنكشف هويتها كمواطنة إنجليزية.
2
أثارت اهتمام الباحثين لوقت طويل قدرة ثنائيي اللغة على التحكم في اللغة التي يتحدثون بها، وكيف يقصون لغاتهم الأخرى. على المستوى المعرفي يوجد جدل محتدم حول الآليات المستخدمة؛ فيتحدث بعض الباحثين، من أمثال ديفيد جرين من جامعة لندن، عن كبح اللغات التي لا توجد حاجة إليها، بينما أتبنى أنا وجهة نظر «أبسط» وأؤيد عدم تفعيل هذه اللغات ولكن ليس كبحها.
3
فأنا أرى أن النظام اللغوي الثنائي اللغة يسمح بالتبديل بين الوضع الأحادي اللغة والوضع الثنائي اللغة، وأنه حتى في الوضع الأحادي اللغة، كما سنرى فيما يلي، يستطيع المتحدث استخدام اللغة الأخرى المعطلة. ويصعب فعل هذا عندما تكون اللغة مكبوحة أكثر مما إذا كانت معطلة.
أجرى أطباء الأعصاب وعلماء اللغويات العصبية مؤخرا دراسات تقوم على تصوير الدماغ، في محاولة منهم لتحسين فهمنا للبنى التي تتحكم في اختيار اللغة. استعرض جوبن أبو طالبي وديفيد جرين الدراسات في هذا الموضوع، وقالا إن ثمة بنى عصبية كثيرة تلعب دورا في هذا الشأن؛ يبدو أن الجزء الأيسر من النواة الذنبية في المنطقة تحت القشرية من الدماغ يشرف على الاختيار الصحيح للغات؛ والجزء الأيسر من القشرة أمام الجبهية يحدث اللغة المناسبة ويحافظ على استمرار العمل بها، بالإضافة إلى أنه يكبح اللغات غير المستخدمة؛ وترسل القشرة الحزامية الأمامية إشارات إلى القشرة أمام الجبهية بالأخطاء المحتملة في اختيار اللغة؛ ويوجه الجزءان الأيمن والأيسر من القشرة الجدارية الخلفية الاختيار نحو اللغة المستخدمة وبعيدا عن اللغة غير المستخدمة.
4
يساعدنا هذا البحث الحديث في فهم طريقة اختيار الأشخاص الثنائيي اللغة للغة المناسبة ليستخدموها، وإقصائهم للغات الأخرى، إلى حد ما على الأقل، كما سنرى فيما يلي.
عندما يكون ثنائيو اللغة في وضع أحادي اللغة؛ أي عند الحديث أو الكتابة بلغة واحدة فقط، فإننا نتوقع أن تصبح لغاتهم الأخرى معطلة أو لا تتدخل؛ وهذا أمر منطقي نظرا لأن الأشخاص الثنائيي اللغة عادة ما يتواصلون مع أشخاص لا يعرفون لغاتهم الأخرى. مع ذلك، في الواقع لا تكون الأمور بمثل هذه البساطة؛ فقد يحدث تبديل لغوي أحيانا عند حديث الأشخاص الثنائيي اللغة أو كتابتهم بلغة واحدة، وعادة ما تتداخل لغاتهم الأخرى. سنستعرض فيما يلي كلتا العمليتين. (2) التبديل اللغوي في الوضع الأحادي اللغة
يتمثل أحد أسباب حدوث التبديل اللغوي في الوضع الأحادي اللغة في إدخال اسم علم من اللغة الأخرى؛ فيفضل بعض الأشخاص الثنائيي اللغة نطق اسم (مدينة أو جريدة أو شخص أو حتى أسمائهم) بلغته الصحيحة، مما قد يدفعهم إلى التحول للغة الأخرى، بينما يكيف أشخاص ثنائيو اللغة آخرون الأسماء صوتيا مع اللغة الأساسية، ومن ثم يقومون بعملية الاقتباس. لا يوجد أي قواعد هنا؛ فمن ناحية نحن لا نريد أن نبدو مستعلين أو مختلفين كثيرا عن الآخرين من خلال التحول إلى استخدام اللغة الأخرى. ومن المهم أيضا أن يفهمنا الذين نتحدث إليهم، وربما يتسبب التبديل اللغوي في حدوث سوء فهم. ومن ناحية أخرى، فإن تكييف أحد الأسماء مع اللغة الأساسية قد يشوهه تماما أو يبعده عن حقيقته؛ ففي النهاية لا يبدو صديق أمريكي اسمه جوناثان الشخص نفسه عند نطق اسمه بالفرنسية. إن اتخاذ قرار بنطق اسم العلم بصيغته الأصلية أو تكييفه مع اللغة المستخدمة في الكلام يعتمد على كثير من العوامل، لكن تتمثل العوامل الرئيسية في تحقيق تواصل واضح، وليس إبعاد الشخص نفسه كثيرا عمن يتحدث إليهم. عندما كنت أعيش في الولايات المتحدة، كنت أنطق اسم عائلتي بالنطق الإنجليزي ثم أتهجاه؛ فلم يكن نطقه بالطريقة الفرنسية حلا؛ إذ إن معظم الناس لن تفهمه.
بخلاف أسماء الأعلام، قد يقوم ثنائيو اللغة بعملية تبديل لغوي لوقت قصير عندما يكونون في وضع أحادي اللغة، إما لأنهم لا يجيدون هذه اللغة جيدا (كما يحدث عندما يتحدث شخص ثنائي اللغة تسيطر عليه بشدة لغة معينة بلغته الضعيفة)، وإما لأنه ليس لديهم المرادف المطلوب في هذا المجال على وجه التحديد في اللغة التي يتحدثون بها (مبدأ التكامل). عندما يقوم ثنائيو اللغة بتبديل لغوي مفاجئ على هذا النحو، فإن مستمعيهم عادة ما يصابون بالدهشة والارتباك؛ فعندما يقوم من أتحدث إليه بتبديل لغوي مفاجئ على نحو غير متوقع، فإنني لا أركز تماما مع ما يقوله. يظهر هذا ببساطة مدى عدم تفعيل اللغة الأخرى عندما يكون المرء في وضع أحادي اللغة.
عندما يكون المستمع، أو أحد المستمعين، على دراية بلغة المتحدث الأخرى، يمكنه عرض الترجمة المقابلة في لغة الحديث؛ وهذه طريقة شائعة في الدول المتعددة اللغات؛ حيث يفهم الناس عادة كثيرا من اللغات، حتى إن فضلوا عدم الحديث بها، ويكون لديهم استعداد لتقديم بعض المساعدة. فقد سمعت في إحدى المرات أستاذا أمريكيا يقول في لقاء معه في برنامج إذاعي فرنسي:
Il n’est pas ruthless (أنا لست شخصا قاسيا). تدخل المقدم على الفور، الذي كان يريد أن يفهم المستمعون ما يقال في المقابلة، وقال التعبير الفرنسي المقابل
sans scrupules . فقال الأستاذ:
Oui ... ثم واصل ما يقوله.
إذا بدا أن المستمع لا يفهم اللغات الأخرى للمتحدث الثنائي اللغة، إذا فإن التبديل اللغوي لا بد أن يكون مصحوبا بشرح؛ فيقول المرء الكلمة أو التعبير باللغة الأخرى (الثانوية)، وربما يسبقها بعبارة مثل: «باللغة ... نقول ...»، ثم يستكمل حديثه. بالطبع لا يمكن أن يحدث هذا طوال الوقت؛ لأنه يجعل التفاعل بطيئا، وربما لا يستحسنه المستمعون كثيرا. (3) التداخل
على الرغم من حقيقة أن الأشخاص الثنائيي اللغة يريدون أحيانا إقصاء لغاتهم الأخرى عند الحديث أو الكتابة في وضع أحادي اللغة، وعلى الرغم من أنهم قد يستبعدون استخدام كل أشكال التبديل اللغوي، يظل من الممكن أن تدخل لغات أخرى في شكل تداخلات؛ وهي انحرافات عن اللغة المستخدمة في الحديث (أو الكتابة) تنشأ من تأثير اللغات المعطلة. تصاحب هذه التداخلات، التي تسمى أيضا التحولات، الأشخاص الثنائيي اللغة طوال حياتهم، على الرغم من اجتهادهم في تجنبها؛ فهي بمثابة «الرفيق الخفي» غير المرحب به للأشخاص الثنائيي اللغة؛ إذ توجد دوما على الرغم من محاولاتهم التخلص منها.
يوجد نوعان من التداخلات: التداخلات الثابتة، التي تعكس آثارا دائمة لإحدى اللغات على اللغة الأخرى (مثل لكنة دائمة، وتوسعات في معنى كلمات معينة، وتركيبات نحوية معينة، إلى آخره)، والتداخلات المتغيرة، وهي تداخلات مؤقتة للغة الأخرى، كما في حالة الخطأ العرضي في نمط النبر في إحدى الكلمات بسبب قواعد النبر في اللغة الأخرى، أو الاستخدام المؤقت لتركيب نحوي مأخوذ من اللغة، أو اللغات، غير المستخدمة. في الأقسام التالية، لن أفرق بين نوعي التداخل؛ فيصعب عادة التمييز بينهما، إلا في حالة اللكنة، التي تكون في معظم الأحيان تداخلا ثابتا.
5
سنركز في حديثنا على التداخلات المتغيرة؛ وهي عناصر من اللغة الأخرى تتسرب إلى لغة الحديث أو الكتابة، في معظم الأحيان دون إدراك الشخص لذلك؛ فلا يدرك هذا إلا عندما يسأله المستمع عن معنى كلمة معينة، أو يصحح له التركيب النحوي، أو ينظر إليه بنظرة غريبة، بحيث يدرك بعد ذلك أن اللغة الأخرى قد تسربت إلى اللغة المستخدمة. فعادة يشعر المرء حينها بأنه «متأكد» من أن هذه الكلمة هي كلمة في اللغة المستخدمة، أو أن التركيب النحوي كان صحيحا، في حين أن الأمر ليس كذلك في الحقيقة. (لقد كنت مهتما برؤية كم التداخلات التي عثر عليها محرر هذا الكتاب بعدما أرسلت المسودة إلى الناشر. كان عددها قليلا على الرغم من أنني كنت أعمل في وضع أحادي اللغة، وأحاول الكتابة بالإنجليزية فقط، باستثناء الأمثلة بالطبع.)
من المهم في هذه المرحلة تمييز التداخلات عن أشكال الانحرافات اللغوية الأخرى، التي تكون نتيجة لمستوى الطلاقة الذي يصل إليه المرء في إحدى اللغات؛ فهذه الانحرافات التي تحدث داخل اللغة الواحدة تعكس لغة الفرد الوسيطة (أي مستوى المعرفة اللغوية الذي يصل إليه في اللغة)، وقد تضم تعميمات مفرطة (مثل معاملة الأفعال الشاذة كما لو كانت قياسية)، وتبسيطات أيضا (مثل إسقاط العلامات الداخلة على الجمع والزمن، وحذف الكلمات الوظيفية، وتبسيط التركيب النحوي)، بالإضافة إلى التصحيحات المفرطة وتجنب كلمات وتعبيرات معينة.
يمكن أن تحدث التداخلات على كل مستويات اللغة. على المستوى الأول الخاص بالنطق (الصوتيات والوزن) تعتبر «اللكنة الأجنبية» انعكاسا مباشرا لتداخل لغة أخرى. قد تكون آثار اللكنة دائمة (فهي ببساطة اللكنة التي تكون لديك عند التحدث بلغة معينة)، أو مؤقتة (مثل الأخطاء العرضية في نطق أحد الأصوات، أو النبر على جزء خطأ في الكلمة، أو تنغيم إحدى العبارات بناء على لغتك الأقوى، وهكذا). إن هذه الأخطاء العرضية، التي يزيد عددها عادة في حالة التعب والضغط العصبي، «تفضح أمرك» عادة كمتحدث لهذه اللغة الأخرى؛ وعندها قد يسألك المستمع إليك عن اللغة الأخرى التي تتحدث بها، أو ربما يخبرك - بلطف بالغ - بمدى إجادتك التحدث باللغة التي تستخدمها.
تشبه التداخلات على مستوى الكلمة (الكلمات أو التعبيرات الفردية) عمليات الاقتباس المعجمي التي تحدثنا عنها في الفصل السابق. في الواقع يمكن تفسيرها بآليات نفسية لغوية مشابهة، على الرغم من أن هذا لم يخضع لدراسة كافية. فتماما مثل الاقتباس، يمكنك إدخال كل من شكل الكلمة ومعناها، لا إراديا بالطبع؛ فنجد مثلا إحدى السيدات الثنائيات اللغة تتحدث بالإنجليزية والفرنسية تقول لابن أخيها الذي يتحدث بالإنجليزية فقط:
Marc, you’re baving! ، فنطقت كلمة
baving
المأخوذة من الكلمة الفرنسية
baver
بمعنى «يسيل لعابه» مثل كلمة
patting . نظر مارك إلى عمته متحيرا، فصححت ما قالته على الفور. ومثال آخر على هذا جملة
Look at the camion!
التي تنطق فيها كلمة
camion
الفرنسية بمعنى «شاحنة» كما لو كانت كلمة إنجليزية (مثل كلمة
canyon ).
يوجد نوع آخر من التداخل المعجمي أقل وضوحا - وهو أكثر ما يبغضه الأشخاص الثنائيو اللغة - يشبه التغيير الاقتباسي، حيث يدخل فقط معنى الكلمة ويضاف إلى كلمة موجودة بالفعل؛ على سبيل المثال: في جملة
Look at the corns on that animal ، أضيف معنى الكلمة الفرنسية
cornes (قرون) إلى معنى الكلمة الإنجليزية
corn . ومثال آخر على هذا جملة
Oh, he’s in the stove ، التي قالها فتى أمريكي من أصل نرويجي، عندما سأله شخص غريب عن مكان والده. يأتي التداخل هنا من الكلمة النرويجية
stova ، التي تعني حجرة المعيشة.
6
في هذين المثالين، تشبه الكلمات في اللغة الأساسية واللغة الثانوية بعضها بعضا إلى حد كبير (فهي تكاد تكون ألفاظا متجانسة، عادة ما يطلق عليها عند كتابتها «أشباه النظائر»)، لكن الأمر لا يكون دوما هكذا، كما نرى في جملة
Don’t move the needles on the clock
بناء على الكلمة الفرنسية
aiguilles (التي تعني الإبر وعقارب الساعة)، فكان من المفترض استخدام كلمة
hands (عقارب). إن حالات الاقتباس العرضي (التغيير الاقتباسي) هذا، قد تحدث كثيرا في إحدى لغات الأشخاص الثنائيي اللغة؛ لأن الكلمات المنطوقة تكون بالتأكيد من اللغة الأساسية، ويعتقد الشخص الثنائي اللغة أنه يتحدث لغة واحدة فقط، لكن الكلمات تستخدم بالمعنى الخطأ. تقول نانسي هيوستن، الكاتبة الثنائية اللغة الكندية الفرنسية، إنها في النهاية تتجنب استخدام أشباه النظائر مثل:
éventuellement
و
eventually ، و
harassed
و
harassé ، لتضمن عدم الخلط بينهما.
7
تحدث التداخلات كذلك على مستوى التعبيرات الاصطلاحية والأمثال كثيرا جدا، ويكون من الصعب للغاية إقصاؤها. قد يترجمها ثنائيو اللغة حرفيا من اللغة الأخرى إلى اللغة المستخدمة في الحديث وهم غير مدركين أن المعنى قليلا ما يكون واضحا. ومن ثم، تكون جملة
I’m telling myself stories (أنا أحكي لنفسي قصصا) هي الترجمة الإنجليزية الحرفية للتعبير الفرنسي
je me raconte des histories ، وكان ينبغي للمتحدث الثنائي اللغة أن يقول:
I’m kidding myself (أنا أخدع نفسي).
8
يوجد مثال آخر وهو الترجمة الحرفية لعبارة
as alike as two peas in a pod (متشابهان مثل حبتي بازلاء في قرن بازلاء)، التي لن يكون لها أي معنى في الفرنسية، ولا بد على المرء أن يقول:
comme deux gouttes d’eau (حرفيا بمعنى «مثل قطرتي ماء»). وهذان مثالان على اقتراب الترجمة الإنجليزية الحرفية لتعبيرين ألمانيين من المعنى الأصلي، لكنها لا تعبر تماما عنه:
Winter is before the door (الشتاء قبل الباب) هي ترجمة حرفية لجملة
Winter steht vor der Tür
والتعبير الإنجليزي الصحيح المقابل لها هو
Winter is around the corner (اقترب فصل الشتاء). وجملة
He is laughing in his fist (يضحك في قبضته) هي الترجمة الحرفية لجملة
Er hat sich ins Fäustchen gelacht
والتعبير الإنجليزي الصحيح المقابل لها هو
He was laughing up his sleeve (يضحك في سره).
9
تحدث التداخلات على مستوى التركيب النحوي كثيرا أيضا، مثلما يحدث عندما يستخدم المتحدثون الثنائيو اللغة نمط ترتيب الكلمات في إحدى اللغات في اللغة الأخرى، أو عندما يضعون محددات في أماكن لا توجد فيها عادة، أو يستخدمون حرف جر خطأ (مرة أخرى بسبب اللغة المعطلة)، وهكذا. على سبيل المثال: إذا قال ثنائيو اللغة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية عبارة
on the page five
بدلا من
on page five ، فإن هذا على الأرجح يكون بسبب تأثرهم بالمقابل الفرنسي
sur la page cinq . ينطبق الأمر نفسه على جملة
I saw that at the television
استنادا إلى جملة
J’ai vu ça à la television .
أما فيما يتعلق بالتداخلات التي تحدث في الكتابة، فإن كثيرا منها يشبه تلك التي تظهر في اللغة المنطوقة على مستويات لغوية مختلفة (على سبيل المثال: على مستوى المفردات والنحو). مع هذا، توجد من ضمن الأشياء الخاصة بالكتابة الاختلافات الإملائية بين اللغات؛ على سبيل المثال: تمثل عادة الألفاظ شبه المتجانسة، وهي الكلمات التي تكتب على نحو متشابه إلى حد كبير في لغتين، مشكلة. فيجب على كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة في الإنجليزية والفرنسية التوقف للحظة والتفكير في عدد الحرف
d
الموجود في كلمة
address (فيوجد حرف
d
واحد فقط في الكلمة الفرنسية)، وعدد الحرف
p
الموجود في كلمة
development (حيث يوجد حرفان في الكلمة الفرنسية)، وإذا ما كانت كلمة
rhythm
تحتوي على حرفي
h
أم لا (فيوجد حرف
h
واحد فقط في الكلمة الفرنسية)، وهكذا. أنا شخصيا أحيي اختراع أدوات التدقيق النحوي والإملائي في برامج معالجة الكلمات، خاصة للغات الصعبة مثل الفرنسية ذات القواعد النحوية المعقدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن برامج معالجة الكلمات لا تنتبه إلى الأخطاء في المستويات الأعلى من استخدام اللغة، مثل الأسلوب ومستوى الرسمية؛ فهذه الأمور يمكن أن تكون مختلفة إلى حد ما بين لغتين (على سبيل المثال: عبارات التحية والوداع في الخطابات، وأسلوب التقارير، إلى آخره)، ويمكننا بسهولة أن نكتب شيئا خطأ على أساس ما نعرفه من لغة أخرى. (4) التداخلات والتواصل
قد يكون للتداخلات التي يقوم بها الأشخاص الثنائيو اللغة عند التواصل مع الآخرين بلغة واحدة تأثيرات مختلفة على ما يفهمه مستمعوهم (أو قراؤهم) الأحاديو اللغة. فعلى مستوى بنية الجملة، اقترح أوريل فاينريش ثلاث فئات سنتحدث عنها بالترتيب، من أقلها تأثيرا إلى أكثرها تأثيرا. في الفئة الأولى، يكون نمط التداخل مسموحا به في اللغة الأساسية، وليس له أي تأثير سلبي على الفهم؛ ومن ثم فإن الشخص الثنائي اللغة في اللغتين الإنجليزية والروسية الذي يستخدم ترتيب الفاعل ثم الفعل ثم المفعول به في اللغة الروسية، بناء على ترتيب الكلمات المتعارف عليه في اللغة الإنجليزية، يكون جملة روسية صحيحة تماما، على الرغم من أن هذا الترتيب ليس ضروريا في الروسية. وفي الفئة الثانية من التداخلات يفهم معنى الجملة ضمنيا؛ يذكر فاينريش الثنائي اللغة في اللغتين الألمانية والإنجليزية، الذي يقول:
yesterday came he ، بناء على التركيب الألماني
gestern kame er . فعلى الرغم من أن الجملة الإنجليزية ليست صحيحة نحويا، فإنه يمكن فهم معناها. وأخيرا، في الفئة الثالثة ينتج عن التداخل معنى غير مقصود، ومن ثم تتأثر عملية التواصل.
10
وأريد أن أذكر هنا مثالا سبب لي مشكلات في سنوات المراهقة كشخص ثنائي اللغة؛ فكنت أقول لأصدقائي الفرنسيين:
Je te manqué ، بناء على التعبير الإنجليزي
I miss you . كان أصدقائي ينظرون إلي بتعبير ينم عن الحيرة؛ لأنني في الحقيقة كنت أخبرهم بأنهم هم الذين يشتاقون إلي، بدلا من أن أقول لهم إنني أنا الذي أشتاق إليهم؛ إذ كان ينبغي لي أن أقول
Tu me manques .
نظرا لأن الأمثلة على فئتي فاينريش الأولى والثانية عن التداخل، يبدو أنها تحدث بتواتر أكبر، فإن هذه التداخلات نادرا ما تؤثر على عملية التواصل. فعلى المدى الطويل، سيطور بطبيعة الحال الأشخاص الثنائيو اللغة الذين يحتاجون إلى التواصل باستخدام لغة معينة، سواء أكان هذا محادثة أم كتابة، مهارات كافية في هذه اللغة من أجل التواصل على نحو مرض. فلن تكون التداخلات التي تحدث كثيرة على هذا النحو، بالإضافة إلى أن الأشخاص الأحاديي اللغة الذين يعيشون مع الثنائيي اللغة أو يعملون معهم، يعتادون على استخدامهم لغة متأثرة بلغتهم الأخرى؛ فيعتادون على سماع لكنة، وبنى جمل غريبة، وكلمات غير مناسبة إلى حد ما، وهذا يجعل عملية التواصل أسهل. يوجد مثال مثير للاهتمام على هذا في الأشخاص الثنائيي اللغة في اللغتين الإنجليزية ولغة الإشارة الأمريكية، الذين يستمرون في استخدام تعبيرات الوجه المستخدمة في لغة الإشارة عند تواصلهم باللغة الإنجليزية في وضع أحادي اللغة. يذكر بول بريستون استخدامه أحيانا التواصل البصري الطويل، المهم للغاية في ثقافة الصم، لكنه يجعل غير المصابين بالصمم يشعرون بالانزعاج. بالإضافة إلى ذلك، يستخدم التعبير بتقويس الحاجبين وتقطيبهما، وهو التعبير المستخدم لطرح أسئلة «ماذا وأين ومن وأي» في لغة الإشارة الأمريكية، وهو أحد تعبيرات الوجه الذي يمكن أن يفهم خطأ على أنه يعبر عن الاتهام أو الغضب لدى الأشخاص غير المصابين بالصمم.
11
صرح كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة بارتكابهم مزيدا من الأخطاء (كثير منها عبارة عن تداخلات)، عندما يصابون بالتعب أو يتعرضون لضغط عصبي؛ فتبدأ بنى الجمل التي يتحكمون فيها عادة، والنهايات الصرفية التي يدرجونها عادة، والنبر الذي يجيدونه دوما، جميعها في الانهيار في حالات معينة . تشرح نانسي هيوستن هذا بقدر من الفكاهة فتقول:
لا يثنيك استخدام لغة أجنبية عن الثرثرة فحسب، بل أيضا عن التحذلق؛ فهو يمنعك من أن تأخذ نفسك على محمل الجد ... فعندما أبدأ في الصراخ على أطفالي، تسوء لكنتي ويتقلص حجم مفرداتي، فيجعلني هذا أنفجر في الضحك وأفقد المصداقية في غضبي، ولا يسعني إلا أن أهدأ وأضحك.
12
توجد نقطة أخيرة تتعلق باتجاه التداخلات؛ فإذا كانت هناك لغة مهيمنة لدى ثنائيي اللغة، فإن اتجاه التداخل يكون مباشرا؛ فتؤثر اللغة الأقوى على اللغة الأضعف، سواء أكان على نحو دائم (ربما في شكل لكنة)، أم مؤقتا (وهو ما أطلقنا عليه التداخلات المتغيرة). لكن إذا كانت للغتين الأهمية نفسها بنحو أو بآخر (على الأقل في الاستخدام اليومي)، فقد تحدث التداخلات في أي من الاتجاهين. يشتهر الباحث البريطاني فيفيان كوك بأبحاثه التي تظهر كيف يمكن أن تؤثر معرفة لغة ثانية واستخدامها على اللغة الأولى؛
13
فعندما تحدث التداخلات في الاتجاهين، قد يصرح بعض الأشخاص الثنائيي اللغة بأنهم لا يتقنون اللغتين جيدا، أو بأن كل لغة من لغاتهم تؤثر في الأخرى. تعبر إيفا هوفمان خير تعبير عن هذا في كتابها «فقد في الترجمة»، فتقول:
عندما أتحدث بالبولندية الآن، فإنها تكون غير نقية وتتخللها وتؤثر فيها الإنجليزية الموجودة في ذهني. فكل لغة تغير الأخرى، وتختلط بها وتنقحها؛ فكل لغة تجعل الأخرى تشبهها. وأنا مثل أي شخص آخر نتاج مجموع لغاتي.
14
أكدت في كثير من كتاباتي على ما أطلق عليه اسم «النظرة الثنائية اللغة أو الشمولية للثنائية اللغوية»، التي ترى أن الشخص الثنائي اللغة هو كل متكامل لا يمكن تقسيمه بسهولة إلى جزأين منفصلين.
15
فالشخص الثنائي اللغة لا يمثل مجموع شخصين (أو أكثر) كاملين أو غير كاملين من أحاديي اللغة، وإنما هو يمثل كيانا لغويا خاصا وفريدا. وينتج التعايش والتفاعل المستمر الذي يحدث بين اللغات الموجودة لدى الشخص الثنائي اللغة نظاما لغويا مختلفا لكنه متكامل.
16
وأشبه هذا بقافز الحواجز في ألعاب القوى الذي يجمع بين الكفاءتين؛ قفز حواجز عالية، والعدو، لكنه ليس عداء فقط ولا قافزا لحواجز عالية فقط.
إجمالا، توجد آثار اللغة الأخرى، خاصة في شكل تداخلات، في لغة الأشخاص الثنائيي اللغة، لكنها لا تؤثر عادة على عملية التواصل. ويمكنني القول حتى إنها تجعل ما يقال مميزا وأقل نمطية. وكما سنرى، فإن كتابات مؤلفين ثنائيي اللغة، مثل جوزيف كونراد وصامويل بيكيت، تحتوي على آثار من لغات أخرى؛ فالتداخلات تثري كتاباتهم كثيرا وتساعد في جعلها مميزة.
الفصل السابع
امتلاك لكنة في إحدى اللغات
على الرغم من أن عددا قليلا للغاية منا هم علماء لغة محترفون، فإننا جميعا نستطيع التعليق على وجود اللكنات؛ فاللكنة هي أحد أكثر الأشياء التي نلاحظها في حديث الناس، وعادة ما نكون رأيا بشأنها. يصبح موضوع اللكنة أكثر تعقيدا في حالة الأشخاص الثنائيي اللغة في ظل وجود لغتين أو أكثر لديهم، خاصة بسبب المعتقد السائد التالي:
خرافة: الأشخاص الثنائيو اللغة الحقيقيون لا تكون لديهم لكنة في لغاتهم المختلفة
إن حقيقة الأشخاص الثنائيي اللغة تختلف عن ذلك تماما؛ ففي الواقع، إن وجود لكنة «أجنبية» في لغة واحدة أو أكثر هو القاعدة لدى الأشخاص الثنائيي اللغة؛ والاستثناء ألا تكون لديهم لكنة. يعتمد وجود لكنة لدى المرء في إحدى اللغات على وقت اكتساب هذه اللغة. ووجود اللكنة لا يزيد ولا يقلل من كون المرء ثنائي اللغة؛ فتوجد لكنة لدى بعض من أكثر الثنائيي اللغة طلاقة وتوازنا لغويا في إحدى لغاتهم، وقد لا توجد لكنة لدى غيرهم من الأشخاص الثنائيي اللغة الأقل طلاقة؛ فالعالم مليء بعلماء وكتاب وسياسيين محترمين وغيرهم ثنائيي اللغة ويتحدثون بلكنة في إحدى لغاتهم.
يوجد مثال على هذا، وهو المؤلف الشهير جوزيف كونراد الذي ذكرناه بإيجاز في نهاية الفصل السابق. إن المعلومة التي قد يغفل عنها المرء أن كونراد كان من أصل بولندي، وليس بريطاني، وأنه كانت لديه لكنة بولندية واضحة للغاية عندما كان يتحدث بالإنجليزية؛ ومع ذلك فقد كانت كتاباته بالإنجليزية مميزة، ويظل أحد المؤلفين الكبار في الأدب الإنجليزي في مطلع القرن العشرين. وفي مجال مختلف تماما، نجد سياسيا أمريكيا بارزا حصل على جائزة نوبل ، وهو هنري كيسنجر، الذي كانت لديه لكنة ألمانية واضحة عند الحديث بالإنجليزية، وهي لغة كان يجيدها إجادة تامة.
إجمالا، لا توجد علاقة بين معرفة المرء بإحدى اللغات ووجود لكنة لديه فيها أو لا. ونظرا لأن وجود اللكنات في الواقع أمر طبيعي بين الأشخاص الثنائيي اللغة، فسنتعرف على أسباب ظهور اللكنات لدى الناس، ومعناها على المستوى الصوتي، وعيوب ومميزات وجود اللكنات لدى الأشخاص الثنائيي اللغة. (1) أسباب وكيفية امتلاك اللكنة
تصبح لدى المرء لكنة في إحدى اللغات لعدة أسباب؛ أولها، وأبسطها على الإطلاق، قد يرجع إلى اكتساب المرء لهجة معينة من اللغة؛ ومن ثم فإن الشخص الهندي الذي يتحدث بالإنجليزية، قد تكون لديه ببساطة اللكنة المرتبطة باللغة الإنجليزية الهندية، التي لا علاقة لها بالسن الذي اكتسب فيه تلك اللغة. والسبب الثاني الأكثر شهرة هو تأثير اللغة الأولى على اللغة الثانية؛ فقد توجد لدى ثنائي اللغة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية لكنة إنجليزية في اللغة الفرنسية لأنه قد اكتسب الفرنسية في مرحلة لاحقة من حياته. ينطبق هذا على خالة والدي الإنجليزية، التي انتقلت إلى فرنسا في العشرينيات من عمرها؛ فقد كانت لديها لكنة واضحة عندما كانت تتحدث بالفرنسية، على الرغم من أن لغتها الفرنسية كانت بخلاف ذلك تخلو من العيوب ومصقولة إلى حد كبير.
ما نوع التأثير الذي تمارسه اللغة الأولى (الأقوى عادة) على اللغة الثانية (الأضعف عادة)؟ أولا: إذا كانت اللغة الثانية بها صوت لا يوجد في الأولى، فإن المتحدث قد يستخدم بديلا قريبا من الناحية الصوتية؛ على سبيل المثال: نظرا لعدم وجود الصوت
z
في اللغة النرويجية، فإن النرويجيين الذين يتحدثون الإنجليزية يستخدمون أحيانا صوت
s
بدلا منه؛ فينطقون كلمة
roses (زهور)
rosses . كذلك لا يوجد الصوت
ch
في اللغة البرتغالية (كما في كلمة
church )، لذا قد ينطق الشخص البرتغالي الذي يتحدث بالإنجليزية كلمة
chicken (دجاجة)
shicken . ينطبق الأمر نفسه على الصوت الإنجليزي
th
الذي يستبدل به المتحدثون الفرنسيون الصوت
s
أو
z
أو
f
أو
v ، فينطقون كلمة
thanks (شكرا)
sanks . لاحظ أيضا أنه في حال وجود صوتين متشابهين في اللغة الثانية (أو الأضعف)، بينما يوجد في اللغة الأولى (الأقوى) صوت واحد فقط، فإن الشخص الثنائي اللغة قد يفشل في التمييز بينهما ويستخدم واحدا فقط، إلى حد ما بناء على لغته الأولى. وعليه، فإن الشخص الفرنسي قد يستخدم الحرف المتحرك نفسه عند نطق الكلمتين
hit (ضربة) و
heat (حرارة)، و
rim (إطار) و
ream (رزمة)، إلى آخره. وعلى مستوى الوزن، قد تصعب إجادة النبر الصحيح في الكلمات. فبدلا من النبر على المقطع الأول في كلمة
LI-brary ، قد ينطقها الشخص الفرنسي
LI-BRA-RY
بالنبر على جميع المقاطع. يظل من الممكن للمستمع الذي يتحدث بالإنجليزية فهم هذا النطق، لكن عند وضع النبر على مقطع خطأ بحيث تصبح المقاطع الأخرى ضعيفة، تحدث مشكلات في الفهم؛ على سبيل المثال: عند وضع النبر على المقطع الثاني في كلمة
e-DIN-burg
بدلا من
E-dinburgh .
يمكن أن توجد اللكنة أيضا بسبب تأثير اللغة الثانية على اللغة الأولى. قد يحدث هذا بعد الاستخدام المكثف للغة الثانية لسنوات عديدة، مع تقليل استخدام الأولى. قابلت ذات مرة سيدة فرنسية تعلمت الإنجليزية عندما جاءت إلى الولايات المتحدة مع زوجها، الذي التقت به في قاعدة عسكرية أمريكية في فرنسا. عاشت في منطقة وسط غرب الولايات المتحدة، بعيدا تماما عن أي شخص يتحدث بالفرنسية، وكانت نادرا ما تذهب إلى فرنسا. عندما التقيت بها، بعد ما يقرب من عشرين عاما، كانت تتحدث بالفرنسية بلكنة إنجليزية أمريكية واضحة؛ فكانت طريقة تنغيمها في اللغة الفرنسية تشبه تلك الخاصة بالإنجليزية، وكانت الحروف الساكنة الانفجارية لديها (
p
و
t
و
k ) تنطق بملء النفس ولم تعد تنطق بالطريقة الفرنسية، وهكذا. لقد كانت مدركة تماما لهذا التغير، وقضيت الجزء الأكبر من حوارنا أخبرها بأنه أمر طبيعي جدا أن تصبح لديها لكنة في الفرنسية، نظرا لظروف حياتها.
ماذا عن وجود لكنة في لغة ثالثة أو رابعة؟ ومن أين تأتي؟ في الواقع يعتمد هذا على وقت ومكان اكتساب هذه اللغة؛ على سبيل المثال: اكتسبت لغتي الإيطالية في فترة المراهقة عندما كانت الإنجليزية لغة قوية لدي (على الرغم من أنها ليست لغتي الأولى)، لذلك توجد لدي لكنة إنجليزية في لغتي الإيطالية . لو كنت قد اكتسبتها في وقت مبكر عن هذا، فلربما أصبحت لدي لكنة فرنسية فيها، أو ربما لم تصبح لدي لكنة فيها على الإطلاق. تجدر بنا أيضا ملاحظة أن الشخص الثنائي اللغة قد تصبح لديه لكنة في جميع لغاته؛ قد يحدث هذا، على سبيل المثال، عندما يقضي الشخص الثنائي اللغة سنوات طفولته في التنقل بين مجتمعين لغويين أو أكثر (على سبيل المثال: بين ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا). مرة أخرى أؤكد أنه لا عيب من امتلاك الأشخاص الثنائيي اللغة للكنات في كثير من اللغات، على الرغم من أنهم قد يشعرون بأنهم لا يتحدثون أيا من تلك اللغات على نحو صحيح. هذا خطأ بالطبع؛ فوجود لكنة ليس دليلا على مدى إجادة الشخص لإحدى اللغات.
لا يتفق الباحثون على الحد العمري الذي يحدد احتمال اكتساب المرء لكنة في لغته الثانية؛ فيقول البعض إن المرء قد لا تكون لديه لكنة في لغة ما إذا اكتسبها قبل سن السادسة، وإن الحد العمري (وهو ما يطلق عليه البعض «الفترة الحساسة») يمتد حتى سن الثانية عشرة.
1
مع ذلك يوجد كثير من الاستثناءات، منها ما يقال عن الأشخاص ذوي الهمم العالية (مثل معلمي اللغات)، الذين تعلموا اللغة في وقت متأخر لكنهم عوضوا هذا العيب بالتواصل المكثف مع متحدثين أصليين للغة، والبقاء فترات طويلة في الدولة الرئيسية التي تتحدث هذه اللغة، ودراسة صوتيات اللغة والنطق، إلى آخره؛ فأصبحوا مثل المتحدثين الأصليين لهذه اللغة.
2
أنا شخصيا أعرف أناسا ذهبوا إلى دول جديدة في سن الخامسة عشرة، أو ربما بعد ذلك، ولم تصبح لديهم لكنة أجنبية في لغة هذه الدولة، كما أنهم لم يبذلوا جهدا مضنيا للوصول إلى هذه الطلاقة، كما أخبروني. وعلى الرغم من هذه القصص، فإن التعلم المبكر (اكتساب لغة ثانية أو ثالثة في مرحلة مبكرة من الطفولة، واستخدامها على نحو مكثف) يضمن التحدث «دون لكنة». (أنا أضع «دون لكنة» بين علامتي اقتباس لأن الكلام كله لا يخلو من اللكنات، وفقا لتعريفه، لكن ليس اللكنة بالمعنى المستخدم هنا.) (2) عيوب ومميزات امتلاك لكنة
ما هي العيوب المتداولة لامتلاك لكنة في لغة ما؟ إن أكثر عيب متداول هو أنها تجعل المرء ينفصل عن الآخرين بينما يريد أن يفعل العكس تماما، وهو أن يندمج معهم. كتبت إيفا هوفمان، مؤلفة كتاب «فقد في الترجمة» الشهير للغاية، عن تجربتها في الحديث بلكنة في سنوات المراهقة قائلة:
يتهمني بعض أقراني في المدرسة الثانوية باستخدام هذه اللكنة حتى أبدو أكثر «إثارة للاهتمام». في الحقيقة، أنا مستعدة لفعل أي شيء للتخلص منها، وعندما أكون وحدي أتدرب على الأصوات التي لا أستطيع إنتاجها بأعضاء الكلام، مثل الصوت
th (أفعل هذا عن طريق وضع لساني بين أسناني)، والصوت
a
الذي يكون أطول وينطق بفتح الفم أكثر في اللغة البولندية (عن طريق فتح فمي وكأنني أبتسم ابتسامة عريضة).
3
في حالة البالغين، إذا كانت لكنة المرء قوية، ولا يميل المجتمع إلى التعامل على نحو إيجابي مع المجموعة التي ينتمي إليها هذا الفرد، فإن اللكنة قد يكون لها تأثير سلبي على طريقة النظر إليه ومعاملته. يقدم لنا أستاذ علم الاجتماع جيمس بوسارد المثال التالي:
عمل بنجامين مندوب مبيعات متنقلا. لقد تربى في منزل يتحدث باللغة اليديشية، فأصبح يتحدث باللغة الإنجليزية حاليا بلكنة يديشية واضحة. ويقول بنجامين إن هذه الحقيقة تعيقه في عملية البيع، خاصة في أماكن معينة من الدولة التي يعيش فيها الآن.
4
قد يعطي أيضا امتلاك لكنة انطباعا خاطئا بأن المتحدث لا يعرف اللغة، في حين أنه يعرفها بالفعل، حتى إن هذه المعرفة تكون في بعض الأحيان جيدة للغاية. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون اللكنة إشارة إلى أن المتحدث لم يبذل مجهودا كافيا لتعلم اللغة، بينما في الواقع تكون هذه اللكنة نتيجة عوامل عصبية عضلية وليس نقصا في المجهود المبذول في تعلم اللغة. وأخيرا، في المعتاد لا يعيق امتلاك لكنة عملية التواصل، لكن من حين لآخر قد يلتقي المرء بشخص لديه لكنة واضحة في إحدى لغاته، بحيث يبدو أنه يتحدث لغة أخرى. يتأثر وضوح الكلام كثيرا، على الرغم من أن هذا الشخص قد يتحدث هذه اللغة بطلاقة عالية؛ على سبيل المثال: عندما يحدث هذا في الحوار، فإن المرء عادة ما يعثر على طرق لفهم ما يقال. وإذا لم يكن هذا ممكنا، فإنه يمكن للمرء تقصير فترة التواصل (بأكبر قدر ممكن من الذوق)، ولحسن الحظ هذه الحالات نادرة نسبيا.
قد تبدو اللكنة أمرا غريبا أو مفاجئا عندما لا يتماشى اسم المرء مع لكنته؛ على سبيل المثال: في سويسرا، يمكن لشخص يبدو اسمه فرنسيا جدا مثل جان-فرانسوا جينيار أن يتحدث بالفرنسية بلكنة ألمانية. قد يكون هذا ببساطة نتيجة لانتقاله هو ووالديه (لنقل مثلا إن والده يتحدث بالفرنسية السويسرية، ووالدته بالألمانية السويسرية) إلى الجزء الألماني من سويسرا عندما كان طفلا صغيرا، واكتسب اللغة الفرنسية في وقت متأخر من حياته. قد يصاب الناس بالدهشة من لكنته، ويتساءلون عن سبب وجودها لديه، لكنها لا تصبح مثيرة للدهشة عندما تعرف قصته بأكملها. أحد العيوب الأخرى للكنات التي ذكرها كثير من الناس، أن الضغط العصبي والتأثر العاطفي قد يجعلان اللكنة تظهر مرة أخرى أو تزيد حدتها؛ فتقول المؤلفة الكندية الفرنسية الثنائية اللغة نانسي هيوستن إن لكنتها الإنجليزية في اللغة الفرنسية تصبح أقوى عندما تكون عصبية، أو عندما تتحدث إلى الغرباء، أو عندما تريد ترك رسالة على جهاز الرد الآلي في الهاتف، أو عندما يتحتم عليها الحديث على الملأ.
5
بالطبع توجد مميزات أيضا لامتلاك لكنة؛ إحداها أن اللكنة قد ينظر إليها على نحو إيجابي من قبل شخص أو مجموعة ما. تقول هيوستن:
عندما أدرك وجود طريقة تنغيم أجنبية، يثار اهتمامي وتعاطفي على الفور. فحتى إن لم يكن لي تواصل مباشر مع الشخص المعني، فإنني أنصت بإمعان عندما أسمع لكنته، وأدرسها دون تطفل، محاولة تخيل الجانب الآخر البعيد من حياته.
6
توجد لدى توني بلير رئيس الوزراء الأسبق في المملكة المتحدة لكنة إنجليزية واضحة في لغته الفرنسية، لكن الفرنسيين كانوا يحبون الاستماع إلى هذه اللكنة عندما كان يلقي خطابات بلغتهم، خاصة أنه كان يجعلهم دوما يضحكون بحسه الفكاهي البريطاني، بما فيه من سخرية وتورية وأسلوب الوجه الذي يخلو من التعبيرات. استغل كثير من الفنانين لكنتهم في استمالة جمهورهم، مثل المغني الفرنسي موريس شيفالييه والممثل الإيطالي روبيرتو بينيني عند التمثيل بالإنجليزية، والمغنيتين البريطانيتين بيتولا كلارك وجين بيركين عند الغناء بالفرنسية. أعرف أيضا حالات كانت فيها اللكنة عاملا رئيسيا في وقوع شخص ما في حب شخص آخر (على الرغم من أنها لم تكن العامل الوحيد، بحسب اعتقادي).
توجد ميزة أخرى أقل رومانسية لوجود لكنة لدى المرء، وهي أنها تشير بوضوح إلى انتمائه إلى مجموعته؛ على سبيل المثال: عندما يتحدث شخص سويسري من الجزء المتحدث بالفرنسية في سويسرا اللغة الألمانية بلكنة فرنسية، فإن هذا يعبر - دون وعي - عن المجموعة التي ينتمي إليها. لا يريد بعض الناس أن يظهروا كأنهم منتمون للمجموعة اللغوية الأخرى، ويستخدمون عن قصد لكنتهم كإشارة على عضويتهم لمجموعتهم الأصلية. كتبت إليزابيث بوجور، الخبيرة في الكتاب الثنائيي اللغة، أن الكاتبة الفرنسية الروسية الأصل إلزا تريوليه كانت لديها لكنة روسية واضحة في لغتها الفرنسية كانت تحرجها، ومع ذلك احتفظت بها، وتقول بوجور إن هذه اللكنة كانت تستخدمها في إظهار أنها ما زالت محتفظة بولائها للغة الروسية، لغتها الأولى.
7
أخيرا، قد يكون وجود لكنة أمرا لحماية الذات؛ فهو يمنع أعضاء المجموعة التي تتواصل معها من توقع أنك تعرف كل قواعد المجموعة الثقافية والاجتماعية. باختصار، هي تسمح لك بأن تكون مختلفا.
8
خلاصة القول، أن وجود لكنة لدى شخص يعرف لغتين أو أكثر ويستخدمهما هو إحدى حقائق الحياة؛ فاللكنة لا تقلل من كون المرء ثنائي اللغة، ونادرا ما تعيق عملية التواصل. فهي أمر اعتاد عليه الأشخاص الثنائيو اللغة، وكذا الذين يتعاملون معهم.
الفصل الثامن
تطور اللغات عند الشخص الثنائي اللغة على مدى
حياته
شكل 8-1: ازدهار اللغات وضعفها لدى شخص ثنائي اللغة. يتدرج محور استخدام اللغة من عدم استخدامها على الإطلاق (في الأسفل) إلى استخدامها يوميا (في الأعلى)، ويتدرج محور الطلاقة اللغوية من منخفضة (على اليسار) إلى عالية (على اليمين). إن اللغات المقصودة هنا هي: الفرنسية (اللغة الأولى)، والإنجليزية (الثانية)، والإيطالية (الثالثة)، ولغة الإشارة الأمريكية (الرابعة).
أكدت في الفصل الثاني على أهمية وضع التاريخ اللغوي للأشخاص الثنائيي اللغة في الاعتبار. فمن أجل فهم معرفة الشخص الثنائي اللغة بما لديه من لغات واستخدامه لها، لا بد أن نعرف، مثلا، اللغات والمهارات اللغوية التي اكتسبها، بالإضافة إلى وقت وكيفية اكتسابها؛ فهل اكتسب هذه اللغات كلها في وقت واحد - وهو أمر نادر جدا - أم أنه اكتسبها واحدة تلو الأخرى؟ يجب أن نعرف أيضا نمط الطلاقة اللغوية واستخدامها على مر السنين. ومن ثم تكون دراسة ازدهار اللغات وضعفها على مدى حياة الفرد، التي قد تشتمل تعلم لغات جديدة ونسيان لغات قديمة، جزءا مهما للغاية في فهم الشخص الثنائي اللغة. (1) ازدهار اللغات وضعفها
من أجل توضيح التاريخ اللغوي للأشخاص الثنائيي اللغة، سأقدم حالتي كمثال على هذا، حيث إنها ستسمح لنا برؤية كيف أن ازدهار اللغات وضعفها عملية ديناميكية، وكيف أن عملية سيادة إحدى اللغات قد تتغير بمرور الوقت، وأن التاريخ اللغوي للشخص الثنائي اللغة يمكن أن يكون معقدا إلى حد كبير. أعرض في الشكل
8-1
شبكات خماسية لاستخدام اللغة والطلاقة اللغوية بناء على الشكل الموجود في الفصل الثاني. تذكر أن استخدام اللغة معروض بطول المحور الرأسي في تسلسل يبدأ من عدم الاستخدام على الإطلاق في الأسفل، وحتى الاستخدام اليومي في القمة. وتعرض الطلاقة اللغوية بطول المحور الأفقي بداية من الطلاقة المنخفضة على اليسار، وحتى الطلاقة العالية على اليمين. تعبر كل شبكة، فيما عدا الأخيرة، عن وضع لغاتي قبل سنة من حدوث تغيير لغوي كبير. إن اللغات التي أتحدث عنها هي: الفرنسية (اللغة الأولى)، والإنجليزية (اللغة الثانية)، والإيطالية (اللغة الثالثة)، ولغة الإشارة الأمريكية (اللغة الرابعة).
في الشبكة الأولى، نرى أني في سنوات عمري الأولى (في سن السابعة) كنت أحادي اللغة في اللغة الفرنسية (اللغة الأولى). إنها اللغة الوحيدة الموجودة في الشبكة، وهي توجد في المربع العلوي على اليمين؛ ما يعبر عن استخدامها يوميا وبطلاقة عالية (بالنسبة إلى طفل في هذا العمر بالطبع). وفي سن الثامنة التحقت بمدرسة داخلية إنجليزية في سويسرا، ثم التحقت بمدرسة مماثلة في إنجلترا؛ ومن هنا ظهرت اللغة الإنجليزية (اللغة الثانية) في الشبكة الثانية، والتي أصبحت سريعا لغتي الأقوى. اكتسبت اللغة الإيطالية أيضا خلال الشهور التي قضيتها في إيطاليا في الإجازات المدرسية؛ لذا نرى في الشبكة الثانية (سن السابعة عشرة) أن الإنجليزية هي أكثر لغة مستخدمة وأكثر لغة أجيدها. نادرا ما كنت أستخدم اللغة الفرنسية في هذا الوقت، وكان مستوى طلاقتي فيها متوسطا؛ فقد كنت أستخدم الإيطالية أكثر من الفرنسية، لكني لم أكن أجيد الإيطالية بالقدر نفسه الذي أجيد به الفرنسية.
في سن الثامنة عشرة تعرضت لثاني أكبر تغير لغوي في حياتي؛ فقد تركت إنجلترا وعدت إلى فرنسا بعد غياب دام عشر سنوات، وبين عشية وضحاها أصبحت اللغة الفرنسية أهم لغة بالنسبة إلي (على الرغم من مرور عدة سنوات حتى تحسن مستوى طلاقتي فيها)، وأصبحت الإنجليزية أقل استخداما؛ لذا نرى في الشبكة الثالثة (سن السابعة والعشرين) أن اللغة الفرنسية عادت مرة أخرى إلى المربع الأيمن العلوي، وانخفضت اللغة الإنجليزية في مستوى الطلاقة والاستخدام على وجه الخصوص. أما فيما يتعلق باللغة الإيطالية، فلم تكن مستخدمة على الإطلاق؛ ومن ثم انخفض أيضا مستوى طلاقتي فيها.
حدث تغيران لغويان آخران في حياتي بعد هذا. عندما كنت في الثامنة والعشرين انتقلت مع أسرتي إلى الولايات المتحدة لنقيم فيها سنة، وانتهى الأمر بإقامتنا فيها اثني عشر عاما. تظهر الشبكة الرابعة (في سن التاسعة والثلاثين) حالتي اللغوية في نهاية هذه الفترة، قبل عودتي مباشرة إلى أوروبا. عادت الإنجليزية مرة أخرى إلى وضعها في المربع العلوي الأيمن، وانخفضت الفرنسية قليلا في مستوى الطلاقة وانخفض استخدامها أكثر، وظلت الإيطالية في مكانها. في خلال هذه الفترة، حصلت على ميزة اكتشاف لغة مميزة وتعلمها، وهي لغة الإشارة الأمريكية، وهي اللغة التي يستخدمها الصم في الولايات المتحدة من أجل التواصل فيما بينهم، ومع أعضاء مجتمع لغة الإشارة في العالم أجمع. مع الأسف لم يصبح مستوى طلاقتي في لغة الإشارة الأمريكية عاليا قط، ولم أستخدمها كثيرا (في العمل غالبا)، وهو ما يفسر موقعها على اليسار في أسفل الشبكة.
وأخيرا، عندما أصبحت في الأربعين من عمري، عدت إلى أوروبا مع أسرتي (إلى المنطقة التي تتحدث بالفرنسية في سويسرا)، ومرة أخرى تغير ترتيب اللغات. تعبر الشبكة الأخيرة، التي توضح وضع لغاتي منذ بضع سنوات (سن الستين)، عن حالتي اللغوية الحالية؛ إذ أصبح مستوى طلاقتي عاليا في لغتين، هما الفرنسية والإنجليزية، وتستخدم الأولى أكثر بقليل من الثانية، وتوجد لغتان لا أستخدمهما على الإطلاق، هما الإيطالية ولغة الإشارة الأمريكية، ويزيد مستوى طلاقتي قليلا في الإيطالية عنه في لغة الإشارة الأمريكية.
يمكن للقارئ الثنائي اللغة المهتم أن يمسك بقلم تلوين ويظلل المربعات في الشبكات الموجودة في الشكل
8-1 ؛ ليعبر عن اللحظات التي سبقت التغيرات الكبرى في تاريخه اللغوي. يمكن للمرء أيضا أن يحدد مستوى الطلاقة لكل من المهارات اللغوية (التحدث والاستماع والقراءة والكتابة) ومدى استخدامها في كل مرحلة، وهذا يتطلب ملء أربع شبكات في كل مرحلة.
توجد بعض التعليقات العامة التي يمكن استنتاجها من تاريخي اللغوي. (لقد حافظت على التعامل مع الأمر كحقائق من أجل شرح المراد من هذا الفصل، لكنها بالطبع كانت تجربة إنسانية للغاية بكل تقلباتها، خاصة في سن الثامنة عشرة، لكن هذه قصة أخرى.) أولا: وكما يمكن أن نلاحظ، قد يكون التاريخ اللغوي للفرد شديد التعقيد؛ وفي حالتي نتج هذا عن الهجرات المتكررة. وقد يكون التاريخ اللغوي لآخرين من الأشخاص الثنائيي اللغة أكثر بساطة من هذا (على سبيل المثال: الذين يعيشون على حدود لغوية أو في دول متعددة اللغات)، لكن مع هذا قد تغير الأحداث الحياتية الأهمية النسبية للغاتهم؛ أحداث مثل الالتحاق بالمدرسة (وتعلم القراءة والكتابة بلغة واحدة أو عدة لغات)، أو الحصول على وظيفة، أو الاستقرار مع شريك الحياة، أو فقدان أحد أفراد الأسرة المقربين الذي كنت تستخدم معه فقط إحدى اللغات.
ثانيا: نرى أن هذه عملية ديناميكية تتطلب فيها المواقف الجديدة وأطراف الحوار الجدد والوظائف اللغوية الجديدة احتياجات لغوية جديدة (تذكر مبدأ التكامل). فالاحتياجات الجديدة ستغير التكوين اللغوي للشخص الثنائي اللغة. عادة توجد فترات من الاستقرار، تتفاوت مدتها، ثم تأتي فترات من إعادة الترتيب اللغوي قد تقوى خلالها إحدى اللغات الموجودة، وربما تفقد لغة أخرى أهميتها، بينما قد تكتسب لغة جديدة، وهكذا. ويجب أن ينتبه المرء إلى عدم الحكم على الثنائية اللغوية للفرد في أثناء هذه الفترات الانتقالية؛ إذ قد لا تكون المهارات اللازمة للبيئة الجديدة قد تطورت بعد بالكامل. وفي خلال هذه الفترات أيضا يحتاج الأشخاص الثنائيو اللغة إلى التأكد مما يحدث لهم؛ فحتى إن تأثر مستوى التواصل العام لديهم لبعض الوقت، فإنه سيتعافى بمجرد إعادة ترتيب لغاتهم.
ثالثا: تظهر الشبكات الموجودة في الشكل بوضوح كيف يمكن أن تتغير السيادة العامة لإحدى اللغات، وأن اللغة الأولى للأشخاص الثنائيي اللغة لا تكون تلقائيا اللغة الأقوى في نقطة زمنية معينة. في حالتي تغيرت اللغة السائدة أربع مرات وكانت توجد فترتان، تبلغ كل منهما نحو عشر سنوات، أصبحت فيهما لغتي الثانية هي اللغة السائدة. وأنا أعرف كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة الذين بدءوا حياتهم بلغة واحدة هي اللغة السائدة لديهم، ثم في نقطة معينة، بعد إحدى المراحل الانتقالية، وجدوا أن لغتهم الثانية قد حلت محلها. ومن ثم، يجب أن ينتبه المرء إلى عدم اعتبار اللغة الأولى للأشخاص الثنائيي اللغة، أو لغتهم الأم، هي اللغة الأقوى والأساسية؛ فالأمر يعتمد في الحقيقة على التاريخ اللغوي للفرد، وعلى مبدأ التكامل، كما رأينا. وأخيرا، تساعد دراسة التاريخ اللغوي للأشخاص الثنائيي اللغة على التصدي لفكرة خاطئة أخرى، وهي:
خرافة: يكتسب الأشخاص الثنائيو اللغة الحقيقيون ما لديهم من لغتين أو أكثر في مرحلة الطفولة
يمكن أن يصبح المرء ثنائي اللغة في مرحلة الطفولة، لكن يمكنه أيضا أن يصبح كذلك في مرحلة المراهقة وعندما يصير بالغا. في الواقع يصبح كثير من الناس ثنائيي اللغة عندما يصبحون بالغين، بعد هجرتهم إلى منطقة أخرى أو دولة أخرى، أو بسبب زواجهم من شخص يتحدث لغة أخرى تصبح هي المستخدمة في المنزل . بمرور الوقت، يمكن أن يصبح البالغون ثنائيي اللغة تماما مثل الذين يكتسبون لغاتهم في سنوات عمرهم الأولى، على الرغم من أن بعضهم قد يفتقر إلى لكنة المتحدثين الأصليين لهذه اللغات. (2) نسيان اللغة
قد تمثل التغيرات التي تحدث في حياة ثنائيي اللغة، مثل الهجرة أو فقدان أحد أفراد الأسرة، بداية لما يشار إليه أحيانا باسم «فقدان اللغة» أو «تآكل اللغة». سأستخدم التعبير الأكثر شهرة «نسيان اللغة»، حتى إذا كان من غير الواضح معرفة ما إذا كانت اللغة تنسى بالفعل أم أنها ببساطة تعطل بحيث لا يستطيع المرء استخدامها على نحو صحيح. قدمت الباحثة اللغوية ليندا جالوواي في إحدى دراساتها مثالا جيدا للغاية عن شخص يتحدث سبع لغات؛ خمسا منها كانت في طريقها إلى أن تنسى في وقت إجراء الدارسة. تعلم هذا الشخص أولا اللغة المجرية، ثم البولندية في سن الرابعة عندما انتقل إلى بولندا؛ ويبدو أنه «فقد» لغته المجرية في هذا الوقت، حتى عاد إلى المجر مرة أخرى في سن السادسة. انتقل في سن العاشرة إلى رومانيا حيث تعلم اللغة الرومانية، في المدرسة ومع أصدقائه، واللغة اليديشية، التي كانت تستخدم في المجتمع. عاد إلى المجر مرة أخرى في سن الثانية عشرة، حيث تعلم في المدرسة الألمانية والإنجليزية والعبرية. قضى بعد ذلك ست سنوات في ألمانيا، حيث التحق بالجامعة وأصبحت الألمانية هي لغته الأساسية. وفي سن الخامسة والعشرين تركها وذهب إلى الولايات المتحدة، حيث أصبحت الإنجليزية هي لغته الأساسية. تزوج هذا الشخص من سيدة مجرية لكنهما يستخدمان الإنجليزية على نحو أساسي في المنزل. عندما التقت جالوواي بهذا الشخص، كان يستخدم فعليا لغتين فقط، هما الإنجليزية والمجرية، وكانت لديه ثلاث لغات خاملة، كانت في سبيلها للنسيان، وهي الألمانية والعبرية واليديشية، ولغتان نسيهما بالفعل، وهما الرومانية والبولندية.
1
إن نسيان اللغة ظاهرة شائعة للغاية مثل تعلم اللغة، ومع ذلك لم تحظ في الماضي إلا باهتمام قليل. إلا أن هذا الوضع يتغير حاليا بفضل أبحاث باحثين مثل مونيكا شميد وباربرا كوبكه وكيس دي بوت، وغيرهم. فعندما تقل مجالات استخدام إحدى اللغات على نحو كبير، إن لم تختف ببساطة، فإن عملية نسيان اللغة ستبدأ، وستستمر على مدى عدة سنوات. يمكن ملاحظة هذه العملية بطرق شتى؛ في الاستخدام المتردد للغة عندما يبحث ثنائي اللغة عن الكلمات أو التعبيرات المناسبة، وفي تكرار حالات التبديل اللغوي والاقتباس والتداخل واستدعائه للغة السائدة لمساعدته، وفي النطق (الأصوات والنبر) الذي يميز بشدة اللغة أو اللغات الأخرى، وفي التعبيرات والتراكيب النحوية «الغريبة» المقتبسة من اللغة الأقوى، بالإضافة إلى كثير من الصعوبات في الكتابة، ليس فقط في التهجئة، ولكن أيضا على المستويات اللغوية الأخرى. لا يتأثر فهم اللغة كثيرا، على الرغم من أن الفرد قد لا يكون على دراية بالكلمات الجديدة والتعبيرات الدارجة في اللغة المنسية. يطلق على الأشخاص الذين يخوضون عملية نسيان اللغة الممتدة هذه، والذين يستخدمون لغة واحدة فقط؛ اسم «الثنائيي اللغة الخاملين». فهم عادة ما يتجنبون استخدام اللغة التي هي في طريقها للنسيان؛ لأنهم لم يعودوا يثقون في معرفتهم بها، ولا يريدون ارتكاب الكثير من الأخطاء. وإذا تحتم عليهم استخدامها، فإنهم قد يختصرون الحوار حتى لا يضطروا إلى إظهار مقدار التآكل الذي وصلت إليه تلك اللغة لديهم صراحة. أنا شخصيا أحاول ألا أستخدم اللغة الإيطالية أو لغة الإشارة الأمريكية، وإذا وجدت نفسي في موقف لا يوجد فيه أي خيار آخر أمامي، فإني أجد نفسي أعاني من أجل التعبير حتى عن أبسط الأشياء؛ فأعتذر طوال الوقت، وأعلق على مدى سوء معرفتي بإحدى اللغات، وأرتكز متى استطعت على لغتي الأخرى، أو أطلب من الناس مساعدتي.
على الرغم من أن الناس تشغلهم أمورهم الحياتية، ولا يسعهم التوقف والقلق بشأن اللغة التي ينسونها؛ فإنهم في سياقات معينة، مثلا عند التحدث مع أناس يتكلمون هذه اللغة، يدركون هذه اللغة «المفقودة»، ويشعر البعض بالذنب تجاه نسيانها؛ ومن ثم نجد تعليقات مثل: «كان يجب علي بالفعل الحفاظ على هذه اللغة»، أو «أتمنى لو كنت أتحدث هذه اللغة كما كنت من قبل.» مع هذا، يجب أن نضع في أذهاننا أن نسيان اللغة هو ببساطة الوجه الآخر لاكتسابها (فكلاهما تحكمه شدة الحاجة إلى إحدى اللغات)، وهما من الأمور اللغوية المثيرة للاهتمام. إلا أن المواقف من كل منهما مختلفة للغاية؛ فبينما ينظر الناس إلى اكتساب اللغة نظرة إيجابية («أوه، إنك تتعلم الإسبانية، هذا رائع»)، فإن نسيان اللغة لا يتحدث عنه الناس بالطريقة نفسها، وعادة ما يتعرض الذين يفقدون إحدى اللغات إلى الشعور بالذنب، إن لم يكن الندم. وربما تزيد حدة هذه المشاعر إذا كان اسم الشخص مرتبطا باللغة التي ينساها؛ ومن ثم، فإن الشخص الأمريكي من أصل إيطالي ذا الاسم الإيطالي، قد يجد نفسه مطالبا بشرح أسباب ضياع لغته الإيطالية التي لم يعد يستخدمها على الإطلاق، والتحسر على ذلك.
عادة ما تكون عملية فقدان اللغة بطيئة إلى حد ما، لكن قد يبالغ ثنائيو اللغة أحيانا في تقدير «الضرر» الملاحظ من جراء ذلك؛ لأن الانطباع الذي يتركه يكون مزعجا للغاية. ففي أحد كتبها، حللت المؤلفة نانسي هيوستن وضع لغتها الإنجليزية عقب انتقالها من كندا إلى فرنسا بعشر سنوات، حيث أصبحت اللغة الفرنسية لغتها السائدة؛ فكتبت تقول إنها كانت تشعر بالخوف من اضمحلال لغتها الأم؛ إذ قلت مفرداتها فيها إلى حد كبير، على حد قولها، وعند قراءتها فقط لأعمال شكسبير أو جويس أو جونا بارنز كانت تكتشف من جديد مئات الكلمات التي لم تعد تستخدمها ضمن مفرداتها؛ فاستنتجت من ذلك أنها، بعيدا عن كونها أصبحت «ثنائية اللغة تماما»، كانت تشعر شعورا مضاعفا بأنها «نصف لغوية».
2
بالطبع، على الرغم من أن هيوستن كانت تمر بفترة تسيطر فيها اللغة الفرنسية في هذا الوقت، فإنها لم تكن على الإطلاق نصف لغوية، حتى إن كانت تشعر بأن هذه هي الحقيقة؛ فهذا هو الانطباع الذي يوجد لدى كثيرين عندما يرون أن إحدى لغاتهم «تضمحل». بعد بضع سنوات، بدأت هيوستن في تأليف روايات بالإنجليزية (فقد كانت كتبها الأولى بالفرنسية)، ومنذ ذلك الحين أصبحت أحد الأشخاص الثنائيي اللغة الاستثنائيين الذين يكتبون أعمالا نثرية بكلتا لغتيهم. (3) الثنائية اللغوية وكبار السن
مع مرور السنين، يسأل ثنائيو اللغة أنفسهم أحيانا عما سيكون عليه وضع معرفتهم واستخدامهم اللغويين عند تقدمهم في العمر، خاصة في لغتهم الثانية، التي قد تصبح وسيلة تواصلهم اليومي. تزوجت نانسي هيوستن من شخص ثنائي اللغة بلغاري فرنسي، ويستخدمان اللغة الفرنسية، لغة كل منهما الثانية، كلغة مشتركة فيما بينهما. تطرح هيوستن السؤال التالي بطريقة مخيفة لكن مؤثرة في الوقت نفسه:
نشعر أحيانا بالخوف من فكرة الإصابة بما يشبه التوحد في كبرنا؛ ففي البداية، سنفقد لغتنا الثانية تدريجيا وتمتلئ جملنا بأماكن فارغة: «هل يمكنك أن تحضر لي ال ...؟ أتعلم هذا الشيء المتدلي من ال ... في ال ...؟!» ... وفي النهاية، عندما تمحى الفرنسية تماما من ذاكرتينا، سنجلس على كرسيينا الهزازين من الفجر حتى الغسق، نتحدث بكلام غير مفهوم بلغة كل منا الأم.
3
يطمئن روبرت شروف - أحد خبراء التقدم في السن لدى الأشخاص الثنائيي اللغة والثنائيي الثقافة - كل من يعيشون بلغتين أو أكثر، بأن احتمال اقترابنا بأي شكل من وصف هيوستن قليل للغاية. لا يمكن إنكار أن التقدم في العمر له تأثير على فهم اللغة (فهو يضعف تمييز الكلام، ويزيد صعوبة فهم الكلام المعقد أو السريع، ويقلل إمكانية تخزين المعلومات المكتسبة)، وعلى إنتاج اللغة (فيواجه المرء صعوبات في العثور على الكلمة المناسبة، خاصة أسماء الأعلام)، لكن ينطبق هذا على كل من الأشخاص الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة. يقول شروف بوضوح شديد إن الأشخاص الثنائيي اللغة الكبار السن يواجهون نوع القصور نفسه في المعالجة المرتبطة بالتقدم في العمر الذي يتعرض له أحاديو اللغة، على الرغم من إضافته أن ثمة معلومات قليلة موجودة عن الأشخاص الثنائيي اللغة الذين لديهم لغة واحدة سائدة.
4
ظهرت مؤخرا دراستان تشيران، على العكس، إلى أن الأشخاص الثنائيي اللغة من كبار السن يجب ألا يقلقوا من اختلاف وضعهم عن نظرائهم من الأشخاص الأحاديي اللغة. ففي الدراسة الأولى، درست الاختصاصية الكندية في الإدراك المعرفي للأشخاص الثنائيي اللغة، إلين بياليستوك، وزملاؤها، ضبط الاستجابة لدى كل من الأشخاص الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة في أعمار مختلفة، باستخدام ما يعرف باسم مهمة سايمون. كانت أعمار العينة الكبيرة السن، التي تعنينا في هذا المقام، تتراوح بين الستين والثمانين، وطلب من هؤلاء النظر إلى شاشة الكمبيوتر والضغط على المفتاح المكتوب عليه الحرف
X
عند رؤيتهم لمربع أحمر، والمفتاح
O
عند رؤية مربع أزرق. كانت المربعات تظهر إما على الجانب الأيسر وإما على الجانب الأيمن للشاشة. في التجارب التوافقية كان المربع الأحمر يظهر فوق المفتاح
X ، والمربع الأزرق فوق المفتاح
O ؛ وفي التجارب غير التوافقية كان المربع الأحمر يظهر فوق المفتاح
O ، والمربع الأزرق فوق المفتاح
X . أظهرت الدراسة نتائج مشابهة لتأثير التوافق المثبت جيدا؛ فقد كان المشاركون أسرع في الاستجابة عندما كان المربع الملون يظهر على نفس جانب المفتاح المقابل له (على سبيل المثال: عندما ظهر المربع الأحمر على نفس جانب المفتاح
X )، وأبطأ في الاستجابة عندما لم يكن المربع الملون والمفتاح المقابل على الجانب نفسه. يعرف هذا باسم تأثير سايمون. مع ذلك، فإن الأكثر إثارة للاهتمام أن المشاركين الثنائيي اللغة في المجموعة الأكبر سنا كانوا أسرع من نظائرهم في مجموعة مشابهة أحادية اللغة، في كل من التجارب التوافقية وغير التوافقية.
5
وفي دراسة ضابطة، استبعد الباحثون احتمال كون الاختلاف في السرعة نتيجة للاختلافات الأساسية بين المجموعتين.
يتمثل تفسير الباحثين للميزة الموجودة لدى الأشخاص الثنائيي اللغة الكبار السن، في أن الحاجة إلى إدارة نظامين لغويين مفعلين في وقت واحد، والتلاعب بالانتباه بحيث يوجه لإحدى اللغتين، أو لكلتيهما، خلال عملية استخدام اللغة، تسد باستخدام الوظائف التنفيذية (الإدراكية) العامة نفسها المسئولة عن توجيه الانتباه إلى أية مجموعة من النظم أو المثيرات. بعبارة أخرى، إن قضاء فترة طويلة في القيام بأنشطة مثل اختيار اللغة، الذي يجبر الأشخاص الثنائيي اللغة على تفعيل إحدى اللغات وعدم تفعيل اللغة الأخرى (أو حتى ربما كبحها)، على الأقل في الوضع الأحادي اللغة، قد أعطاهم ميزة الانتباه في أنواع المهام التي تتطلب من المرء الانتباه إلى إحدى الإشارات (لون المربع) دون الأخرى (موقعه على الشاشة). يبدو أن الأشخاص الثنائيي اللغة لديهم أفضلية في هذا الشأن، ويمكن ملاحظة هذا في الأطفال الثنائيي اللغة أيضا (الذين سنتحدث عنهم في الجزء الثاني من هذا الكتاب).
حظيت الدراسة الثانية، التي أجرتها أيضا إلين بياليستوك وزملاؤها، بمزيد من الاهتمام في الصحف؛ إذ إنها توضح أن الثنائية اللغوية قد تؤخر الإصابة بالخرف في الشيخوخة. والخرف هو مصطلح عام متعلق بالاضطرابات المعرفية التي تؤثر على الذاكرة، واللغة، والمهارات الحركية والمكانية، وحل المشكلات، والانتباه. إن مرض ألزهايمر هو أحد الأسباب الشائعة للخرف، ومن بين الأسباب الأخرى إصابات المخ وأورام المخ، إلى آخره. درس الباحثون 184 مريضا شخصت حالتهم بأن لديهم خرفا، وكان 51 في المائة منهم ثنائيي اللغة. كان الأشخاص الثنائيو اللغة هؤلاء يجيدون الإنجليزية (لغة الأشخاص الأحاديي اللغة)، بالإضافة إلى لغة أخرى (إجمالا، وصل عدد هذه اللغات إلى 25 لغة مختلفة). قضى الأشخاص الثنائيو اللغة هؤلاء معظم حياتهم، على الأقل منذ أوائل مرحلة البلوغ، وهم يستخدمون كلتا اللغتين بانتظام. عندما قارن الباحثون العمر الذي بدأت أعراض الخرف تظهر فيه لدى المجموعتين، وجدوا أن متوسط عمر بدء الأعراض لدى الأشخاص الثنائيي اللغة كان بعد نظيره لدى الأشخاص الأحاديي اللغة بنحو 4,1 سنوات (في سن 75,5 في مقابل 71,4). قال الباحثون، مرة أخرى، إن الضبط الانتباهي الذي يستخدمه الأشخاص الثنائيو اللغة للتحكم في لغاتهم؛ من اختيار إحدى اللغتين أو كلتيهما، وقمع إحداهما مع تفعيل الأخرى (على الأقل عند التواصل في وضع أحادي اللغة)، يرتبط بأنشطة ذهنية أخرى معقدة يبدو أنها تقي من الإصابة بالخرف. واستنتجوا مبدئيا (فما زالت هذه الاكتشافات حديثة) أنه بينما لا يبدو أن الثنائية اللغوية تؤثر في تراكم العوامل المرضية التي ترتبط بالخرف، يبدو أنها تمكن المخ من تحمل العوامل المرضية المتراكمة على نحو أفضل.
6
يبدو أن التقدم في العمر بالنسبة إلى الأشخاص الثنائيي اللغة يختلف تماما عن الأشخاص الأحاديي اللغة، بكل ما فيه من مميزات وعيوب، ويبدو، مع ذلك، أن الأشخاص الثنائيي اللغة لديهم بعض المميزات المعرفية الإضافية في صالحهم.
الفصل التاسع
المواقف والمشاعر تجاه الثنائية اللغوية
يوجد لدى كل شخص تقريبا تعليق ما على الثنائية اللغوية. إليك مقتطفات من آراء ثلاثة من الأشخاص الثنائيي اللغة:
ثنائي اللغة في الهولندية والإنجليزية: «تمكنك الثنائية اللغوية من التواصل مع أشخاص من دول مختلفة.»
ثنائي اللغة في لغة الإشارة الأمريكية واللغة الإنجليزية: «تعطيك الثنائية اللغوية وجهة نظر مزدوجة عن العالم.»
ثلاثي اللغة في الألمانية والفرنسية والإنجليزية: «توجد لدي ميزة القدرة على قراءة كتب متنوعة أكثر، وعلى السفر، وعلى التحدث مع الناس مباشرة.»
1
سنبدأ بتناول وجهات نظر الأشخاص الثنائيي اللغة عن أنفسهم (الإيجابية والسلبية)، ثم ننتقل إلى نظرة الأشخاص الأحاديي اللغة إلى الثنائيي اللغة. (1) مميزات الثنائية اللغوية في نظر الأشخاص الثنائيي اللغة
إحدى المميزات الكبرى التي يعبر عنها دوما قدرة الأشخاص الثنائيي اللغة على التواصل مع أشخاص مختلفين من ثقافات مختلفة وفي دول مختلفة.
2
بالتأكيد تمكن الثنائية اللغوية المرء من التواصل مع كثير من الأشخاص، خاصة إذا كانت اللغات التي يستخدمها هي من أكثر اللغات الشائعة في العالم. كذلك إذا لم يتقن المرء إحدى اللغات بالقدر الكافي، أو لم يكن يعرفها على الإطلاق، فإن عملية التواصل تكون شديدة الصعوبة. فعندما عين مدرب كرة القدم الإيطالي فابيو كابيلو لتدريب المنتخب القومي الإنجليزي، تساءل كثيرون في وسائل الإعلام عن كيف سيتواصل مع أعضاء الفريق الذي سيدربه نظرا لكون لغته الإنجليزية ضعيفة، وورد عنه أنه قال أشياء من قبيل:
At this moment, my English is not so well
و
I am very proud and hon-or-ried («إن لغتي الإنجليزية حاليا ليست على ما يرام»، و«أنا أشعر بالفخر الشديد والاعتزاز»).
3
وقال إنه سيتعلم الإنجليزية على نحو مكثف، لكن الصحفيين كانوا يشكون في الأمر. (ويسعدني القول إنه بعد بضعة أشهر حقق تقدما جيدا في هذا الشأن.) وعلى صعيد أكثر جدية، توجد قصة ماريو كابيكي، أحد الحاصلين على جائزة نوبل في الطب، الذي اجتمع بعد فراق في سن السبعين بأخته غير الشقيقة مارلين بونيلي، البالغة من العمر تسعة وستين عاما، التي لم يرها منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ ما يقرب من ستين عاما؛ فقد انفصل عنها وعن والدته في أثناء الحرب، وتحتم عليه الاعتناء بنفسه في ظروف بالغة الصعوبة عندما كانت والدته معتقلة في معسكر اعتقال داخاو. اجتمع مرة أخرى بوالدته أخيرا في عام 1946 وانتقلا إلى الولايات المتحدة، لكن دون أخته غير الشقيقة، التي كانت حينها في النمسا. لم ير كابيكي أخته مرة أخرى إلا في عام 2008، في ظروف مؤثرة للغاية. كانت المشكلة عدم وجود لغة مشتركة بينهما؛ فلم تكن أخته تتحدث بالإنجليزية، ولم يكن يتحدث هو الألمانية، لغة أخته الأساسية.
ثمة حقيقة ترتبط بالقدرة على التواصل مع عدد أكبر من الناس؛ وهي أن الثنائية اللغوية تسمح للمرء بقراءة المزيد من الكتب (هذا بالطبع إذا كان يجيد القراءة بعدة لغات)، وهي تسمح، لبعض الأشخاص الثنائيي اللغة، بمزيد من الوضوح في الحديث وثراء أكثر في المفردات. توجد ميزة لغوية أخرى، وهي أن معرفة عدة لغات يبدو أنها تساعد المرء في تعلم لغات أخرى؛ فقد تحدث كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة عن هذا الأمر، ويبدو زعمهم منطقيا؛ بداية، توجد حقيقة تقول إن اللغات الجديدة قد ترتبط باللغات التي يعرفها المرء بالفعل، ويسهل هذا عملية التعلم (فمعرفة اللغة الفرنسية ستساعدك في تعلم الإسبانية، ومعرفة الهولندية ستسهل عليك تعلم الألمانية). وتوجد أيضا حقيقة تقول إن العقل البشري ينظم اللغات، من حيث الصوت والبنية والصرف وغيرها، بطريقة تساعد في تكوين صلات بينها؛ ويمكن لهذه الصلات بدورها أن تساعد على نحو كبير في اكتساب لغة جديدة واستخدامها.
يبدو أن الثنائية اللغوية تشجع أيضا على التفكير التباعدي؛ فيقال دوما إن الأطفال الثنائيي اللغة يستطيعون إبعاد أنفسهم عن شكل إحدى الكلمات في سن مبكرة للغاية، ويستطيعون فهم أن الشيء يمكن أن يسمى بعدة طرق مختلفة ويخدم أغراضا مختلفة. وبالإضافة إلى المميزات المعرفية التي يحظى بها الأشخاص الثنائيو اللغة الأكبر سنا، التي ذكرت في الفصل السابق، فإن الثنائية اللغوية لها فوائد معرفية للبالغين؛ ففي إحدى الدراسات، طلب الباحث أناتولي كاركورين من ثنائيي اللغة وأحاديي اللغة أداء مهام متنوعة، مثل تخيل مواقف صعبة وتحديد المشكلات التي قد يواجهونها، أو رسم صور باستخدام أشكال غير مكتملة أو باستخدام مثلثات. حصل من هذه المهام على قياسات مختلفة للطلاقة والأصالة والتفصيل والمرونة، واستنتج أن الأشخاص الثنائيي اللغة كانوا أكثر تفوقا في مهام التفكير التباعدي التي تتطلب القدرة على التفعيل والمعالجة في الوقت نفسه لعدة مفاهيم لا علاقة بينها من فئات متباعدة. فقد تفوقت مجموعة الأشخاص الثنائيي اللغة على تلك الخاصة بالأحاديي اللغة في ثلاثة قياسات: الطلاقة والتفصيل والمرونة، أما الفئة الوحيدة التي كان أداؤهم فيها مطابقا لأداء الأشخاص الأحاديي اللغة فهي الأصالة، التي تتمثل في القدرة على ابتكار أفكار غير شائعة أو أفكار جديدة أو فريدة بالكامل.
4
يذكر عادة البعدان الاجتماعي والثقافي للثنائية اللغوية بوصفهما ميزة حقيقية للذين يعرفون أكثر من لغة ويستخدمونها في حياتهم اليومية. يقال إن الثنائية اللغوية تشجع على توقد الذهن وتفتحه، وتوفر وجهات نظر مختلفة للحياة، وتقلل من الجهل الثقافي. تذكر ميزة أخرى أكثر نفعا، وهي أن الثنائية اللغوية قد تؤدي إلى فرص عمل أكثر وحراك اجتماعي أكبر، وربما تمثل ميزة حقيقية أيضا في الوظيفة الحالية للمرء. وأنا أعرف أشخاصا عرضت عليهم وظيفة معينة، أو مهام جديدة، لمجرد معرفتهم بلغة أو لغتين إضافيتين. في دراسة كبرى أجراها الاتحاد الأوروبي في 29 دولة في عام 2006، ذكر عامل الوظيفة عدة مرات في إجابات الأفراد على هذا السؤال: «ما أسبابك الأساسية لتعلم لغة جديدة؟» فأجاب ثلث المشاركين: «لأستخدمها في العمل (بما في ذلك السفر إلى الخارج للعمل).» وقال ربع المشاركين: «لأتمكن من العمل في دولة أخرى.» و«لأحصل على وظيفة أفضل في دولتي.»
5
من المميزات الأخرى التي طرحت للثنائية اللغوية أنها تسمح للمرء بمساعدة الآخرين، وتوجد صلة مع الأشخاص الثنائيي اللغة الآخرين، وأحيانا تسمح للمرء بفهم ما قد لا يفهمه الآخرون. ويلخص التقرير النهائي لدراسة الاتحاد الأوروبي كثيرا من المميزات المذكورة آنفا:
توجد بلا شك فوائد لمعرفة لغات أجنبية. فاللغة هي السبيل إلى فهم الطرق الأخرى للحياة، الأمر الذي يخلق بدوره مساحة للتسامح بين الثقافات. بالإضافة إلى ذلك، تسهل المهارات اللغوية العمل والدراسة والسفر، وتسمح بالتواصل بين الثقافات.
6
تأثرت كثيرا عندما تلقيت إفادة من شخص ثلاثي اللغة في الألمانية والفرنسية والإنجليزية، أجاد التعبير عن الأمر في سطور قليلة:
ساعدني كوني ثلاثي اللغة بطرق عديدة؛ فقد حققت مكانة أعلى في بيئة عملي، وطورت إمكانياتي اللغوية، وأصبحت أكثر تفتحا تجاه الأقليات وأكثر وعيا بمشكلاتهم اللغوية، وأصبحت أستمتع بأشكال مختلفة من الأدب، وشعرت بقدر من الفخر لقدرتي على القراءة بثلاث لغات مختلفة ... فلا أشعر أبدا بالملل في حياتي؛ لأن لدي أكثر من مجرد لغة واحدة. فقد ساعدني كوني ثلاثي اللغة على فهم الآخرين ومساعدتهم.
تعتبر جميع المميزات التي ذكرت آنفا مهمة في الحياة اليومية، ونوعية الحياة، وتظهر بوضوح أهمية تشجيع الثنائية اللغوية ودعمها. إلا أن هذه المميزات لا يمكن أبدا مقارنتها باللحظات الاستثنائية التي تنقذ فيها الثنائية اللغوية حياة الأفراد. إليك مثالين على هذا: أخبرني ذات مرة شخص ثلاثي اللغة في البنغالية والأردية والإنجليزية، أنه في أثناء حرب استقلال بنجلاديش عن باكستان في عام 1971 قبضت عليه يوما ما فصيلة باكستانية بنجابية/أردية، وكانت على وشك إطلاق النار عليه. وعلى الرغم من كونه بنغالي الأصل، فقد تمكن من إقناعهم بالإفراج عنه؛ لأنه أظهر لمعتقليه أنه يستطيع التحدث بالأردية، ويمكنه تلاوة بعض آيات من القرآن بالعربية. أما المثال الثاني فيتعلق بأوجست بوني، وهو مواطن سويسري منحته دولة إسرائيل وسام «الصالحين بين الأمم»، بسبب مخاطرته بحياته من أجل إنقاذ اليهود في أثناء فترة المحرقة النازية. كان بوني معلما للمرحلة الابتدائية، وعمل مع الصليب الأحمر خلال الحرب العالمية الثانية، وذهب إلى فرنسا لإقامة منازل للأطفال الذين فقدوا والديهم، وكان كثير منهم من اليهود الذين أخذوا من معسكرات الاحتجاز. وفي صباح أحد الأيام جاء أفراد من شرطة مدينة فيشي المؤيدة للألمان إلى منزله، وطلبوا منه تسليم الأطفال اليهود المقيمين عنده (كان 12 طفلا منهم نائمين بالفعل في حجرة الطعام). كان بوني يجيد التحدث بالفرنسية (فقد كان ألمانيا سويسريا)، واستطاع تأجيل الأمر عن طريق إقناع الضباط بالعودة إلى القرية والاتصال بمقرهم؛ وفي أثناء غيابهم أيقظ الأطفال وأرسلهم سريعا إلى المزارع المحيطة بالقرية، وعندما عادت الشرطة أخبرهم بوني أن الأطفال قد ذهبوا. كان قد أعد حقيبة ملابسه ظنا منه أنه سيذهب إلى السجن، لكن لم يحدث له شيء، واستطاع مواصلة عمله الذي يعد عملا يحتذى به حتى نهاية الحرب. (2) نظرة الأشخاص الثنائيي اللغة لعيوب الثنائية اللغوية
يرى الأشخاص الثنائيو اللغة الذين أجريت عليهم دراساتي، أن عيوب الثنائية اللغوية أقل عددا من مميزاتها. في الواقع عندما سألت مجموعة من الأشخاص الثنائيي والثلاثيي اللغة عن تلك العيوب، أجاب 52 في المائة من الثنائيي اللغة و67 في المائة من الثلاثيي اللغة بعدم وجود أي عيوب.
7
على الرغم من ذلك، توجد بعض الجوانب السلبية للثنائية اللغوية التي سأذكرها فيما يلي:
أولا: يقول أحيانا الأشخاص الثنائيو اللغة الذين لا يجيدون لغتهم الأخرى إجادة تامة إنهم يصابون بالتعب والإحباط من اضطرارهم لاستخدامها (في التحدث أو الكتابة)، وإنهم يرتكبون أخطاء طوال الوقت عند فعل هذا. يذكر الكاتب ريتشارد رودريجيز هذا الجانب في كتابه «نهم الذاكرة»، عند سرده لقصة كيفية تعامل والده الذي يتحدث بالإسبانية مع اللغة الإنجليزية في أسرته:
على الرغم من تحسن لغته الإنجليزية بعض الشيء، فقد كان يؤثر الصمت؛ فكان قليل الحديث للغاية في وقت العشاء. وفي إحدى الليالي لم يتمالك أطفاله وزوجته أنفسهم وضحكوا على نطقه الإنجليزي المشوه لصلاة الشكر الكاثوليكية قبل تناول الطعام. ومنذ ذلك الحين جعل زوجته هي التي تتلو الصلاة في بداية كل وجبة، حتى في المناسبات الرسمية عند وجود ضيوف في المنزل؛ فقد أصبح صوتها هو الصوت الرسمي للأسرة.
8
يخبرنا رودريجيز بأن والده لم يكن خجولا، لكنه لم يكن ببساطة يتقن الإنجليزية مثل الإسبانية؛ فعندما كان يتحدث بالثانية كانت تظهر في حديثه ثقة وسلطة لا تظهران عند حديثه بالإنجليزية.
يوجد عيب آخر يذكره ثنائيو اللغة يتعلق بتأثير اللغة الأقوى على اللغة الأضعف؛ فيقول بعض الأشخاص الثنائيي اللغة إنهم عندما يتحدثون كأحاديي اللغة عادة ما يعانون لتجنب عمليات التبديل اللغوي والاقتباس، ويضطرون إلى تحمل التداخلات التي يزيد عددها كلما أصابهم التعب أو العصبية أو الغضب أو القلق. في الواقع، أدى الخوف من «تأثر» اللغات بعضها ببعض إلى عزوف الناس عن تعلم لغة أخرى أو استخدامها على الإطلاق، حتى عندما تشجعهم بيئتهم على فعل هذا. يوجد مثال جيد على هذا يتمثل في الكاتب والشاعر والفنان السريالي الفرنسي أندريه برتون، الذي عاش لبعض الوقت في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية (فقد عمل في مكتب المعلومات الحربية الأمريكي)؛ فيقال إنه رفض الحديث أو الكتابة بالإنجليزية، على الرغم من أنه كان يفهمها جيدا. وكان السبب الذي أعطاه لذلك أنه لم يكن يريد أن تتأثر لغته الفرنسية باللغة الإنجليزية. نادرا ما يحرص ثنائيو اللغة على نقاء لغاتهم مثل برتون، لكن في الواقع يحرص البعض على عدم تسرب التداخلات إلى لغاتهم، ويؤدي هذا إلى التأني في الحديث، وأحيانا التردد، فيبدو الكلام تقريبا غير طبيعي على الرغم من صحته.
يذكر بعض الأشخاص الثنائيي اللغة أنهم يواجهون صعوبات في التكيف مع المواقف الجديدة والبيئات الجديدة التي تتطلب استخدام إحدى اللغات أكثر من الأخرى (انظر مبدأ التكامل). فهم يشعرون أنهم لا يتوافر لديهم وقت للتأقلم، ويعانون مع اللغة التي تصبح على نحو مفاجئ في الطليعة. فأي من الأشخاص الثنائيي اللغة اضطر فجأة، حتى لو بعد رحلة قصيرة، إلى التأقلم مع بيئة يستخدم فيها لغة جديدة؛ سيتعاطف مع هذا. وكذلك، يكون الحديث على الملأ صعبا للغاية إذا استخدم المرء اللغة «الخطأ»؛ سواء أكانت اللغة الأضعف أم اللغة التي تستخدم عادة في المواقف الرسمية.
يوجد عيب آخر يذكره ثنائيو اللغة، وهو أنه يطلب منهم عادة التصرف كمترجمين شفويين أو تحريريين، ويجد كثير منهم أن هذا أمر صعب ومتعب (كما ذكرت فيما سبق). وبما أنهم قد لا يريدون رفض أداء خدمة طلبت منهم، فإنهم عادة ما يعانون طوال أداء هذه المهمة، ثم يعبرون عن كم الضغط الذي تعرضوا له. قد تزيد صعوبة الموقف إذا تحتم على الشخص الثنائي اللغة العمل كوسيط بين ثقافتين بينما يكون متورطا عاطفيا في الموقف. يقدم لنا بول بريستون، الذي أجرى مقابلة مع عدد من الأشخاص الثنائيي اللغة في اللغة الإنجليزية ولغة الإشارة الأمريكية، وهم أبناء وبنات لوالدين أصمين، إفادة واقعية عن سيدة اضطرت إلى الترجمة الشفوية في جنازة والدها، بسب عدم وجود شخص آخر لديه هذه القدرة:
لم أكن أريد فعل هذا، لكني اضطررت إلى فعل ذلك من أجل والدتي؛ إذ لم يوجد شخص آخر يمكنه فعل هذا. فقد كنت أبكي وأترجم بالإشارة، معا في وقت واحد (تقول بالإشارة: «لن أفعل هذا ثانية.») فأنا لا أريد فعل أي شيء مثل هذا مرة أخرى.
9
يوجد عيب سنعود إلى الحديث عنه في الفصل القادم، وهو أن بعض الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يكونون ثنائيي الثقافة أيضا، لا يشعرون بالانتماء إلى أي من المجموعتين الثقافيتين؛ فيشعرون بأنهم غرباء عن ثقافتيهم، خاصة في اللحظات الفارقة في حياتهم (على سبيل المثال: عند عودتهم إلى وطنهم الذي لم يعد وطنهم).
على الرغم من هذه المميزات والعيوب، فإني عندما سألت ثنائيي اللغة عما إذا كانوا يشعرون بوجود أي اختلاف بينهم وبين الأشخاص الأحاديي اللغة؛ أجابوا، بوجه عام، بعدم شعورهم بهذا، فيما عدا حقيقة أن لديهم أكثر من لغة، ومن ثم يستطيعون التواصل مع مزيد من الأشخاص. (3) نظرة الأشخاص الأحاديي اللغة للثنائية اللغوية
يوجد تفاوت كبير بين مواقف ومشاعر الأشخاص الأحاديي اللغة تجاه الثنائيي اللغة والثنائية اللغوية، وتتراوح المواقف بين إيجابية للغاية وسلبية للغاية. أقر هذا الأمر الخبير العالمي في الثنائية اللغوية، أينار هوجن، في عام 1972، ولا يزال ما أقره ينطبق في عصرنا الحالي في كثير من الأماكن:
إن الثنائية اللغوية مصطلح يثير ردود فعل متفاوتة تقريبا في كل مكان. من ناحية، بعض الناس سيقولون: «ما أجمل أن يكون المرء ثنائي اللغة!» ومن ناحية أخرى، يحذرون الآباء ويقولون لهم: «لا تجعلوا أطفالكم ثنائيي اللغة.»
10
لا يوجد فقط اختلاف في الآراء بشأن الأشخاص الثنائيي اللغة البالغين مقارنة بالثنائيي اللغة الأطفال، وإنما يوجد اختلاف أيضا على وجه الخصوص فيما يتعلق بالأشخاص الثنائيي اللغة أصحاب المكانة الاجتماعية والاقتصادية الأعلى مقارنة بالأشخاص الثنائيي اللغة الذين هم في مكانة أقل ، خاصة المهاجرين أو أعضاء إحدى الأقليات اللغوية. فبينما تبهر الفئة الأولى الأشخاص الأحاديي اللغة بقدرتها على إجادة اللغات والتحرك بسهولة بين لغة وأخرى، فإن الفئة الثانية تكون النظرة إليها سلبية أكثر، خاصة إذا تحدثوا بلكنة في لغتهم السائدة وكان لديهم أطفال يواجهون صعوبات في التأقلم في مدارسهم الأحادية اللغة. وإن كثيرا من الخرافات التي تحدثنا عنها في هذا الكتاب تنشأ من وجهة النظر الثانية للأشخاص الأحاديي اللغة في الشخص الثنائي اللغة.
على عكس الدول الأوروبية الأصغر ودول قارتي أفريقيا وآسيا حيث يعتبر التعدد اللغوي هو القاعدة، فإن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبيرة مثل إنجلترا وفرنسا، لم تدعم كثيرا سكانها الذين يعيشون حياتهم مستخدمين لغتين أو أكثر. وهذا ما قاله عالم اللغة باري ماكلوكلين منذ وقت طويل، في عام 1978:
في الولايات المتحدة تعتبر الأحادية اللغوية بطبيعة الحال هي القاعدة. وقد كانت الثنائية اللغوية تعتبر وصمة عار وعائقا اجتماعيا ... ولا علاقة لهذا العداء تجاه الثنائية اللغوية باللغة في حد ذاتها؛ فهذا العداء ليس موجها للغة بل للثقافة. فيعبر الشخص الثنائي اللغة عن أسلوب غريب في التفكير وقيم غريبة.
11
هل تغيرت الأمور منذ ذلك الوقت؟ في الواقع لا تتغير المواقف والمشاعر ببساطة بهذه السرعة، كما تقول أنيتا بافلينكو - الباحثة المعاصرة في مجال الثنائية اللغوية، وهي نفسها إحدى المهاجرات إلى الولايات المتحدة - التي كتبت تقول إن الأشخاص الثنائيي اللغة ينظر إليهم عادة بارتياب، إما على أنهم هجن لغويا وثقافيا ربما يوجد صراع داخلي لديهم، وإما على أنهم أشخاص تشير ولاءاتهم اللغوية المتغيرة إلى تغير ولاءاتهم السياسية والتزاماتهم الأخلاقية.
12
تزخر للأسف كتابات المهاجرين بأمثلة على التمييز ضد المهاجرين الذين هم في الوقت نفسه من الثنائيي اللغة. أنا شخصيا أشعر بالأسف لعدم دعم الدول الكبرى الأحادية اللغة في المقام الأول الثنائية اللغوية للأقليات الموجودة فيها، سواء أكانوا مهاجرين أم لا. تصدر تقارير برعاية الحكومات طوال الوقت ترثي لضعف الدولة في اللغات الثانية والأجنبية، وهو أمر أصبح في عصر التواصل العالمي الحالي عيبا خطيرا. تأتي المفارقة ، بالطبع، من وجود كثير من متحدثي اللغات الثانية في هذه الدول الكبرى، لكنهم لا يعملون في مواقع السلطة التي تحتاج إلى هذه اللغات. وتنفق ملايين الدولارات على تعليم اللغات الثانية للأشخاص الأحاديي اللغة، بينما توجد مهارات اللغة الثانية بالفعل داخل كثير من الأقليات. فإذا اتجهنا إلى دعم وتنمية هذا المورد القومي المهم، بالإضافة إلى تشجيع تعلم اللغات الثانية، فإننا سنصبح في طريقنا إلى حل مشكلة اللغات الأجنبية التي طالب كثيرون بضرورة حلها.
في النهاية، كلما زاد انتشار أحادية اللغة داخل مجموعة أو دولة ما، زادت صعوبة إدراك المجتمع أن الأشخاص الثنائيي اللغة يمثلون موردا حقيقيا في الدولة؛ من حيث ما يستطيعون تقديمه فيما يتعلق بالتواصل والتفاهم عبر الثقافات.
الفصل العاشر
الثنائية الثقافية عند الأشخاص الثنائيي
اللغة
نظرا لكون اللغة جزءا من الثقافة وأن تعلم لغة جديدة قد يعني أحيانا اكتساب ثقافة جديدة، ينتشر بين كثير من الناس الانطباع الخاطئ التالي عن الأشخاص الثنائيي اللغة:
خرافة: يتسم الأشخاص الثنائيو اللغة أيضا بالثنائية الثقافية
في الواقع ليست الثنائية الثقافية ملازمة للثنائية اللغوية؛ فيستخدم كثير من الناس لغتين أو أكثر في حياتهم اليومية بينما ينتمون إلى ثقافة أساسية واحدة؛ على سبيل المثال: قد يستخدم شخص هولندي اللغات الهولندية والإنجليزية والألمانية في حياته اليومية، لكنه فعليا يعيش داخل الثقافة الهولندية فقط. ومن ثم، فإن كون المرء ثنائي اللغة لا يعني تلقائيا أنه أيضا ثنائي الثقافة. مع هذا، فإن كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة هم أيضا ثنائيو الثقافة، وهؤلاء هم موضوع هذا الفصل. (1) وصف الأشخاص الثنائيي الثقافة
تعكس الثقافة كل جوانب حياة مجموعة من الناس؛ قواعدهم الاجتماعية وسلوكياتهم ومعتقداتهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم. فنحن كأفراد ننتمي لعدد من الثقافات (تسمى عادة الشبكات الثقافية) التي تتكون من ثقافات ثانوية ورئيسية. تضم الثقافات الثانوية تلك الثقافات التي تتعلق بمجالات معينة في الحياة، مثل وظيفة المرء ومسكنه ورياضاته وهواياته، بينما تضم الثقافات الرئيسية الثقافة القومية للدولة التي نعيش فيها، والمجموعات الاجتماعية والدينية التي ننتمي إليها، وما إلى ذلك. وهكذا نعتبر جميعا بطريقة ما «متعددي الثقافات»، وتكون عادة شبكاتنا الثقافية تكاملية بحيث يمكن أن ننتمي إلى عدة شبكات في وقت واحد. فيما يلي سنلقي نظرة على الثنائية الثقافية وعلاقتها بالثقافات الرئيسية، خاصة المجموعات القومية أو العرقية، التي في حالتنا هذه تكون لها لغات مختلفة. فتثير اهتمامي حقيقة أن بعض الناس تكون ثقافتاهم في الوقت نفسه فرنسية وإيطالية، ألمانية وأمريكية، كردية وتركية، روسية وإستونية، على الرغم من أن بعض هذه التوليفات تستنكرها أو حتى ترفضها المجموعات ذات الصلة.
كيف يمكننا وصف الأشخاص الثنائيي الثقافة؟ يتمتع هؤلاء الأشخاص بالصفات التالية: أولا: يشاركون بدرجات مختلفة في حياة ثقافتين أو أكثر؛ على سبيل المثال: يشارك الكوريون في الولايات المتحدة في حياة مجتمعهم الكوري في أمريكا، بالإضافة إلى مشاركتهم في حياة المجتمع الأمريكي الأكبر. ثانيا: يكيفون، على الأقل جزئيا، مواقفهم وسلوكياتهم وقيمهم ولغاتهم مع ثقافاتهم؛ ومن ثم، يكيف الكوريون في الولايات المتحدة لغتهم وسلوكهم على أساس ما إذا كانوا يتعاملون مع كوريين آخرين أم مع أعضاء من المجتمع الأمريكي الأكبر. ثالثا: يخلطون ويمزجون معا جوانب من الثقافات التي يشاركون فيها. تنبع جوانب معينة (مثل المعتقدات والقيم والمواقف والسلوكيات وغيرها) من إحدى الثقافتين اللتين يعرفهما المرء؛ ومن ثم نجد تعبيرات مثل: «هذا جانبي الكوري» أو «هذا جانبي الأمريكي»، بينما تعبر جوانب أخرى عن مزيج من الثقافتين. يوجد مثال على هذا الأمر يتمثل في تعبيرات الوجه ولغة الجسد، اللتين عادة ما تكونان نتيجة امتزاج ثقافتين في تكوين فريد.
1
وعليه، فإن الأشخاص الثنائيي الثقافة يتكيفون مع مواقف أو سياقات معينة (فهذا أحد عناصر التكيف والديناميكية في ثنائيتهم الثقافية)، بينما يمزجون أيضا بعض سمات ثقافتيهم (لا يمكن أن يتكيف هذا الجزء بالسهولة نفسها). فيما يلي نرى كيف يصف شخص أمريكي من أصل فرنسي ثنائيته الثقافية، خاصة جانب المزج:
إن كوني ثنائي اللغة في الولايات المتحدة، وخاصة كوني أمريكيا من أصل فرنسي في مجتمعنا التعددي، يعني أنه توجد لدي لغتان وإرثان تاريخيان وطريقتان في التفكير ورؤية العالم. أحيانا قد يكون هذان العنصران منفصلين ومتمايزين بداخلي، لكن في أحيان أخرى ينصهران معا.
2
يعرض الشكل
10-1
مثالا على الثنائية الثقافية لدى أحد الأشخاص. يعبر المربعان عن الثقافتين (في هذه الحالة تكون الثقافة «أ» هي السائدة)، والشكل البيضاوي عن العنصر الذي يمزج جوانب معينة في كلتا الثقافتين معا. نادرا ما توجد للثقافتين الأهمية نفسها لدى الشخص الثنائي الثقافة؛ فعادة ما تلعب إحداهما دورا أكبر؛ لذا يمكننا الحديث عن السيادة الثقافية مثلما تحدثنا عن السيادة اللغوية لدى الأشخاص الثنائيي اللغة (لكن هذه السيادة لا تقلل من كون المرء ثنائي الثقافة). في الشكل، نرى من خلال حجم المربعين أن الثقافة «أ» أكثر أهمية من الثقافة «ب». طوال حياة الشخص الثنائي الثقافة، يمكن للثقافات أن تزدهر وتخبو، فتصبح إحداها سائدة لفترة قبل أن يصبح دورها ثانويا. وفي حالتي أنا أشعر بأن ثقافتي السائدة قد تغيرت أربع مرات منذ أن أصبحت ثنائي الثقافة؛ فقد كانت إنجليزية في سنوات المراهقة، وفرنسية حتى سن الثامنة والعشرين، وأمريكية حتى سن الأربعين، وأصبحت سويسرية منذ ذلك الحين.
شكل 10-1: تصوير لجمع شخص ثنائي الثقافة بين ثقافتين (الثقافة «أ» وهي الثقافة السائدة، والثقافة «ب»)، بالإضافة إلى العنصر الذي يمزج بينهما (الشكل البيضاوي المظلل).
يمكن أن يصبح الناس ثنائيي الثقافة في أي وقت خلال حياتهم؛ في مرحلة الطفولة، عندما يولد الطفل في أسرة ثنائية الثقافة؛ وعندما يلتحق الطفل بالمدرسة؛ وفي مرحلة المراهقة، إذا انتقل الشاب من ثقافة إلى أخرى؛ وبالطبع في مرحلة البلوغ، كحال المهاجرين الذين يستقرون في دولة جديدة ويصبحون بمرور السنين ثنائيي الثقافة. بالنسبة إلى الحالة الأخيرة، خضعت المراحل التي تحدث في حالة الهجرة لدراسة مستفيضة؛ وهي الوصول والعزلة والصدمة الثقافية والتكيف السريع بنحو أو بآخر مع ثقافة الدولة المضيفة. تتأثر هذه المرحلة الأخيرة بحجم المجموعة المهاجرة وتركزها، وعدد الأطفال في الأسرة، وموقف الدولة المضيفة تجاه المجموعة المعنية، وما إلى ذلك. يرد في الكتابات ذات الصلة أيضا الصورة المثالية التي توجد لدى المهاجرين عن وطنهم الأم، والصدمة التي يتعرضون لها عند العودة إليه ورؤية أنه لم يعد مثلما يرونه في أحلامهم وذكرياتهم، والتقبل شبه الدائم لكونهم مهاجرين. كتبت نانسي هيوستن تقول:
بمرور الوقت، يقل تواصلك مع «وطنك الأم» ويصبح على فترات أبعد ... يتقدم العمر بوالديك، ويغير إخوتك وظائفهم و/أو شركاء حياتهم، ويصبح لديهم أطفال، ويتزوجون مرة أخرى، ويتركون شركاء حياتهم مرة أخرى، ولا تستطيع مجاراة كل هذه الأحداث، ويصبح الغرباء الذين كانوا يحيطون بك عند مجيئك لأول مرة، أبناء وطنك؛ فقد أصبح الآن مصيرهم هو الأهم بالنسبة إليك؛ لأنه أصبح مصيرك أنت أيضا.
3
قد يعيش الأشخاص الثنائيو الثقافة بأكثر من ثقافتين أساسيتين، بناء على خط سير حياتهم. يعبر الشكل
10-2
عن شخص ثلاثي الثقافة تهيمن على حياته حاليا الثقافة «ب»، وتليها في الأهمية الثقافة «ج»، ثم الثقافة «أ».
شكل 10-2: الأهمية النسبية لثلاث ثقافات لشخص ثلاثي الثقافة (الثقافة «ب» هي الثقافة السائدة، تليها الثقافة «ج»، ثم الثقافة «أ»). (2) سلوك الأشخاص الثنائيي الثقافة
قد يجد الأشخاص الثنائيو اللغة، الذين هم أيضا ثنائيو الثقافة، أنفسهم في مواضع مختلفة في تسلسل خاص بالمواقف يتطلب سلوكيات مختلفة وفقا لكل موقف. على أحد طرفي التسلسل، يكونون في وضع أحادي الثقافة، نظرا لتعاملهم مع أشخاص أحاديي الثقافة، أو مع أشخاص ثنائيي الثقافة يشتركون معهم في ثقافة واحدة فقط؛ في هذا الموقف لا بد لهم من عدم تفعيل ثقافاتهم الأخرى قدر استطاعتهم. وعلى الطرف الآخر من التسلسل، قد يجدون أنفسهم يتعاملون مع ثنائيي ثقافة آخرين يشاركونهم ثقافاتهم نفسها؛ في هذه الحالة، سيستخدمون معهم ثقافة أساسية يتواصلون من خلالها معهم (سلوكيات هذه الثقافة ومواقفها ومعتقداتها)، ويدخلون الثقافة الأخرى، في شكل تبديلات واقتباسات ثقافية، متى أرادوا ذلك.
دعنا نستعرض هاتين الحالتين بمزيد من التفصيل. في حالة الوضع الأحادي الثقافة، يحاول الأشخاص الثنائيو الثقافة تطبيق شعار «إذا كنت في روما، فافعل مثل أهل روما.» فإذا كانت معرفتهم بالثقافة المعنية كافية (تماما مثل وجود معرفة كافية بإحدى اللغات التي لا بد من استخدامها)، ومن ثم يستطيعون عدم تفعيل ثقافاتهم الأخرى على الأقل إلى حد كبير ، فإنهم يمكنهم التصرف على نحو مناسب. ومن ثم ، يعرف كثير من الأشخاص الثنائيي الثقافة كيفية التعامل مع مواقف مثل الترحيب بمعارف لهم في المنزل، وعقد اجتماع في العمل، والتعامل مع الأقارب الأحاديي الثقافة، والتعامل تجاريا مع الإدارة المحلية، وارتداء ملابس مناسبة للسياق، إلى آخره.
مع ذلك، بسبب عنصر المزج في الثنائية الثقافية قد لا يمكن أن تتكيف سلوكيات ومواقف ومشاعر معينة بالكامل مع أحد المواقف، وربما تكون بدلا من ذلك مزيجا من ثقافتي المرء (أو ثقافاته). يكون هذا الشكل من التداخل الثقافي الثابت عاملا للتمييز بين الثنائية اللغوية والثنائية الثقافية؛ فيستطيع الأشخاص الثنائيو اللغة عادة عدم تفعيل إحدى اللغات واستخدام الأخرى فقط في مواقف معينة، بينما لا يستطيع ثنائيو الثقافة عادة عدم تفعيل سمات معينة في ثقافتهم الأخرى عندما يكونون في بيئة أحادية الثقافة. سأقدم لك بعض الأمثلة على هذا: لا يكون أسلوب التحية لدي أحادي الثقافة بالكامل عندما يجب أن يكون كذلك، على الرغم مما أبذله من جهد لأتصرف على النحو الصحيح في كل ثقافة من ثقافاتي الأربع التي أتعامل بها مع الآخرين. عندما أكون في إنجلترا، أميل للسلام باليد في نهاية الزيارة بينما يكفي التلويح البسيط باليد (فالسلام باليد يكون في بداية اللقاء، عادة، ولا يتكرر في النهاية). كذلك يمثل تقبيل الصديقات عند تحيتهن مشكلة؛ من هن السيدات اللاتي يمكن تقبيلهن، وكم مرة؟ لنفكر في الأمر؛ في إنجلترا والولايات المتحدة، إذا سمح بالتقبيل فإنه يكون قبلة قصيرة في الهواء؛ أما في فرنسا، فإن التقبيل يكون على الوجنتين؛ أما في سويسرا، فإن التقبيل يكون ثلاث مرات. تصبح الأمور أكثر تعقيدا عندما تقابل صديقة سويسرية في فرنسا. (هل يجب تقبيلها مرتين كما يحدث في فرنسا، أم ثلاث مرات على الطريقة السويسرية؟) أخيرا، عند محاولة جذب انتباه النادل في مقهى فرنسي، لا أستطيع أن أكون صريحا مثل الزبون الفرنسي العادي؛ فبدلا من أن أناديه:
Garçon!
بصوت مرتفع، أحاول لفت انتباهه عن طريق التواصل البصري ورفع يدي باستحياء (الأمر الذي يفشل دوما، على الأقل في المحاولات القليلة الأولى).
يستطيع كل الأشخاص الثنائيي الثقافة الذين يقرءون هذا الكلام إضافة أمثلتهم المفضلة عن المزج الثقافي الموجود لديهم في مجالات مثل: حركات اليد التي يستخدمونها مع أحد الأشخاص، ومقدار المساحة التي يتركونها بينهم وبين الشخص الآخر، والموضوعات المسموح بالحديث فيها (ففي بعض الثقافات، مثلا، من غير اللائق الحديث عن الرواتب مع أشخاص لا تعرفهم)، ومقدار ما تتركه من بقشيش، إلى آخره. يذكر بول بريستون - الذي أجرى مقابلات مع عدد من الأشخاص الثنائيي اللغة والثقافة الذين لدى كل منهم والدان أصمان - أن التواصل البصري الطويل، المهم للغاية في ثقافة الصم، يجعل الأشخاص العاديين يشعرون بعدم الارتياح، ومن ثم يحاول هؤلاء الأشخاص عدم استخدامه مع الأشخاص العاديين.
4
يوجد مثال آخر يتعلق بالاستخدام المعقد لضمير المخاطب
tu
في مقابل
vous
في اللغة الفرنسية: حكت لي صديقة ثنائية الثقافة في الثقافتين الإنجليزية والفرنسية موقفا حدث لها عندما كانت تتأقلم مع أسلوب الحياة الفرنسي، فقالت:
صدمت ذات مرة أصدقائي في حفل عشاء صغير، عندما استخدمت الضمير
tu
الذي يدل على عدم الرسمية عند مخاطبة إحدى المدعوات، التي كانت فتاة في نفس عمري تقريبا. فقد قدمتها لي مضيفة الحفل، التي كانت صديقة مقربة لي، على أنها صديقتها؛ لذا ظننت أنه يجب علي أن أعاملها على أنها صديقة محتملة. لم أدرك على الإطلاق ما سببه سلوكي من إحراج للمدعوين الآخرين، أدركت ذلك فقط عندما غادرت وسألني الآخرون لماذا أهنتها على هذا النحو. ألم ألاحظ أن الجميع كانوا يخاطبونها باستخدام الضمير
vous ؟ وأدركت أن العلاقات التي ينطبق عليها لفظهم
amie (صديق)، وترجمتي غير الدقيقة له
friend ، ليست واحدة؛ فبالنسبة إلي، الصديق هو شخص أتعامل معه بود، بينما قد لا يكون المرء ودودا بالضرورة مع شخص يقال عنه
amie .
5
دائما ما يقول الأشخاص الثنائيو الثقافة إن الحياة تكون أسهل عندما يكونون في وضع ثنائي الثقافة؛ أي عند التعامل مع ثنائيي الثقافة أمثالهم. أرسلت لي خبيرة الثنائية اللغوية، أنيتا بافلينكو، وهي شخص ثنائي اللغة والثقافة في الروسية والإنجليزية، المثال التالي:
قد يقضي المراهقون الأمريكيون الذين من أصل روسي في فيلادلفيا، مساء يوم الجمعة مع أسرهم يضحكون على أحد الأعمال الكوميدية الشهيرة من العصر السوفييتي، ثم يخرجون في مساء يوم الأحد لمشاهدة أحد أفلام هوليوود الجديدة الناجحة. وعند حديثهم عن الفيلم بالإنجليزية، قد تتسرب بعض الصفات باللغة الروسية أو إشارة إلى إحدى الشخصيات الشهيرة في فيلم روسي.
6
يعرف المراهقون الثنائيو الثقافة أن الآخرين على دراية بكلتا لغتيهم وثقافتيهم، وأنهم سيفهمونهم عندما يخلطون الثقافتين معا في تصرفاتهم أو فيما يقولونه. يعتز الأشخاص الثنائيو الثقافة بمثل هذه اللحظات كثيرا؛ إذ يستطيعون فيها الاسترخاء وعدم القلق بشأن التعبير عن الأمور على نحو صحيح في كل مرة يتحدثون فيها. يقول ثنائيو اللغة والثقافة دوما إن أصدقاءهم المقربين (أو شركاء «أحلامهم») هم أشخاص أمثالهم، يستطيعون الشعور بالراحة الكاملة معهم في التنقل بين لغاتهم وثقافاتهم. (3) هوية الأشخاص الثنائيي الثقافة
يتعلق أحد الجوانب المهمة في الثنائية الثقافية بالهوية التي يقرر ثنائيو الثقافة أن تكون لهم. تتمثل أزمتهم في أن الأعضاء الأحاديي الثقافة في ثقافاتهم المختلفة يريدون أن يعرفوا ما إذا كانوا ينتمون إلى الثقافة «أ» أم الثقافة «ب» أم إلى ثقافة جديدة، بينما يريد الأشخاص الثنائيو الثقافة أن يتقبلهم الآخرون، سواء أكان على نحو واع أم غير واع، كما هم؛ أعضاء في ثقافتين أو أكثر. إلا أن الوصول إلى مرحلة أن يقول المرء: «أنا ثنائي الثقافة، أنتمي إلى الثقافة «أ» والثقافة «ب».» يأخذ وقتا طويلا، وأحيانا لا يحدث أبدا.
7
لماذا؟ إنها عملية ثنائية تضم الطريقة التي يصنف بها المرء من قبل أعضاء الثقافات التي ينتمي إليها، والطريقة التي يصنف بها المرء نفسه. يضع آخرون في اعتبارهم درجة قرابة المرء، واللغات التي يتحدث بها ودرجة إجادته لها، ومظهره الخارجي، وجنسيته، وتعليمه، ومواقفه، إلى آخره؛ وتكون النتيجة أن المرء عادة ما يصنف في كل ثقافة ينتمي إليها؛ فيحكم عليه أصدقاؤه ومعارفه وغيرهم بأنه ينتمي إلى الثقافة «أ» أو «ب»، لكن نادرا ما يحكمون بأنه ينتمي إلى الاثنتين معا. ثمة مشكلة أخرى تتمثل في أن أعضاء الثقافة «أ» قد يصنفون المرء بأنه ينتمي إلى الثقافة «ب»، والعكس صحيح، وهو نوع من التصنيف المزدوج المتناقض. يمكن رؤية أمثلة على هذا بين شباب الجيل الثاني من المهاجرين في أوروبا في عصرنا الحالي؛ فيصنف الذين ظلوا في الوطن الأم المهاجرين على أنهم غربيون أو أوروبيون، بينما يراهم كثير من المواطنين في «الدول المضيفة» على أنهم ينتمون إلى ثقافة آبائهم الأصلية؛ على سبيل المثال: يشعر عادة الشباب الوافدون من شمال أفريقيا الموجودون في فرنسا، بأنهم منبوذون من كل من دولة آبائهم والدولة التي ولدوا فيها (فرنسا)؛ فعندما يعودون إلى الجزائر أو تونس أو المغرب، يعاملون على أنهم أجانب لديهم أفكار متطرفة وأخلاق غربية، ومع ذلك يعاملون في فرنسا على أنهم أجانب من العرب وعادة ما يتعرضون للاضطهاد؛ فتتعرض أوراق إثبات هويتهم للفحص باستمرار، وعادة ما تسيء الشرطة معاملتهم، ويهددون أحيانا بالترحيل.
عندما يواجه الأشخاص الثنائيو الثقافة بمثل هذه الرؤى المتعارضة أحيانا، يتحتم عليهم الوصول إلى قرار بشأن هويتهم الثقافية؛ فيضعون في اعتبارهم الثقافات التي ينتمون إليها ونظرتها إليهم، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل: تاريخهم الشخصي، واحتياجات هويتهم، ومعرفتهم باللغات والثقافات ذات الصلة، والدولة التي يعيشون فيها، والمجموعات التي ينتمون إليها. وتكون النتيجة، بعد عملية طويلة وأحيانا شاقة، الارتباط فقط بالثقافة «أ»، أو بالثقافة «ب»، أو لا بالثقافة «أ» ولا بالثقافة «ب»، أو مع الثقافتين «أ» و«ب» معا.
8
عادة ما تكون الحلول الثلاثة الأولى غير مرضية على المدى الطويل، حتى إن كانت تمثل حلولا مؤقتة؛ فهي لا تعكس فعليا شخصية الثنائي الثقافة التي تنبع من ثقافتين، وربما تكون لها نتائج سلبية فيما بعد؛ فالذين يختارون الارتباط بثقافة واحدة فقط (سواء أكان بحرية أم يجبرون عليه)، يبتعدون فعليا عن إحدى ثقافتيهم، وربما يشعرون فيما بعد بعدم الرضا عن هذا القرار. أما الذين يرفضون كلتا الثقافتين، فإنهم عادة ما يشعرون بأنهم مهمشون أو مترددون بشأن حياتهم. ومن ثم ظهرت المصطلحات والتعبيرات الكثيرة التي تصف المهاجرين وغيرهم من الأشخاص الثنائيي الثقافة ، مثل: «أشخاص منتزعين من جذورهم»، و«لا جذور لهم»، و«هجن»، و«لا ينتمون إلى هنا ولا إلى هناك»، و«أشخاص على الحدود». عندما أجرى بول بريستون مقابلات مع أبناء ثنائيي اللغة والثقافة غير صم لوالدين أصمين، وجد أن كثيرا منهم لا يستطيعون إطلاق اسم ثنائيي الثقافة على أنفسهم (أو لا يجرءون على ذلك)، حتى إن كانت تجربتهم مثالا على الثنائية الثقافية. قال أحد هؤلاء:
شعرت دوما بعدم الانتماء لأي من الثقافتين؛ فأنا لا أنتمي إلى الصم 100 في المائة، ولا أنتمي أيضا إلى الذين يسمعون. لم أشعر بالراحة مع الذين يسمعون، وإنما أشعر بمزيد من الراحة مع الصم، لكني أعرف أنني لست أصم. ما أشعر به أنني في مكان ما بين الاثنين.
9
الحل الرابع، وهو أن يختار المرء الارتباط بالثقافتين معا، يعتبر أفضل حل نظرا لأن الأشخاص الثنائيي الثقافة يعيشون حياتهم داخل ثقافتين، يجمعون ويمزجون جوانب من كل منهما، حتى إن كانت ثقافة واحدة منهما هي السائدة. ساعد كثيرا من الأشخاص الثنائيي الثقافة وجود مجموعات ثقافية جديدة، مثل مجموعات المهاجرين في أمريكا الشمالية؛ فإن انتساب المرء إلى الأمريكيين الكوبيين أو الأمريكيين الهايتيين، على سبيل المثال، والقدرة على استخدام هذين الاسمين، يعتبران أسلوبا جيدا لإخبار الآخرين بأن لديك إرثا مزدوجا؛ كوبي وأمريكي، أو هايتي وأمريكي، وأنك تريد أن تصنف بأنك شخص ثنائي الثقافة.
بالنسبة إلى الأشخاص الثنائيي الثقافة المنعزلين، قد تأخذ عملية الارتباط بكلتا الثقافتين والاعتراف علنا بأنهم ثنائيو الثقافة بعض الوقت (وليس أنهم لا ينتمون ببساطة لا إلى الثقافة «أ» ولا إلى الثقافة «ب»، كما يقول كثير من الثنائيي الثقافة)، بل إنها قد لا تحدث أبدا في واقع الأمر. يظهر بوضوح أوليفيه تود، الصحفي والكاتب الفرنسي البريطاني، في سيرته الذاتية «بطاقة الهويات»، طوال الوقت أنه كان يبحث عن هويته المزدوجة والمختلطة، على الرغم من حقيقة أنه عندما كان شابا قال له الفيلسوف والكاتب الفرنسي جان بول سارتر إن مشكلته كانت أنه مقسم بين إنجلترا وفرنسا. يثني تود على المشروعات بين البلدين، مثل نفق المانش، ويشعر بأكبر قدر من الراحة مع الذين يشاركونه إرثه المزدوج؛ والدته وزوجته الأولى آن-ماري، وكثير من أصدقائه الثنائيي الثقافة. وعلى الرغم من أنه فعليا لا يستخدم أبدا مصطلح «ثنائي الثقافة» (وكم شخص من الثنائيي الثقافة يفعل هذا!)، فإن المرء يشعر بوضوح أن هذا ما يطمح إلى أن يتصف به علنا، على الرغم من قوله بأنه فرنسي أكثر قليلا من كونه بريطانيا. (يجب ألا تقف سيادة إحدى الثقافات بأي نحو عقبة في طريق تقبل الثنائية الثقافية للمرء، على الرغم من أن الأمر يكون كذلك بالنسبة إلى البعض.) يتحدث أوليفيه، في جزء مؤثر للغاية من سيرته الذاتية، مع ابنته الصغيرة التي تبناها حديثا، أوريليا، ذات الأصل الهندي قائلا:
أتمنى أن أعود معك إلى الهند يا أوريليا، عندما تصبحين في العشرين أو الخامسة والعشرين من عمرك، فأنا أريدك أن تفخري بكونك فرنسية وهندية.
10
لقد حظيت بشرف لقاء أوليفيه تود قبل تأليف هذا الكتاب، وسألته عن ثنائيته الثقافية. أكدت له على حقيقة أن المرء يمكن أن يكون ثنائي الثقافة في الثقافتين «أ» و«ب»، حتى إن كانت إحدى الثقافتين هي السائدة؛ فأجابني بلطف شديد قائلا إن معي حقا، وإنه بالفعل ثنائي الثقافة.
تحكي الكاتبة فيرونيكا تشامبرز كيف اكتشفت بالتدريج هويتها المزدوجة، وكيف سمحت لها رحلتها إلى بنما بالتحول من «فتاة سمراء وحيدة لديها إرث لاتيني مثير، إلى شخص أصبح جزءا من قبيلة لاتينية زنجية أو أحد البنميين الذين من أصل أفريقي.» وتضيف قائلة:
سعدت كثيرا عندما علمت بوجود مجتمع لأناس مثلي؛ فقد كان الجميع من السود، ويتحدثون الإسبانية، ويرقصون مثلما نرقص في وقت الاحتفالات في بروكلين.
11
تقترح اختصاصية علم النفس الإرشادي، تريزا لافرامبويز، وزملاؤها، وجود ستة عوامل تساعد الأشخاص الثنائيي الثقافة على تقبل ثنائيتهم الثقافية والتعايش معها بالكامل؛ وهي: الفهم الجيد للثقافتين المعنيتين، وتكوين موقف إيجابي تجاه كلتيهما، والشعور بالثقة من أن المرء يمكنه الحياة على نحو جيد في ظل كلتيهما، والقدرة على التواصل لفظيا وغير لفظي في كلتا الثقافتين، ومعرفة السلوك المناسب استخدامه ثقافيا في كل منهما، والتمتع بشبكة اجتماعية جيدة في الثقافتين.
12
أختتم هذا الفصل بملاحظة شخصية: عندما أتحدث عن الثنائية الثقافية أو أكتب عنها، يخبرني البعض بأنني متفائل للغاية، وأن «الأمور ليست بمثل هذه السهولة»، ونظرا لمروري بصراع التحول إلى ثنائي الثقافة، أتفق مع هذه الملاحظة الأخيرة ولا أدعي أن الطريق يخلو من العقبات؛ ومع ذلك أجيب أيضا على هذا بأن الكثير من الأشخاص الثنائيي الثقافة لا يحصلون على مساعدة كافية للوصول لهويتهم المزدوجة وتقبلها، وعلى الرغم من ذلك، يصل البعض إلى تقبل ثنائيتهم الثقافية، على الرغم من احتمال ألا تتقبلهم الثقافتان اللتان ينتمون إليهما على هذا النحو. إن للأشخاص الثنائيي الثقافة أهمية بالغة في عصرنا الحالي؛ فهم يمثلون جسورا بين الثقافات التي ينتمون إليها، وهم وسطاء مفيدون يستطيعون شرح إحدى الثقافات لأعضاء الثقافة الأخرى، ويؤدون دور الوساطة بين الثقافتين. قال أحد الذين أجرى معهم بول بريستون مقابلة في دراسته: «نحن نستطيع رؤية كلا الجانبين لأننا نوجد على كلا الجانبين.»
13
الفصل الحادي عشر
شخصية الأشخاص الثنائيي اللغة وأفكارهم وأحلامهم
ومشاعرهم
ذكرت في الفصل الثالث كيف يتعامل الأشخاص الثنائيو اللغة مع العمليات العقلية المكتسبة، مثل العد والصلاة وتذكر أرقام الهاتف وغيرها. سنستعرض في هذا الفصل بعض الموضوعات الأخرى التي تظهر عادة عند الحديث عن الأشخاص الثنائيي اللغة؛ فهل يغيرون شخصيتهم عندما يغيرون لغتهم؟ وما اللغة التي يفكرون أو يحلمون بها؟ وكيف يعبرون عن مشاعرهم؟ إن مثل هذه الأسئلة مثيرة للاهتمام، وكذا إجاباتها. (1) شخصية الأشخاص الثنائيي اللغة
في مقال نشر في 24 يونيو عام 2008 بعنوان «بحث: يمكن لتغيير اللغات أن يغير الشخصية أيضا»، أعلنت رويترز عن بحث زعم أن «الأشخاص الثنائيي الثقافة الذين يتحدثون لغتين قد تتغير شخصيتهم دون وعي عند تغيير اللغة التي يستخدمونها.»
1
كانت وكالة الأنباء العالمية هذه تؤيد ببساطة بهذا الخبر مفهوما خاطئا راسخا منذ وقت طويل، وهو:
خرافة: توجد لدى الأشخاص الثنائيي اللغة شخصية مزدوجة أو منفصمة
ما الأدلة التي تدعم هذا الرأي؟ قبل وصف الدراسة التي ذكرتها رويترز، دعنا نستعرض ما قاله بعض الثنائيي اللغة عن هذا.
2
كتب لي شخص ثنائي اللغة في الفرنسية والإنجليزية ذات مرة يقول:
أنا أعلم أنني أصبح أكثر عدوانية وأكثر تهكما عندما أتحدث بالفرنسية، كذلك أصبح أكثر تعسفا وتعصبا عند الدفاع عن ادعاءاتي.
وقال أحد ثنائيي اللغة في اليونانية والإنجليزية:
عندما أتحدث بالإنجليزية، يكون كلامي مهذبا للغاية وبنبرة هادئة، وأقول دوما: «من فضلك» و«أستميحك عذرا». أما عندما أتحدث باليونانية، فيصبح حديثي أسرع، وتنم نبرة صوتي عن القلق، وأتحدث بطريقة غير مهذبة إلى حد ما، ولا أستخدم أيا من سمات حديثي بالإنجليزية.
أخيرا، كتب لي أحد الأشخاص الثنائيي اللغة في الروسية والإنجليزية:
وجدت أنني عندما أتحدث بالروسية أشعر بأني مهذب و«رقيق» أكثر. أما عند الحديث بالإنجليزية، فأشعر أنني أصبح أكثر «قسوة» و«عملية».
من ثم، نرى أن كلا من الشخصين الثنائيي اللغة في الفرنسية والإنجليزية، واليونانية والإنجليزية، يشعر بأنه يصبح أكثر عدوانية وتوترا عند الحديث بالفرنسية أو اليونانية، على التوالي، مقارنة بالإنجليزية، أما الشخص الثنائي اللغة في الروسية والإنجليزية، فيشعر برقة أكثر عند حديثه بالروسية.
أشارت الكتابات في هذا المجال إلى الانطباعات المشتركة لدى الأشخاص الثنائيي اللغة هؤلاء وغيرهم؛ فقد لاحظ روبرت دي بيترو، العالم اللغوي الذي كان هو نفسه ثنائي اللغة في الإنجليزية والإيطالية، أن أسلوب صاحب أحد محلات الجزارة الموجودة في واشنطن، الذي كان أمريكيا من أصل إيطالي، كان يختلف مع تغييره اللغة التي يستخدمها؛ فقد كان أسلوب تعامله رسميا إلى حد ما عند حديثه بالإنجليزية، بينما كان يلقي الدعابات وأحيانا حتى يغازل النساء الشابات بلطف عند حديثه بالإيطالية.
3
وقال تشارلز جالهر، أحد الخبراء في شئون شمال أفريقيا، إنه عندما يتسامر الأشخاص الثنائيو اللغة الفرنسيون الذين من أصل عربي، مع أصدقائهم الفرنسيين؛ تختلف شخصيتهم تماما عن تلك التي تظهر عند حديثهم بالعربية.
4
أجرت عالمة النفس سوزان إرفين بعض الأبحاث المثيرة للاهتمام في بداية حياتها العملية على هذا الموضوع بالتحديد؛ فعرضت في إحدى دراساتها بطاقات اختبار تفهم الموضوع - وهي بطاقات تعرض صورا ذات محتوى غامض - على أفراد ثنائيي اللغة في الفرنسية والإنجليزية عاشوا في الولايات المتحدة 12 سنة في المتوسط. أجرت الاختبار عليهم في جلستين، واحدة لكل لغة، تفصل بينهما ستة أسابيع، واكتشفت وجود تأثيرات واضحة للغة على ثلاثة متغيرات: العدوان اللغوي تجاه الأقران، والاستقلالية أو الانعزال، والإنجاز. على سبيل المثال: قالت سيدة ثنائية اللغة عن البطاقة نفسها في جلسة اللغة الفرنسية:
أعتقد أن الزوج يريد أن يتركها لأنه عثر على امرأة أخرى يحبها أكثر ... أنا لا أعرف خطأ من هذا، لكن بالتأكيد يبدو عليهما الغضب.
وقالت في جلسة اللغة الإنجليزية:
لقد قرر الحصول على تعليم جيد ... فسيستمر في العمل والذهاب إلى الكلية في المساء لبعض الوقت ... سوف يحصل على وظيفة أفضل وسيصبحان أكثر سعادة، وستكون زوجته قد ساعدته طوال الطريق.
لاحظت إرفين أن الصور في اللغة الفرنسية عبرت عن موضوعات مثل العنف والكفاح من أجل الاستقلالية، بينما في الإنجليزية بدا أن الزوجة تدعم زوجها.
5
في دراسة أخرى طلبت إرفين من سيدات أمريكيات من أصل ياباني إنهاء الجمل التي أعطتها لهن بعبارات من كل من اليابانية والإنجليزية؛ ووجدت أن النهايات جاءت مختلفة تماما، وفقا للغة التي استخدمنها؛ على سبيل المثال: في الجملة التي بدأت ب «عندما تتعارض رغباتي مع مصلحة أسرتي ...» أكملتها إحدى المشاركات باليابانية: «... أكون في هذا الوقت في قمة تعاستي»، بينما كانت نهايتها بالإنجليزية: «... أفعل عندها ما أريد.» وفي حالة الجملة التي بدأت ب «يجب على الأصدقاء الحقيقيين ...» كانت التكملة اليابانية: «... مساعدة بعضهم بعضا»، والإنجليزية: «... التزام أقصى درجات الصراحة.»
6
بعد مرور ما يقرب من أربعين عاما، أجرى ديفيد لونا وزملاؤه الدراسات التي وردت في خبر وكالة رويترز. على الرغم من التشابه الكبير بينها وبين دراسات إرفين، لم تذكر دراسات إرفين على الإطلاق، وهو أمر مؤسف لأن إرفين قدمت تفسيرا معقولا لجميع النتائج التي حصلت عليها. في دراسات لونا طلب من مجموعة من الطالبات الثنائيات اللغة الأمريكيات اللاتي من أصل إسباني تأدية عدة مهام. في إحدى الدراسات كان عليهن وصف إعلانات مستهدفة بإحدى لغتيهن أولا ، ثم بعد ستة أسابيع باللغة الأخرى. كانت هذه الإعلانات تحتوي على صور لسيدات، وطرحت عليهن أسئلة مثل: «ماذا تفعل السيدة الموجودة في الإعلان؟» و«ما الذي تشعر به؟» وهكذا. اكتشف لونا وزملاؤه أنه في جلسات اللغة الإسبانية، نظرت المشاركات إلى السيدات اللاتي ظهرن في الإعلانات على أنهن أكثر تمتعا بالاكتفاء الذاتي (أي يتمتعن بالقوة والذكاء والاجتهاد والطموح)، بالإضافة إلى الانفتاح؛ أما في جلسات اللغة الإنجليزية، فعبرن عن وجهات نظر تقليدية أكثر عن المرأة تعبر عن عدم استقلاليتها وتمحور اهتمامها حول الأسرة. وفي دراسة أخرى، كان على المشاركات القيام بمهمة تصنيف في مدة محددة، أظهرت أن العلاقة بين فئة «الذكور» و«عدم الاستقلالية» من ناحية، وفئة «الإناث» و«الاكتفاء الذاتي» من ناحية أخرى، كانت أقوى في الإسبانية عنها في الإنجليزية، وبذلك يصبح لدينا دليل على صحة نتائج الدراسة الأولى.
7
إذا هل يعني هذا وجود هويتين لدى الأشخاص الثنائيي اللغة كما يشير عنوان بحث لونا «شخص واحد وهويتان»؟ أم أن خبر رويترز الذي نشرته بناء على هذا البحث - الذي مفاده أن الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يتحدثون لغتين قد تتغير شخصيتهم دون وعي عند تغيير اللغات المستخدمة - كان صحيحا؟ هل يمكن أن يوجد قدر من الصحة في المثل التشيكي «تعلم لغة جديدة تحصل على روح جديدة»؟ تجدر بنا الإشارة أولا إلى أن الأشخاص الثنائيي اللغة الأحاديي الثقافة غير معنيين بأي من هذا الكلام، على الرغم من أنهم قد يمثلون الغالبية العظمى من الثنائيي اللغة في العالم. في الواقع، في كثير من الدول الأفريقية والأوروبية والآسيوية يتسم الناس بكونهم ثنائي اللغة أو متعددي اللغات، بينما يكونون أعضاء ثقافة أساسية واحدة فقط. لكن ماذا عن الأشخاص الثنائيي اللغة الثنائيي الثقافة؟ أشرت، منذ أكثر من خمس وعشرين، في أول كتاب لي عن الثنائية اللغوية، إلى أن ما يراه الناس على أنه تغير في الشخصية هو ببساطة تحول في التوجهات والسلوكيات بما يتوافق مع التحول في الموقف أو السياق ، بعيدا عن اللغة.
8
فعليا، كان المشاركون الثنائيو اللغة والثقافة في هذه الدراسات المتعددة يتصرفون وفقا لثنائيتهم الثقافية؛ من حيث التأقلم مع السياق الذي يجدون أنفسهم فيه (انظر الفصل السابق). في الواقع، قالت سوزان إرفين في أول دراسة لها في هذا السياق (1964)، أمرا مشابها:
من الممكن أن يرتبط تغيير اللغة بتغير الأدوار الاجتماعية والتوجهات العاطفية. فنظرا لأن المرء يتعلم كل لغة ويستخدمها عادة مع أشخاص مختلفين وفي سياق مختلف، فقد يرتبط استخدام كل لغة بتغير في عدد كبير من السلوكيات.
9
وكما رأينا في حديثنا السابق عن وظائف اللغة، يستخدم الأشخاص الثنائيو اللغة لغاتهم لأغراض مختلفة، وفي مجالات حياتية مختلفة، ومع أشخاص مختلفين. تتطلب عادة جوانب الحياة المختلفة استخدام لغات مختلفة. وتؤدي السياقات والمجالات الحياتية إلى مواقف وانطباعات وسلوكيات مختلفة، وما يراه الناس على أنه تغير في الشخصية نتيجة لتغير اللغة، قد لا تكون له أية علاقة باللغة في حد ذاتها. في الواقع، عندما سألت بعض الأشخاص الثنائيي اللغة الآخرين، قالوا التفسير الصحيح بالضبط لهذا؛ فقال شخص ثلاثي اللغة في الفرنسية والفلمنكية والإنجليزية:
أنا لا أعرف حقا إذا ما كانت شخصيتي تتغير عندما أغير اللغة التي أستخدمها. والسبب الأساسي في عدم المعرفة هذه هو أنني أستخدم اللغتين في مواقف مختلفة، ومن ثم يجب علي التصرف على نحو مختلف، حتى إن كنت أستخدم اللغة نفسها.
كما أشار بوضوح هذا الشخص الثلاثي اللغة، فإن المواقف المختلفة تجعل المرء يتصرف على نحو مختلف، سواء أكان يستخدم لغة واحدة أم عدة لغات. فكر في أسلوب حديثك مع أقرب أصدقائك، والسلوك والشخصية اللذين تتبناهما معه، وفكر كيف يتغير هذا في أكثر تعاملاتك رسمية، مثل التعامل مع مدير مدرسة، أو مع شخصية لها سلطة دينية، أو مع صاحب العمل. توجد طريقة أخرى لاختبار هذا تتمثل في ملاحظة الأشخاص الثنائيي الثقافة الأحاديي اللغة؛ فعلى الرغم من أن لدى هؤلاء لغة واحدة، فإنهم على الأرجح يتصرفون تماما مثل الأشخاص الثنائيي الثقافة الثنائيي اللغة، وبذلك يثبتون أن تغيير اللغة ليس هو ما يحث على حدوث تغيرات في السلوك والمواقف .
نذكر إفادة أخيرة لسيدة ثلاثية اللغة في الألمانية السويسرية والفرنسية والإنجليزية:
عندما أتحدث بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية مع أختي لا تتغير شخصيتي. ومع ذلك، بناء على المكان الذي نكون فيه، قد تكيف كل منا سلوكها مع مواقف معينة نجد أنفسنا فيها.
بعبارة أخرى، يدفع كل من البيئة والمستمعين معا الأشخاص الثنائيي الثقافة الثنائيي اللغة إلى تغيير مواقفهم ومشاعرهم وسلوكياتهم (بالإضافة إلى اللغة)؛ ولا يكون هذا نتيجة لتغيير لغتهم في حد ذاته. إن هذا الكلام لا يمثل خبرا مذهلا، جديرا بأن تنشره رويترز، لكنه هو الأقرب إلى الحقيقة. (2) تفكير الأشخاص الثنائيي اللغة وأحلامهم
يوجد سؤال يطرح دوما على الأشخاص الثنائيي اللغة، وهو: ما اللغة التي يفكرون بها؟ طرحت هذا السؤال في دراسة صغيرة أجريتها على ثنائيي وثلاثيي اللغة، وكانت الإجابة: «بكلتا اللغتين» (بنسبة 70 في المائة).
10
لكن قبل أن نحاول فهم هذه النتيجة، يجب أن أؤكد على أن التفكير يمكن ألا يرتبط عادة باللغة؛ فعندما يسير الناس في الشارع أو يركبون حافلة أو يركضون في الأدغال، قد لا تكون أفكارهم بلغة محددة، سواء أكانوا أحاديي أم ثنائيي اللغة. فقد اعترف الفلاسفة وعلماء النفس منذ وقت طويل بأن التفكير يمكن أن يكون بصريا مكانيا، أو يحتوي على مفاهيم غير لغوية. رأى بعض العلماء مثل ستيفن بينكر وجيري فودور أن لدينا ما يسمى ب «لغة التفكير» (وتسمى أيضا «اللغة العقلية»)، وهي لغة ظهرت قبل ظهور اللغات؛ بمعنى أنها ظهرت قبل تحول التمثيلات التي نفكر فيها إلى الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية، على سبيل المثال. يرى بينكر وفودور (لكن يوجد معارضون لهذا الرأي) أن اللغات الفردية لا تتدخل فعليا إلا في مرحلة متأخرة، عندما نخطط للحديث أو في مرحلة الحديث الداخلي الصامت؛ وحينها نصبح أحيانا مدركين للغة التي نفعلها.
أما الإجابة المذكورة سابقا (بكلتا اللغتين) فلا تثير الدهشة، نظرا لأن الأشخاص الثنائيي اللغة الذين سألتهم قد وضعوا على الأرجح في حسبانهم «المناجاة الداخلية» أو «الحديث الداخلي » عند إجابتهم عن سؤالي. ونظرا لأن الحديث (في هذه الحالة الحديث غير الشفوي) يستخدم عادة في مواقف مختلفة، ومع أشخاص مختلفين، ولأغراض مختلفة (انظر الحديث عن مبدأ التكامل)، فإن إجابتهم تكون منطقية للغاية. ومن ثم، إذا فكرت في شيء أريد كتابته في هذا الكتاب، بعد مرحلة «لغة التفكير» (أو اللغة العقلية)، فإن هذا سيكون بالإنجليزية؛ لأنني سأكتب هذا الشيء بهذه اللغة. أما إذا فكرت في قائمة التسوق، فإن هذا سيكون بالفرنسية؛ لأنني أعيش في منطقة تتحدث بالفرنسية. وإذا فكرت في شيء قاله لي أحد الأصدقاء ذات يوم، فإن هذا سيكون باللغة التي استخدمها هذا الصديق عند حديثنا معا. كتبت لي عالمة اللغة أنيتا بافلينكو تقول في هذا الشأن: «بهذه الطريقة، فإن التفعيل المتعلق بالسياق يؤثر في اختيار لغة «الحديث الداخلي».»
11
لا يختلف الوضع في حالة الأحلام. في الدراسة الصغيرة التي أجريتها، قال عدد كبير من ثنائيي وثلاثيي اللغة (نحو 64 في المائة) إنهم يحلمون بإحدى لغتيهم، بناء على طبيعة الحلم (هذا بالطبع عند استخدام لغة في الحلم). مرة أخرى، يطبق مبدأ التكامل في هذه الحالة؛ فبناء على الموقف والشخص اللذين نحلم بهما، سنستخدم لغة معينة من اللغتين أو كلتيهما؛ على سبيل المثال: أخبرني شخص ثنائي اللغة في الفرنسية والإنجليزية في الولايات المتحدة ذات مرة، أنه حلم بقرية صغيرة يعرفها جيدا في الجزء الذي يتحدث بالفرنسية في سويسرا، لم يذهب إليها منذ سنوات عديدة؛ التقى في حلمه بأحد سكان هذه القرية وتحدث معه بالفرنسية.
أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في أحلام الأشخاص الثنائيي اللغة، هو أن بعضا منهم قال إنه رأى نفسه يتحدث بطلاقة إحدى اللغات في الحلم، بينما هو في الواقع لا يجيد هذه اللغة إلى هذا الحد. وورد عن عالم اللغة فيروبوج فيلدومك أن شخصا ما متعدد اللغات يتحدث بعض الروسية لكن ليس بطلاقة، حلم أنه يتحدثها بطلاقة، لكنه عندما استيقظ أدرك أن هذا كان في الواقع خليطا من التشيكية والسلوفاكية، مع قليل من الروسية، ولم تكن إجادة منه للروسية على الإطلاق. أضاف فيلدومك أنه ورد عن آخرين من ثنائيي اللغة استخدامهم لتداخلات لغوية في أحلامهم، وهي انحرافات في إحدى اللغات نتيجة للغة أخرى، على الرغم من أنهم نادرا ما يفعلون هذا في اليقظة.
12
صحيح أن بعض الأشخاص الثنائيي اللغة يحرصون على إبعاد التداخلات اللغوية عن أحاديثهم اليومية، لكن في أثناء النوم يصبح المخ في حالة من الاسترخاء، ويدع اللغة الأخرى تتسلل كما يحلو لها. (3) مشاعر الأشخاص الثنائيي اللغة
أحد الجوانب المعقدة للغاية والمثيرة للاهتمام في الثنائية اللغوية هو أسلوب تعامل الأشخاص الثنائيي اللغة مع المشاعر بلغاتهم:
خرافة: يعبر الأشخاص الثنائيو اللغة عن مشاعرهم بلغتهم الأولى، التي عادة ما تكون لغة والديهم
على الرغم من هذا المعتقد الراسخ (لكن الخاطئ)، فإن الأمور لا تكون بمثل هذه البساطة؛ بداية، لقد نشأ بعض الأشخاص الثنائيي اللغة وهم يتعلمون لغتين في وقت واحد، ومن ثم أصبح لديهم أكثر من لغة أولى واحدة يمكنهم التعبير بها عن مشاعرهم. وبالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأشخاص الثنائيي اللغة الذين اكتسبوا لغاتهم تباعا؛ اللغة الأولى، ثم بعدها بعدة سنوات اكتسبوا لغة أخرى، فإن النمط لا يكون واضحا. قضت أنيتا بافلينكو، وهي شخص متعدد اللغات، سنوات عديدة في البحث في موضوع علاقة المشاعر بالثنائية اللغوية، وألفت كتابا حول هذا الموضوع، وخلصت فيه إلى ما يلي:
حاولت تدمير خرافة وجود علاقة بسيطة وملموسة ويمكن وصفها بسهولة بين لغات ومشاعر المتحدثين الثنائيي اللغة والمتعددي اللغات، وإظهار أن هذه العلاقة يتفاوت شكلها من شخص لآخر، وحتى من مجال لغوي لآخر لدى الشخص نفسه.
13
هذا لا يمنع أن بعض الأشخاص الثنائيي اللغة يفضلون التعبير عن مشاعرهم بلغتهم الأولى؛ التي عادة ما تكون لغتهم السائدة. فكر في جميع الأشخاص الثنائيي اللغة الذين عاشوا في المكان نفسه طوال حياتهم، والذين يستخدمون لغتهم الأولى مع أسرهم وأصدقائهم، والذين تعلموا لغتيهم الثانية والثالثة في مرحلة المراهقة، والذين يستخدمون هاتين اللغتين في عملهم بالأساس. من المنطقي أن يعبر هؤلاء عن مشاعرهم بأكثر لغة استخداما بالنسبة إليهم، وهي لغتهم الأولى. لكن كما كتبت بافلينكو، من السذاجة افتراض أن هذه الفئة الأخيرة من الثنائيي اللغة تكون لديهم روابط عاطفية مع لغتهم الأولى فقط، وأن مثل هذه الروابط لا توجد مع لغاتهم الأخرى.
14
على سبيل المثال: قد يقرر بعض الأشخاص الثنائيي اللغة الذين تعرضوا لإحدى التجارب القاسية بلغتهم الأولى، عدم استخدامها فيما بعد عندما يصبحون في موقف يمكنهم فيه ذلك. تستشهد بافلينكو بما ذكرته مونيكا شميد، وهي عالمة لغة أجرت لوقت طويل أبحاثا على نسيان اللغة، وقد ذكرت زوجين تعرف أحدهما على الآخر في ألمانيا قبل الحرب مباشرة، قبل أن يهاجرا، وبسبب الضغط النفسي الذي عاشا فيه في أثناء الحرب، لم يتحدثا الألمانية - وهي لغتهما الأولى - أحدهما مع الآخر، طوال زواجهما الذي استمر أكثر من خمسين عاما، ولا حتى فيما بينهما.
15
توجد أيضا حالة المؤرخة والمؤلفة جيردا ليرنر، التي انضمت إلى المقاومة المناهضة للنازية في النمسا، قبل أن تهاجر في عام 1939 وهي في التاسعة عشرة من عمرها؛ وبمجرد استقرارها في الولايات المتحدة رفضت استخدام لغتها الأولى؛ فقد كانت تنفر منها بشدة، ولم تتصالح مرة أخرى مع اللغة الألمانية إلا بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاما.
حتى إن لم يمر الأشخاص الثنائيو اللغة بتجربة قاسية بلغتهم الأولى، فإنهم قد يفضلون استخدام لغتهم الثانية على لغتهم الأولى في التعبير عن مشاعرهم. جاءت الإفادة التالية على لسان سيدة ثنائية اللغة في الإنجليزية والفرنسية، نشأت في إنجلترا وانتقلت إلى فرنسا في سن الحادية والعشرين:
أحد الأمور التي تشعر المرء بالتحرر أن يتحدث بلغة ليست لغته الأم؛ لأنه يصبح من السهل عليه الحديث عن الموضوعات المحظورة، فأجد أنه من السهل الحديث عن أي شيء يتعلق بالمشاعر بالفرنسية، بينما أعجز عن الحديث في موقف عاطفي بالإنجليزية، فأجد أن المحتوى العاطفي للكلمات يكون أكبر بكثير.
فسرت لي هذا بأن طفولتها الإنجليزية كانت تخلو من المشاعر، وأنها لم تكتشف معنى الحب إلا باللغة الفرنسية. قالت لي في نهاية حديثها: «ربما أتمكن يوما ما من قول الكلمات الإنجليزية
I love you (أنا أحبك).» تقدم لنا إحدى الإفادات الأخرى المثيرة للاهتمام الكاتبة الثنائية اللغة نانسي هيوستن؛ تتحدث فيها عن طريقة حديثها مع طفلتها الصغيرة ليا، التي ولدت بعد تسع سنوات من انتقال هيوستن إلى باريس. كانت تمر بفترة تشهد استخداما قويا للغة الفرنسية، وتزوجت من شخص ثنائي اللغة في البلغارية والفرنسية كانت تتحدث معه بالفرنسية. كتبت هيوستن تقول إنها بدأت تتحدث مع طفلتها ليا بالإنجليزية، لكنها ببساطة لم تستطع الاستمرار؛ إذ كانت الذكريات والمشاعر التي يحركها هذا الحديث شديدة للغاية بحيث لم تستطع الاستمرار في التحدث بالإنجليزية. (فقد مرت هيوستن بوقت عصيب للغاية في طفولتها؛ فعندما كانت في السادسة من عمرها عاشت تجربة ترك والدتها لمنزل الأسرة.)
16
يذكر كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة من الفئة الأخيرة هذه، أنه من الأسهل عليهم السب بلغتهم الثانية؛ فكتبت لي السيدة الثنائية اللغة في الإنجليزية والفرنسية المذكورة آنفا قائلة:
أستطيع السب بسهولة أكبر بالفرنسية، ولدي كم أكبر من المفردات «السوقية» ... واكتشفت أن أسلوب استخدامي للفرنسية يؤثر بالتدريج على طريقة استخدامي للإنجليزية؛ وأستطيع الآن أن أقول
shit
و
fuck off .
تحلل هيوستن، التي كانت رسالتها للماجستير عن المحظورات اللغوية وكلمات السب، هذه الظاهرة التي تعرضت هي نفسها أيضا إليها في خلال سنوات حياتها الأولى في باريس، فكتبت تقول:
بوجه عام كانت اللغة الفرنسية من وجهة نظري، أقل إفعاما بالمشاعر، ومن ثم أقل خطورة، من لغتي الأم؛ فقد كانت تتسم بالبرودة وكنت أتعامل معها ببرود ... وعلى الرغم من وجود هذه الميزة، لم تكن تخلو من العيوب. إلى حد ما، كنت أشعر بحرية كبيرة عند التحدث باللغة الفرنسية، فلم تكن اللغة تؤثر في؛ فلم تكن تتحدث إلي أو تغني لي أو تهزني أو تصفعني أو تصدمني أو تخيفني بشدة؛ فقد كانت محايدة تجاهي.
17
عندما يتعب الأشخاص الثنائيو اللغة أو يغضبون أو يتحمسون، عادة ما يتحولون لاستخدام اللغة التي تعبر عن مشاعرهم، سواء أكانت لغتهم الأولى أم الثانية. إليك ما قاله لي شخص ثنائي اللغة في البرتغالية والإنجليزية:
إذا حدث شيء يثير غضبي، وإذا سمحت لنفسي بالتعبير عن بعض من هذا الغضب ، فإنني أستخدم البرتغالية دون شك، بصرف النظر عن السياق أو الموقف.
تشير بافلينكو إلى أنه في بعض الأحيان عندما يشعر الأشخاص الثنائيو اللغة بغضب حقيقي، يفقدون الاهتمام بحدوث تواصل حقيقي، وقد يستخدمون لغة لا يستطيع شريك حياتهم أو أبناؤهم فهمها؛ فيمكن لهذا أن يعطيهم إشباعا عاطفيا حتى إن لم تكن الكلمات مفهومة.
18
قد يتسبب الضغط العصبي في حدوث تداخلات لغوية، ومشكلات في العثور على الكلمة المناسبة، وتبديل لغوي غير مقصود. إليك هذه التجربة الشخصية: عضني ذات مرة سمك الراي اللاسع بينما كنت أسبح في مياه ضحلة في كاليفورنيا؛ شعرت بألم شديد وكنت أنزف بشدة، ونظرا لأنني كنت بصحبة مجموعة تتحدث بالإنجليزية، أذكر أنني أخذت أتحول بين الإنجليزية والفرنسية؛ فقد استخدمت الإنجليزية لأطلب منهم أخذي إلى الطبيب، وقلت بعض الكلمات الفرنسية لتساعدني في التعبير عن ألمي وتخفيفه. وفي بعض المواقف العصيبة جدا يمكن إقصاء إحدى اللغات بالكامل؛ إليك ما كتبه إلي ذات مرة أحد الأشخاص الثنائيي اللغة في اللغتين الإنجليزية ولغة الإشارة الأمريكية:
تعرضت ذات مرة لأحد المواقف المؤثرة للغاية ولم أستطع الكلام، لكن كان الموجودون معي يفهمون لغة الإشارة؛ فقد كانوا أيضا ثنائيي اللغة؛ لذا تحدثت إليهم بلغة الإشارة وتواصلنا باستخدامها.
تكون اللغة المستخدمة في العلاج النفسي كذلك كاشفة للغاية. يحكي بول بريستون كيف أخبره خمسة أشخاص ثنائيو اللغة في اللغة الإنجليزية ولغة الإشارة الأمريكية، أجرى مقابلات معهم، بأنهم يشعرون بالكبت في جلسات العلاج النفسي؛ لأنهم لا يستطيعون التعبير بالإنجليزية عن بعض الأشياء التي يريدون قولها فعلا بلغة الإشارة.
19
وتقول نانسي هيوستن إنها مقتنعة بأنها لم تستطع إنهاء تحليلها النفسي لأنه أجري بالفرنسية، وهي اللغة التي كانت تشعرها بالأمان في ذلك الوقت، والتي كانت عند استخدامها تجعل اضطراباتها العصبية تحت السيطرة.
20
من ثم، توجد علاقة معقدة وشخصية للغاية أيضا بين المشاعر والثنائية اللغوية التي لا توجد لها قواعد محددة؛ فيفضل بعض الأشخاص الثنائيي اللغة استخدام إحدى اللغات، ويفضل البعض استخدام اللغة الأخرى ، ويستمر آخرون في استخدام كلتا اللغتين. كتبت بافلينكو عن عاداتها تقول:
أرتبط بكل لغة، على نحو مختلف، بروابط لا أستطيع التخلص منها؛ ومن ثم، لا يسعني يوميا إلا أن أستخدم كلا من الإنجليزية والروسية عند الحديث عن المشاعر؛ فأهمس لشريك حياتي الذي يتحدث بالإنجليزية
I love you (أنا أحبك). وأقول بلطف لجدتي التي تتحدث بالروسية وأنا أحدثها في الهاتف:
Babulechka, ia tak skuchaiu po tebe (جدتي، أشتاق إليك كثيرا).
21
الفصل الثاني عشر
الكتاب الثنائيو اللغة
يوجد في كل مجموعات البشر أعضاء استثنائيون، ومن دواعي سروري أن أذكر بعضا من هؤلاء الأفراد المميزين في «فئتنا» في الفصلين القادمين. لن يصبح كثير منا - نحن الأشخاص الثنائيي اللغة - مثلهم (ولا حاجة بنا إلى ذلك)، لكنهم لنا من الناحية اللغوية بمنزلة إدموند هيلاري أو تينسينج نورجاي، ولهم أهمية في عرضنا في هذا الكتاب.
سأركز في هذا الفصل على الكتاب الثنائيي اللغة، نظرا لأن الكتابة مجال خاص باللغة، وربما إحدى أصعب المهارات المعرفية التي يكتسبها الإنسان. عادة تظل اللغة التي نتعلم القراءة والكتابة بها بطلاقة في شبابنا اللغة التي نستخدمها في الكتابة لباقي حياتنا. بالطبع، يفضل البعض الكتابة بلغة أخرى، أو عدة لغات أخرى، لكنهم قد لا يشعرون براحة بالغة في فعل هذا. ومع ذلك، يجد المرء في عالم الكتابة الأدبية المحترفة الصغير استثناءات واضحة تضم أشخاصا ثنائيي اللغة؛ فيوجد بعض الكتاب الثنائيي اللغة الذين يؤلفون كتبا بلغتهم الثانية (أو الثالثة)؛ وهو إنجاز مذهل عندما يفكر المرء في مدى صعوبة كتابة أعمال أدبية بلغة المرء الأصلية. والظاهرة الاستثنائية أكثر من هذا تتمثل في الذين يكتبون أعمالا أدبية بكلتا لغتيهم، وسنتحدث في هذا الفصل عن هؤلاء الكتاب البارزين. (1) الكتابة باللغة الثانية (أو الثالثة)
يوجد كثير من الكتاب الثنائيي اللغة أو المتعددي اللغات، لكنهم مع ذلك يقررون الالتزام بلغة واحدة عند الكتابة، وعادة ما تكون لغتهم الأولى. ومن ثم، نجد أن إيزاك بي سينجر، على سبيل المثال، المؤلف الأمريكي الذي من أصل بولندي والحاصل على جائزة نوبل، كان يكتب دوما بلغته الأصلية، اليديشية، على الرغم من معرفته بكثير من اللغات الأخرى، خاصة البولندية والعبرية . كما كان الشاعر تشيسلاف ميلوش، الحاصل أيضا على جائزة نوبل، يجيد البولندية والروسية والإنجليزية واللتوانية والفرنسية، لكنه كان يكتب بالبولندية فقط.
توجد مجموعة فرعية من هؤلاء الكتاب، وتتمثل في الذين يختارون تأليف كتبهم بأكثر لغة يتقنون الكتابة بها، حتى إن لم تكن لغتهم الأولى. يتبادر مثالان إلى الذهن؛ الأول ريتشارد رودريجيز، مؤلف الكتاب الأكثر رواجا «نهم الذاكرة»، والذي كانت الإسبانية لغته الأولى لكن تحولت أسرته إلى استخدام الإنجليزية عند التحاقه بالمدرسة؛ ومن ثم، أصبحت الإنجليزية لغته السائدة خلال فترة المراهقة، وبالتأكيد اللغة التي يكتب بها. أما المثال الآخر فهو إيفا هوفمان، التي انتقلت من بولندا إلى كندا عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها، والتي ألفت كتابها «فقد في الترجمة» بالإنجليزية، وهي اللغة التي درست بها في المدرسة الثانوية والجامعة. يسرد كتابها، تماما مثل كتاب رودريجيز، ببراعة رحلتها الفكرية والإنسانية في فكر المجتمع الأمريكي وثقافته. اختار المؤلفان استخدام اللغة الإنجليزية في الكتابة، وقدموا أساليب أدبية قوية، وفريدة في بعض الأحيان؛ بالطبع، نظرا لكونهما ثنائيي اللغة أتيحت لهما فرصة الإشراف على بعض الترجمات لأعمالهما، لكنهما لم يخاطرا بإنتاج إبداعات أدبية بلغتهما التي لا يجيدانها إجادة تامة.
مع ذلك، يوجد مؤلفون يقررون الكتابة بلغتهم الثانية أو حتى الثالثة، حتى إن كانوا يتقنون الكتابة بلغتهم الأولى. ربما يكون أشهر مثال على ذلك هو جوزيف كونراد، الذي كتب في أوائل القرن العشرين أعمالا كلاسيكية مثل: «قلب الظلام»، و«اللورد جيم»، و«نوسترومو»، و«العميل السري». ولد كونراد في بولندا، وعاش بها حتى بلغ سن السادسة عشرة، ثم انتقل للعيش في فرنسا لمدة أربع سنوات وأصبح يجيد الفرنسية. انضم إلى الأسطول التجاري الإنجليزي وتعلم التحدث والكتابة بالإنجليزية. عندما أنهى عمله في البحرية في سن الخامسة والثلاثين، كان قد كتب بالفعل بعض الأعمال النثرية بالإنجليزية، وبعد هذا كرس كل وقته لتأليف الروايات. الأمر المثير للاهتمام أنه لم يؤلف كتبه بالبولندية - لغته الأولى - أو بالفرنسية التي يجيد الكتابة بها ، وإنما بالإنجليزية؛ لغته «الثالثة».
بحسب ما ورد عن فريدريك كارل كاتب السيرة الذاتية لكونراد، كان قرار كونراد بعدم التأليف بالبولندية وسيلته لفصل نفسه عن والده وثقافته وبلده. وللأسف لم يفهم كل من البريطانيين والبولنديين موقفه؛ فقال عنه البريطانيون إنه كان بولنديا متخفيا، وقال البولنديون العكس (وهذه مشكلة نموذجية متعلقة بالثنائية الثقافية). لقد كانت أعمال كونراد النثرية الإنجليزية رائعة للغاية ولا تتطلب أي تحرير تقريبا، لكنه كان لا يزال يحتفظ في حديثه بلكنة واضحة، منعته من إلقاء محاضرات على الملأ. إليك ما قاله كونراد، نقلا عن كارل، إلى ناقد بلجيكي بعد استقراره في إنجلترا بنحو عشرين عاما:
لا يزال نطقي في الإنجليزية غير سليم إلى حد ما إلى يومنا هذا. ولسوء الحظ، نظرا لعدم تمتعي بأذن موسيقية، ما زلت أتلعثم في نطق الكلمات، خاصة عندما أدرك هذا في أثناء الحوار. وفي الكتابة أدخل في صراع مرير مع هذه اللغة التي أشعر بأني لا أمتلكها وإنما هي التي تمتلكني، مع الأسف.
1
حافظ كونراد على طلاقته في اللغتين البولندية والفرنسية، وفي المنزل كان دوما يجري حوارات باللغات الثلاث. كذلك قدم النصح إلى المترجمين الذين ترجموا كتبه إلى الفرنسية والبولندية.
تكتب أجوتا كريستوف، وهي مؤلفة معاصرة ثنائية اللغة في المجرية والفرنسية، رواياتها بلغتها الثانية فقط. هربت أجوتا من المجر مع زوجها وطفلها البالغ من العمر أربعة أشهر خلال ثورة عام 1956 (كانت في الحادية والعشرين من عمرها في ذلك الوقت)، واستقرت في مدينة نيوشاتل في سويسرا. لم تكن تعرف أية لغة إلا المجرية عند وصولها إلى هذه المدينة لأول مرة، وعملت لعدة سنوات في مصنع محلي لصنع الساعات. التحقت مرة أخرى بالجامعة ودرست الفرنسية بفضل منحة من الجامعة المحلية، وبدأت في احتراف الكتابة الأدبية بعد نحو 12 سنة من انتقالها إلى سويسرا. ترجم كتابها «المذكرة» (1986) - الذي يحكي قصة أخوين توءمين فقدا في دولة ممزقة - إلى عدة لغات. وتحكي في سيرتها الذاتية بعنوان «الأمية» (2004)، عن هجرتها الإجبارية إلى أوروبا الغربية.
2 (2) الكتابة بلغتين
كما قلت من قبل، إن الكتابة مهارة صعبة بأية لغة، والكتابة الأدبية فن لا يتقنه إلا عدد قليل من الناس. ومع ذلك، توجد مجموعة استثنائية من الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يكتبون أعمالهم بلغتين، وليس لغة واحدة. أريد أن أستعرض هؤلاء المؤلفين الذين انتقلوا من التأليف بلغتهم الأولى إلى التأليف بلغتهم الثانية؛ وهؤلاء الكتاب، الأقل عددا، الذين بدءوا التأليف بلغتهم الثانية ثم عادوا، كما يبدو، إلى التأليف بلغتهم الأولى؛ والمؤلفين الذين يكتبون أعمالا ثنائية اللغة، باستخدام اللغتين في العمل الواحد.
بعض الكتاب الثنائيي اللغة الذين هاجروا في مرحلة أو أكثر من حياتهم، تحولوا من الكتابة بلغتهم الأولى إلى الكتابة بلغتهم الثانية أو الثالثة. يتبادر إلى ذهني ثلاثة من هؤلاء المؤلفين. ولد فلاديمير نابوكوف في سانت بطرسبرج، في روسيا عام 1899، ونشأ ثلاثي اللغة في الروسية والفرنسية والإنجليزية، وفي سن العشرين ذهب إلى كامبريدج حيث قرأ الأدب الفرنسي والسلافي. اشتهر نابوكوف بكونه أحد كتاب المهجر الذين كانوا يكتبون بالروسية، ونشر أعمالا مثل «ماشينكا» و«الهدية» و«العين» بهذه اللغة، لكنه فيما بعد كتب بالإنجليزية وأصبح مشهورا في العالم الناطق بالإنجليزية بسبب روايات مثل: «سيرة سباستيان نايت الحقيقية»، و«الخط المشئوم»، و«آدا»، و«لوليتا». ترجم نابوكوف أيضا أعمالا روسية إلى الإنجليزية، وأعمالا إنجليزية إلى الروسية (مثل «أليس في بلاد العجائب»).
المؤلف الثاني في هذه المجموعة هو صامويل بيكيت. ولد بيكيت في أيرلندا وكانت الإنجليزية لغته الأصلية، وتعلم الفرنسية في المدرسة وحصل على شهادته الجامعية في اللغات الرومانسية (أي اللغات ذات الأصل اللاتيني) واللغة الإنجليزية. على الرغم من ذلك، لم يستخدم في الواقع اللغة الفرنسية قط في حياته اليومية، حتى أصبح معلما في مدرسة الأساتذة العليا في باريس عندما كان في الثانية والعشرين من عمره. كانت أعماله الأولى - من قصص وقصائد - بالإنجليزية. وفي عام 1937، وهو في سن الحادية والثلاثين، انتقل للعيش في باريس على نحو دائم لكنه استمر في الكتابة بالإنجليزية؛ فنشر، على سبيل المثال، روايته «ميرفي» في عام 1938. شارك في أثناء الحرب العالمية الثانية في المقاومة في فرنسا ، ثم ذهب للاختباء بمنطقة فوكلوز. في عام 1951، ظهرت أول رواية بالفرنسية له وهي «مولي»، ومنذ ذلك الحين أصبح يكتب بكل من الفرنسية والإنجليزية. ورد عن إليزابيث بوجور أنه قال إنه في هذه المرحلة لم يكن يعلم مسبقا اللغة التي سيستخدمها في عمله التالي.
3
حصل بيكيت على جائزة نوبل في الأدب في عام 1969 لما له من إسهام في أدب هاتين اللغتين.
المؤلفة الثالثة هي إلزا تريوليه، وقد كان اسمها عند الميلاد إلزا كاجان، وهي روائية فرنسية من أصل روسي ظهرت في القرن العشرين. قضت إلزا السنوات الأولى من حياتها في روسيا، وانتقلت إلى فرنسا عندما كانت في الثانية والعشرين من عمرها، بعدما قابلت زوجها الأول، أندريه تريوليه. كانت أعمالها الأولى باللغة الروسية (منها «في تاهيتي»، و«التمويه»). وبعد طلاقها من تريوليه، تزوجت الشاعر والروائي الفرنسي لوي أراجون، وألف كل منهما أعمالا أدبية. ظهر أول كتاب لها بالفرنسية «مساء الخير يا تيريزا» في عام 1938، وتلاه كثير من الأعمال الأخرى، منها «العقبة الأولى تكلف مائتي فرنك» التي حصلت على جائزة جونكور المرموقة.
حللت إليزابيث بوجور الأسباب التي دفعت هؤلاء المؤلفين إلى التحول إلى الكتابة بلغتهم الثانية (أو الثالثة). أحد الأسباب الواضحة هو أن يتمكنوا من الكتابة إلى جمهور أكبر. إذا كنت تعيش في دولة ليست هي الدولة التي تكتب بلغتها (كأن تعيش مثلا في فرنسا وتكتب بالروسية)، فلن تجد ببساطة عددا كبيرا من القراء لأعمالك، حتى إن كان مجتمع المهاجرين كبيرا إلى حد ما (مثلما حدث مع نابوكوف وتريوليه).
يتعلق سبب آخر بكيفية ترجمة أعمال المؤلف إلى لغته الأخرى (فترجمت، على سبيل المثال، أعمال تريوليه المؤلفة بالروسية إلى الفرنسية). نادرا ما يسعد المؤلفون الثنائيو اللغة بما يفعله المترجمون الآخرون لأعمالهم، وعادة ما يحررون الترجمات على نحو كبير. في النهاية، يلجئون عادة إلى ترجمة أعمالهم إلى لغتهم الأخرى. إلا أن عملية الترجمة الذاتية للأعمال اتضح أنها عملية مرهقة للغاية للكثيرين (تتحدث بوجور عما يعرف ب «جحيم الترجمة الذاتية»)، ويعبر كثير من المؤلفين الثنائيو اللغة عن عدم رضاهم عن ترجماتهم؛ تقول بوجور عن مفهوم تريوليه لعملية الترجمة أنها تمثل لها «هاجسا مخيفا من عدم التوافق مع نفسها.»
4
مؤخرا كتب آريل دورفمان ما يلي عن ترجمة/تنقيح كتابه «التوجه جنوبا، والنظر شمالا: رحلة شخص ثنائي اللغة»:
استخدمت في إعادة كتابتي للمذكرات بالإسبانية، بعد انتهائي من كتابتها بالإنجليزية، نفس التركيب والقصة والاكتشافات التاريخية والرؤية التي ظهرت في اللغة الإنجليزية. كان يجب أن تغمر اللغة الإسبانية بكلماتها المنزل الذي بنته اللغة الإنجليزية. ومع ذلك، ما أكبر التغيير الذي طرأ على المنزل عند ملئه بالإسبانية؛ فقد اختلف الكتاب تماما.
5
يتعلق سبب ثالث في تحول بعض الكتاب الثنائيي اللغة من الكتابة بلغتهم الأولى إلى الثانية بمبدأ التكامل؛ فيستخدم الثنائيو اللغة لغاتهم لأغراض مختلفة، وفي مجالات حياتية مختلفة، ومع أشخاص مختلفين. تتطلب عادة جوانب الحياة المختلفة استخدام لغات مختلفة؛ فتقول بوجور إن إلزا تريوليه أدركت أن روايتها الروسية «التمويه» قد كتبت باللغة «الخطأ»؛ نظرا لأن أحداثها تقع في فرنسا، وسط شخصيات تتحدث وتفكر وتعبر عن مشاعرها بالفرنسية. تخبرنا بوجور أيضا أنه عندما ترجم نابوكوف روايته الإنجليزية الأكثر رواجا «لوليتا» إلى الروسية، واجه مشكلات حقيقية في العثور على مصطلحات مناسبة تتعلق بوصف السيارات والملابس وقطع الأثاث وغيرها.
6
على الرغم من أن لدى المؤلفين الثنائيي اللغة أسبابا جيدة للبدء في الكتابة بلغتهم الثانية أو الثالثة، فإن الأمر ليس سهلا. تتحدث تريوليه عن تعرضها لألم جسدي حقيقي عند تأليفها لكتابها الأول بالفرنسية («مساء الخير يا تيريزا»)، ويتحدث نابوكوف عن الأمر نفسه بطريقة معبرة أكثر؛ فقال إن الأمر يشبه تعلم كيفية الإمساك بالأشياء مرة أخرى، بعدما يفقد المرء سبعة أو ثمانية أصابع في أحد الانفجارات!
7
كما ذكرت في بداية هذا القسم، توجد مجموعة أخرى من الكتاب الثنائيي اللغة، وهي مجموعة أصغر بكثير، بدأت الكتابة بلغتها الثانية ثم تحولت إلى الكتابة بلغتها الأولى، وهو شيء لم يفعلوه من قبل. حظيت بفرصة لقاء أحد هؤلاء الكتاب في باريس عندما كنت أعد لهذا الكتاب. ولدت نانسي هيوستن في كندا، وعاشت بها لعدة سنوات قبل انتقالها إلى الولايات المتحدة، حيث التحقت بالجامعة، التي تركتها لتذهب إلى باريس في عام 1973، حيث أعدت رسالة الماجستير مع عالم السيميولوجيا رولان بارت. ظلت في فرنسا، وعندما بدأت في الكتابة قررت اللجوء إلى لغتها الثانية؛ الفرنسية. فصدر كتابها الأول «تبديلات جولدبيرج» في عام 1981 (وظهرت ترجمته الإنجليزية بعدها بعدة سنوات). وقدمت التفسير التالي لقرار الكتابة بالفرنسية:
أعتقد أنه كان يتعلق بحقيقة أن لغتي الأم كان يحفها كثير من العواطف في هذا الوقت. فضلت استخدام شيء أكثر بعدا وأكثر عقلانية، فقد كنت في حالة رفض لجذوري. كنت أرغب في الانفصال عن طفولتي، وعن والدتي، وعن المشاكل. نجح هذا الأمر لعدد من السنين، ثم توقف.
8
واصلت هيوستن حياتها المهنية كمؤلفة باللغة الفرنسية لعدد من السنين، قبل أن تقرر تأليف رواية بالإنجليزية وهي «الترتيل الجريجوري»، التي ظهرت بعد نحو 12 عاما من تأليف كتابها الأول بالفرنسية. تقول عن عودتها إلى الكتابة بالإنجليزية بعد «محاولاتها الأولى» بالفرنسية:
في محاولاتي الأولى في الكتابة الأدبية، حاولت أن أبدو واسعة الاطلاع، وكنت في أمس الحاجة إلى البراءة النظرية؛ فقد أردت كتابة جمل طويلة وحرة وجامحة ومذهلة تعبر عن مخزون المشاعر، بما في ذلك المشاعر المثيرة للشفقة؛ ما المانع في ذلك؟ لقد أردت أن أحكي قصصا بإخلاص وحماس وشغف، وأن أؤمن بتلك القصص دون الخوف من التعليقات الساخرة للمنظرين.
9
شرحت نانسي، في حوار في إحدى الصحف في عام 2008، أن اللغة الفرنسية أصبحت لغة التواصل مع مستشارها الضريبي ومع معلمي أطفالها. وتزامنت عودتها إلى الإنجليزية مع عودتها إلى عزف البيانو (بعد عزفها على آلة الهاربسكورد)، معللة ذلك: «بأنها أصبحت قوية بما يكفي لتقبل المشاعر.»
10
تكتب الآن نانسي هيوستن بكلتا لغتيها، وتترجم أعمالها إلى اللغة الأخرى التي تكتب بها. وتقول إن الترجمة عمل صعب وممل للغاية، وإنها بمجرد أن تنتهي من ترجمة أحد الأعمال، تشعر فجأة بأنها ما كانت تستطيع كتابة هذا العمل باللغة الأخرى!
11
في عام 2005، فازت هيوستن بجائزة فيمينا المرموقة عن عملها «خط الصدع »، الذي كتبته في الواقع في البداية بالإنجليزية تحت عنوان «خطوط الصدع»، ثم ترجمته إلى الفرنسية.
بينما يختار المؤلفون الثنائيو اللغة عادة إحدى اللغات لتصبح لغتهم في التأليف، أو يكتبون بلغتهم الأولى فقط، أو لغتهم الثانية (أو الثالثة)، أو يبدلون بين لغاتهم بناء على الظروف؛ يقرر بعض المؤلفين كتابة أعمال ثنائية اللغة، بحيث نجد اللغتين في الصفحة نفسها (ارجع للفصل الخامس لمعرفة المزيد عن الوضع اللغوي الثنائي اللغة). اكتشفت إليزابيث بوجور أن معظم الكتاب الثنائيي اللغة في مرحلة متأخرة من حياتهم المهنية يشعرون بعدم الرضا عن الاستمرار في فصل لغتيهم؛ فيبحثون عن سبل للجمع بين اللغتين، ويتمنون كتابة أعمالهم بكلتا اللغتين. يستطيعون تحقيق ذلك عن طريق التأكد من نشر كل أعمالهم بكلتا اللغتين (وهو أمر فعله بيكيت، وتفعله هيوستن حاليا)، ويمكنهم جعل شخصياتهم تتصرف مثل الأشخاص الثنائيي اللغة، في الوضعين الأحادي اللغة والثنائي اللغة أيضا. تذكر بوجور نابوكوف الذي جعل في روايته «آدا» شخصياته تتحدث ثلاث لغات، وتنتقل من لغة لأخرى بحرية كبيرة.
12
في عصرنا الحالي لم يعد المرء بحاجة إلى الوصول إلى مستوى متقدم في مهنة الكتابة الأدبية حتى يتمكن من الكتابة بأسلوب ثنائي اللغة، كما يمكن أن نرى في الأعمال النثرية لاثنين من الكتاب المعاصرين الأمريكيين الذين من أصل لاتيني. إن الكاتب خونوت دياز، أستاذ الكتابة الإبداعية في معهد ماساتسوستس للتكنولوجيا، الحاصل على جائزة بوليتزر الأدبية لعام 2008 عن روايته «حياة أوسكار واو الرائعة القصيرة»، يدخل كثيرا من الإسبانية على كتابته النثرية بالإنجليزية (يعرف هذا النوع الخاص من التبديل اللغوي باسم «التبديل اللغوي الإسباني- الإنجليزي»). إليك جزءا قصيرا للغاية من هذه الرواية: [They] shrieked and called him gordo asqueroso! He forgot the perrito, forgot the pride he felt when the women in the family had called him hombre.
13
إن الكاتبة سوزانا شافيز-سيلفرمان هي مؤلفة أمريكية من أصل لاتيني، سافرت في الأمريكتين وتدرس في كلية بومونا في كاليفورنيا. يعتمد كتابها «وقائع قاتلة: مذكرات ثنائية اللغة» (2004) على رسائل بريد إلكتروني أرسلتها إلى زملائها وأصدقائها عندما قضت 13 شهرا في مدينة بوينس آيرس. تستخدم هي أيضا خليطا من الإنجليزية والإسبانية، لكن بمعدل من التبديلات أكبر بكثير من الطبيعي، على الأقل عند الكتابة. وإليك بعض السطور من بداية أحد فصول كتابها المعروف هذا:
Como northern Califas girl, of course, habìa visto mucho nature espectacular; the Pacific Ocean como yarda de enfrente, for starters, y los sequoia giant redwoods. Yes, especially los redwoods. Pero también esa enredadera, don’t know its name, the one with the huge, velvety deep purple blossoms y las fragile, hairy leaves and stems como patas de tranántula.
14
تقول شافيز-سيلفرمان إنها تظل ثنائية اللغة في كتاباتها حتى تقاوم الاضطرار إلى الاختيار بين لغتيها، وهي تأمل أن يساعد كتابها في إنشاء توجه جديد للكتابات الثنائية اللغة الخاصة بكتاب الأقليات.
إن قائمة الكتاب الثنائيي اللغة الذين يكتبون بلغتيهم، معا أو كل منها على حدة (وهو الأمر الغالب)، ليست طويلة. فعلى حد قول إليزابيث بوجور، إن هذه الظاهرة تظل نادرة، وتضيف:
بينما يعد طبيعيا أن يكون الكاتب ثنائي اللغة، فما زال من النادر أن يكون أحد الكتاب الكبار في العصر الحديث ثنائي اللغة أو متعدد اللغات في كتاباته، وأن ينتج عملا على القدر نفسه من الإتقان بأكثر من لغة واحدة.
15
مع مرور الوقت واتساع نطاق تقبل الثنائية اللغوية بكل جوانبها، ربما نكتشف وجود كتاب آخرين، ثنائيي اللغة، لم يجرءوا قط على إنتاج عملهم بلغتهم الأخرى (سواء أكانت الأولى أم الثانية أم كلتيهما)، أو لم ينجحوا قط في نشره. أحد هؤلاء هو الكاتب الشهير جاك كيرواك، وهو روائي أمريكي معروف عالميا من جيل بيت، وتظل روايته «على الطريق»، التي نشرت عام 1957 وترجمت إلى 27 لغة، إحدى الروايات المفضلة من بين الكثير من الروايات؛ لما يمتاز به السرد من مناهضة لمؤسسات المجتمع، وتجاوز للحدود الجغرافية. يعرف قليل من الناس أن كيرواك ينحدر من أسرة كندية من أصل فرنسي، استقرت في مدينة لوويل في ماساتشوستس، وأنه كان يتحدث بالفرنسية مع والديه حتى سن السادسة، وفي هذا السن فقط بدأ يكتسب الإنجليزية. ويدرك عدد أقل من الناس أن كيرواك كتب على الأقل كتابين بالفرنسية (باللهجة الفرنسية لمقاطعة كيبك المعروفة باسم «جوال»)، هما: «الليل هو زوجتي»، و«على الطريق» الذي لم يكتشف إلا في عام 2008. وهذا الكتاب الأخير (على الرغم من عنوانه) مختلف عن كتابه «على الطريق» الآخر الذي بالإنجليزية، وقد ألفه بعد وقت قصير من تأليف هذا الكتاب الذي حقق أعلى المبيعات في عام 1951. لم ينشر هذا الكتاب قط باللغة الفرنسية، وإنما ترجمه كيرواك إلى الإنجليزية تحت عنوان «ثور عجوز في باوري». ونأمل أن يوجد كثير من الكتب الأخرى مثل كتاب «على الطريق» الفرنسي، مخزنا في خزائن الملفات أو الأرشيفات، وينشر ذات يوم حتى نستطيع تأمل الإبداع الثنائي اللغة لمؤلفيها.
الفصل الثالث عشر
الثنائيو اللغة المميزون
يتحدث هذا الكتاب عن الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، الذين نقابلهم في الحياة اليومية، وهم يمثلون الغالبية العظمى من الذين يعيشون حياتهم بلغتين أو أكثر. ومع ذلك، يوجد ثنائيو لغة مميزون علاقتهم عادية بلغاتهم وأحيانا تكون فريدة. تحدثنا في الفصل السابق عن الكتاب الثنائيي اللغة. توجد مجموعة أخرى من الأشخاص الثنائيي اللغة المميزين، مثل معلمي اللغة الثانية والمترجمين التحريريين والمترجمين الشفويين، تكسب رزقها من معرفتها بما لديها من لغات واستخدامها، بينما قد يعتمد آخرون على براعتهم فيما لديهم من لغات في أداء وظيفتهم وضمان سلامتهم (مثل العملاء السريين). من بين الأشخاص الثنائيي اللغة المميزين نجد أيضا الأشخاص المشهورين، الذين ترجع شهرتهم إما لكونهم من الأشخاص المتعددي اللغات البارزين، وإما لأسباب أخرى لا تتعلق على الإطلاق بمهاراتهم اللغوية. سيدور حديثنا في هذا الفصل عن هؤلاء الأشخاص المميزين. (1) معلمو اللغة الثانية
يطلق عادة على معلم اللغة الثانية اسم معلم اللغة الأجنبية، على الرغم من أن هذا الاسم قد يكون خاطئا عندما تكون اللغة التي يدرسها إحدى اللغات التي يستخدمها ملايين المتحدثين في الدولة التي يعيش فيها، مثل اللغة الإسبانية في الولايات المتحدة، أو اللغة العربية في فرنسا. يوجد نوعان من معلمي اللغة الثانية؛ أولا: الذين يدرسون لغة (أو لغات) الدولة، إلى أفراد آخرين؛ الأجانب في الأساس (على سبيل المثال: المعلمون الذين يدرسون اللغة الإنجليزية كلغة ثانية للمهاجرين الوافدين حديثا إلى الولايات المتحدة). لا يجب أن يكون هؤلاء المعلمون ثنائيي اللغة حتى يؤدوا وظيفتهم؛ ولذا لن نتحدث عنهم أكثر من هذا هنا.
ثانيا: نجد المعلمين الذين يدرسون لغة مختلفة عن لغة (أو لغات) الدولة الأساسية، ومن الأمثلة على هذا معلمو اللغة الألمانية في إنجلترا، ومعلمو اللغة الإنجليزية في إيطاليا، وما إلى ذلك. ينقسم هؤلاء إلى مجموعتين؛ نجد في المجموعة الأولى هؤلاء الذين اكتسبوا اللغة التي يدرسونها كلغة ثانية في المدرسة أو الجامعة، وربما قضوا أيضا فترة قصيرة في دولة تستخدم اللغة التي يتخصصون في تدريسها. ينطبق هذا، على سبيل المثال، على الأستاذة رايت التي تدرس اللغة الإسبانية في إحدى المدارس الثانوية في منطقة بوسطن؛ فقد درست اللغات الحديثة في الكلية - الإسبانية والفرنسية - ثم قضت ستة أشهر في المكسيك. وفي المجموعة الثانية نجد المتحدثين الأصليين للغة الذين انتقلوا إلى دولة أخرى ويدرسون فيها لغتهم الأم؛ وينطبق هذا على الأستاذة لوبيز التي تدرس اللغة الإسبانية مع الأستاذة رايت في المدرسة نفسها؛ فهي في الأصل من فنزويلا، وانتقلت إلى الولايات المتحدة في مرحلة البلوغ بعدما التحقت بالجامعة في كاراكاس. لقد درست علم النفس ولكنها عملت في تدريس اللغة الإسبانية عندما جاءت إلى الولايات المتحدة، بعدما خضعت لعدد من الدورات التدريبية في تعليم اللغة في جامعة محلية.
تدرس كل من الأستاذتين رايت ولوبيز الإسبانية للطلاب في المدرسة الثانوية على مختلف المستويات، وبناء على تعريف الثنائية اللغوية الذي عرضناه في الفصل الثاني، فكل منهما ثنائية اللغة نظرا لاستخدامهما لغتين (أو أكثر) في حياتهما اليومية. توجد درجات مختلفة من الطلاقة لدى معلمي اللغات في اللغة التي يدرسونها، وربما توجد لديهم أيضا لكنة فيها، تماما مثل الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، لكنهم يعتبرون من ثنائيي اللغة المميزين من عدة نواح؛ أولا: لا يستخدم بعضهم، مثل الأستاذة رايت، اللغة التي يدرسونها خارج حجرة الدرس كثيرا، نظرا لعدم حاجتهم إليها عادة في التواصل اليومي خارج العمل. مع ذلك، لنا أن نلاحظ أن هذا الأمر لا ينطبق على الأستاذة لوبيز، التي لديها كثير من الأصدقاء الذين يتحدثون الإسبانية، وتستخدم كلا من الإنجليزية والإسبانية خارج المدرسة.
ثانيا: لدى هؤلاء معرفة بلغويات اللغة أكثر من تلك الموجودة لدى المستخدمين العاديين للغة؛ على سبيل المثال: كم من المتحدثين بالإنجليزية يستطيع شرح الفرق بين حروف الجر
for
و
since
و
ago
بأسلوب تربوي؟ وكم من متحدثي الفرنسية يمكنه شرح كل قواعد اسم المفعول في اللغة الفرنسية بأسلوب واضح؟
ثالثا: يكون معلمو اللغة الثانية في وضع ثنائي اللغة في أثناء عملية التدريس؛ فعندما يستخدمون اللغة الثانية (الإسبانية مثلا) في الفصل، تكون لغتهم الأخرى (الإنجليزية مثلا) حاضرة في حال سأل أحد الطلاب سؤالا بها، أو أجرى تبديلا لغويا واستخدم كلمة أو تعبيرا ما. لكنهم هم أيضا قد يلجئون في حالات نادرة للغاية إلى إجراء عمليات تبديل لغوي أو اقتباس أمام الطلاب، وقد يصححون كلام الذين يخطئون باستخدام اللغة التي يجيدونها أكثر.
إذا، في اللحظات التي تستدعي عادة استخدام التبديل اللغوي والاقتباس، وحيث يوجد احتمال أن يسهل هذا عملية التواصل، قد يمتنع معلمو اللغة الثانية عن استخدام لغة الطلاب الأولى حتى لا «يقدموا مثالا سيئا» لطلابهم. ومع ذلك، نظرا لكونهم يستخدمون هم أنفسهم لغتين، فإنهم قد يستخدمون التبديل اللغوي والاقتباس في حياتهم الشخصية. وعلى الرغم من ذلك، سمعت بعض معلمي اللغات يقولون إنهم يمتنعون عن استخدام التبديل اللغوي خارج المدرسة، حتى لا يخطئوا دون قصد ويمارسوا هذا السلوك في أثناء التدريس.
يتمثل الجانب الرابع، الذي يظهر تميز هؤلاء المعلمين، في أنهم نادرا ما يقتنعون بأنهم أشخاص ثنائيو اللغة، حتى أكثر من الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين؛ نظرا لأن لدى كثير منهم وجهة نظر صارمة للغاية عن معنى كون المرء ثنائي اللغة (والتي تتمثل في التمتع بطلاقة تامة في لغتين أو أكثر، وعدم وجود لكنة في أي منها، وما إلى ذلك). عندما أتحدث إلى معلمي اللغة الثانية الذين يعتقدون ذلك، عادة ما أضطر إلى إقناعهم بأنهم في الحقيقة أشخاص ثنائيو اللغة، حتى إن كانت لديهم بوضوح سمات خاصة في ثنائيتهم اللغوية. أخيرا، عادة ما يكونون من المحبين الحقيقيين للغة الثانية التي يدرسونها (غالبا لهجتها الأساسية)، ويحبون ثقافتها، التي يحاولون إطلاع طلابهم عليها. مرة أخرى، لا ينطبق هذا عادة على الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، الذين يكون تركيزهم على لغاتهم وثقافتها أقل من تركيزهم على جوانب الحياة اليومية. (2) المترجمون التحريريون والشفويون
عندما تحدثنا عن مبدأ التكامل في الفصل الثالث، رأينا أن الأشخاص الثنائيي اللغة لا يكونون عادة مترجمين جيدين، سواء أكانت الترجمة تحريرية أم شفوية. يرجع هذا إلى أنهم لا يعرفون دوما الترجمة المقابلة في اللغة الأخرى في المجالات التي لا تغطيها إلا لغة واحدة فقط. وإذا لم يكتسب الأشخاص الثنائيو اللغة لغتهم الثانية على نحو صريح، مثلما يحدث في دورات تعلم اللغة الثانية التقليدية، فإن الذين يشرعون منهم في الترجمة سيجدون أنهم يفتقرون إلى المفردات، وأحيانا أيضا إلى المهارات اللغوية والتنوعات الأسلوبية المطلوبة لإنجاز مهمة الترجمة. وقد يفتقرون أيضا إلى المعرفة الثقافية المرتبطة باللغة، التي تسهل فهمهم للنص الأصلي؛ وهي خطوة ضرورية ليتمكن المرء من الترجمة الصحيحة.
على عكس الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، يجب أن تتوافر لدى المترجمين التحريريين والشفويين مجموعة كاملة من المقابلات المترجمة في اللغة الأخرى. كذلك لا بد أن تكون لديهم معرفة متقنة باللغتين (على كافة المستويات اللغوية)، وبالإضافة إلى ذلك يجب أن تكون لديهم معرفة جيدة بالثقافتين المعنيتين. بالطبع يستمر تطبيق مبدأ التكامل، لكن دوره يقل إلى حد كبير؛ فيجب على المترجمين التحريريين والشفويين، على عكس الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، تعلم استخدام لغاتهم (والمهارات الأساسية الموجودة لديهم فيها) لأغراض متشابهة وفي مجالات حياتية متماثلة؛ وهذا شيء لا يحتاج الأشخاص الثنائيو اللغة العاديون فعله عادة.
يحدد المترجمون التحريريون اللغة أو اللغات التي يستطيعون الترجمة منها (وهي لغاتهم الأساسية)، وتلك التي يستطيعون الترجمة إليها (وهي لغاتهم المستهدفة)؛ على سبيل المثال: قد تكون اللغات الأساسية هي الألمانية والإسبانية، واللغة المستهدفة هي الإنجليزية. في عالم الترجمة التحريرية والشفوية يتحدث المرء عن اللغات النشطة (أي المترجم إليها) واللغات السلبية (أي المترجم منها). في الفئة الأولى من اللغات، تكون اللغة «أ» هي لغة المرء الأصلية أو لغة أخرى تشبه تماما لغته الأصلية (ومن ثم تكون اللغة المستهدفة)؛ وتكون عادة اللغة «ب» هي أولى اللغات الثانية التي يتقنها المرء جيدا (وعادة ما تكون هي أيضا لغة مستهدفة). وفي فئة اللغات الثانية، نجد لغة واحدة أو أكثر يفهمها المرء بالكامل، وهذه اللغات تكون اللغات الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، يتخصص كثير من المترجمين التحريريين والشفويين في مجالات معينة، مثل القانون أو الاقتصاد أو السياسة.
تعتبر الترجمة التحريرية مهارة ثنائية اللغة خاصة؛ فأنت تحاول التعبير بإحدى اللغات، بأكبر قدر ممكن من الأمانة، عن معنى وأسلوب نص بلغة أخرى؛ ويعني هذا الفهم الكامل للنص الأصلي باللغة الأساسية، والتمتع بمهارات النقل الضرورية، بالإضافة إلى المهارات اللغوية والثقافية، في اللغة المستهدفة. ولا تبقى إلا مساحة صغيرة للغاية لحدس المترجم أو إبداعه؛ فيجب أن يتبع المترجم النص الأصلي بأقصى قدر ممكن من الدقة، ويعرضه على نحو صحيح في اللغة المستهدفة. لا عجب إذا من وجود كليات متخصصة يستطيع فيها الطلاب تعلم المهارات المرتبطة بالترجمة، عادة على مستوى الدراسات العليا (على سبيل المثال: معهد مونتيري للدراسات الدولية في كاليفورنيا، ومدرسة الترجمة التحريرية والشفوية في جنيف). إن أحد متطلبات الالتحاق بهذه الأماكن التمتع بمهارات لغوية ممتازة في لغتين أو أكثر؛ تحول بعد ذلك الدراسة الطالب إلى مترجم معتمد.
يوجد فعليا مئات الآلاف من المترجمين في العالم في عصرنا الحالي، ويعمل كثير منهم في المؤسسات الدولية والهيئات الحكومية والشركات الكبرى وشركات النشر وغيرها. وكحال المهن الأخرى، يوجد أشخاص متميزون، وهم المترجمون الذين يقدرون لمهاراتهم لكنهم غير معروفين بالنسبة إلى الناس، لكن كل أقرانهم يعرفونهم ويكنون لهم احتراما كبيرا. يوجد أيضا بعض المؤلفين المشهورين الذين كانوا (أو ما زالوا) مترجمين؛ على سبيل المثال: قدم الشاعر الفرنسي شارل بودلير ترجمة ناجحة للغاية لأعمال إدجار آلان بو، وترجم الكاتب الأمريكي الذي من أصل روسي فلاديمير نابوكوف «أليس في بلاد العجائب» إلى الروسية، بالإضافة إلى أعمال لفيرلين وتينيسون وبايرون وكيتس وشكسبير وما إلى ذلك (التي تكون شعرية عادة)، وترجم الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الكثير من الأعمال الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى الإسبانية.
توجد لدى المترجمين الشفويين مجموعة أكثر تعقيدا من المهارات؛ فبالإضافة إلى ما ذكرناه عن المترجمين التحريريين، لا بد لنا أن نضيف كل المهارات اللغوية والمعرفية التي تسمح للمترجمين الشفويين بالانتقال من سماع مدخلات شفوية بإحدى اللغات إلى إنتاج مخرجات شفوية باللغة الأخرى، سواء أكان هذا فوريا أو تتابعيا.
1
تشتمل هذه، ضمن أشياء أخرى، على حسن الإنصات، ومعالجة المدخلات باللغة الأساسية وفهمها، وحفظها، وصياغة الترجمة باللغة المستهدفة، ثم إلقائها، فضلا عن أداء مهمة مزدوجة (تلقي المقطع التالي في نفس وقت إلقاء ترجمة المقطع السابق)، وتدوين الملحوظات في بعض أنواع الترجمة الشفوية، والنطق الواضح. ومن ثم يكون التدريب على الترجمة الشفوية صعبا للغاية ويحتاج إلى سنوات إضافية من الدراسة.
فيما يتعلق بالوضع اللغوي، يعمل المترجمون الشفويون في وضع ثنائي اللغة، لكن لا تكون إحدى لغتيهم أكثر تفعيلا من اللغة الأخرى، كما يحدث في تواصل الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، وإنما يجب أن تكون كلتا اللغتين (اللغة الأساسية واللغة المستهدفة) مفعلتين بالقدر نفسه؛ فلا بد أن يكون المترجم الشفوي قادرا على سماع لغة المدخلات (اللغة الأساسية) ولغة المخرجات (اللغة المستهدفة) أيضا، ليس فقط من أجل مراقبة ما يترجمه، وإنما أيضا تحسبا لاستخدام المتحدث للغة المستهدفة في شكل عمليات تبديل لغوي. ومع ذلك، يجب عدم تفعيل (تعطيل) آليات إنتاج اللغة الأساسية تماما، حتى لا يخطئ المترجم الشفوي ويكرر ببساطة ما يسمعه بدلا من ترجمته (كما يحدث أحيانا عندما يصاب المترجمون الشفويون بتعب شديد). في ظل كل هذه المتطلبات، لا عجب أن المترجمين الشفويين، تماما مثل المترجمين التحريريين، يعتبرون من الأشخاص الثنائيي اللغة المميزين، وأن الثنائيي اللغة العاديين لا يكونون مترجمين تحريريين وشفويين بالفطرة. علم أحد الطلاب الثنائيي اللغة هذا من خلال التجربة عندما اختبر لوظيفة مترجم شفوي، فقال:
عندما كنت طالبا في باريس، وجدت إعلانا ذات يوم يبحث عن مترجمين شفويين للعمل في مؤتمر ليوم واحد. سيطلب منهم تقديم ترجمة شفوية لهذا المؤتمر من الإنجليزية إلى الفرنسية. كنت ساذجا، فقلت لنفسي: أليس كل الأشخاص الثنائيي اللغة مترجمين شفويين بالفطرة؟ وذهبت إلى المكتب المنظم للمؤتمر. كانوا يستقبلون الناس بترحاب شديد، وشعرت بثقة كبيرة في إمكانية الحصول على هذه الوظيفة. وجدت نفسي داخل حجرة صغيرة من أجل اختبار تجريبي، ووضعت على أذني السماعات التي أعطوها لي. سمعت الجملة الأولى واستطعت ترجمتها على نحو جيد، فقلت لنفسي: يبدو هذا أمرا سهلا. لكن بدأت المشكلات على الفور؛ ففي أثناء ترجمتي للجملة الأولى، كانت الجملة الثانية تقال بالفعل ولم أكن منتبها بالكامل إليها. استطعت تذكر بدايتها، لكن لم أتذكر نهايتها. حاولت جاهدا لكن سرعان ما تأخرت كثيرا عن الصوت المسجل ولم أستطع ببساطة أن أقول أي شيء بعد بضع دقائق. تركت الحجرة والمكتب وأنا غير فخور بنفسي. ظل هذا المشهد واضحا في ذهني لمدة أربعين سنة، ومنذ ذلك الحين أحترم كثيرا المترجمين الشفويين والتدريب الذي يضطرون إلى الحصول عليه حتى يؤدوا وظيفتهم على أفضل وجه.
2 (3) العملاء السريون
يعتقد كثير منا أن العملاء الذين يعملون مع أجهزة المخابرات يكونون على الأرجح ثنائيي اللغة والثقافة، في صورة كورت شتاينر في رواية «هبط النسر» لجاك هيجنز، وهي رواية عن محاولة ألمانية لخطف ونستون تشرشل في أثناء الحرب العالمية الثانية. في القصة كان والد شتاينر لواء في الجيش الألماني، وكانت والدته أمريكية. تربى شتاينر نفسه، الذي كان قائدا لإحدى وحدات الكوماندوز الألمانية، في كل من إنجلترا وألمانيا، وكان ثنائي اللغة تماما.
عندما كنت أبحث في الكتابات الخاصة بالثنائية اللغوية لمعرفة المزيد عن الثنائية اللغوية للعملاء السريين، أدركت عدم وجود كثير من الأمور عن مهاراتهم اللغوية. ومع زيادة بحثي، فهمت ببطء أن وجهة النظر التقليدية الموجودة لدينا جميعا ليست واضحة المعالم كما تبدو؛ فعلى سبيل المثال: ليس كل العملاء يحتاجون إلى معرفة لغة أخرى جيدا، ما داموا على اتصال مع شخص ثنائي اللغة. ومن ثم، فإن الجاسوس الذي يعطي أسرار الحكومة إلى أحد العاملين في سفارة أجنبية، يمكنه فعل هذا بلغته الأصلية إذا كان هذا الشخص (ربما يكون ملحقا سياسيا بالسفارة) يتصرف كوسيط ثنائي اللغة. ينطبق هذا أيضا على العملاء الذين يوافقون على العمل لصالح إحدى القوى الأجنبية، بينما يظلون مقيمين في دولتهم ويترقون بالتدريج داخل الكيانات الحكومية المختلفة. حدث هذا في حالة شبكة جواسيس كامبريدج الخمسة في إنجلترا، خاصة كيم فيلبي وجاي برجيس، التي تجسس أعضاؤها لصالح الاتحاد السوفييتي في منتصف القرن الماضي، بينما كانوا يتقلدون مناصب مهمة في المؤسسات البريطانية.
تضع الدولة المتجسسة عملاء «كامنين» أو متخفين داخل الدولة المستهدفة، ويكونون عادة من أهل هذه الدولة (أو يحملون جنسيتي الدولتين). حصل مؤخرا أحد الأمثلة على العملاء الكامنين على اهتمام شديد من الصحافة. ولد جورج كوفال في عام 1913 في مدينة سيوكس سيتي في ولاية آيوا، ونشأ فيها كشاب أمريكي عادي؛ فكان يمارس بالطبع رياضة البيسبول ويتحدث بالإنجليزية الأمريكية بطلاقة. في أثناء فترة الكساد الكبير، هاجر مع والديه إلى مدينة سيبيرية في منطقة اقترح ستالين أن تصبح موطنا لليهود. كان والداه مؤمنين بشدة بالشيوعية، وقد تأثر كوفال بهما تأثرا بالغا. درس في معهد التكنولوجيا الكيميائية في موسكو، وجندته جي آر يو (أكبر وكالة استخبارات روسية). أرسل كوفال بعد ذلك مرة أخرى إلى الولايات المتحدة، وظل بها لعدة سنوات دون تأدية أي نشاط (وكان اسمه الحركي دلمار). تطوع في الجيش الأمريكي، وبالتدريج جعلته مهامه العسكرية يحتك بمشروع القنبلة الذرية (خاصة الجوانب المتعلقة بالوقود المستخدم). كانت للمعلومات التي عرفها قيمة بالغة في صنع القنبلة الروسية، التي جرى أول تفجير لها في عام 1949. كان كوفال عميلا ناجحا للغاية، ليس فقط بسبب ذكائه وتدريبه الجيد (وهو ما جعله يصل إلى قلب مشروع القنبلة)، وإنما أيضا لأنه كان مواطنا أمريكيا «أصيلا»؛ فقد كان يتحدث بالإنجليزية بطلاقة، ويحب البيسبول، وكان مجرد شخص عادي. هرب عائدا إلى الاتحاد السوفييتي بعد الحرب، عندما أدرك أن المخابرات الأمريكية أخذت تضيق الخناق عليه.
مع ذلك، فإن العملاء مثل كوفال، الذين ينطبق عليهم إلى حد ما تصورنا عنهم - أي كونهم أشخاصا ثنائيي اللغة والثقافة تماما - لا يمثلون الغالبية العظمى من العملاء. سأنهي حديثي عن هذا الأمر بمثال من عملاء إدارة العمليات الخاصة البريطانية، الذين عملوا في أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت مهمة هذه الإدارة هي دس عملاء في دول أوروبا المحتلة، حتى يعملوا على تنظيم مجموعات المقاومة المحلية التي تحارب الوجود النازي وتحفيزها ومساعدتها؛ لقد تدربوا على استخدام الأسلحة والمتفجرات، وعلى إرسال الرسائل، وتنفيذ الأعمال التخريبية، والدفاع عن أنفسهم، إلى آخره، وكانوا إما يهبطون بالمظلات في المنطقة التي سيعملون فيها وإما يذهبون إليها باستخدام الطائرات الخفيفة. كان الذين يجندون إما أحد مواطني الدولة المعنية وإما شخصا يعرفها جيدا. ويكون على الأقل أحد والدي كثير من المنتمين إلى الفئة الأخيرة من الدولة المستهدفة، أو يكون هؤلاء العملاء قد عملوا في هذه الدولة أو التحقوا بالمدرسة فيها قبل الحرب؛ على سبيل المثال: إن عميل إدارة العمليات الخاصة في فرنسا، جيلبرت نورمان، كان والده إنجليزيا ووالدته فرنسية، وتعلم في كلتا الدولتين. وثمة عميل آخر، وهو جاك آجازاريان، كان والده أرمينيا ووالدته فرنسية، والتحق بالمدرسة في كل من فرنسا وإنجلترا.
مع ذلك، يوجد عملاء آخرون تابعون لإدارة العمليات الخاصة البريطانية كانوا أبعد ما يكون عن الأشخاص الثنائيي اللغة البارعين؛ على سبيل المثال: كان العميل الناجح للغاية في منطقة بيزانسون في فرنسا، جورج ميلار (كان اسمه الحركي إميل)، يجيد التحدث بالفرنسية، لكن مع لكنة اسكتلندية واضحة! وقد كتب في مذكراته أنه كان بإمكانه إقناع أي شخص ألماني أنه مواطن فرنسي حقيقي، لكنه كان يعلم أن المواطن الفرنسي الحقيقي سيدرك على الفور أنه ليس فرنسيا. ونظرا لأن شرطة فيشي الفرنسية كانت عادة ما تساعد الألمان في مطاردة عناصر المقاومة، فإن هذا كان يمثل مشكلة محتملة. في الواقع، أوقف ميلار ذات يوم ضابطان من الشرطة الفرنسية، وسألاه عن هويته الحقيقية؛ كان لزاما عليه الاعتراف بأنه بريطاني، ويا لدهشته حين تركوه يذهب حيث كانوا متواطئين مع المقاومة.
3
للأسف، لم يحالف الحظ عملاء آخرين تابعين لإدارة العمليات الخاصة البريطانية مثلما حدث مع ميلار؛ فكانت لدى فرانسيس سوتيل، زعيم «عصبة» (شبكة مقاومة) في منطقة باريس، لكنة سيئة للغاية في اللغة الفرنسية، على الرغم من كون والدته فرنسية. وحتى يضمن أن كلامه يفهم، كان يجب عليه الاعتماد على مساعدة عميل شاب فرنسي تابع للإدارة نفسها كان اسمه أندريه بوريل. بالإضافة إلى مشكلة سوتيل في لكنته القوية، يبدو أن بعض عملاء سوتيل كانوا يجتمعون في مطاعم غير قانونية ويتحدثون معا بالإنجليزية.
4
وصل الألمان إلى عصبة سوتيل (التي كانت تسمى بروسبر)، وقبض على كثير من عملائها وسجنوا. أرسلوا بعد استجوابهم إلى معسكرات الاعتقال النازية في ألمانيا؛ وللأسف، لم يستطع إلا عدد قليل منهم النجاة من هذه التجربة العصيبة. توجد أسباب عديدة لكارثة عصبة بروسبر (أحدها وجود خائن ضمنهم)، وعلى الأرجح لا يمكن اعتبار الافتقار إلى المهارات اللغوية أحدها. لكن لو كانت الثنائية اللغوية والثقافية لدى هؤلاء العملاء البريطانيين مكتملة - وهو أمر لا يمكن توقع وجوده لدى الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين - ولو كان بعضهم أكثر حرصا في سلوكه اللغوي العلني؛ لكان من الممكن أن تتحسن فرصهم في عدم إلقاء القبض عليهم. وعلى الرغم من ذلك، كان هؤلاء العملاء مخلصين للغاية ويتسمون بشجاعة كبيرة، ولا يسعنا إلا الشعور بالامتنان تجاه ما تعرضوا له في مواقف بالغة الصعوبة؛ فقد ضحوا بحياتهم حتى يمكن تحرير فرنسا وأوروبا من الاحتلال الألماني. (4) الأشخاص الثنائيو اللغة المشهورون
سأنهي حديثي بذكر بعض الأشخاص الثنائيي اللغة أو المتعددي اللغات المميزين الذين ذاع صيتهم. تضم الفئة الأولى الأفراد المميزين في مجال تعلم العديد من اللغات والتحدث بها، ويطلق عليهم عادة المتعددو اللغات أو حتى اللغويون (بمعنى أنهم يتقنون عدة لغات). يتحدث الأشخاص الأحاديو اللغة، الذين يعيشون حياتهم باستخدام لغة واحدة فقط، بإعجاب شديد عن هؤلاء الناس، وكذا الثنائيو اللغة العاديون الذين يعرفون «فقط» ثلاث أو أربع لغات بدرجات متفاوتة، كما هو الحال بالنسبة إلي. يذكر دوما من هؤلاء الناس الكاردينال جوزيبي ميزوفانتي، الذي كانت له مكانة مرموقة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ويقال إنه كان يتحدث بطلاقة ما يتراوح بين خمسين وستين لغة. كذلك من الأشخاص المتعددي اللغات المستكشف الذي يذكر كثيرا وعالم الأعراق البشرية والدبلوماسي البريطاني السير ريتشارد فرانسيس برتون، الذي عاش في القرن التاسع عشر؛ يقال إنه اكتسب أربع لغات في شبابه، ثم اكتسب ما يقرب من 25 لغة أخرى عندما صار بالغا، من بينها الجوجراتية والمراتية والهندوستانية والفارسية والعربية، فضلا عن العديد من اللهجات. عاش برتون في الهند، من بين العديد من الأماكن الأخرى، وسافر من أجل استكشاف شبه الجزيرة العربية ومنطقة أعالي النيل، ومن ثم استفاد كثيرا من اللغات التي اكتسبها.
عادة ما يكون علماء اللغة، الذين يدرسون اللغات وتركيبها وطرق معالجتها، على دراية بعدد قليل من اللغات، لكن بعضهم يكونون فعليا متعددي اللغات؛ على سبيل المثال: يقال عن ماريو باي عالم اللغة الأمريكي من أصل إيطالي الذي ظهر في القرن الماضي، وأحد المؤلفين الذين حققت أعمالهم أعلى مبيعات في هذا المجال، إنه كان قادرا على التحدث بنحو أربعين لغة، ويعرف اللغويات الخاصة بنحو مائة لغة. يوجد عالم لغة آخر، وهو الراحل كين هيل، الذي كان يدرس بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، المتخصص في اللغات الأصلية المهددة بالانقراض، التي تعلمها هو نفسه بسهولة بالغة. ومن بين هذه اللغات نجد: نافاجو، وجميز، وهوبي، وتوهونو، وأودهام، ووارلبيري، وأولوا.
إذا نحينا هؤلاء الأفراد النادرين جانبا، نجد كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة المشهورين، لا لأنهم يجيدون أو أجادوا عددا هائلا من اللغات، وإنما بسبب أنشطتهم الأخرى المتنوعة؛ فتكون الثنائية اللغوية (أو كانت) مجرد جزء من حياتهم اليومية. على سبيل المثال: في مجال الفلسفة والدين، نجد أن إرازموس، الفيلسوف الهولندي رائد الحركة الإنسانية، كان يتحدث خمس لغات، والسبب في هذا يرجع جزئيا إلى حقيقة أنه عاش في عدة دول، أبرزها إنجلترا وفرنسا وسويسرا، وكان لا يستخدم اللاتينية في التعاملات الدبلوماسية واللاهوتية فحسب، وإنما في الحوارات اليومية أيضا. ويقال إن البابا يوحنا بولس الثاني كان يتحدث 12 لغة، بعضها كان يستخدمه على الأرجح يوميا، مثل البولندية واللاتينية والإيطالية والإنجليزية. أما بالنسبة إلى خليفته البابا بنديكت السادس عشر، فبالإضافة إلى قدرته على قراءة اليونانية القديمة وعبرية العهد القديم، يتحدث بالألمانية بطلاقة، بالإضافة إلى الإيطالية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية. وأكثر الشخصيات المثيرة للدهشة في هذه الفئة هو السيد المسيح، الذي ربما كان ثلاثي أو رباعي اللغة ؛ إذ كانت لغته الأم هي الآرامية، ثم تعلم العبرية عند تعلمه على يد الحاخامات، وربما كان يعرف أيضا اليونانية واللاتينية، اللتين كان يتحدث بهما مع الناس في فلسطين في ذلك الوقت.
في مجال السياسة والدبلوماسية، يقال إن أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، بنجامين فرانكلين، الذي كان أيضا دبلوماسيا وعالما ومخترعا ويعمل في مجال الطباعة، كان يتحدث ست لغات بطلاقة (وهي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية واللاتينية والألمانية). في وقت قريب من عصرنا الحالي، كان رئيس الوزراء الكندي السابق بيير ترودو ثنائي اللغة في الإنجليزية والفرنسية؛ ورئيسة الوزراء الهندية أنديرا غاندي كانت تعرف على الأقل لغتين (الهندية والإنجليزية)؛ ورئيس يوغسلافيا تيتو كان يتحدث خمس لغات بطلاقة؛ كما أن الحاكمة العامة الحالية لكندا، ميكائيل جان، تتحدث بطلاقة الفرنسية والإنجليزية والكريولية الهايتية والإسبانية والإيطالية؛ وكان وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر ثنائي اللغة في الألمانية والإنجليزية، وكان يعرف بسهولة من صوته العميق ولكنته الألمانية الواضحة إلى حد ما؛ كما أن مادلين أولبرايت، التي شغلت المنصب نفسه، ولدت في براغ، وكانت تتحدث بطلاقة التشيكية والروسية والإنجليزية والفرنسية، وكانت تستطيع أيضا القراءة بعدة لغات أخرى؛ كما أن القاضية الفيدرالية في المحكمة العليا الأمريكية سونيا سوتومايور ثنائية اللغة في الإسبانية والإنجليزية؛ تماما مثل هيلدا سوليس، وزيرة العمل في إدارة أوباما؛ كما أن دانيل كوهين-بنديت - القائد ذا الشخصية الجذابة لأحداث مايو عام 1968 في فرنسا، والعضو الحالي في البرلمان الأوروبي - ثنائي اللغة بالكامل في الفرنسية والألمانية، ويظهر في البرامج الحوارية ويتحدث بكل من اللغتين الألمانية والفرنسية، ويتنقل بين اللغتين اللتين يتحدث بهما دون لكنة؛ ويوجد عضوان على الأقل في الحكومة الأولى للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، هما رشيدة داتي وفاضلة عمارة، اللتان كانت كل منهما ثنائية اللغة في العربية والفرنسية، على الرغم من أنه من النادر سماعهما تتحدثان بلغتهما الأولى، التي تعتبر لغة أقلية في فرنسا.
كان كثير من العلماء (أو ما زالوا) ثنائيي اللغة، ويكون هذا عادة بسبب الهجرة. إليك قائمة بأسماء بعض من هؤلاء العلماء مع ذكر لغاتهم الأساسية: ألبرت أينشتاين (الألمانية والإنجليزية)، وسيجموند فرويد (الألمانية والإنجليزية)، وماري كوري (البولندية والروسية والفرنسية)، وجوليلمو ماركوني (الإيطالية والإنجليزية)، وبرونو بتلهايم (الألمانية والإنجليزية)، ورومان ياكبسون (الروسية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والتشيكية).
في مجال الموسيقى الكلاسيكية والفنون الجميلة كان جورج فردريك هاندل، المؤلف الموسيقي في عصر الباروك، ثلاثي اللغة في الألمانية والإيطالية والإنجليزية. وكان والد المؤلف وعازف الكمان فريدريك شوبان فرنسيا، لذا كان يتحدث شوبان الفرنسية بطلاقة بالإضافة إلى البولندية. وكان آرثر روبنشتاين يتحدث بالبولندية، لغة الدولة التي ولد فيها، بالإضافة إلى الألمانية والفرنسية والإنجليزية. ويتحدث يو-يو ما، المؤلف وعازف التشيلو، بالصينية والإنجليزية. أما بالنسبة إلى الفنانين، فكان فينسنت فان جوخ ثنائي اللغة في الهولندية والفرنسية، كذلك كان بابلو بيكاسو ثنائي اللغة على الأقل في الإسبانية والفرنسية، وكان مارك شاجال ثلاثي اللغة (في الروسية والإنجليزية والفرنسية).
يزداد الطابع الدولي لوسائل الإعلام بمرور الوقت، ويوجد كثير من الصحفيين والمراسلين الثنائيي اللغة والمتعددي اللغات؛ وإليك بعض الأمثلة الشهيرة: كريستيان آمانبور (الإنجليزية والفارسية والفرنسية)، وراليستا فاسيليفا (الإنجليزية والبلغارية)، وأوكتافيا نصر (العربية والإنجليزية والفرنسية)، وماريا إلينا ساليناس (الإسبانية والإنجليزية)، وأوليفيه تود (الفرنسية والإنجليزية)، ونيلسون مونفور (الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والإيطالية)، وجوناثان مان (الإنجليزية والفرنسية).
في مجال الترفيه، يوجد كثير من المغنين الثنائيي اللغة، مثل: شاكيرا، ونانا موسكوري، وسيلين ديون، وجلوريا إستيفان، وكريستينا أجيليرا، ولاسا دي سيلا، وخوليو إجلسياس، الذين يغنون بلغتين على الأقل، وأحيانا أكثر من ذلك. أما بالنسبة إلى الممثلين عامة والممثلين الكوميديين خاصة، فكثير منهم ثنائيو اللغة، مثل: إيفا لونجوريا باركر وآندي جارسيا (كلاهما ثنائي اللغة في الإسبانية والإنجليزية)، وعزيز أنصاري (الإنجليزية والتاميلية)، ومارجريت تشو (الكورية والإنجليزية)، وماز جبراني (الإنجليزية والفارسية). وقد مثل بعض الممثلين بالفعل أدوارا بلغتهم أو لغاتهم الأخرى التي يعرفونها ويستخدمونها، مثل: جودي فوستر (الإنجليزية والفرنسية)، وصوفيا لورين (الإيطالية والفرنسية والإنجليزية)، وشارلوت جينسبرج (الفرنسية والإنجليزية)، ولامبرت ويلسون (الفرنسية والإنجليزية). في الواقع، في دول معينة تضم عددا كبيرا من السكان الذين يتحدثون لغة الأقلية (مثل السكان ذوي الأصل اللاتيني في الولايات المتحدة)، يوجد طلب مرتفع حاليا على الممثلين الثنائيي اللغة.
أخيرا ، ببساطة يزخر مجال الرياضة بالأشخاص الثنائيي اللغة، سأذكر فقط بعضا منهم، وسأترك القارئ يضيف أسماء أخرى ورياضات أخرى: التنس (روجر فيدرير ورافاييل نادال)، البيسبول (كثير من لاعبي الدوري الأمريكي من كوبا وجمهورية الدومينيكان واليابان والمكسيك وغيرها)، سباقات السيارات (فرناندو ألونسو وكيمي رايكونين وفيليبي ماسا)، كرة القدم (تييري هنري وباتريك فييرا وينز ليمان)، كرة السلة (ياو مينج وتوني باركر)، إلى آخره.
الجزء الثاني
الأطفال الثنائيو اللغة
الفصل الرابع عشر
اكتساب الثنائية اللغوية والتحول عنها
إننا، كمتحدثين بالغين، لا نتوقف أبدا عن الانبهار بالأطفال الذين يتحدثون لغة ثانية أو ثالثة؛ فعندما نجد طفلة صغيرة في الرابعة من عمرها تخبرنا بشيء ما بالإنجليزية، ثم تتحول إلى اللغة الإسبانية لتطرح سؤالا على والدتها، أو طفلا في الثانية عشرة من عمره يعرض علينا بالفرنسية ترجمة ما يقوله صديقه بالألمانية، نسأل أنفسنا: كيف يفعلون هذا؟ ستقدم الفصول الستة التالية بعض الإجابات عن هذا السؤال. وفي هذا الفصل أستعرض حالات لأطفال أصبحوا ثنائيي اللغة في فترات مختلفة من مرحلة طفولتهم، وسأعرض أيضا بعض الحالات لأطفال ثنائيي اللغة تحولوا إلى الأحادية اللغوية. سأستعرض بعد ذلك الأسباب الأساسية لهذا الاكتساب للثنائية اللغوية ثم التحول عنها. (1) تحول الطفل إلى ثنائي اللغة
الأطفال الذين يكتسبون لغتين (في وقت واحد) منذ بداية حياتهم، يستمرون في إثارة اهتمام الباحثين، لكنهم في الواقع أكثر ندرة بكثير من الأطفال الذين يكتسبون لغة واحدة ثم لغة أخرى (سنستعرض كلتا الحالتين في الفصل التالي). كي يكتسب الأطفال لغتين معا، تنتهج الأسرة عادة أسلوبا يجعل الطفل يستقبل المدخلات بلغتين (ربما تتحدث الأم بإحدى اللغات ويتحدث الأب بلغة أخرى، أو يتحدث الوالدان بإحدى اللغات ويتحدث المسئول عن رعاية الطفل مثل المربية أو المشرفة في أحد مراكز الرعاية النهارية بلغة أخرى). دعني أعطيك مثالين على هذا: هيدلجارد فتاة أمريكية اكتسبت لغتين في وقت واحد، نظرا لأن والدها يتحدث معها بالألمانية، وتتحدث والدتها بالإنجليزية. في الفترة ما بين سن الثانية والخامسة كانت اللغة الإنجليزية هي السائدة لديها نظرا لعيش الأسرة في بيئة تتحدث بالإنجليزية. كانت فتاة صغيرة مفعمة بالحيوية، وفهمت سريعا اللغتين وحاولت بشتى الطرق جعل والدها يتحدث أيضا بالإنجليزية، فكانت تسأله مثلا: «كيف تقول أمي هذا؟» وأصبحت أقل إجادة للألمانية بمرور الوقت، لكنها تعرضت إلى انتعاش حقيقي عندما قضت هيلدجارد أكثر من نصف عام بقليل في ألمانيا خلال عامها الخامس. في الواقع، وكما يحدث دوما، بعد قضاء أربعة أسابيع فقط في بيئة تتحدث بالألمانية بالكامل، لم تكن تستطيع إلا قول بعض الجمل البسيطة للغاية بالإنجليزية؛ وبالطبع، عندما عادت إلى الولايات المتحدة، سرعان ما تعافت لغتها الإنجليزية، وبعد أربعة أسابيع كانت لغتها الألمانية هي التي بدأت تضعف. ثم استقرت الأمور، واستمرت رحلة هيلدجارد مع الثنائية اللغوية دون مشكلات.
تشبه قصة هيلدجارد قصص كثير من الأطفال الذين يكتسبون لغتيهم معا؛ فتضعف إحداهما إذا كانت البيئة تفضل اللغة الأخرى، وتوجد تغيرات سريعة للغاية في السيادة إذا تغيرت اللغة الأساسية، وتوجد حتى علامات على نسيان إحدى اللغتين لبعض الوقت، على الرغم من إمكانية إعادة إحيائها سريعا إذا أصبحت الظروف مناسبة. في الواقع تعتبر قصة هيلدجارد إحدى القصص الكلاسيكية أيضا في مجال الثنائية اللغوية؛ إذ إن والدها فيرنر ليوبولد نشر واحدة من أوائل دراسات الحالة الشاملة عن اكتساب لغتين في وقت واحد.
1
تعتمد هذه الدراسة على هيلدجارد، التي ربما تعتبر أكثر طفل ثنائي اللغة خضع للدراسة في تاريخ علم اللغة.
إن لم تأت اللغة الثانية من أحد الوالدين، فمن الممكن أن تأتي من أحد المسئولين الآخرين عن رعاية الطفل، كما يظهر في مثالي الثاني. أخبرتني سوزان، التي تعيش حاليا في الولايات المتحدة، بأنها عندما كانت طفلة في أفريقيا، كانت مربيتها تتحدث إليها باللغة السواحلية. كانت سوزان تجيد هذه اللغة إجادة تامة حتى سن السابعة، بالإضافة إلى اللغة الفرنسية التي كانت تتحدث بها مع والديها؛ بعد ذلك انتقلت الأسرة إلى دولة تتحدث بالبرتغالية، وحلت البرتغالية محل اللغة السواحلية. إنها تقول إن تغيير اللغات لم يخف أسرتها، وتسرد باقي قصتها قائلة:
كانت الفرنسية تستخدم في المنزل، والإنجليزية في المدرسة، والبرتغالية في المنزل وفي المجتمع. كنت أميل دوما إلى استخدام الإنجليزية مع أختي الكبرى، بينما كنت أتحدث بالبرتغالية مع أختي الصغرى. وكانت أختاي تتواصلان معا في الأغلب بالبرتغالية، لكننا نحن الثلاث كنا نتحدث دائما الفرنسية مع والدينا.
2
وإذا كان هناك كثير من مسئولي الرعاية والأشخاص المهمين في حياة الطفل الصغير، وإذا كانوا يستخدمون لغات مختلفة، فإنه من الطبيعي أن يتعلم الطفل كل هذه اللغات. وإليك ما ورد عن شخص عاش في الهند في مطلع القرن العشرين، ولاحظ أن الأطفال الإنجليز الصغار السن اكتسبوا كثيرا من اللغات الهندية حتى يتمكنوا من الحديث مع الموجودين حولهم، وأحيانا كانوا يعملون كمترجمين شفويين لوالديهم:
في إقليم البنغال في الهند، الذي عاش فيه الكاتب، من الشائع أن يسمع المرء الأطفال الإنجليز الذين في عمر الثالثة أو الرابعة وولدوا في هذه الدولة؛ يتحدثون بطلاقة في أوقات مختلفة مع والديهم بالإنجليزية، ومع المربيات بالبنغالية، ومع البستانيين باللغة السنتالية، ومع الخدم في المنزل باللغة الهندوستانية.
3
إن إحدى اللحظات المهمة في السنوات الأولى من حياة الأطفال الذين سيصبحون ثنائيي اللغة، هي عندما يبدءون الذهاب إلى المدرسة والتعامل مع الأطفال الآخرين. إذا كانت لغة المدرسة أو البيئة مختلفة عن اللغة المستخدمة في المنزل، فإن الأطفال سيكتسبونها، أحيانا بسهولة وأحيانا بمزيد من الصعوبة (انظر الفصل التاسع عشر الذي يتحدث عن الثنائية اللغوية والتعليم). على سبيل المثال: تخبرنا عالمة الأنثروبولوجيا كارول باربر، التي درست هنود الياكي في ولاية أريزونا، أن أطفالهم، الذين تكون الياكية هي لغتهم الأولى، يكتسبون لغتيهم الثانية والثالثة في سن الخامسة أو السادسة تقريبا؛ الإسبانية عبر التواصل مع الأطفال الأمريكيين الذين من أصل مكسيكي داخل المدرسة وخارجها، والإنجليزية في المدرسة، حيث تكون هي لغة التعليم.
4
بالمثل يكتسب الأطفال التنزانيون الصغار على الأقل ثلاث لغات: اللغة المحلية في المنزل ومحيطهم المباشر، والسواحلية في المجتمع والمدرسة، والإنجليزية في المدرسة.
5
وإذا بدأ نظام المدرسة نفسه باستخدام لغة واحدة في التدريس، ثم انتقل إلى لغة أخرى، فيمكن اكتساب كثير من اللغات . تخبرنا ماري-بول ماورر عن ليتيشا، وهي طفلة صغيرة برتغالية الأصل تعيش في لوكسمبورج؛ كانت البرتغالية لغتها الأولى، لكنها عندما ذهبت إلى الحضانة، اكتسبت اللهجة اللوكسمبورجية، وهي إحدى اللهجات الألمانية؛ بعد ذلك تحولت في المدرسة إلى دراسة اللغة الألمانية القياسية في الصف الأول، ودخلت الفرنسية كلغة «ثانية» في الصف الثاني، وكانت ليتيشا الصغيرة تأخذ أيضا دروسا في البرتغالية مرتين في الأسبوع.
6
في ظل هذا المثال، لا عجب إذا في كون الناس في لوكسمبورج من بين أكثر الأشخاص المتعددي اللغات في العالم!
مع تقدم الأطفال في العمر، قد تؤدي الأحداث المختلفة في حياتهم إلى اكتسابهم لغة ثانية أو ثالثة أو رابعة. وتعتبر الهجرة أحد هذه الأحداث المهمة؛ فيواجه فعليا ملايين المهاجرين إلى أمريكا الشمالية وأوروبا لغة الدولة الجديدة في مرحلة الطفولة والمراهقة. تحكي إيفا هوفمان، مؤلفة كتاب «فقد في الترجمة» بوضوح شديد يومها الأول في إحدى المدارس الكندية وهي في الثالثة عشرة من عمرها، ومعها أختها، قائلة:
كان الأطفال من حولنا يصيحون:
Shut up, shuddup . وكانت هذه هي الكلمة الأولى التي أفهمها من سياقها الدرامي. وقفت مع أختي في باحة المدرسة ونحن ممسكتان كل منا بالأخرى، بينما كان الأطفال يركضون من حولنا، وهم يضربون بعضهم بعضا ويصيحون مثل دراويش المولوية.
7
على الرغم من معاناة إيفا من تغيير الدول، بالإضافة إلى تغيير اللغات والمدارس وحتى اسمها الأول من أجل دمجها في المجتمع على نحو أسرع، فقد نجحت ببراعة في دراساتها وحياتها المهنية. ومع الأسف، ليس كل الأطفال الذين يجدون أنفسهم في سياق «الفشل أو النجاح» هذا يتخطونه على نحو جيد مثل إيفا.
يقضي كثير من الأطفال والمراهقين بعض الوقت في منطقة أخرى أو دولة أخرى من أجل اكتساب اللغة المستخدمة فيها، دون الهجرة الفعلية. حدث هذا على مدار التاريخ البشري، منذ عهد روما القديمة، عندما كانت العائلات الرومانية ترسل أطفالها إلى اليونان حتى يتعلموا اللغة اليونانية. وفي سويسرا، حيث أعيش حاليا، يوجد تقليد منذ زمن طويل يتمثل في قضاء المرء في مرحلة المراهقة بعض الوقت في جزء آخر من الدولة، من أجل تعلم لغته بسهولة أكبر (على سبيل المثال: يقضي كثير من المراهقين الذين يعيشون في الجزء الذي يتحدث بالألمانية السويسرية سنة، وأحيانا أقل، كمتدربين أو مقيمين مع أسر نظير تأدية بعض المهام المنزلية في الجزء الذي يتحدث بالفرنسية). (2) التحول إلى الأحادية اللغوية
كثيرا ما نسمع، أو نقرأ، عن أطفال أصبحوا ثنائيي اللغة، وأحيانا في وقت قصير للغاية، ونتعجب من كيفية قيامهم بهذا. لكننا نادرا ما نسمع النوع نفسه من القصص عن أطفال تحولوا إلى الأحادية اللغوية بعدما كانوا ثنائيي اللغة. وعلى الرغم من ذلك، فإنهم يمثلون جزءا مهما من حياتنا بالقدر نفسه، على الرغم من أن الناس يقدرون اكتساب اللغة أكثر من نسيانها. دعني أذكر لك حالتين: تتعلق الأولى بستيفن - وهو ابن عالم الأنثروبولوجيا روبنز بورلينج البالغ من العمر 16 شهرا - الذي ذهب مع والديه إلى منطقة جارو هيلز في ولاية آسام في الهند. بدأ ستيفن في استخدام كلمات اللغة الجاروية في غضون بضعة أسابيع من وصولهم، على الرغم من أن لغته الإنجليزية ظلت هي السائدة في البداية. ونظرا لأنه كانت لديه مربية من المنطقة، تحسنت لغته الجاروية سريعا، خاصة عندما دخلت والدته المستشفى وترك في رعاية مربيته؛ بالإضافة إلى ذلك، كان والده عادة ما يتحدث معه باللغة الجاروية. سافرت الأسرة إلى منطقة أخرى في الهند في وقت لاحق، وتحسنت لغته الإنجليزية مرة أخرى، خاصة بسبب عودة والدته. وعندما تركت الأسرة منطقة جارو كان سيتفن، الذي جاوز الثالثة قليلا، ثنائي اللغة بحق في الجاروية والإنجليزية، وربما كانت الجاروية هي السائدة قليلا حينها؛ فكان يترجم وينتقل بين اللغتين مثلما يفعل الأطفال الثنائيو اللغة.
8
إن ما يرويه روبنز بورلينج مثير للاهتمام كثيرا؛ إذ يحكي لنا عن عودة ستيفن إلى الأحادية اللغوية؛ فعندما سافرت الأسرة عبر جميع أنحاء الهند، حاول ستيفن التحدث بالجاروية مع الهنود الذين قابلهم، لكنه سرعان ما أدرك أنهم لا يتحدثون بها (فلا يتحدث باللغة الجاروية إلا أكثر بقليل من نصف مليون فرد). كانت آخر مرة حاول فيها استخدام هذه اللغة على متن الطائرة عند عودته إلى الولايات المتحدة؛ فقد ظن أن الفتى الملايوي الجالس إلى جواره كان يتحدث بالجاروية، وكما كتب بورلينج يقول: «انفجر سيل من اللغة الجاروية كما لو أن كل الكلام المكبوت كل هذه الأسابيع قد أطلق سراحه.» حاول والد ستيفن الحديث معه بالجاروية عند عودتهم إلى الولايات المتحدة، لكن بعد بضعة أشهر لم يكن يجيب على حديث والده بها. لم يعرف بورلينج هل كان هذا نتيجة لعدم قدرة ستيفن على الفهم، أم أنه كان يرفض الحديث باللغة «الخطأ». وفي خلال ستة أشهر من تركهم لجارو هيلز، كانت توجد مشكلات لدى ستيفن مع أبسط الكلمات باللغة الجاروية. ينهي روبنز بورلينج حديثه قائلا:
التحق ستيفن بالحضانة في الولايات المتحدة في سن الخامسة والنصف، وقد أصبح يتحدث بالإنجليزية ربما بطلاقة أكثر قليلا من الأطفال في نفس عمره، وبالتأكيد باستمرار أكثر. وهو لا يستخدم حاليا من الكلمات الجاروية إلا الكلمات القليلة التي أصبحت من المتعارف عليه في العائلة، لكني أتمنى أن أتمكن في يوم ما من العودة به إلى جارو هيلز ليكتشف ما إذا كان لا يزال يحتفظ في عقله الباطن بآثار إتقانه للغة الجاروية، بحيث يمكن إعادة إيقاظها إذا عاد إلى الاتصال باللغة.
9
إن النقطة المثيرة للاهتمام التي أثارها بورلينج تتعلق بما إذا كان المرء يستطيع استعادة إحدى اللغات التي اكتسبها في مرحلة مبكرة جدا من طفولته، ونسيها أيضا في مرحلة مبكرة للغاية. يقال إن اللغات التي ينساها المرء تبدو مألوفة ولا يجد صعوبة في نطق أصوات معينة فيها، لكن لم تستطع دراسات فعلية أن تعطينا معلومات واضحة عن مقدار ما يظل محفوظا لدى المرء، ومدى سرعة إعادة تعلم اللغة. لدى كل الذين يمتلكون لغة مخبأة بداخلهم اكتسبوها في طفولتهم؛ توجد رغبة دفينة في أن يتمكنوا ذات يوم من إعادة تفعيل اللغة واستخدامها في الحياة اليومية. وبالنسبة إلى ستيفن، أخبرني روبنز برولينج بالبريد الإلكتروني أن سيتفن لم يعد قط إلى جارو هيلز؛ ومع ذلك ، عندما كان في السادسة من عمره اكتسب اللغة البورمية في مدينة رانجون (المعروفة الآن باسم يانجون)؛ لقد تحدث بها بطلاقة لمدة سنة لكنه نسيها، وكتب لي والده يخبرني بأنه اكتسب في سن الثامنة ثلاث لغات ونسي اثنتين منها!
10
تتحدث الحالة الثانية عن طفل رجع إلى الأحادية اللغوية، وهو أقرب إلينا في الموقع الجغرافي وفي الفترة الزمنية. إن دراسة الحالة هذه، التي ذكرتها عالمة اللغة ليلي وونج فيلمور، تدور حول كاي فونج، الذي ينتمي إلى أسرة صينية (كانتونية) مهاجرة وصلت إلى الولايات المتحدة عندما كان في سن الخامسة. تربى في الأساس على يد جدته الصينية، حيث كان والداه يقضيان ساعات طويلة في مطعمهم الموجود في منطقة سان فرانسيسكو. عندما بدأ كاي فونج الذهاب إلى المدرسة واجه بعض الصعوبات؛ فقد كان الأولاد الآخرون يضايقونه بسبب ملابسه وتسريحة شعره. وبعد حادثة قذف للحجارة شارك فيها، وبعد ما تبعها من توبيخ، بدأ يصبح أكثر عزلة في كل من المدرسة والمنزل. وقد مر بفترة كان يعرف فيها اللغتين الكانتونية والإنجليزية، لكنه سرعان ما تحول إلى الحديث بالإنجليزية مع جدته، التي لم تكن تستطيع فهمه، وعندما صار في العاشرة من عمره، أصبح يقضي المزيد من الوقت خارج المنزل مع أصدقائه الذين يتحدثون بالإنجليزية، وبدا أنه لم يعد يفهم الكانتونية جيدا. ومن بين إخوته الثلاثة، لم يكن يتحدث بالكانتونية مع والديه وجدته إلا أخت واحدة، وكان كل الكبار يشعرون بالقلق من هذا الفقدان السريع للغة الأسرة. تنهي وونج فيلمور تقريرها قائلة:
لقد كان للتحول من الكانتونية إلى الإنجليزية في هذه الأسرة، وضياع لغة الأسرة من الأبناء، تأثير كبير على التواصل بين الكبار والأطفال، وفي النهاية على العلاقات الأسرية. فأصبح هناك توتر في هذا المنزل؛ فالكبار لا يفهمون الأبناء، والأبناء لا يفهمون الكبار؛ فلا يشعر الأب والأم والجدة بأنهم يعرفون الأبناء، ولا يعرفون ماذا يحدث في حياتهم.
11
لحسن الحظ ليست كل حالات نسيان اللغة بمثل هذه الصعوبة؛ فعادة ما يتعلم الوالدان القدر الكافي من لغة الأغلبية حتى يمكنهم التواصل، إلى حد ما على الأقل، مع أطفالهم الذين لا يتحدثون غيرها. في الحالة السابقة على وجه الخصوص، لم تتعلم الجدة الإنجليزية على الإطلاق، وكان الوالدان لا يجيدان التحدث بها على الإطلاق، خاصة الأم. أما بالنسبة إلى كاي فونج، الذي تحول من الأحادية اللغوية في الكانتونية إلى الثنائية اللغوية في الكانتونية والإنجليزية، ثم إلى الأحادية اللغوية في الإنجليزية، كل هذا في خلال بضع سنوات، فقد سألت ليلي وونج فيلمور عن حاله، فأجابتني أنه أصبح في الثالثة أو الرابعة والعشرين من عمره الآن (كان هذا في عام 2008)، وأضافت: «أتمنى أن يكون أكثر تقبلا لما هو عليه.» (3) تفسير
رأينا كيف يمكن للأطفال التحول إلى الثنائية اللغوية ومنها، في وقت قصير جدا. يوضح الشكل
14-1
العوامل الأساسية التي تسهم في هذه الظاهرة. نجد في هذا الشكل أن العامل الأساسي الذي يؤدي إلى تعلم إحدى اللغات هو «الحاجة» لهذه اللغة (اللغة «س» في هذا الشكل). قد تأخذ هذه الحاجة عدة أشكال؛ على سبيل المثال: التواصل مع أفراد الأسرة، أو المسئولين عن رعاية الطفل، أو الأصدقاء الذين قد يكون بعضهم أو معظمهم أحاديي اللغة في هذه اللغة؛ والمشاركة في أنشطة أحد مراكز الرعاية النهارية أو المدارس؛ والتعامل مع الناس في المجتمع. وقد تتمثل هذه الحاجة ببساطة أيضا في مشاهدة التليفزيون وممارسة الرياضة وما إلى ذلك. باختصار، يجب أن يشعر الطفل بأنه بحاجة فعليا للغة معينة. إذا حدث هذا، وكانت العوامل الأخرى مواتية، فإن الطفل سيتعلم هذه اللغة؛ وإذا اختفت الحاجة أو لم تكن موجودة فعليا (ربما يتحدث الوالدان باللغة الأخرى أيضا لكنهم يتظاهرون بعكس ذلك)، وكانت العوامل الأخرى غير مواتية، فإن الطفل سيتوقف عن استخدام هذه اللغة، ويوجد احتمال كبير أن ينساها.
شكل 14-1: العوامل المؤدية لاكتساب لغة أخرى والإبقاء عليها لدى الأطفال.
لنعد إلى مثال هيلدجارد لنرى مدى اتفاقه مع عامل الحاجة؛ فقد كانت هيلدجارد بحاجة إلى التواصل مع والديها؛ لذا اكتسبت لغتين، على الرغم من أن الإنجليزية أصبحت هي اللغة السائدة نظرا لحياتها في الولايات المتحدة. لكنها عندما عادت إلى ألمانيا، كانت بحاجة إلى الألمانية أكثر، وأصبحت الألمانية هي اللغة السائدة. وعند عودتها إلى الولايات المتحدة، عادت السيادة للغة الإنجليزية مرة أخرى.
ماذا عن نسيان اللغة؟ من الواضح أن ستيفن شعر بأنه لم يعد بحاجة إلى اللغة الجاروية عندما ترك الهند، وكان يعلم أن والده، الفرد الوحيد في أسرته الذي يتحدث بالجاروية، يتحدث بالإنجليزية أيضا، وشعر - بالطبع دون وعي - بأنه ليس بحاجة إلى الاحتفاظ بها من أجل إرضائه فحسب. لا يحب الأطفال الادعاء عندما يتعلق الأمر بشيء بالغ الأهمية مثل اللغة التي يستخدمونها مع والديهم. بالنسبة إلى كاي فونج، فبعد تعرضه لبداية صعبة في المدرسة، كان بحاجة إلى التأقلم مع بلده الجديد، ووجد أنه يشعر مع أصدقائه الذين يتحدثون الإنجليزية براحة أكبر من الراحة التي يجدها في المنزل؛ لذا تخلى عن اللغة الكانتونية، حتى إن كان هذا يعني عدم القدرة على التواصل مع بعض أفراد أسرته؛ فقد كانت ببساطة الحاجة إلى الإنجليزية أكبر بكثير من الحاجة إلى الكانتونية.
نرى في الشكل
14-1
أن العوامل الأخرى التي تلعب دورا في مستوى اكتساب اللغة مذكورة على اليمين. سأستعرضها وأعطي بعض الأمثلة عليها. أولا: يحتاج الأطفال إلى قدر معين من المدخلات في اللغة حتى يكتسبوها. تؤكد أنيك دي هاور، إحدى الاختصاصيات الشهيرات في الثنائية اللغوية لدى الأطفال، على حقيقة أنه حتى «يكتسب» الأطفال إحدى اللغات، يجب أن تتوافر لهم مدخلات لغوية في مواقف متنوعة من أشخاص مهمين لهم؛ مثل: الوالدين، ومسئولي الرعاية، وأعضاء الأسرة الكبيرة، والأصدقاء، وما إلى ذلك.
12
ثانيا: إن نوع المدخلات التي يحصل عليها الأطفال مهم أيضا؛ فلا بد من استخدام الكلام الثنائي اللغة الذي يحتوي على عمليات تبديل لغوي واقتباس داخل الأسرة، لكن إذا أمكن التوصل إلى سبل نقدم فيها للأطفال فترات من المدخلات «الأحادية اللغة»، على نحو طبيعي قدر الإمكان، فإن هذا يكون أفضل. أحيانا يمكن أن يؤدي الدور الأحادي اللغة أحد أفراد الأسرة الكبيرة الذي لا يعرف اللغة الأخرى، أو مسئولو الرعاية الأحاديو اللغة (على سبيل المثال: في مركز الرعاية النهارية أو الحضانة). يوجد نوع آخر من المدخلات، وهو اللغة المكتوبة؛ فتؤكد أنيك دي هاور على أهمية القراءة للأطفال؛ إذ إنها أحد المصادر الممتازة للمفردات والمعلومات الثقافية التي قد لا يحصلون عليها في بيئتهم العادية. فيما بعد، إذا تعلم الأطفال القراءة باللغة المعنية، فسيكون من المهم تخصيص أوقات للقراءة الشخصية.
13
يتمثل العامل الثالث في دور الأسرة. سنتحدث عن هذا في فصل لاحق؛ لذا يكفي أن نقول هنا إنه إذا أمكن يجب أن يدرك الوالدان ومسئولو الرعاية ما يمر به أطفالهم في أثناء اكتسابهم (أو فقدانهم) إحدى اللغات؛ فيجب عليهم اتباع استراتيجيات عائلية تدعم لغة المنزل إذا كانت لغة الأقلية، وإذا كانت مهددة بأن تحل محلها لغة الأغلبية المستخدمة خارج المنزل. كذلك فإن المدخلات من أفراد الأسرة الكبيرة والأصدقاء الذين يستخدمون اللغة نفسها، تكون لها قيمة كبيرة ويبدو للأطفال أن استخدام هذه اللغة أمر طبيعي جدا.
يعتبر كذلك دور المدرسة والمجتمع الأكبر مهما للغاية لاكتساب الطفل إحدى اللغات. على الرغم من أنني سأتحدث عن الثنائية اللغوية والتعليم في فصل قادم، فإنه يجب علي أن أؤكد على مدى أهمية المدارس والمجتمعات في اكتساب إحدى اللغات، أو فقدانها؛ فإذا لم تحصل لغة الأقلية على دعم في المدرسة أو في المجتمع، فسيوجد احتمال كبير أن تقل أهميتها، هذا إن لم تنح جانبا ببساطة، خاصة إذا كانت لغة الأغلبية موجودة في كل جانب من جوانب حياة الطفل. إليك ما ورد عن زوجين فرنسيين شابين بشأن ابنهما، الذي فقد لغته الفرنسية بعد أقل من سنة من انتقالهم إلى الولايات المتحدة:
عند بداية وصولنا، كان عمر سيرل، ابننا الأكبر والوحيد في ذلك الوقت، سنتين تقريبا، وكان يحرز تقدما جيدا في تعلم اللغة الفرنسية. وظلت اللغة الفرنسية، لبعض الوقت بعد وصولنا، لغة التواصل الوحيدة داخل المنزل، لكن بدأت الإنجليزية تغير علينا، من خلال الأصدقاء الأمريكيين وبرامج الأطفال التليفزيونية ... بدأ سيرل يذهب إلى مركز رعاية نهارية، ومن ثم بدأ في تعلم الإنجليزية، ولم يمض وقت طويل حتى بدأ يتحدثها مع الفرنسية داخل البيت. كنا بالطبع لا نتحدث معه إلا بالفرنسية، ونصر على أن يجيبنا بالفرنسية، لكن أصبح تطبيق هذا الأمر صعبا عندما كان أصدقاؤه يأتون للعب معه في المنزل؛ كما أصبح الحديث بلغة والحصول على إجابة بلغة أخرى أمرا مرهقا، وبالتدريج بدأنا نرد عليه بالإنجليزية. وبمرور الوقت قل كثيرا استخدام سيرل للفرنسية معنا، وأصبح ببطء أحادي اللغة في الإنجليزية.
14
يتعلق العامل الأخير المقترح بالشكل بمواقف الناس تجاه اللغة والثقافة اللتين بحاجة إلى دعم، بالإضافة إلى المواقف تجاه الثنائية اللغوية. يتأثر الأطفال بشدة بمواقف والديهم ومعلميهم وأقرانهم. إليك ما أخبرني به أحد الأشخاص عن التحيز السلبي الموجود لدى البلجيكيين المتحدثين بالفرنسية تجاه اللغة الفلمنكية، وهي لغة تدرس في المدارس التي تتحدث بالفرنسية، لكن يبدو ببساطة أن الأطفال لا يستطيعون تعلمها جيدا:
يوجد عادة تحيز يتعلق بالمرحلة المبكرة من تعليمنا، بسبب حقيقة أن والدينا ينقلون إلينا أحكامهم المسبقة تجاه المجموعة الأخرى؛ لذا من الصعب أحيانا أن يوجد لدينا دافع لتعلم اللغة الأخرى. هذا بالإضافة إلى أن الذين يتحدثون الفرنسية يكون لديهم عدم رغبة بشكل كبير في تعلم الفلمنكية؛ إذ إن الأماكن الوحيدة التي يمكنهم استخدامها فيها هي بلجيكا وهولندا.
15
من الواضح أن المواقف السلبية تجاه إحدى اللغات وثقافتها، وعدم الحاجة إلى هذه اللغة، على الأقل في السن الصغيرة؛ يقللان احتمالات اكتساب الطفل لهذه اللغة.
أما فيما يتعلق بالمواقف تجاه الثنائية اللغوية، فإن المرء يندهش من مدى قلة ما يعرفه الناس عنها، ومن الأفكار المسبقة التي توجد لديهم عن معناها؛ عرضت بعضا من هذه الخرافات وناقشتها على مدار الكتاب. وتوجد لدى الناس أيضا معتقدات مسبقة عن الأطفال والثنائية اللغوية؛ والخرافة التالية هي أحد هذه المعتقدات:
خرافة: يكون للغة المستخدمة في المنزل تأثير سلبي على اكتساب لغة المدرسة عندما تكون لغة مختلفة
هذا معتقد خاطئ تماما؛ فعلى العكس، يمكن أن تستخدم لغة المنزل كأساس لغوي لاكتساب جوانب من اللغة الأخرى. وهي تعطي الأطفال أيضا لغة معروفة يتواصلون بها (مع الوالدين ومسئولي الرعاية وربما المعلمين)، بينما يكتسبون اللغة الأخرى. في كتاب «نهم الذاكرة»، يحكي المؤلف ريتشارد رودريجيز كيف جاءت الراهبات من مدرسته الكاثوليكية إلى منزله لتطلب من والديه التوقف عن استخدام اللغة الإسبانية معه. يحدث مثل هذا الأمر كثيرا لأن النصيحة التي يقدمها المختصون، بنية طيبة في كثير من الأحيان، بشأن الثنائية اللغوية، لا تعتمد دوما على حقائق علمية. رضخ والدا ريتشارد رودريجيز للأمر، ولم يكتمل تطور اللغة الإسبانية لديه قط بينما كان من الممكن أن يجيد كلتا لغتيه، حديثا وكتابة. وكان والداه مثل كثير من الآباء الذين «يتخلون عن لغة المنزل»، ثم يضطرون لتفسير سبب كون أطفالهم لم يعدوا قادرين على الحديث بها لأفراد أسرتهم. يقول رودريجيز في هذا الشأن:
كان والدي لشعورهما بالإحراج يضطران دوما إلى تفسير عدم قدرة أطفالهما على التحدث بالإسبانية بطلاقة خلال هذه السنوات. فواجهت والدتي غضب أخيها الوحيد عندما جاء من المكسيك في صيف إحدى السنوات مع أسرته. لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها أبناء وبنات أخته، وبعدما استمع إلى حديثي نظر بعيدا وقال إنه لأمر مخز أنني لا أستطيع التحدث بالإسبانية
su proprio idioma (أي لغته).
16
من المهم أن يعرف الآباء، والمختصون أيضا الذين يتعاملون مع أطفال ثنائيي اللغة، معلومات عن الثنائية اللغوية؛ فإن هذا سيسمح لهم بفهم ما يمر به الأطفال، ويساعدهم في تقديم الدعم الذي يحتاج إليه الأطفال الثنائيو اللغة.
الفصل الخامس عشر
اكتساب لغتين
كما نعرف، يصبح الأطفال ثنائيي اللغة إما عن طريق اكتساب لغتين في الوقت نفسه (معا)، وإما من خلال اكتساب واحدة تلو الأخرى (تباعا). يختلف علماء اللغة في السن الذي يفصل بين نوعي اكتساب اللغة، لكن معظمهم يتفق على أنه حتى سن الرابعة يكون الأطفال في نمط الاكتساب المتزامن، بينما يدخلون في نمط الاكتساب المتتابع بداية من سن الخامسة. أيا كان نوع اكتساب اللغة، فإن درجة الثنائية اللغوية قد تكون واحدة. تحدد العوامل التي ذكرناها في الفصل السابق مدى ما يصل إليه الطفل في الثنائية اللغوية وفترة استمرارها لديه، لكن ليس نوع اكتسابها. (1) الثنائية اللغوية المتزامنة
في هذا النوع من الثنائية اللغوية يكتسب الأطفال لغتين (وأحيانا ثلاثا) في الوقت نفسه، من بداية معرفتهم باللغات. يقل كثيرا وجود ثنائيي اللغة من هذا النوع مقارنة بالأطفال الذين يكتسبون لغتين بالتناوب (أقل من 20 في المائة من الأطفال الثنائيي اللغة).
1
تحدث الثنائية اللغوية المتزامنة عندما يستخدم الوالدان لغتين مختلفتين مع طفلهما (على سبيل المثال: يستخدم الوالد الإسبانية والأم الإنجليزية)، أو يستخدم الوالدان إحدى اللغات ويستخدم القائمون على الرعاية الآخرون (أحد أفراد الأسرة، أو المربية، أو الأفراد في مركز الرعاية النهارية الذي يذهب إليه الطفل) لغة أخرى. ومن ثم يتلقى الطفل مدخلات بلغتين، ويكتسب على مدى سنوات عمره الأولى لغتين.
يقلق كثير من الآباء من معدل اكتساب اللغة نظرا لوجود المعتقد التالي لدى بعض الناس:
خرافة: الثنائية اللغوية سوف تؤخر اكتساب الأطفال للغة
على الرغم من عدم ثبات معدل اكتساب اللغة لدى الأطفال الثنائيي اللغة، كما هو الحال لدى الأطفال الأحاديي اللغة، فإن المراحل الأساسية المهمة يصل إليها الأطفال في المراحل العمرية نفسها في المجموعتين. سأطرح عليك بعض الأمثلة بداية من المرحلة الأولى، المناغاة. قارن اختصاصي علم اللغة النفسي دي كيميبرو أولر وزملاؤه تطور المناغاة باستخدام مقاطع صحيحة لغويا، مثل «دا» لدى الأطفال الرضع الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة، ووجدوا أن المجموعتين بدأتا المناغاة في العمر نفسه.
2
أما فيما يتعلق بالقدرة على فهم الأصوات المختلفة، فيجب على الأطفال الرضع الثنائيي اللغة التمييز بين أصوات أكثر (فتوجد أصوات كلامية أكثر في حالة وجود لغتين)، لكن يبدو أنهم يفعلون هذا بكفاءة كبيرة؛ على سبيل المثال: اكتشفت جانيت فيركر وفريقها أن الأطفال الذين ينشئون في بيئة ثنائية اللغة تتكون لديهم تمثيلات صوتية لكلتا لغتيهم بالطريقة نفسها، وفي الفترة الزمنية نفسها، تماما مثل تكوين التمثيلات لدى الأطفال في لغة واحدة.
3
ومع ذلك، في حال وجود كثير من الأصوات المتشابهة (مثل وجود ثلاثة أصوات مشتركة بين الإسبانية والكاتالونية تنطق مثل صوت
e
في كلمة
bet )، فإن الأطفال الثنائيي اللغة قد يستغرقون وقتا أطول بقليل حتى يتعلموا التمييز بينها بكفاءة.
4
أما فيما يتعلق بنطق أول كلمة، فقد علمنا منذ فترة عدم وجود اختلاف في هذا بين الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة، وأن هذا يحدث في الشهر الحادي عشر تقريبا في المعتاد.
5
ويبدو أن تكون مجموعتين من المفردات لدى الأطفال الثنائيي اللغة يتبع أيضا النمط الموجود لدى كل الأطفال. كتبت إلي باربرا زورر بيرسون، واحدة من الخبيرات في هذا المجال، تخبرني أن الثنائيي اللغة يكونون موجهين لتحقيق هذا الهدف منذ بداية تعلمهم للغة، شريطة ألا يكون تعرضهم سطحيا لواحدة من لغتيهم؛
6
فيجب أن تكون درجة تعرضهم للغتين جيدة. وفي دراسة أجرتها مع سيلفيا فرناندز ظهر أن الأطفال الثنائيي اللغة تعرضوا لإحدى اللغات بنسبة تتراوح بين 60 و65 في المائة، وللغة الأخرى بنسبة تتراوح بين 35 و40 في المائة؛ وهذا الاختلاف يمكنه أن يفسر سبب تفاوت عدد ما لديهم من مفردات في كلتا اللغتين. لكن ظهرت لدى جميع الأطفال الزيادة المعتادة المفاجئة في المفردات، إما بالتناوب - بناء على قوة كل لغة - وإما عند تعلم اللغتين معا.
7
كذلك ذكر باحثون آخرون يدرسون جوانب أخرى من اكتساب اللغة، وجود أوجه تشابه بين الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة؛ فتظهر الأصوات أو المجموعات الصوتية الأسهل نطقا في وقت مبكر مقارنة بالأكثر صعوبة، ويحدث مد في بعض الكلمات (مثل كلمة
doggie
التي تستخدم من أجل الإشارة إلى الحيوانات الصغيرة ذات الأربع أرجل)، ويزيد طول الكلام بالتدريج، وتستخدم التركيبات النحوية الأسهل قبل الأكثر تعقيدا، وهكذا.
ذكرت في الفصل السابق الفتاة الصغيرة هيلدجارد، ابنة فيرنر ليوبولد، الثنائية اللغة في الإنجليزية والألمانية، التي وثق والدها بعناية تقدمها في كلتا اللغتين. وقد طرح في دراسته ذات الطابع العلمي الواضح قضية ما زالت مطروحة للمناقشة بشدة في الكتابات التي تظهر في عصرنا الحالي في مجال الثنائية اللغوية، ولها أهمية للآباء؛ فقد قال إنه خلال سنوات عمر هيلدجارد الأولى، كانت تجمع بين لغتيها في نظام واحد؛ فقد كانت أصوات كلامها تنتمي إلى مجموعة لغوية واحدة، على حد قوله. كما قال أيضا إنها كانت تخلط الكلمات الإنجليزية بالألمانية، وكانت تعجز عن فصل اللغتين عندما كانت تتحدث إلى أشخاص أحاديي اللغة يستخدمون الإنجليزية أو الألمانية فقط. وأضاف أن «أولى علامات ما سيصبح فيما بعد نظامين لغويين منفصلين» لم تبدأ في الظهور إلا في نهاية عامها الثاني، ومنذ ذلك الحين بدأت ببطء تميز بينهما.
8
يتمثل الجدل الذي تثيره اكتشافات ليوبولد في رأيين متناقضين: الأول الذي يرى أن الأطفال الثنائيي اللغة يتشكل لديهم نظام لغوي واحد في البداية، وينفصل فيما بعد بالتدريج إلى نظامين؛ والثاني الذي يرى أن الأطفال الثنائيي اللغة يتشكل لديهم نظام مزدوج مميز من البداية.
يشير أنصار وجهة نظر النظام الواحد إلى الأدلة التي اكتشفها ليوبولد على ذلك، مثل حقيقة أن الأطفال الثنائيي اللغة قد «يخلطون» لغتيهم معا، ويكون هذا أحيانا أكثر في سنوات عمرهم الأولى أكثر مما يحدث في وقت لاحق (وسنتحدث عن هذه النقطة في الفصل القادم). توجد أيضا حقيقة أن هؤلاء الأطفال يستخدمون أحيانا قاعدة أو آلية واحدة قد يستمدونها من إحدى اللغتين. يوجد اكتشاف آخر يتمثل في أن بعض الأطفال الثنائيي اللغة يظهر لديهم تداخل قليل في مفرداتهم من اللغتين (أي إن أحد المفاهيم قد تعبر عنه كلمة في إحدى اللغتين، لكن من النادر أن توجد الكلمة نفسها في اللغتين). على سبيل المثال: وجدت عالمتا اللغة فرجينيا فولتيرا وتروتا تيشنر، اللتان درستا اكتساب المفردات لدى طفلتين ثنائيتي اللغة في الألمانية والإيطالية، هما ليزا وجوليا، أن ليزا كان لديها ثلاث كلمات متقابلة (مترادفة في اللغتين) من بين كلماتها التي يبلغ عددها 87 كلمة، بينما كان لدى جوليا ست كلمات متقابلة من أصل مفرداتها التي يبلغ عددها 83 كلمة.
9
توجد أيضا حقيقة أن الأطفال يستخدمون المزج بين الكلمات وتركيب الكلمات في هذه المراحل العمرية المبكرة؛ على سبيل المثال: كانت الطفلة جولييت الثنائية اللغة في الإنجليزية والفرنسية، البالغة من العمر عامين، تمزج الكلمة الفرنسية
chaud
ومقابلها الإنجليزي
hot
في كلمة واحدة هي
shot . كذلك كانت تمزج الكلمة الإنجليزية
pickle
بمقابلها الفرنسي
cornichon
في كلمة
pinichon . وفيما يتعلق بتركيب الكلمات بعضها مع بعض، كانت هيلدجارد تقول:
bitte-please . ويقول بيير، الفتى الثنائي اللغة في الفرنسية والإنجليزية:
papa-daddy ، و
chaud-hot .
أنصار وجهة النظر الأخرى، التي تقول إن الأطفال تكون لديهم لغتان مختلفتان من البداية؛ أصبحوا حاليا أكثر عددا، وتوجد لديهم حجج جيدة. على سبيل المثال: في عام 1976، قالت كورال بيرجمان إن ابنتها ماري في أثناء اكتسابها اللغتين الإسبانية والإنجليزية معا، كانت تميز بوضوح بين اللغتين في مرحلة عمرية مبكرة للغاية (15 شهرا)، فكانت تجيب جليسة الأطفال بالإسبانية وتجيبها بالإنجليزية. عرضت بيرجمان هذا الأمر في الفرضية التالية الخاصة بالاكتساب المستقل للغتين:
في أثناء اكتساب اللغتين، تستطيع كل لغة أن تتطور على نحو مستقل عن الأخرى، بنمط اكتساب اللغة نفسه الذي يوجد عند تعلم الأطفال الأحاديي اللغة لهذه اللغة.
10
منذ ذلك الحين، دافع باحثون مثل يورجن مايزل وأنيك دي هاور وفريد جينسي، من بين آخرين، عن وجود نظام لغوي مزدوج منذ البداية. يقول يورجن مايزل، الذي يتحدث عن اكتساب لغات أولى متعددة، إن الأطفال الذين يكتسبون لغتين في وقت واحد يمكنهم التمييز بين النظامين النحويين للغتين من مرحلة مبكرة للغاية، ودون عناء يذكر. ثم يقول إن المزج الذي يفعله الأطفال الثنائيو اللغة في سن الثانية تقريبا أو بعدها مباشرة، يمكن تفسيره في الأغلب على أنه تبديل لغوي (انظر الفصل التالي). ويقول إن هؤلاء الأطفال يجيدون الجوانب الصرفية جيدا (فهم لا يضيفون عشوائيا مقاطع صرفية إعرابية من كلتا اللغتين إلى مواد معجمية من كل من اللغتين المكتسبتين)، وإنهم يتبعون القواعد النحوية لهاتين اللغتين (على سبيل المثال: لا يستخدم أبدا الأطفال الثنائيو اللغة في الفرنسية والألمانية أنماط ترتيب الكلمات الخاصة باللغات الرومانسية في اللغة الألمانية).
11
ما موقفنا إذا من هذه القضية؟ بالتأكيد يوجد نوع من التواصل بين لغتي الأطفال الثنائيي اللغة، لكنه لا يكون في صورة «انصهار»، وهو ما يمكنه أن يفسر بعض ملاحظات الأنصار الأوائل لوجهة نظر اللغة الموحدة. يشير يورجن مايزل إلى أن اللغتين لا تكتسبان بالسرعة نفسها، وهذا ما يؤدي إلى أشكال الجمع بين اللغتين، مثل التداخل (التحول) وتسريع أو تأخير اكتساب تركيبات معينة. لاحظ الباحثان فرجينيا يب وستيفن ماثيوز، اللذان درسا الأطفال الثنائيي اللغة في الكانتونية والإنجليزية، التأثير الواسع للغة السائدة على اللغة الأضعف، بالإضافة إلى اكتساب بعض التركيبات أسرع في إحدى اللغتين نظرا لسهولتها أو وضوحها؛ واستنتجا أن الأطفال الثنائيي اللغة الذين خضعوا للدراسة يوجد لديهم سجل لغوي مميز ومنفصل لا يمكن وصفه بأنه مزيج من شخصين أحاديي اللغة موجودين داخل العقل نفسه، وينطبق هذا على الأرجح على معظم هذا النوع من الأطفال.
12
توجد ملاحظة أخيرة بشأن الاكتساب المتزامن للغتين؛ فحتى يستطيع الأطفال التمييز بوضوح بين اللغتين فهم يعتمدون على عوامل مختلفة؛ الإشارات الصوتية والعروضية لكل لغة (مثل الإيقاع)، وجوانب أخرى في تركيب اللغة، والسياق الذي تستخدم فيه اللغة، والأهم من ذلك، اللغة التي يتحدث بها شخص معين. فسيلاحظ أي شخص يتعامل لبعض الوقت مع طفل صغير ثنائي اللغة العلاقة القوية الموجودة لدى هذا الطفل بين الشخص ولغته (علاقة الشخص باللغة). فمن وجهة نظر الطفل، يرتبط الشخص بلغة واحدة معينة، وإذا تحدث هذا الشخص مع الطفل بلغة أخرى، فإن الطفل قد يرفض الرد عليه أو قد يشعر بالحزن. إليك مثالين على هذا: كان لوكا الصغير، وهو ثنائي اللغة في الفرنسية والكرواتية، يتحدث مع جدته لأبيه؛ كانت لغة التواصل بينهما هي الفرنسية، لكن نظرا لكونهما في كرواتيا، طلبت منه جدته ذكر أسماء بعض الأشياء بالكرواتية؛ فرفض أن يفعل هذا وقال لها بالفرنسية: «إن والدتي هي من تطلب مني هذا.» (إذ إن لوكا لا يتحدث بالكرواتية إلا مع والدته ووالديها فقط.) كانت جولييت (وهي طفلة ثنائية اللغة في الفرنسية والإنجليزية تبلغ من العمر عامين ونصف عام) تلعب مع مارك (وهو طفل يتحدث بالإنجليزية عمره خمس سنوات)؛ كانت الإنجليزية هي لغة التواصل المعتادة بينهما، لكن حتى يسعدها مارك ويفاجئها قرر استخدام إحدى الكلمات الفرنسية في حديثه معها؛ فقد سأل والدته عن مقابل كلمة
come (تعال ) في اللغة الفرنسية، ثم عاد إلى جولييت وقال لها:
Viens, viens . فوجئ مارك بأن جولييت لم تسعد بهذا على الإطلاق، وبدلا من أن تبتسم له، قالت له بغضب بالإنجليزية: «لا «تفعل» هذا مرة أخرى، يا مارك.» وكررت هذا عدة مرات. وعليه يبدو أن إحدى الاستراتيجيات التي يستخدمها الأطفال الثنائيو اللغة، هي تحديد اللغة التي يتحدث بها مع كل شخص، والالتزام بهذه اللغة؛ وهذا يجعل اختيار الكلمات والقواعد أسهل وأقل جهدا؛ وعند كسر هذه العلاقة بين الشخص واللغة، يشعر الطفل الصغير بالارتباك وقد يغضب. (2) الثنائية اللغوية المتتابعة
كما رأينا، يصبح معظم الأطفال ثنائيي اللغة باكتساب اللغتين بالتناوب؛ بمعنى أنهم يتعلمون إحدى اللغات في المنزل، ثم يتعلمون لغة أخرى في المدرسة أو في المجتمع الخارجي؛ ومن ثم تكون لديهم بالفعل إحدى اللغات عندما يبدءون في اكتساب لغة ثانية، ويمكنهم استخدام لغتهم الأولى، إلى حد ما على الأقل، في اكتساب اللغة الجديدة (لكن يختلف الباحثون حول مدى هذا الاستخدام).
قبل أن نشرح كيفية اكتساب الأطفال للغة ثانية على نحو طبيعي، سأتحدث عن أحد المفاهيم الخاطئة الراسخة:
خرافة: كلما اكتسب الطفل اللغة في مرحلة مبكرة، زادت طلاقته فيها
أحد الافتراضات التي تعتمد عليها هذه الخرافة فكرة أن الأطفال الصغار يكتسبون أي لغة بسرعة أكبر وبجهد أقل من الأطفال الأكبر سنا. والافتراض الآخر هو أن ذهنهم يكون طيعا أو «مرنا» أكثر في السن المبكرة جدا، ومن ثم يكون أكثر تقبلا لمهام مثل تعلم اللغة. بالإضافة إلى ذلك، يقال إن الأطفال الصغار لديهم محاذير أقل تجعلهم أقل شعورا بالإحراج عند ارتكابهم الأخطاء، ومن ثم يتعلمون على نحو أفضل.
يختلف الواقع قليلا عن هذا، ويجب علينا التأكيد على هذا. أولا: يذكرنا اختصاصي علم اللغة التطبيقي باري ماكلوكلين بأن الأطفال لا توجد لديهم محاذير أقل، ولا يقل شعورهم بالإحراج عند ارتكاب الأخطاء؛ في الواقع قد يشعرون بالخجل والإحراج الشديدين أمام أقرانهم.
13
ثانيا: اتضح أن الأطفال الصغار يتسمون بالسذاجة وعدم النضج عند التعلم بسبب عدم اكتسابهم بالكامل مهارات معرفية معينة، مثل القدرة على التجريد والتعميم والاستنتاج والتصنيف، التي قد تساعدهم في اكتساب اللغة الثانية. ثالثا: حل محل فكرة وجود فترة محددة وذات أهمية كبرى لتعلم اللغة تقريبا في سن الخامسة؛ فكرة وجود «فترة أكثر اتساعا» قد تمتد إلى ما بعد سن العاشرة، وعلى الأرجح تختلف باختلاف المهارات اللغوية.
لذلك درست الباحثتان كاثرين سنو وماريان هوفناجل-هوليه، في إحدى الدراسات الشهيرة، تعلم المتحدثين بالإنجليزية في مختلف المراحل العمرية للغة الهولندية. وقد تبين أن الأطفال بين عمر الثانية عشرة والخامسة عشرة يتعلمون على نحو أفضل من الأطفال الأصغر سنا.
14
تتمثل الميزة الحقيقية لاكتساب إحدى اللغات في مرحلة عمرية مبكرة في مهارات النطق، لكن كما رأينا في الفصل السابع، حتى المراهقون وبعض البالغين يمكنهم تعلم التحدث دون لكنة. باختصار، تتمثل العوامل المهمة في تحول الطفل إلى ثنائي اللغة، في أي عمر؛ في الحاجة إلى اللغة الجديدة، بالإضافة إلى مقدار المدخلات ونوعها، ودور الأسرة والمدرسة، والمواقف السائدة تجاه اللغة وثقافتها وتجاه الثنائية اللغوية في حد ذاتها.
15
اقترحت عالمة اللغة ليلي وونج فيلمور في بحث لها وصفا أو نموذجا لأسلوب تعلم اللغة الثانية الطبيعي لدى الأطفال. يقوم هذا النموذج على وجه الخصوص على حقيقة أنها تتعامل مع أفراد صغار السن في أسر مهاجرة يتعلمون لغة ثانية. ومع ذلك، فإن نموذجها هذا يمكن تطبيقه على كثير من الأطفال الثنائيي اللغة الآخرين، ما داموا يكتسبون لغتهم الثانية بأسلوب طبيعي. يتحدث هؤلاء الأطفال بالفعل إحدى اللغات في المنزل، ويجب عليهم تعلم لغة الأغلبية؛ بهذه الطريقة يصبحون ثنائيي اللغة - نأمل أن يكون هذا طوال حياتهم - على الرغم من أننا رأينا في الفصول السابقة أن هذا قد لا يحدث إذا بدءوا في فقدان لغتهم الأولى. تؤكد وونج فيلمور، قبل كل شيء، على أن هؤلاء الأطفال لم يبدءوا هذه المهمة صفر اليدين؛ فتوجد لديهم بالفعل معرفة اجتماعية ولغوية، ومعرفة بالعالم من حولهم؛ فهم يعرفون استخدامات كل لغة وسياقاتها. يساعدهم هذا كله كثيرا في تعلم اللغة الجديدة.
16
يحتوي نموذج وونج فيلمور على ثلاثة عناصر وثلاث مجموعات من العمليات؛ تتمثل العناصر في المتعلمين الذين يدركون ضرورة اكتسابهم اللغة الثانية، والمتحدثين باللغة الذين سيساعدونهم في ذلك بمختلف الطرق، والسياق الاجتماعي الذي يجعل المتعلمين يتواصلون مع المتحدثين؛ المدرسة في المقام الأول والمجتمع أيضا. أما بشأن العمليات، فتتعلق المجموعة الأولى في النموذج بجوانب اجتماعية؛ فيجب على المتعلمين ملاحظة ما يحدث في السياقات الاجتماعية ومعرفة ما يتحدث عنه الناس وكيف يفعلون هذا، كذلك يجب عليهم أن يعرفوا المتحدثين باحتياجاتهم ويحثوهم على عمل تسهيلات وتعديلات حتى يتمكنوا من فهمهم، وحتى يستطيعوا اكتساب اللغة؛ بإيجاز، يجب على الجانبين أن يتعاونا. ذكرت ليلي وونج فيلمور في بحث سابق لها ثلاث استراتيجيات اجتماعية يستخدمها متعلمو اللغة؛ أولا: الانضمام إلى مجموعة ما والتصرف كما لو أنهم يفهمون ما يحدث، حتى إن لم يكونوا يفهمون. ثانيا: إعطاء الانطباع، ببعض الكلمات المختارة بعناية، بأنهم يستطيعون التحدث بهذه اللغة. ثالثا: الاعتماد على أصدقائهم في تقديم المساعدة.
17
إليك مثالا على كيفية استخدام سيرل البالغ من العمر عشر سنوات لهذه الاستراتيجيات؛ فبعد قضائه عدة سنوات وهو أحادي اللغة، انتقل مع والديه إلى الجزء الذي يتحدث بالفرنسية في سويسرا والتحق بمدرسة القرية بعد شهر من وصوله، ونظرا لكونه أمريكيا (في الثقافة على الأقل) وكانت صحبته ممتعة، حقق نجاحا على الفور. مع ذلك، لم يكن يعلم شيئا عن الفرنسية في البداية، وكذا أصدقاؤه لم يكونوا يعلمون شيئا عن اللغة الإنجليزية؛ لذلك طبق استراتيجيات وونج فيلمور لبضعة أسابيع، دون أن يعلم بالطبع أن هذا ما كان يفعله؛ فقد تعلم سريعا بعض التعبيرات المعروفة، وكان يستخدمها مع إيماءات وابتسامة عريضة، وفي المقابل بذل أصدقاؤه الجدد كل ما وسعهم لمساعدته. كانت إحدى الطرق التي استخدموها تبسيط لغتهم الفرنسية إلى أقصى حد؛ فعلى سبيل المثال: في معرض القرية المحلي يستطيع الأطفال «اصطياد» هدية يضعها أحد الكبار، من وراء الحاجز، في الخطاف. كانت إحدى الجوائز التي يريدها سيرل تمساحا أمريكيا مطاطيا، عندما علم أحد الأطفال الذي يتحدثون الفرنسية بهذا، قال لسيرل بلغة فرنسية «سيئة»:
Moi avoir alligator, te donner (التي تعني حرفيا: «أنا أحصل على التمساح، أعطيه إليك»). في حين أن الجملة التي كان سيستخدمها بنحو طبيعي مع صديق يتحدث بالفرنسية ربما تكون أكثر تعقيدا، من قبيل:
Si j’obtiens l’alligator, je te le donnerai . فهم سيرل هذه الجملة المبسطة وسار الأمر على ما يرام (لكني لا أعتقد أنه حصل بالفعل على التمساح).
ترتبط المجموعة الثانية من العمليات التي ذكرتها ليلي وونج فيلمور بالجوانب اللغوية. مرة أخرى دون إدراك الأمر، يجب على المتعلمين أن يحصلوا من المتحدثين الأصليين للغة على معلومات تسمح لهم باكتشاف طريقة عمل اللغة، وكيف يستخدمها الناس؛ وهم يحصلون على هذه المعلومات من الكلام المسهب والمكرر والمعتاد الذي يوجهه إليهم المتحدثون الأصليون للغة في سياق ما. يجب أن ينتبه المتعلمون جيدا لما يقال لهم، ويخمنوا العلاقة بينه وبين الأحداث المحيطة بهم؛ فهم يقومون بتخمينات مدروسة عما يقوله الناس وما يمكن أن يتحدثوا عنه في موقف معين. تقول وونج فيلمور عن هذا: «افترض أن ما يقوله الناس يرتبط ارتباطا مباشرا بالموقف القائم، أو ما يتعرضون له أو تتعرض له أنت (الاستراتيجية الأسمى هي التخمين).»
18
يجلب المتعلمون معهم في هذه المهمة معرفتهم بالفئات اللغوية، وأنواع التراكيب (التقريرية والاستفهامية، وما إلى ذلك)، والأفعال اللغوية للكلام (المباشرة وغير المباشرة)، ومن ثم يستطيعون البحث عن مقابلاتها في اللغة الجديدة.
أخيرا، تشكل العناصر المعرفية المجموعة الثالثة من العمليات. ترى وونج فيلمور أن هذه العناصر محورية؛ إذ إنها تؤدي لاكتساب اللغة؛ ففي ظل مدخلات السياق التي يحصل عليها المتعلمون، ينبغي لهم اكتشاف وحدات وقواعد اللغة، وعليهم بعد هذا أن يصوغوا هذه المعرفة في شكل قواعد نحوية؛ لذا يستخدمون مهارات معرفية من أجل تحقيق هذا، من مهارات الترابط والتحليل، والتذكر، والمهارات الاستدلالية، إلى آخره. ويستخدمون كذلك استراتيجيات التعلم، التي تذكر وونج فيلمور بعضها فيما يلي: «ابحث عن الأجزاء المتكررة في الصيغ التي تعرفها؛ وحقق أكبر استفادة مما توصلت إليه؛ واعمل على الأشياء الكبيرة، ودع التفاصيل لوقت لاحق.»
19
أشار كثير من المختصين في اكتساب اللغة، ومن بينهم ليلي وونج فيلمور وباري ماكلوكلين، إلى نقطة تتعلق بحقيقة احتمال وجود اختلاف كبير بين المتعلمين؛ فقد ينتمون إلى مجموعات ثقافية ولغوية واجتماعية مختلفة، وقد يكونون من أعمار مختلفة، وقد تكون لديهم قدرات معرفية مختلفة (مثل المهارات الإدراكية ومهارات التعرف على الأنماط)، بالإضافة إلى مواقف مختلفة تجاه تجربة الأشياء الجديدة والمجازفة. قد يقدم البعض على المخاطرة بحماس، حتى إن ارتكبوا أخطاء، بينما قد يكون البعض الآخر أكثر تحفظا، وأحيانا تكون نتيجة الأسلوب الثاني أكثر نجاحا. سأذكر في هذا الشأن مثالا لأخوين: سيرل (الذي تحدثنا عنه من قبل)، وبيير، وكلاهما طفلان يتحدثان الإنجليزية، ويكتسبان اللغة الفرنسية في بيئتهما الطبيعية. كان سيرل في العاشرة من عمره وأخوه في الخامسة، وبينما كان سيرل منفتحا للغاية، وطفلا محبا لتجربة كل ما هو جديد، كان بيير أكثر تحفظا وهدوءا. اكتسب سيرل لغة فرنسية غير سليمة بسرعة كبيرة؛ فقد كان يرتكب أخطاء في النطق، وأخطاء في النوع، وأخطاء نحوية، لكنه لم يكن يهتم لذلك، واستمر ببساطة في التواصل مع أصدقائه. أما بيير فقد انتهج أسلوبا مختلفا؛ فلمدة ثلاثة أشهر لم ينطق كلمة واحدة بالفرنسية (حتى إنه تمكن من جعل مدرسته تتحدث معه بالإنجليزية)، لكنه عندما بدأ يتحدث بالفرنسية تلقائيا، كانت لغته تخلو من الأخطاء أكثر من لغة سيرل؛ فبدا الأمر كما لو أن بيير ترك لنفسه فرصة استيعاب اللغة، اتباعا للأسلوب الذي وصفته وونج فيلمور، ثم بمجرد استيعابه لكل شيء (النحو والنطق والمفردات)، بدأ في التحدث باللغة، حتى إنه كانت لديه الجرأة لتصحيح أخطاء أخيه الأكبر في بعض الأحيان؛ على سبيل المثال: قال سيرل
formage
ذات يوم بدلا من
fromage (جبن)، وانزعج سيرل عندما تدخل بيير وصحح له خطأه.
في نهاية هذا الفصل أود التأكيد على جانب غاية في الأهمية في تعلم اللغة الثانية، يؤكد عليه كثير من المختصين في هذا المجال، خاصة جيم كومينز؛ وهو أن التمتع بقدرات تواصلية في اللغة الثانية في بيئة طبيعية جزء من العملية التي يجب أن يمر بها الأطفال في المدرسة، نظرا لأنهم يحتاجون في معظم الأحيان إلى القراءة والكتابة بهذه اللغة، بالإضافة إلى التحدث بها. تتحقق الطلاقة في الحوار (التي يطلق عليها كومينز «مهارات التواصل الأساسية بين الأشخاص») بسرعة كبيرة إذا كانت الظروف مواتية، وسار كل شيء على ما يرام (على سبيل المثال: يتحدث كل من سيرل وبيير اللغة الفرنسية المنطوقة بطلاقة بعد قضاء عام في سويسرا). ينطبق هذا على كثير من الثنائيي اللغة الصغار السن، وقد يعطي انطباع اكتسابهم للغة جديدة. إلا أن إجادة اللغة الأكاديمية (التي يطلق عليها كومينز «الإجادة المعرفية للغة الأكاديمية»)، تحتاج للمزيد من الوقت والعمل؛
20
فقد كتب كومينز يقول إن الأطفال الأحاديي اللغة الذين اكتسبوا اللغة طبيعيا، يلتحقون بالمدرسة في سن الرابعة أو الخامسة وهم يتحدثون لغة المنزل بطلاقة، ثم يقضون السنوات الاثنتي عشرة التالية في توسيع كفاءتهم اللغوية (ليس فقط في القراءة والكتابة، وإنما أيضا في القدرة على استخدام اللغة، بالإضافة إلى اتباع الأسلوب النقدي في رؤية الأفكار وعرضها والتفكير فيها). يذكرنا كومينز بأن اللغة الأكاديمية لغة معقدة بسبب صعوبة المفاهيم التي يجب فهمها، والمفردات الفنية وغير الشائعة التي يجب الإلمام بها، والتركيبات النحوية المعقدة التي يجب استخدامها. يرى كومينز أن متعلمي اللغة الثانية يحتاجون إلى نحو خمس سنوات حتى يتمكنوا من اللحاق بأقرانهم من المتحدثين الأصليين للغة في المهارات اللغوية المتعلقة بالكفاءة اللغوية.
21
ويحتاجون أيضا، كما سنرى في الفصل السابع عشر، إلى دعم قوي من الأسرة والمعلمين حتى يتمكنوا من تحقيق هذا.
الفصل السادس عشر
الجوانب اللغوية للثنائية اللغوية لدى
الأطفال
عندما نتحدث مع الآخرين عن الأطفال الثنائيي اللغة، يظهر دوما عدد من الموضوعات، مثل: سيادة إحدى اللغات، والتكيف مع الوضع اللغوي، و«الخلط» بين اللغات. سنتحدث في هذا الفصل عن هذه الموضوعات، وعن كون الأطفال الثنائيي اللغة مترجمين شفويين بالفطرة. وفي النهاية، سنتحدث عن طريقة تلاعب الأطفال الثنائيي اللغة باللغات. (1) سيادة إحدى اللغات
تظهر عادة علامات سيادة إحدى اللغات لدى الأطفال الثنائيي اللغة. توجد عدة أسباب لهذا، تتعلق بما إذا كان الأطفال يكتسبون اللغتين معا أم أنهم يتعلمون إحدى اللغات بعد اللغة الأخرى. فعندما تكتسب اللغتان في وقت واحد، ربما تكون تركيبات لغوية معينة أكثر تعقيدا في إحدى اللغات منها في اللغة الأخرى، ومن ثم تكتسب بسرعة أكبر في اللغة «الأسهل»، مما يعطي الانطباع بسيادة هذه اللغة لدى الطفل؛ على سبيل المثال: قد يتمكن الأطفال الثنائيو اللغة في المجرية والصربية من التعبير عن الموقع باللغة المجرية قبل اللغة الصربية؛ نظرا لأن التعبير عنه في اللغة المجرية يكون فقط بتصريف الاسم، أما في الصربية فيتطلب تصريف الاسم وحرف جر مكاني.
1
اكتشفت عالمة اللغة مارلين فيمن أمرا مشابها في حديث رايفو، وهو طفل ثنائي اللغة في الإستونية والإنجليزية؛ إذ كان يميل إلى حذف المقاطع الصرفية المقيدة في الإستونية (نهايات مثل -da
أو -ega )، لأن علم الصرف في اللغة الإستونية أكثر تعقيدا من الموجود في الإنجليزية، واستغرق وقتا أطول في اكتسابه.
2
بخلاف هذه الأسباب التركيبية، ترجع سيادة إحدى اللغات لدى الأطفال الذين يكتسبون لغتين معا في الأساس إلى مقدار تعرضهم لكل لغة؛ فمن الشائع أن يحصل الطفل على مدخلات أكثر في إحدى اللغتين أكثر من حصوله على مدخلات متساوية في اللغتين. رأينا في الفصل الرابع عشر، على سبيل المثال، أن اللغة السائدة لدى هيلدجارد كانت الإنجليزية قبل رحلتها إلى ألمانيا؛ فلم تكن والدتها هي الوحيدة التي تتحدث إليها بالإنجليزية، بل كان أيضا المجتمع المحيط بها. حدث الأمر نفسه مع ستيفن الذي كانت الجاروية هي اللغة السائدة لديه لبعض الوقت. إن التأثير الأساسي لهذه السيادة، التي قد تتغير، وبسرعة كبيرة في بعض الأحيان، يتمثل في أن اكتساب اللغة الأقوى يتطور بدرجة أكبر من اكتساب اللغة الأضعف (فيحدث فصل بين أصوات أكثر، ويكتسب المزيد من الكلمات، ويستنتج المزيد من القواعد النحوية)، ويوجد احتمال أن تؤثر في اللغة الأضعف. قال روبنز بورلينج إن ولده ستيفن، على سبيل المثال، كان يستخدم الوحدات الصوتية الخاصة باللغة الجاروية بدلا من الوحدات الصوتية الإنجليزية عندما يتحدث باللغة الإنجليزية.
3
عادة ما لا يكون التأثير كليا، كما حدث مع ستيفن، وإنما يكون تأثيرا جزئيا؛ لذا كانت الطفلة آن الثنائية اللغة في الإنجليزية والفرنسية، التي كانت الإنجليزية هي اللغة السائدة لديها، تترجم حروف الجر المستخدمة مع الأفعال الإنجليزية وتضيفها إلى الأفعال الفرنسية. فتقول على سبيل المثال:
Je cherche pour le livre ، استنادا إلى الجملة الإنجليزية
I’m looking for the book (أنا أبحث عن الكتاب)، بدلا من استخدام الصيغة الصحيحة نحويا:
Je cherche le livre .
4
تحدث السيادة اللغوية لدى الأطفال الذين يكتسبون لغتين بالتناوب، على نطاق أوسع من نظرائهم الأصغر سنا الذين يتعلمون لغتين معا من البداية؛ نظرا لأن لديهم في البداية لغة واحدة فقط، وتستمر معهم في أثناء اكتسابهم للغة الثانية وتحدثهم بها. بالطبع لا يتعلق تعلم التحدث بلغة ثانية بوجود تأثير مستمر للغة الأولى؛ فقد عرف علماء اللغة منذ وقت طويل أن بعض عمليات اكتساب اللغة الثانية تشبه عمليات اكتساب اللغة الأولى؛ مثل استخدام تراكيب بسيطة قبل أكثر التركيبات تعقيدا، وتوسيع معنى الكلمات، وتبسيط الجوانب الصرفية، وفرط تعميم القواعد، وتبسيط البنى اللغوية المختلفة، إلى آخره. لذلك، على سبيل المثال، عندما تقول طفلة صغيرة السن تتعلم لغة ثانية:
I taked the bus with Mummy (ركبت الحافلة مع أمي)، فإنها تفرط في تعميم القاعدة العادية لتصريف الفعل في الماضي في اللغة الإنجليزية، وتطبقها على الأفعال الشاذة. وعندما يقول طفل صغير يتعلم الفرنسية:
Moi malade ، فإن هذا يكون تبسيطا للجملة الفرنسية
Je suis malade (أنا مريض)، عن طريق استخدام
moi
بدلا من ضمير المتكلم المفرد، وحذف الفعل. على الرغم من هذا، تكون اللغة الأولى موجودة طوال الوقت، كما يمكننا أن نراه في التداخلات (أو التحولات) الكثيرة التي يقوم بها الأطفال. عندما كان الفتى سيرل البالغ من العمر عشر سنوات يتعلم الفرنسية، كان يقول جملا متأثرة بوضوح بلغته الإنجليزية؛ على سبيل المثال، كان يقول:
nez ، بناء على جملة:
Don’t touch my nose (لا تلمس أنفي)، بدلا من:
N(e) me touche pas le nez . كان يقول أيضا:
Maintenant dit papa la chanson ، بناء على جملة:
Now tell Daddy the song (الآن، قل لأبي الأغنية)، بدلا من:
Maintenant dit la chanson à papa .
من المهم أن ننظر إلى الآليات الموجودة داخل اللغات وبينها (مثل: فرط التعميم، والتبسيط، والتداخل، وما إلى ذلك)، على أنها استراتيجيات يطبقها الأطفال ضمن ما يبذلونه من جهد من أجل استخدام لغتهم الأضعف. والحصول على مزيد من المدخلات والتقييمات اللغوية من المستمعين، بالإضافة إلى وجود فترات توقف في التواصل من حين لآخر؛ يساعد الطفل في سرعة اكتساب اللغة الجديدة. (2) التكيف مع الوضع اللغوي
رأينا في الفصل الرابع أن الأشخاص الثنائيي اللغة يجدون أنفسهم في حياتهم اليومية في مواضع مختلفة على تسلسل خاص بالمواقف التي تتطلب استخدام أوضاع لغوية مختلفة؛ ففي أحد طرفي هذا التسلسل، يكون الأشخاص الثنائيو اللغة في وضع أحادي اللغة بسبب حديثهم إلى أشخاص أحاديي اللغة بإحدى لغتيهم؛ ومن ثم يتحتم عليهم استخدام اللغة الصحيحة وإقصاء (تعطيل) اللغة الأخرى. وعلى الطرف الآخر يجد الأشخاص الثنائيو اللغة أنفسهم داخل وضع ثنائي اللغة لأنهم يتواصلون مع أشخاص ثنائيي اللغة يشتركون معهم في لغتيهم؛ فيجب عليهم اختيار اللغة التي سيستخدمونها، ويمكنهم أيضا استخدام آليتي التبديل اللغوي والاقتباس إذا كان المستمعون يقبلون هذا السلوك وكان الموقف مناسبا. يتعلم الأطفال سريعا معنى الوضع اللغوي، ويبرعون في اختيار اللغة والتبديل اللغوي.
أما فيما يتعلق باختيار اللغة، فسأذكر حالة طفلين صغيرين، هما ماريو وكارلا، اللذين اكتسبا الإنجليزية والإسبانية في وقت واحد. يصف والدهما، عالم الأنثروبولوجيا وعالم اللغة ألفينو فانتيني، العوامل التي وجهت اختيار طفليه للغة التي يستخدمانها. كانت تشبه هذه العوامل إلى حد كبير تلك التي توجه البالغين؛ على سبيل المثال: عندما كان الطفلان يعرفان مستمعهما، كانا يختاران اللغة المناسبة له، وعندما لا يكون الأمر كذلك، فإن البيئة تكون هي العامل المهم؛ ففي بيئة إسبانية (في المكسيك أو بوليفيا، على سبيل المثال) كانا يستخدمان الإسبانية، وفي بيئة إنجليزية (مثل الولايات المتحدة) كانا يستخدمان الإنجليزية، لكن هذا فقط إن كانا يعلمان أن المستمع لا يتحدث بالإسبانية. وكان الهاتف والراديو والتليفزيون امتدادا للبيئة؛ لذا كانا يندهشان للغاية عندما يسمعان صوتا يتحدث بالإسبانية في الإذاعة في ولاية فيرمونت. وإن كانا لا يعرفان المستمع لكن تبدو ملامحه «لاتينية»، فإنهما يبدآن الحديث بالإسبانية، لكنهما قد يتحولان إلى الإنجليزية إذا لم يجب الشخص الآخر. كذلك كان مستوى طلاقة المستمع أحد العوامل المهمة؛ وأحد الأشياء التي كانا يستطيعان الحكم عليها وهما لا يزالان في سن الرابعة؛ فإذا لاحظ ماريو وكارلا أن الشخص كان يستخدم لغته الأضعف في التواصل معهما، كانا يختاران استخدام اللغة الأخرى.
5 (فعلى عكس البالغين، لا يكون الأطفال مستعدين للسماح لأحد الأشخاص بالتدريب على لغته الأضعف معهم.) توضح دراسة فانتيني، بالإضافة إلى دراسات أخرى، أن الأطفال الصغار الثنائيي اللغة يطورون سريعا عملية اتخاذ قرار يكون فيها المستمع هو العامل الأساسي في اختيار اللغة، ويليه الموقف، ثم الهدف من التواصل. هذا وقد تظهر عوامل أخرى، مثل موضوع التواصل، في وقت لاحق.
يتعلم الأطفال بسرعة إلى أي مدى يكون سلوك التبديل اللغوي مسموحا به في عملية التواصل. سجلت اختصاصية علم اللغة النفسي إليزابيث لانزا تواصل طفلة ثنائية اللغة في اللغتين النرويجية والإنجليزية في الثانية من عمرها (وتدعى سيري) مع والدتها الأمريكية ووالدها النرويجي، اللذين كانا هما أيضا ثنائيي اللغة. الأمر المثير للاهتمام أن الأم كانت كثيرا ما تتظاهر بأنها أحادية اللغة، ولم تستخدم التبديل اللغوي قط مع سيري؛ أما الأب، على الجانب الآخر، فقد كان يتقبل ما تقوم به سيري من تبديل لغوي وكان يتجاوب معه. حللت إليزابيث لانزا ما يحدث من تواصل بين سيري ووالديها من حيث تسلسل سياق التواصل الأحادي اللغة والثنائي اللغة، وأوضحت بجانب ذلك عدة استراتيجيات خاصة بالوالدين؛ على سبيل المثال: وضعت في الطرف الأحادي اللغة من التسلسل استراتيجيتي: «الحد الأدنى من الفهم» و«التخمين الواضح»؛ هاتان هما الاستراتيجيتان اللتان استخدمتهما الأم على وجه الخصوص. في الاستراتيجية الأولى، الحد الأدنى من الفهم، يشير البالغ إلى أنه لا يفهم لغة الطفل الأخرى، وأما في الاستراتيجية الأخرى، يطرح أحد الوالدين على الطفل أسئلة يجاب عليها بنعم أو بلا باستخدام اللغة الأخرى. وفي الطرف الآخر الثنائي اللغة، نجد استراتيجيتين أخريين: «مواصلة الكلام» التي يسمح فيها للحوار بالاستمرار (مما يشير إلى أن الشخص البالغ قد فهم العنصر المضاف من اللغة الأخرى)، و«التبديل اللغوي» حيث يستخدم الشخص البالغ أيضا التبديل اللغوي في حواره مع الطفل (وهاتان هما الاستراتيجيتان اللتان استخدمهما والد سيري). إجمالا ، طوال فترة الدراسة (التي استمرت من سن الثانية إلى سن الثانية والنصف)، نتج عن استخدام هذه الاستراتيجيات نتائج مختلفة للغاية؛ فقد زاد عدد الكلمات التي أخذتها من اللغة الأخرى في حوارها مع والدها، الذي كان يتقبل التبديل اللغوي، مقارنة بوالدتها، التي لم تكن تتجاوب معه. ويعني هذا فيما يتعلق بالوضع اللغوي أن سيري كانت على الأرجح تستخدم وضعين لغويين مختلفين مع والديها؛ فقد كانت تميل إلى استخدام الوضع الأحادي اللغة مع والدتها، لكنها لم تستطع قط الالتزام به؛ إذ إنها كانت تستخدم التبديل اللغوي أحيانا معها، وكانت تستخدم وضعا ثنائي اللغة مع والدها.
6
درست اختصاصية علم اللغة الاجتماعي إريكا ماكلور التبديل اللغوي لسنوات عديدة، وتوجد أمثلة مثيرة للاهتمام إلى حد كبير في أبحاثها المبكرة عن الأطفال الأمريكيين الذين من أصل مكسيكي؛ فبالإضافة إلى ملاحظتها استخدام هؤلاء الأطفال التبديل اللغوي من أجل ملء الفجوات المتعلقة بالمفردات، اكتشفت أيضا أنهم يستخدمونه من أجل إزالة اللبس أو توضيح ما يقولونه منذ سن الثالثة. اكتشفت كذلك أن الأطفال الأصغر سنا كانوا يستخدمون التبديل اللغوي من أجل جذب الانتباه أو الاحتفاظ به، كأن يقول أحدهم:
Yo me voy a bajar, Teresa. Look! (أنا أنزل، يا تيريزا. انظري!) ويستخدمون التبديل اللغوي من أجل التأكيد، لكن في مراحل عمرية متقدمة، في سن الثامنة أو التاسعة، كما في:
Stay here, Roli. Te quedas aquì (ابقي هنا، يا رولي. ابقي هنا). أما حالات التبديل اللغوي التي تحدث في وقت لاحق، فهي تلك التي تستخدم من أجل التوضيح والتركيز على شيء معين، مثل:
Este Ernesto, he’s cheating (إرنست هذا، يغش).
7
تذكر كريستينا بانفي حالات من التبديل اللغوي لاحظتها لدى طفلتها أنابيل الثنائية اللغة في الإنجليزية والإسبانية، التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات ونصف سنة؛ ففي إحدى المرات أدركت أنابيل وجود بعض الأشخاص الأحاديي اللغة داخل مجموعة الثنائيي اللغة التي تخاطبهم، ونظرا لأنها تريد إشراكهم في المفاجأة التي تقدمها، قالت:
Ciérrense los ojos. Close your eyes (أغلقوا أعينكم).
8
خلاصة القول، يكتسب الأطفال مهارات التبديل اللغوي في مرحلة عمرية مبكرة، ويستخدمونها عندما يكونون في وضع لغوي ثنائي اللغة لسد حاجة لغوية ما، وأيضا كاستراتيجية للتواصل . (3) «الخلط» بين اللغات لدى الأطفال الثنائيي اللغة
خرافة: الأطفال الذين ينشئون ثنائيي اللغة سيظلون يخلطون بين لغاتهم
يوجد اعتقاد شائع بأن الخلط بين اللغات نتيجة للثنائية اللغوية لدى الأطفال. تتمثل المشكلة في عدم وضوح معنى كلمة «الخلط». لقد حاولت شخصيا الابتعاد عن هذه الكلمة لأن لها أكثر من معنى؛ فهل نتحدث عن التداخلات من قبل أطفال لديهم لغة سائدة؟ أم نعني عمليات التبديل اللغوي والاقتباس، أم نعني مجرد تغيير في اللغة الأساسية، لدى الأطفال الذين يكونون في وضع ثنائي اللغة؟ بالإضافة إلى ذلك، تحمل هذه الكلمة دلالة أن اللغة التي يتحدث بها الطفل الثنائي اللغة تكون إلى حد ما معيبة. في الواقع يوجد عدد من العوامل التي قد يرجع إليها سبب الوجود الواضح للغة الأخرى، ولما يحدث من «خلط» نتيجة لذلك.
كما رأينا، يمكن أن تصبح لغة ما سائدة لدى الأطفال الثنائيي اللغة (سواء أكان اكتسابهم للغتيهم في وقت واحد أو بالتناوب)، كما أن اللغة لديها القدرة على «فرض نفسها» على اللغة الأضعف؛ وقد يأخذ هذا شكل تداخلات وأيضا الاستخدام المباشر لعناصر من اللغة السائدة من أجل سد فجوات عديدة في اللغة الأضعف (الكلمات، على وجه التحديد). أثبت فريد جينسي وزملاؤه هذا بوضوح في دراسة له راقب فيها خمسة أطفال ثنائيي اللغة في الفرنسية والإنجليزية، تتراوح أعمارهم بين 22 و26 شهرا، نشئوا في بيئة ثنائية اللغة. كانت هناك لغة سائدة لدى ثلاثة أطفال منهم؛ فقد كانت الفرنسية اللغة السائدة لدى أولي، وكانت الإنجليزية هي السائدة لدى بان وتان. كانت عناصر اللغة الفرنسية واضحة بدرجة كبيرة نسبيا في الإنجليزية التي كان يتحدث بها أولي مع والدته التي تتحدث بالإنجليزية (فقد كانت الإنجليزية هي لغته الأضعف)، بينما كان العكس صحيحا لدى بان وتان؛ إذ كان كثير من عناصر اللغة الإنجليزية يظهر في حوارهما بالفرنسية مع والدهما (فقد كانت الفرنسية هي لغتهما الأضعف).
9
أما بالنسبة إلى الأطفال الثنائيي اللغة الذين يكتسبون لغة ما أولا ثم اللغة الأخرى، فقد رأينا بالفعل أنهم سيمرون بمرحلة تسود فيها إحدى اللغتين لديهم؛ فسيقومون بتداخلات لغوية، وسيدرجون عناصر من لغتهم الأقوى في لغتهم الأضعف كإجراء لسد الفجوات؛ لكن بمجرد تقدمهم في اللغة الثانية، يزيد تحدثهم بهذه اللغة وحدها، ثم يصبح استخدامهم للغة الأخرى في الأساس لأسباب تتعلق بالتواصل، في الأغلب عندما يكون الموقف مناسبا ويكونون في وضع لغوي ثنائي اللغة.
يعتبر الوضع اللغوي على وجه التحديد أحد العوامل الأخرى التي يرجع إليها الخلط بين اللغات. أولا: لم يتضح حتى الآن العمر الذي يبدأ فيه الأطفال التحكم في حركتهم عبر تسلسل الوضع اللغوي، إلى جانب كلامهم الثنائي اللغة. لقد رأينا سابقا أن هذا الأمر، فيما يبدو، يحدث في وقت مبكر جدا، لكن قد توجد فترة قصيرة من التأقلم لا يكون فيها اختيار اللغة وآليات التبديل اللغوي تحت السيطرة بعد. قد يحدث تسرب لغوي في هذه المرحلة، ومن ثم يحدث الخلط. ثانيا: في حالة الأطفال الأكبر سنا، لا يكون الوضع اللغوي الذي يكونون فيه واضحا عند حدوث عملية الخلط؛ فإذا كانوا يتحدثون مع بالغين لديهم معرفة باللغتين اللتين يتحدثون بهما، حتى في حال استخدام لغة واحدة، فلا عجب إذا من إدخال لغتهم الأخرى في الحوار. فالأطفال عمليون للغاية؛ فإذا كان يفترض أن يستخدموا لغة معينة مع شخص بالغ معين، لكنهم يعرفون أنه يتحدث أيضا بلغتهم الأخرى، فإنهم قد يدخلون تلك اللغة إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك. بوجه عام، عندما ينشأ الأطفال داخل أسر يحدث التواصل اليومي فيها بلغتين، مع حدوث الكثير من التغيير في اللغة الأساسية واستخدام التبديل اللغوي؛ فلا عجب أن يتحدث هذا الطفل الصغير بطريقة مماثلة. وكما سنرى في الفصل القادم، فإنه من المهم أن يحصل الأطفال الثنائيو اللغة على مدخلات أحادية اللغة في كل من لغتيهم بينما لا يزالون في سن صغيرة، حتى إن كانوا يتلقون مدخلات ثنائية اللغة من حين لآخر. فإن الحديث بلغة واحدة يسمح لهم بتعلم أنه يجب على المرء، في بعض المواقف - خاصة مع الأشخاص الأحاديي اللغة - أن يتحدث بلغة واحدة فقط، بينما يمكنه الحديث في مواقف أخرى بكلتا لغتيه. (4) الأطفال الثنائيو اللغة والترجمة الشفوية
إن أحد الجوانب لدى الأطفال الثنائيي اللغة التي تبهر الناس، وتبهر حتى الباحثين مثلي، قدرتهم على الترجمة الشفوية منذ سن صغيرة للغاية. لقد رأينا في فصول سابقة أن الترجمة الشفوية مهارة معقدة للغاية، وجميعنا ندرك أن الأطفال ليس لديهم قدرات الترجمة الشفوية الموجودة لدى الكبار، ولا يملكون المفردات اللازمة في اللغتين، ومع ذلك لا تتوقف قدرتهم الفطرية في هذا المجال عن إبهارنا أبدا. يصف بريان هاريس وبيانكا شيروود طفلة إيطالية صغيرة (يشار إليها ببي إس)، كانت تترجم شفويا بالفعل، قبل أن تبلغ سن الرابعة، بين لهجة أبروتسو (اللغة الوحيدة لوالدتها)، واللغة الإيطالية (لغة والدها، الذي كان يتحدث لهجة أبروتسو أيضا). عندما انتقلت بي إس مع أسرتها إلى فنزويلا وافتتحت أسرتها متجر بقالة، كانت بي إس ترحب بالزبائن بالإسبانية، التي تعلمتها سريعا، وكانت تستطيع الترجمة الشفوية للكلام الذي يقولونه لأي من والديها. هاجرت الأسرة بعد ذلك إلى كندا، وأضافت بي إس، التي أصبحت حينها في الثامنة من عمرها، اللغة الثالثة الإنجليزية إلى لغتيها الأخريين، واستمرت في ترجمة مكالمات الهاتف والحوارات والرسائل والبريد ومقالات الصحف وبرامج التليفزيون لوالديها تحريريا وشفويا. وفي حالة برامج التليفزيون كانت إما تستخدم الترجمة الشفوية التتابعية، حيث تقدم مغزى المعلومات التي تقدم، أو الترجمة الشفوية الفورية، وهي شكل أصعب من الترجمة.
10
كانت بي إس، مثل كثير من الأطفال الذين يتحدث والداهم لغة الأقلية، وسيطا بين والديها والعالم الخارجي، وهي البيئة التي تتحدث لغة الأغلبية؛ فلم تكن تترجم فقط، ولكن عندما أصبحت أكبر سنا، كانت تستخدم مهاراتها الثنائية الثقافة لتشرح لهما سبب ما يحدث من حولهما. وفي هذا الإطار، تعرضت لبعض المواقف الصعبة؛ فوالدها كان ينفعل كثيرا في جلسات عقد الصفقات مع غير الإيطاليين ويصبح غاضبا ومنزعجا، وتضطر عندها أن تخفف من تأثير غضب والدها وتخاطر بأن يغضب منها، نظرا لمعرفته ببعض الإنجليزية. وإليك مثالا على حوار نموذجي عرضه بريان هاريس وبيانكا شيروود:
الوالد (إلى بي إس بالإيطالية) :
أخبريه أنه أحمق.
بي إس (إلى الطرف الثالث بالإنجليزية) :
لن يقبل والدي عرضك.
الوالد (إلى بي إس بغضب بالإيطالية) :
لم لم تخبريه بما قلته لك؟
11
يجد كثير من الأطفال الثنائيي اللغة أنفسهم في نفس موقف بي إس، وأكثر من أبهروني هم الأطفال الذين يستطيعون السمع وآباؤهم صم، الذين تربوا على لغة الإشارة ولغة الأغلبية الشفوية. تحكي في الاقتباس التالي واحدة من الأشخاص الثنائيي اللغة في لغة الإشارة الأمريكية واللغة الإنجليزية كيف أصبحت مترجمة شفوية وهي في سن الرابعة، وكيف استخدمت مهارات الترجمة الشفوية لديها في عيادة الطبيب وعندما كانت تساعد والديها في إجراء مكالمات خارجية لمسافات بعيدة:
لا يتبادر إلى ذهني أي حدث مميز عن كوني طفلة ثنائية اللغة، فيما عدا أنني كنت أمارس الترجمة الشفوية وأنا في سن الرابعة. كان هذا الفرق الأساسي بيني وبين الأطفال الآخرين؛ فكان يجب علي العودة إلى المنزل لكي أقوم بالترجمة الشفوية في عيادة الطبيب لجدتي أو للشخص الموجود في هذا اليوم. وإحدى المشكلات التي كنت أواجهها كثيرا إجراء المكالمات الخارجية؛ ففي هذه الفترة لم تكن توجد خدمة الاتصال المباشر، وكانت توجد مشكلة دوما في جعل موظف الهاتف يصدق طفلة يتراوح عمرها بين الرابعة والسادسة تحاول الاتصال من بوسطن بولاية فرجينيا؛ فكان موظف الهاتف يريد في كل مرة التحدث إلى شخص كبير من أسرتي، كما كان كل الذين يتصلون بالمنزل ويطلبون التحدث إلى أحد أفراد الأسرة على وجه الخصوص، لا يعرفون مطلقا كيف يتعاملون مع موقف اضطرارهم إلى مناقشة إحدى مسائل الكبار مع طفلة في التاسعة من عمرها.
12
على الرغم من أن الترجمة الشفوية تكون لبعض الأطفال بمنزلة لعبة، فمن الممكن أن تصبح أيضا عملا شاقا وعبئا، ولا بد أن ينتبه الكبار ألا يطلبوا من أطفالهم في هذا الشأن ما يفوق قدرتهم. يخبرنا هاريس وشيروود عن إتش بي، وهو طفل ثنائي اللغة في الفرنسية والبلغارية في السابعة من عمره، ذهب إلى زيارة أسرة بلغارية وصلت لتوها إلى كندا؛ تركه والداه مع طفل هذه العائلة ليشاهد التليفزيون بالفرنسية، وعندما عادت والدته لتأخذه، أخبرها أنه يشعر بالتعب لأنه ترجم البرنامج إلى البلغارية لصديقه. واكتشف بول بريستون في مقابلاته التي أجراها مع أطفال بالغين والداهم من الصم، تكرار حقيقة أنه تجب عليهم دوما الترجمة الشفوية لوالديهم. وتوجد لدى بعض منهم ذكريات سلبية عن هذا، مثل ثيلما التي تقول:
كنت أكره حضور أصدقاء والدتي إلى منزلنا، فكانوا يريدون أن أكون مترجمتهم الشفوية عند ذهابهم إلى البنك، وعند الاهتمام بعملهم التجاري، فقد كنت الوسيط اللغوي بينهم وبين المجتمع. وكانوا يضعونني في مواقف لم أعلم أن باستطاعتي رفضها.
13
توصل بعض الأطفال الآخرين إلى عدة سبل تجعلهم أكثر تحكما إلى حد ما فيما يتعلق بجانب الترجمة الشفوية في حياتهم. يخبرنا بريستون أن الترجمة الشفوية للمكالمات الهاتفية كانت توفر أكبر مساحة من التلاعب بالحوارات؛ إذ إنها كانت تضع الحوار تحت تصرف الطفل الذي يستمع إليه؛ على سبيل المثال: طلب والد جورج منه الاتصال بكل أماكن إصلاح السيارات المذكورة في دليل الهاتف التجاري حتى يقارن بين أسعارها، وهذا ما فعله:
حاولت أن أخبره بأن عددهم كبير للغاية، لكنه أصر؛ لذا جلست أمامه أتظاهر بالحديث إلى شخص ما، بينما لم أكن طلبت الرقم من الأساس.
14
يدرك بالفعل كثير من الآباء هذا العبء الذي يضعونه على كاهل أطفالهم الثنائيي اللغة؛ فيخبرنا بريستون عن توم، الذي غضب ذات يوم من والدته عندما طلبت منه أن يترجم لها شفويا، فردت عليه بلغة الإشارة تقول:
أنا أعلم أن هذا صعب عليك، وهذا صعب علي أيضا؛ فهو صعب علينا نحن الاثنين. فأنا لست مثل الأشخاص الذين يسمعون، فحياتهم أسهل بكثير.
15
بدأ الباحثون في دراسة قدرات الترجمة الشفوية لدى الأطفال الصغار الثنائيي اللغة، وأثبتت نتائجهم امتلاك الأطفال تلك القدرات؛ على سبيل المثال: اختبرت مارجريت مالاكوف وكنجي هاكوتا قدرات الترجمة الشفوية لدى الأطفال الثنائيي اللغة في الإنجليزية والإسبانية (في العاشرة والحادية عشرة من عمرهم) في مدينة نيو هيفن، بولاية كونيتيكت. اكتشفا أن الأطفال ارتكبوا عددا قليلا للغاية من الأخطاء، وتمثلت الأخطاء الأساسية في وجود بعض الكلمات المفقودة لأنهم لم يكن لديهم ما يقابلها في اللغة التي يترجمون إليها. كانوا بالطبع أكثر كفاءة عند ترجمتهم إلى اللغة السائدة لديهم (الإنجليزية) أكثر من لغتهم غير السائدة (الإسبانية). استنتج الباحثان أن مهارات الترجمة الشفوية توجد على نطاق واسع لدى الأطفال الثنائيي اللغة عند وصولهم إلى مرحلة متقدمة في المدرسة الابتدائية.
16
في دراسة لاحقة درست جوادالوب فالديز، الأستاذة بجامعة ستانفورد، الأساليب التي استخدمها الأطفال الثنائيو اللغة في الإسبانية والإنجليزية، عندما طلب منهم القيام بالترجمة الشفوية في موقف غير مألوف إلى حد كبير، ألا وهو: محاكاة لقاء بين والدة تتحدث بالإسبانية ومدير مدرسة طفلتها الذي يتحدث بالإنجليزية، بسبب اتهام الطفلة بالسرقة. وصف معظم الأطفال المشاركين في هذه الدراسة بأنهم يمارسون دور المترجم الشفوي في أسرتهم وفي المجتمع. اكتشفت فالديز أن هؤلاء المترجمين الشفويين الصغار نجحوا في تتبع تدفق المعلومات؛ إذ استخدموا عددا من الأساليب لتوصيل المعلومات الأساسية، بما في ذلك نبرة الصوت وأسلوب الكلام، وتمكنوا من تعويض أوجه النقص اللغوية التي لديهم. استنتجت أن السمات والقدرات التي أظهرها هؤلاء الأطفال تميز أفرادا لديهم كفاءة معرفية استثنائية؛ هم، في هذه الحالة، الأطفال الموهوبون.
17 (5) اللعب باللغات
نغفل اللعب عادة عند حديثنا عن الأطفال الثنائيي اللغة ولغاتهم؛ فتماما مثل الأطفال الأحاديي اللغة الذين يلعبون بلغتهم (بعمل سجع بين الكلمات، وابتكار كلمات جديدة، وما إلى ذلك)، يلعب الأطفال الثنائيو اللغة بما لديهم من لغتين (أو أكثر)؛ على سبيل المثال: قد يتحدثون مازحين إلى أحد الأشخاص باللغة «الخطأ». يحكي ألفينو فانتيني أن ماريو وكارلا كانا يغيظان جدهما وجدتهما بالحديث معهما بالإسبانية بدلا من الإنجليزية، وكانا كذلك يتحدثان مع والديهما باللغة الخطأ، الإنجليزية، للمزاح معهما (فقد كانت الإسبانية هي اللغة المستخدمة في المنزل).
18
يلعب الأطفال كذلك بالتبديل اللغوي والاقتباس، خاصة عندما لا يلقى ذلك ترحيبا داخل الأسرة. ولهذا يخبرنا إيف جنتيئوم، الذي نشأ كطفل ثنائي اللغة في الفرنسية والروسية، أنه هو وأصدقاءه الثنائيي اللغة كانوا يشعرون بسعادة كبيرة عند اقتباس كلمات فرنسية وإدخالها عند الحديث بالروسية وتزوديها بنهايات صرفية روسية؛ على سبيل المثال: عند تحويل الكلمة الفرنسية
assiette (طبق) إلى الروسية بإضافة علامة النصب، فتصبح كما في المثال التالي:
Daj mne asjetu (بمعنى أعطني طبقا). توجد لعبة أخرى تتمثل في الترجمة الحرفية للتعبيرات الاصطلاحية إلى اللغة الأخرى وذكرها بتعبير جاد على الوجه؛ أحد الأمثلة التي عرضها جنتيئوم أن يقول المرء لشخص ما: «يا كرنبتي الصغيرة» بالروسية (الترجمة المباشرة لتعبير
mon petit chou
الذي يعني بالفرنسية «يا حملي الصغير»).
19
يفهم الأطفال أسلوب النطق جيدا ويتلاعبون به؛ فيسخرون أحيانا من الذين يتحدثون إحدى اللغات بلكنة عن طريق تكرار ما قالوه بإضافة لكنتهم إليه. تخبرنا كريستينا بانفي أن الطفلة أنابيل الصغيرة تلعب بهذا الجانب من اللغة، وإليك حوارا بين أنابيل ووالدها الذي يتحدث بالإنجليزية:
أنابيل :
والدي، كيف نقول هاري بوتر بالإسبانية؟
الوالد :
لا توجد ترجمة له، نقوله كما هو.
أنابيل :
لا يا أبي، نقول «هاري بوتر» (وتنطقها كما تنطق بالإسبانية) .
20
الفصل السابع عشر
الأسرة والأطفال الثنائيو اللغة
إن تحويل الأطفال إلى ثنائيي اللغة وإبقاءهم هكذا مسئولية كبيرة يمعن كثير من الأسر التفكير فيها. لا يمكن إنكار أن بعض الأطفال «يصبحون ثنائيي اللغة بالصدفة» (لقد أصبحت واحدا من هؤلاء عندما التحقت بمدرسة داخلية إنجليزية في سن الثامنة)، لكن يوجد عدد متزايد من الآباء يهتمون بالأسلوب الذي يجب عليهم اتباعه في هذا الشأن، والدعم الذي يجب عليهم تقديمه إلى أطفالهم، من أجل تسهيل حياتهم بلغتين أو أكثر. سأتحدث في هذا الفصل عن الاستراتيجيات الأسرية المتاحة والدعم الذي يجب أن يحصل عليه كل من الأطفال الثنائيي اللغة وآبائهم. أدرج تحت مفهوم «الأسرة» الوالدين والجدود، بالإضافة إلى أفراد الأسرة الأكثر بعدا ومسئولي الرعاية الآخرين. (1) استراتيجيات الأسرة لضمان تحويل أطفالها إلى ثنائيي اللغة
التقيت بكثير من الأزواج الذين يريدون تكوين أسرة ويتساءلون عن أفضل طريقة تمكنهم من التأكد من أن يصبح أطفالهم ثنائيي اللغة. والأسباب التي يعللون بها رغبتهم في تربية أطفالهم كي يصبحوا ثنائيي اللغة عديدة: فبعضهم يريد أن يتحدث الأطفال بلغتي الوالدين (فعلى سبيل المثال: تتحدث الأم بالإسبانية والأب بالإنجليزية)، بينما يريد آخرون أن يتمكن الأطفال من التواصل مع جدودهم، ويريد البعض الآخر أن يعدوا أبناءهم لليوم الذي يلتحقون فيه بالمدرسة حيث تستخدم لغة مختلفة، ويريد آخرون تعليم أبنائهم اللغات منذ سن مبكرة. أيا كان السبب، فإنهم يبحثون عن طرق لوضع أبنائهم على أول الطريق نحو الثنائية اللغوية.
توجد خمس استراتيجيات يستطيع الآباء اتباعها من أجل تعزيز الثنائية اللغوية لدى أبنائهم، وربما أكثر هذه الاستراتيجيات شهرة هي استراتيجية «حديث كل من الوالدين بلغة واحدة»، التي اشتهرت في عالم الثنائية اللغوية (على الرغم من أنها ربما كانت موجودة منذ قرون)، عندما سأل جول رونجا، في مطلع القرن العشرين، عالم اللغة الفرنسي موريس جرامون عن أفضل طريقة لتنشئة طفله بحيث يصبح ثنائي اللغة. كانت زوجة رونجا ألمانية وكان هو فرنسيا؛ فاقترح عليه جرامون أن يلتزم كل منهما بالحديث بلغته أو لغتها فقط إلى الطفل لوي، وهذا ما فعلاه. فيما بعد ألف رونجا كتابا عن هذه الاستراتيجية، وقال فيه إن لوي اكتسب اللغتين مثل أي متحدث أصلي للغة. أتذكر الطفلة الصغيرة هيلدجارد، التي التقينا بها في الفصل الرابع عشر، التي تربت باستخدام هذه الاستراتيجية نفسها؛ فقد كان والدها يتحدث معها بالألمانية، ووالدتها تتحدث معها بالإنجليزية.
تتمثل استراتيجية أخرى في استخدام إحدى اللغات في المنزل، وعادة ما تكون لغة الأقلية، واستخدام لغة أخرى خارجه (وسأطلق عليها استراتيجية «لغة داخل المنزل وأخرى خارجه»). فالفكرة في ذلك أن يتحدث كل الموجودين في المنزل بلغة واحدة فقط حتى يكتسبها الطفل جيدا، أما بالنسبة إلى اللغة الأخرى، فإن الطفل سيكتسبها عندما يخرج من المنزل، وفيما بعد عندما يذهب إلى مركز للرعاية النهارية، ثم بعد أن يلتحق بالمدرسة. يستخدم هذا الأسلوب، ربما دون وعي، ملايين الأسر المهاجرة حيث تستخدم لغة الأقلية في المنزل، وأحيانا أيضا في الحي السكني، وتستخدم لغة الأغلبية في المجتمع الخارجي. عندما يتبع الوالدان هذه الاستراتيجية عن وعي مع أطفالهم، فإنهما عادة ما يعززان الفصل بين اللغة المستخدمة داخل المنزل وتلك المستخدمة خارجه على نحو أكثر صرامة. وقد تربى الاختصاصي الشهير في الثنائية اللغوية أينار هوجن ليصبح ثنائي اللغة في النرويجية والإنجليزية باستخدام هذا الأسلوب، وقد كتب يقول:
رأى والداي أن أتعلم الإنجليزية من أصدقائي وأساتذتي، وأنني فقط من خلال تعلمي اللغة النرويجية واستخدامها في المنزل أستطيع التواصل معهم بفاعلية ومع أصدقائهم وثقافتهم.
1
تتمثل الاستراتيجية الثالثة في استخدام لغة واحدة مع الطفل في البداية، ثم إدخال اللغة الأخرى عندما يصبح في سن الرابعة أو الخامسة، وسأطلق عليها اسم استراتيجية «لغة واحدة في البداية». عادة ما تكون اللغة الأولى هي لغة الأقلية، التي يستخدمها الوالدان فقط؛ وهما يحرصان على أن يستخدم هذه اللغة كل الذين يتواصل معهم الطفل بخلافهما (مسئولو الرعاية الآخرون، وأفراد الأسرة، والأصدقاء، وبرامج التليفزيون، وما إلى ذلك). وبمجرد ترسيخ هذه اللغة جيدا، يسمح الوالدان باكتساب اللغة الأخرى، ويحدث هذا عادة بسرعة كبيرة إذا كانت هي لغة الأغلبية المستخدمة في المجتمع الخارجي.
توجد استراتيجية رابعة، وهي استراتيجية «وقت اللغة»، وتتمثل في استخدام إحدى اللغتين في أوقات معينة (في الصباح، على سبيل المثال)، واللغة الأخرى في أوقات أخرى (فيما بعد الظهيرة، مثلا). يمكن أن يحدث هذا التبديل في اليوم نفسه أو على مدار عدة أيام (ربما بتحدث إحدى اللغات في الجزء الأول من الأسبوع، واستخدام اللغة الأخرى في الجزء الثاني).
أما الاستراتيجية الخامسة، التي تعتبر إلى حد ما استراتيجية طبيعية على الرغم من أنه يمكن للوالدين تطبيقها عن وعي، فتتمثل في استخدام اللغتين بالتبادل، مع السماح لعوامل مثل الموضوع والشخص والموقف وما إلى ذلك بتحديد اللغة المستخدمة؛ وسأطلق على هذه الاستراتيجية اسم استراتيجية «التبادل الحر».
ما هي نسبة نجاح هذه الاستراتيجيات المختلفة؟ فيما يتعلق بالاستراتيجية الأولى، استراتيجية حديث كل من الوالدين بلغة واحدة، يجب أن نشير إلى اتباع كثير من الآباء لها لشعورهم براحة أكبر في الحديث بلغتهم السائدة، التي ربما تكون لغتهم الوحيدة، مع طفلهم. إنها دون شك أشهر استراتيجية، إلا أن مفهوم الناس عنها تحول بمرور الوقت إلى اعتقاد خاطئ:
خرافة: إذا أراد الوالدان تربية الأطفال ليصيروا ثنائيي اللغة ، فإنه يجب عليهم استخدام أسلوب حديث كل والد بلغة واحدة
بالتأكيد تكون هذه الاستراتيجية فعالة في الشهور الأولى من اكتساب اللغة، عندما يكون الأطفال في صحبة والديهم بالأساس؛ فهم يكتسبون مدخلات لغوية مزدوجة، ويبدءون بسرعة كبيرة في إنتاج الأصوات ثم المقاطع والكلمات باللغتين. ومع ذلك، فإن ثمة مشكلة تتمثل في أن إحدى اللغتين، وهي لغة الأقلية، ستقل مدخلاتها بالتدريج في النهاية إلا إذا اتخذ الوالدان إجراء واضحا. فبمجرد خروج الأطفال إلى العالم الخارجي (إلا إذا كانوا يعيشون في مجتمع أقلية تستخدم فيه لغة الأقلية)، سيزيد استماعهم واستخدامهم للغة الأخرى؛ لغة الأغلبية. وبالإضافة إلى مشكلة انخفاض مدخلات لغة الأقلية، فإن الأطفال سيريدون أن يصبحوا مثل الأطفال الآخرين وألا يكونوا مختلفين عنهم؛ لذا، بالتدريج تبدأ لغة الأغلبية في الهيمنة، على نحو يضايق الذي يستخدم لغة الأقلية من بين والدي الطفل. أجرت أنيك دي هاور الخبيرة في الثنائية اللغوية في مرحلة الطفولة دراسة ضخمة تضم ما يقرب من ألفي أسرة، واكتشفت وجود احتمال بنسبة واحد من كل أربعة أن يفشل الأطفال في الحديث بلغة الأقلية عند استخدام هذه الاستراتيجية.
2
إجمالا، أنا لا أؤيد هذه الاستراتيجية على نحو مطلق؛ نظرا لانخفاض المدخلات التي قد يحصل عليها الطفل في لغة الأقلية، وهذا يجعل حياة أحد الوالدين الذي يستخدم لغة الأقلية أكثر صعوبة، وقد يسبب التوتر داخل الأسرة.
لا توجد مشكلات كثيرة عند تطبيق استراتيجية «لغة داخل المنزل وأخرى خارجه»، وإنما توجد لها كثير من المميزات. فمن بين مشكلاتها حقيقة أن أحد الوالدين سيضطر على الأرجح إلى الموافقة على الحديث بلغته الثانية (أو الثالثة) إلى الطفل بحيث يتحدث كل من في المنزل لغة واحدة فقط. ومن مشكلاتها أيضا أنه بعد فترة من الوقت، ستوجد حاجة إلى تدعيم لغة المنزل - التي عادة ما تكون لغة الأقلية - بمدخلات من الأصدقاء وأفراد الأسرة الآخرين، بالإضافة إلى ممارسة أنشطة بهذه اللغة، مثل اللعب باستخدامها ومشاهدة برامج تليفزيونية تتحدث بها . إذا كان من الممكن الحصول على هذا الدعم، فإن اللغة الأخرى المستخدمة خارج المنزل، التي تكون عادة لغة الأغلبية، ستكتسب من تلقاء نفسها، في مركز الرعاية النهارية ثم في المدرسة، ومن خلال الأصدقاء الخارجيين، وهكذا، وسيصبح الأطفال ثنائيي اللغة؛ عندها يجب على الوالدين العمل على ترسيخ اللغتين، والتأكد من وجود حاجة مستمرة إلى كلتيهما طوال سنوات الطفولة والمراهقة (ارجع للفصل الرابع عشر). اكتشفت أنيك دي هاور في دراستها أنه إذا استخدم كلا الوالدين اللغة نفسها داخل المنزل، فإن نجاح انتقال تلك اللغة، بجانب اللغة الخارجية، يزيد بنسبة 20 في المائة.
ماذا عن استراتيجية «لغة واحدة في البداية»؟ ينجح هذا الأسلوب عندما تكون الأسرة محاطة بمجتمع منظم وكبير إلى حد ما يتحدث لغة الأقلية، حتى يحصل الطفل على كل المدخلات اللغوية التي يحتاجها. إن لم يتوافر هذا، فقد يصعب تجنب دخول لغة الأغلبية في مرحلة مبكرة. إليك إفادة لطفلة ثنائية اللغة في الروسية والإنجليزية تربت باستخدام هذه الاستراتيجية في الولايات المتحدة؛ فقد تعلمت الروسية أولا في المنزل ثم اكتسبت الإنجليزية عند التحاقها بالمدرسة. تقول:
لم أكن أتحدث كلمة بالإنجليزية عند بداية التحاقي بالمدرسة. والتحق معي في الحضانة ولد صغير، لكن والدتينا فصلتا بيننا حتى لا نتحدث معا بالروسية. أنا لا أستطيع بالتحديد تذكر تعلم الإنجليزية، فيبدو أني تعلمتها بسرعة كبيرة.
3
أما فيما يتعلق باستراتيجية وقت اللغة، فإنها تعتمد على عامل عشوائي للغاية - وقت معين من اليوم، ويوم معين من الأسبوع - ولا تحقق نجاحا كبيرا، على الأقل على نطاق الأسرة. وعلى الرغم من هذا، تستخدم هذه الاستراتيجية في برامج الانغماس اللغوي وبرامج التعليم الثنائية اللغة (انظر الفصل التاسع عشر)، وتحقق نجاحا في هذا المناخ.
أما الاستراتيجية الأخيرة، وهي استراتيجية التبادل الحر، فهي حتى الآن الأكثر طبيعية، لكن نسبة نجاحها تقل بسبب حقيقة أن لغة الأغلبية ستصبح هي السائدة مع قضاء الطفل مزيدا من الوقت في المدرسة وخارج المنزل، فضلا عن الأصدقاء الذين يتحدثون لغة الأغلبية ويأتون إلى منزله.
أيا كانت الاستراتيجية التي يستخدمها الوالدان، فبمجرد بدء اكتساب الثنائية اللغوية، يجب أن تستمر الأسرة في مراقبة البيئة للتأكد من أن لدى الطفل حاجة فعلية لكلتا اللغتين، والتأكد من تعرضه بقدر كاف لكلتيهما. يجب أن يأتي التعرض من التفاعل البشري المباشر (مثل التحدث إلى الطفل أو اللعب معه أو القراءة له)، وليس من الأنشطة السلبية مثل مشاهدة التليفزيون أو مواد على أقراص الدي في دي. ومن أجل زيادة التعرض للغة، وتقليل العبء الواقع على الوالدين، يفضل لو كان بإمكان الوالدين الحصول على مساعدة من أفراد الأسرة الكبيرة ومسئولي رعاية الطفل الآخرين، ولو كان بالإمكان أيضا أن يتفاعل الطفل مع أطفال آخرين يتحدثون اللغتين ذاتيهما.
يوجد جانب مهم يجب على الوالدين الانتباه له، وهو: إن كان ممكنا، يجب أن يجد الأطفال أنفسهم، في أوقات مختلفة، في وضع أحادي اللغة في كل من لغتيهم (ارجع للفصل الرابع). يعني هذا أن يتواصل الأطفال بانتظام مع متحدثين أحاديي اللغة في كل لغة من لغتيهم، وهذا على عكس ما يحدث في المنزل حيث يكون أحد والديهم على الأقل ثنائي اللغة (إن لم يكن الاثنان). يوجد سببان لهذا؛ أولا: سيحصل الأطفال على مدخلات لا تحتوي على عمليات تبديل لغوي أو اقتباس، وهي عناصر من اللغة الأخرى تظهر عادة عند حديث ثنائيي اللغة بعضهم مع بعض. وثانيا: يسمح هذا للأطفال بتعلم كيفية التحرك عبر تسلسل الوضع اللغوي، ومن ثم يكيفون حديثهم مع طبيعة الموقف والمستمع. وكما رأينا في الفصل السابق، يتعلم الأطفال بسرعة متى يتحدثون لغة معينة في موقف معين، وإذا كان الوضع اللغوي أحادي اللغة، يتعلمون كيف يعطلون لغتهم الأخرى. عندما يكون المنزل ثنائي اللغة، يكون ببساطة من السهل التحول إلى الوضع الثنائي اللغة؛ فيدخل الوالدان كلمات من اللغة الأخرى، وحتى إنهما يتحولان أحيانا إلى استخدام اللغة الأقوى عند حديثهما أحدهما مع الآخر، أو عندما يريدان التأكد من فهم أطفالهما لما يقولانه. ويميل الأطفال إلى تقليد والديهم، وبالتدريج يزيد حضور اللغة السائدة حتى تحل محل لغة الأقلية. تعبر عالمة اللغة واختصاصية باثولوجيا الكلام سوزان دوبكا عن هذا جيدا في تخيلها للطريقة التي ربما يقرر بها الطفل تفضيل إحدى لغتيه:
أمي تتحدث بالإنجليزية أو اليونانية معي، ويتحدث الآخرون معي بالإنجليزية؛ ومن ثم، أستطيع اختيار الحديث بالإنجليزية أو اليونانية مع أمي، لكن لأني أستمع إلى الإنجليزية أكثر من اليونانية، فإنه من الأسهل استخدام الإنجليزية. فما الذي يدفعني إلى استخدام اليونانية؟
4
إذا لم يتوافر للأسرة مجتمع من حولها يتحدث لغة الأقلية به متحدثون أحاديو اللغة، فلا شك أن العثور على سبل لوضع الطفل في وضع أحادي اللغة في لغة الأقلية يكون أمرا صعبا، ويتطلب قدرا من الإبداع. فعندما عاد والدا سيرل وبيير إلى الولايات المتحدة من سويسرا، فعلا عدة أشياء من أجل الحفاظ على لغة الطفلين الفرنسية، وعلى ثنائيتهما اللغوية في الإنجليزية والفرنسية؛ فعلى سبيل المثال: بحثا عن الأسر الفرنسية التي وصلت حديثا إلى أمريكا، والتي لديها أطفال في الأعمار نفسها، وجمعوا الأطفال معا ليتيحوا لهم فرصة تكوين صداقات. نجح الأمر مع واحد أو اثنين من الأطفال الفرنسيين، وهكذا طوال عدة شهور، بينما كان هؤلاء الأطفال يكتسبون اللغة الإنجليزية، كان سيرل وبيير يتحدثان مع أطفال فرنسيين أحاديي اللغة، ويلعبان معهم باللغة الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك، دعا الوالدان أصدقاء الصبيين الذين تعرفا عليهما في سويسرا لزيارتهم في الولايات المتحدة في الصيف؛ ونظرا لأن هؤلاء الأطفال كانوا أحاديي اللغة تماما، لم يكن أمام سيرل وبيير إلا أن يتحدثا معهم بالفرنسية. أخيرا، حاولت الأسرة الذهاب إلى سويسرا وفرنسا مرة كل عام من أجل غمس سيرل وبيير في لغتهما الأخرى، التي أصبحت الآن اللغة الأضعف.
إن ما يثير الاهتمام في الحيل التي استخدمها هذان الوالدان أنها كانت طبيعية إلى حد كبير؛ فقد وضعا الطفلين في مواقف يحتاجان فيها إلى لغتهما غير السائدة؛ لذا اضطرا إلى استخدامها. فقد تعلم والداهما بسرعة كبيرة، مثل كثيرين غيرهما، أن إجبار الطفل على الالتزام بلغة واحدة فقط في حين أن المستمع إليه يعرف كلتا لغتيه يؤدي إلى شعور الجانبين بالإحباط. طالما قلت، بابتسامة ، إن الآباء الثنائيي اللغة إلى حد كبير لا يجيدون التعامل مع اللغة الأضعف لدى أطفالهم، وبالتالي مع ثنائيتهم اللغوية؛ لكن يمكنهم تعويض ذلك عن طريق وضع أطفالهم في مواقف طبيعية يحتاجون فيها فعليا إلى استخدام لغتهم الأضعف. (2) دعم الأسرة
لا يجب فقط أن يحصل الأطفال الثنائيو اللغة على دعم من أسرتهم (تذكر أني أدرجت والدي الطفل وجدوده، بالإضافة إلى أفراد الأسرة الكبيرة ومسئولي رعاية الطفل الآخرين تحت هذا المصطلح)، إن كان هذا ممكنا؛ وإنما يجب أيضا أن تحصل الأسرة نفسها على مساعدة من الآخرين. ما أفكر فيه هو الدعم من الأقارب والأصدقاء، وأيضا من الذين يلعبون دورا مهما في عالم الطفل الصغير، مثل المعلمين والأطباء علماء النفس واختصاصيي التخاطب. تذهلني طوال الوقت الخرافات والأفكار النمطية التي تتناقلها الأسر، وأنواع «النصائح» التي يحصلون عليها؛ على سبيل المثال: تزخر الكتابات في هذا المجال بإفادات عن معلمين يزورون منازل المتحدثين بلغة الأقلية ليطلبوا من الأسرة عدم تربية الطفل على الثنائية اللغوية، وليخبروهم بأن الأسرة لا بد أن تتحدث فقط بلغة الأغلبية، وذلك كما ذكر ريتشارد رودريجيز في سيرته الذاتية «نهم الذاكرة».
5
كم من الآباء أجبروا أنفسهم - بناء على نصيحة الآخرين، بمن فيهم المختصون - على تغيير سلوكهم اللغوي، ومن ثم حرموا أطفالهم من أن يصبحوا ثنائيي اللغة! يتحدث راي كاسترو عن تجربته بأسلوب مؤثر للغاية؛ فيحكي أن اللغة الإسبانية كانت هي اللغة المستخدمة في المنزل، مع والديه وعمه وعمته وجده وجدته، وكانت ثقافتهم مكسيكية بوضوح. وقد بذل والداه كل ما في وسعهما حتى يتعلم الإنجليزية، التي كان يحتاج إليها حتى يستطيع الحياة في أمريكا، وكانت المشكلة أن هذا حدث على حساب الإسبانية؛ فيشرح كاسترو أن لغته الإسبانية تضاءلت بالتدريج حتى تلاشت؛ فلم يكن ينتمي إلى الثقافة السائدة ولا إلى ثقافته الأمريكية المكسيكية، نظرا لعدم امتلاكه للغة الإسبانية، فكتب قائلا:
لقد شعرت بالوحدة والغربة، لم يكن هذا خطأ والدي؛ فقد قدما لي اللغة الإنجليزية كهدية تعبر عن حبهما، في حين أنهما لم يحصلا قط عليها ؛ فقد كانا متأكدين من أنني لن أتحمل المعاناة المصاحبة لتصنيفات مثل أجنبي، أو في حالتي هذه ما يطلق من ألفاظ مشينة على ذوي الأصل المكسيكي، وتبدو الآن السنوات التي قضيتها دون اللغة الإسبانية مأساوية. فكيف يمكنني تعويض مثل هذه الخسارة؟ بالكاد كنت أتواصل مع جدي وجدتي! وفي الحقيقة، ماتا قبل أن أتعلم الإسبانية مرة أخرى.
6
لا يمكننا توقع أن لدى الوالدين خبرة في الجوانب المختلفة للثنائية اللغوية بنفس قدر الخبرة التي توجد لدى علماء اللغة، والتربويين، وعلماء النفس، واختصاصيي التخاطب، والعاملين في مجال الطب. ومع هذا من المهم أن يكون بإمكانهما التمييز بين الخرافات التي تحيط بهذا المجال والواقع، وذلك بمساعدة المختصين. وبالإضافة إلى هذا، من المهم أن تتوافر لدى الوالدين، وكل الذين يتولون رعاية أبنائهما الثنائيي اللغة، معرفة بموضوعات مثل كيفية تحول الأطفال إلى الثنائية اللغوية، وكيفية الحفاظ عليها، ومعنى أن يكون المرء ثنائي اللغة، ومبدأ التكامل، والوضع اللغوي، والتبديل اللغوي والاقتباس، وآثار الثنائية اللغوية على الأطفال، وما إلى ذلك. فهذه المعرفة ستساعدهما في فهم تطور أطفالهما الثنائيي اللغة، وتعدهما لظهور الظواهر المختلفة للثنائية اللغوية؛ على سبيل المثال: يجب أن يفهما لماذا يمر بعض الأطفال بفترة يرفضون فيها الحديث بلغة المنزل بين الناس، وأحيانا في المنزل، وهذا يرجع إلى حد كبير إلى عدم رغبتهم في الاختلاف عن الأطفال الآخرين. كتب لي أحد ثنائيي اللغة في اللغتين العربية والإنجليزية عن هذا، فقال:
تظاهرت في فترة المراهقة بعدم معرفتي باللغة العربية، وحاولت جاهدا التخلص من لكنتي الأجنبية. وقد فعلت هذا لأنني أردت بشدة ألا أكون مختلفا على الإطلاق عن باقي أصدقائي. ومع ذلك، مع تقدمي في العمر بدأت أتعلم لغتي وثقافتي الأصليتين ويزيد تقديري لهما.
7
يدرك الأطفال الثنائيو اللغة إلى حد كبير أن معرفة والديهم بلغة الأغلبية قد تكون ضعيفة أحيانا. يتحدث ريتشارد رودريجيز عن انزعاجه من حروف العلة لدى والديه «ذات النبرة العالية»، ونطقهم «الأجش» للحروف الساكنة، وتركيبهم النحوي المضطرب؛ فقد كان ينفعل عندما يسمع حديثهم بالإنجليزية. كما يحكي الكاتب الصحفي والمؤلف أوليفيه تود عن تظاهره عندما يكون مع أمه في شوارع ومتاجر باريس بأنه لا يعرفها، عندما كانت تتحدث بلكنتها البريطانية الواضحة. وأنا نفسي أتذكر ذات يوم قال لي ابني: «أبي، تحدث مثل كل الآباء الآخرين.» وكان يعني بذلك: «بما أنك تتحدث بالإنجليزية أيضا، والإنجليزية هي اللغة المستخدمة هنا، وأنا لا أريد أن أبدو مختلفا عن الآخرين، ليتحدث إذا كل منا مع الآخر بالإنجليزية بدلا من الفرنسية.»
في دراسة مثيرة للاهتمام وطولية استمرت لست سنوات، تتبع ستيفن كالداس وسوزان كارون-كالداس استخدام اللغة لدى أطفالهما الثلاثة المراهقين الثنائيي اللغة في الإنجليزية والفرنسية، في منزلهما في ولاية لويزيانا ومصيفهم في كيبك؛ فأظهرا أن تفضيل اللغة المستخدمة في المنزل في لويزيانا تحول من سيادة للفرنسية إلى طغيان لاستخدام الإنجليزية مع تقدم الأطفال في العمر، بينما كان العكس صحيحا في كيبك، وتحول تفضيل اللغة إلى الفرنسية بالكامل. ويمكن تفسير هذا، على حد قولهما، بتأثير الأقران خارج المنزل؛ إذ كان أقران الأطفال في لويزيانا يتحدثون الإنجليزية، بينما كان أقرانهم في كيبك يتحدثون بالفرنسية. وفي قصة قصيرة معبرة وردت في الدراسة، كان الوالد الذي يتحدث بالفرنسية مع أطفاله في لويزيانا، يحضر مع ابنته ستيفاني البالغة من العمر 12 عاما مباراة لكرة القدم الأمريكية، وكان على وشك إلقاء التحية على إحدى صديقات ستيفاني عندما همست له قائلة: «لا تتحدث معها بالفرنسية.» (فعل الأب هذا على أية حال.) وفي النهاية لم يعد الأطفال يتحدثون بالفرنسية مع والديهم في لويزيانا، وإنما كانوا يفعلون هذا دون أدنى مشكلة في كيبك. بينما يشير باحثا هذه الدراسة إلى وجود «أحادية لغوية موازية» لدى أطفالهما، فإن هذه الحالة الأخيرة توصف في الحقيقة بأنها ثنائية لغوية ذات طبيعة خاصة جدا.
8
بينما يجب على الوالدين أن يدركا ما يمر به الطفل في أثناء تعلمه الحياة باستخدام لغتين أو أكثر (اللغات التي قد لا تكون لها المكانة الاجتماعية نفسها)، يجب عليهما أن يدركا أيضا التغيرات الثقافية التي يمر بها الطفل أو المراهق في حال انتقالهم من دولة أو منطقة لأخرى. فيتعرض كثير من الأطفال إلى صدمة ثقافية، تماما مثل والديهم، ويحتاجون إلى مساعدة في أثناء هذه المرحلة الانتقالية. تتذكر المؤلفة نانسي هيوستن بوضوح الليلة التي وصلت فيها، في سن السادسة، من كندا إلى منزل زوجة أبيها الجديدة في ألمانيا. قدم لها طعام ألماني تقليدي، بما في ذلك اللحوم الباردة والخبز الأسمر وأنواع مختلفة من الجبن، لكن كل هذا كان غريبا عنها، تماما مثل الأشخاص الموجودين حولها واللغة التي يتحدثون بها. كان تطأطئ رأسها طوال الوقت، ولم تلمس شيئا مما في طبقها. لكن كان هناك شخص واحد يدرك ما تمر به؛ فقد خرجت خالتها الجديدة فيلما في الظلام، وقادت السيارة لما يقرب من ثلاثين ميلا، وأحضرت لها عبوة من رقائق الذرة؛ وكتبت هيوستن عن ذلك تقول إن هذه كانت أفضل وجبة تناولتها في حياتها!
9
توجد أوقات تصبح فيها الأمور صعبة ومحبطة بسبب حدوث مشكلة في التواصل، أو تعليق قاس من بالغ أو طفل، أو الحصول على درجة سيئة في اللغة الأضعف، وما إلى ذلك؛ ولذلك من الضروري حينها أن يحصل الأطفال الثنائيو اللغة على التشجيع والمساعدة؛ فمع تقدم الأطفال في العمر، يجب أن تصبح لديهم القدرة على الحديث مع الآخرين عن معنى كون المرء ثنائي اللغة والثقافة، والتعبير عن بعض الصعوبات التي قد يتعرضون لها.
قد تتمثل الصعوبات التي يواجهها الأطفال في سن المدرسة في مشكلات في القراءة والكتابة في المدرسة. تختلف أهمية تعلم مهارات القراءة والكتابة في المناهج الدراسية بحسب الدولة والثقافة، وربما يحتاج الأطفال والمراهقون الثنائيو اللغة إلى دعم إضافي في هذين المجالين؛ على سبيل المثال: يوجد تركيز كبير في المدارس الفرنسية على تصحيح التهجئة وقواعد اللغة، ويعاقب الأطفال الثنائيو اللغة، الذين لا يزالون في مرحلة تعلم الفرنسية، عادة على الأخطاء التي يرتكبونها. في هذه الحالة يمكن أن يشرح الوالدان ومسئولو الرعاية الآخرون هذا الموقف للأطفال الثنائيي اللغة، ويساعدونهم على مواجهة هذا التحدي الجديد؛ كذلك قد يحدث الحديث مع المعلم فارقا كبيرا. بالطبع، يصبح هذا أسهل إذا كان الوالدان أنفسهما يتقنان اللغة ويعتادان على التواصل مع المدرسة، وإذا لم يكن الوضع كذلك، يمكن أن يتدخل شخص وسيط مقرب من الأسرة ليقدم المساعدة.
يجب أن يصبح تحول المرء إلى شخص ثنائي اللغة والثقافة رحلة ممتعة في اللغات والثقافات. وعندما يخوض الأطفال هذه الرحلة، من المهم أن يصحبهم فيها، إن أمكن، أفراد بالغون يهتمون لأمرهم ولديهم معرفة واسعة؛ حتى يسهلوا عليهم الانتقال من مرحلة إلى أخرى، وحتى يستطيع الأطفال الحديث معهم عما يمرون به. وعندما يحصل الأطفال على هذا النوع من الدعم، يوجد احتمال كبير أن ينجحوا في اكتساب الثنائية اللغوية والثقافية.
الفصل الثامن عشر
تأثير الثنائية اللغوية على الأطفال
أتلقى أحيانا رسائل إلكترونية أو مكالمات هاتفية من آباء شباب يريدون أن يصبح أطفالهم ثنائيي اللغة، لكنهم قلقون من احتمالية وجود آثار ضارة لهذا؛ فقد سمع كثير منهم المقولة التالية:
خرافة: توجد آثار سلبية للثنائية اللغوية على نمو الأطفال
أنا أطمئن الذين أتعامل معهم؛ لكن في الواقع، بسبب هذا الرأي الذي لا يزال موجودا في بعض الدوائر والدول، يتردد الآباء في تربية أطفالهم ليصبحوا ثنائيي اللغة، بينما يقلق آخرون على النمو اللغوي والمعرفي لأطفالهم الثنائيي اللغة. عند النظر إلى الدراسات السابقة التي رسخت هذه الخرافة، بالإضافة إلى الدراسات اللاحقة التي توصلت إلى نتائج مناقضة، سنرى أن كثيرا من الدراسات احتوى على مشكلات منهجية ومشكلات خاصة باختيار المبحوثين. ومن وجهة النظر الحالية، من الواضح عدم وجود أي أساس لخرافة وجود آثار سلبية، حتى في حالة الأطفال الثنائيي اللغة الذين توجد لديهم اضطرابات لغوية. (1) المشكلات الموجودة في الدراسات السابقة
في عام 1890 كتب التربوي وعالم اللغة سايمون إس لوري التقييم التالي السلبي للغاية للأطفال الثنائيي اللغة:
إذا استطاع طفل أو ولد الحياة بلغتين في وقت واحد على نحو متساو، فإن هذا لسوء حظه؛ فإن نموه الفكري والروحي لن يتضاعف نتيجة لذلك، وإنما سيستنزف نصفه، وسيصعب تحقيق وحدة الفكر والشخصية في مثل هذه الظروف.
1
وبعد نحو ثلاثين عاما، أضاف عالم اللغة الكبير أوتو يسبرسن:
إن الجهد العقلي المطلوب لإتقان لغتين بدلا من لغة واحدة يقلل بالتأكيد من قدرة الطفل على تعلم أشياء أخرى كان من الممكن له ويفترض به تعلمها.
2
خلال النصف الأول من القرن العشرين بدا أن كثيرا من الدراسات يؤكد هذه التقييمات القاتمة؛ فتوصلت إحدى هذه الدراسات إلى أن الأطفال الثنائيي اللغة في اللغتين الويلزية والإنجليزية كانت معدلات ذكائهم أقل من معدلات الأطفال الأحاديي اللغة، وأن هذا الفرق كان يزيد مع مرور كل عام من سن السابعة وحتى سن الحادية عشرة. واكتشفت دراسة أخرى أن الأطفال الذين يتحدثون هاتين اللغتين نفسيهما (الويلزية والإنجليزية)، تفوق عليهم الأطفال الأحاديو اللغة في اللغة الإنجليزية في كل من اختبارات الذكاء الشفوية وغير الشفوية. وأوضحت دراسة ثالثة أن الأطفال الأحاديي اللغة الذين يتحدثون الإنجليزية فقط، تفوقوا على الأطفال الثنائيي اللغة في الإيطالية والإنجليزية الأمريكية في قياسات العمر العقلي.
3
إجمالا، توصلت معظم الأبحاث التي أجريت في ذلك الوقت إلى أن الثنائية اللغوية لها تأثير سلبي على نمو الطفل اللغوي والمعرفي والتعليمي، ولم تظهر إلا أبحاث قليلة عدم وجود أي تأثير أو وجود تأثير إيجابي لها.
لا عجب إذا أن يتردد الآباء في تربية أطفالهم ليصبحوا ثنائيي اللغة، أو أن يقرروا ببساطة عدم فعل هذا. حكى أينار هوجن - الخبير الشهير في مجال الثنائية اللغوية، الذي نشأ هو نفسه ثنائي اللغة في النرويجية والإنجليزية - عن إصرار والديه على تنشئته ثنائي اللغة، على الرغم من مثل هذه الآراء السلبية، قائلا:
أنا ثنائي اللغة منذ فترة طويلة، لكني لم أدرك معنى هذا إلا عندما بدأت قراءة الكتابات عن هذا الموضوع. فدون أن أعلم هذا، كنت عرضة لمخاطر لا حصر لها تتمثل في تأخر النمو العقلي وضعف القدرات الذهنية والفصام واللامعيارية والاغتراب، التي من الواضح أنني نجوت من معظمها، حتى إن كان هذا بشق الأنفس. ومع أن والدي كانا يعلمان بشأن هذه المخاطر، فقد استبعداها تماما وجعلاني ثنائي اللغة رغما عني.
4
في منتصف القرن الماضي، تغير الوضع على نحو مفاجئ إلى حد ما، واكتشف كثير من الباحثين أن الثنائية اللغوية ، في النهاية، ميزة حقيقية لدى الطفل. وتعبر دراسة كبرى أجرتها إليزابيث بيل ووالاس لامبرت عن الأبحاث التي أجريت في هذه الفترة. اختارت بيل ولامبرت مجموعة من الأطفال في سن العاشرة من ست مدارس كندية فرنسية في مونتريال، وقارنا الأطفال الثنائيي اللغة في الفرنسية والإنجليزية بالأطفال الأحاديي اللغة في الفرنسية، في مجموعة من الاختبارات. حصل الأطفال الثنائيو اللغة على درجات أعلى في اختبارات الذكاء الشفوية وغير الشفوية. كما أظهرت الاختبارات الفرعية أن لدى الأطفال الثنائيي اللغة أشكالا أكثر تنوعا من الذكاء ومرونة أكبر في التفكير، تتمثل في مزيد من المرونة المعرفية والإبداع والتفكير التباعدي. بالإضافة إلى ذلك، كان الطلاب الثنائيو اللغة أكثر تفوقا في المهام الدراسية في المدرسة، كما أن سلوكياتهم تجاه الطلاب الكنديين الذين من أصل إنجليزي كانت أكثر إيجابية من سلوكيات نظائرهم الأحاديي اللغة في اللغة الفرنسية.
5
وبعد بضع سنوات، استعرض كل من ميريل سوين وجيم كومينز الدراسات التي أجريت في هذا المجال، وتوصلا إلى استنتاج أن الثنائيي اللغة تكون لديهم حساسية أكبر تجاه العلاقات الدلالية بين الكلمات، ويكونون أكثر تفوقا في فهم تخصيص الأسماء الاعتباطي للأشياء، وتكون لديهم قدرة أفضل على التعامل تحليليا مع تركيب الجمل، وحساسية اجتماعية أكبر، وقدرة أكبر على التفاعل بمرونة أكثر مع التقييم المعرفي، ويكون أداؤهم أفضل في تأدية مهام اكتشاف القواعد، ويتمتعون بقدر أكبر من التفكير التباعدي.
6
كيف لنا أن نفسر هذا التناقض بين نتائج الأبحاث التي أجريت في النصف الأول من القرن العشرين، وتلك الخاصة بالأبحاث التي أجريت في النصف الثاني منه؟ وما الذي يمكن للآباء وغيرهم من الذين يتعاملون مع الأطفال الثنائيي اللغة استنتاجه من كل هذا؟ نحن نعلم الآن أن إحدى المشكلات الرئيسية في تفسير نتائج الدراسات السلبية والإيجابية تكمن في التأكد من أن المجموعات التي أجريت عليها الدراسة (من الثنائيي اللغة والأحاديي اللغة) كانت قابلة بالفعل للمقارنة من كافة الجوانب، بعيدا عن ثنائيتهم أو أحاديتهم اللغوية؛ فإن الدراسات المبكرة التي غالبا ما كانت تشتمل على اختبار معدل الذكاء، والتي اكتشفت انخفاض درجات معدل الذكاء لدى الثنائيي اللغة، لم تهتم بالقدر الكافي بالفروق بين المشاركين في الجنس والعمر والخلفية الاجتماعية والاقتصادية وفرص التعليم. بالإضافة إلى ذلك، لم يتضح كيف اختار الباحثون عيناتهم الثنائية اللغة، وما إذا كانت تلك العينات تجيد اللغة التي تختبر فيها بما يكفي. وإذا لم تكن تجيدها، فلا عجب إذا من انخفاض مستوى أدائهم نظرا لأن معظم الاختبارات، بما في ذلك اختبارات معدل الذكاء، تتطلب فهما جيدا للغة المستخدمة.
على الرغم من أن الدراسات التي أجريت في النصف الثاني من القرن العشرين شهدت ضبطا لمثل هذه العوامل على نحو أكبر، فربما وقف التحيز في صف الثنائيي اللغة في هذا الوقت (تذكر أن نتائج الدراسات اللاحقة كانت لصالح الثنائيي اللغة). يذكر جيه ماكناب مشكلتين في دراسة بيل ولامبرت؛ الأولى أن الطلاب الثنائيي اللغة لديهم ربما كانوا ينتمون إلى أسر أكثر انفتاحا على الثقافات المختلفة، وأكثر استعدادا لخوض تجارب جديدة؛ بالإضافة إلى احتمال كونهم طلابا «أكثر ذكاء» من البداية. أما المشكلة الثانية فتتعلق بطريقة اختيار الطلاب المشاركين في مجموعة الثنائيي اللغة؛ فقد كان هناك معيار صارم للغاية لدى بيل ولامبرت، فلا بد أن يكون المشاركون من الثنائيي اللغة المتوازنين؛ بمعنى، الذين لديهم إجادة متساوية للغتين؛ لذلك استبعدوا كثيرا من المشاركين ولم يتركوا إلا «الأفضل». لا عجب إذا أن يكون أداء المجموعة جيدا.
7
أشار سوين وكومينز في دراستهما في عام 1979 إلى أن النتائج الإيجابية كانت ترتبط عادة بأطفال ينتمون إلى المجموعة التي تتحدث لغة الأغلبية، التي شارك أعضاؤها في برامج الانغماس اللغوي، بينما ظهرت النتائج السلبية مع طلاب يتحدثون لغة الأقلية ولم تكن ثنائيتهم اللغوية تقدر، وكانوا لا يعيشون في بيئة اجتماعية تحث على التعلم.
8
عندما انتهيت من فحصي للكتابات الموجودة عن آثار الثنائية اللغوية التي ظهرت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، من أجل كتابي «الحياة مع لغتين»، أشرت إلى أن الثنائية اللغوية في حد ذاتها لا يوجد لها مثل هذا التأثير الكبير - سواء أكان الإيجابي أم السلبي - على النمو المعرفي والعقلي للأطفال. وقد استشهدت باختصاصي علم اللغة التطبيقي باري ماكلوكلين، الذي كتب يقول إن نتائج الأبحاث عن آثار الثنائية اللغوية إما ثبت خطؤها من قبل أبحاث أخرى، وإما يمكن التشكيك فيها بناء على المنهجية المتبعة. وكانت النتيجة الوحيدة التي اعترف بها هي أن إتقان اللغة الثانية يشكل فرقا إذا خضع الطفل إلى الاختبار في هذه اللغة؛ فإذا كانت لدى الطفل معرفة جيدة بهذه اللغة، فإن النتائج ستكون جيدة، وإن لم يكن كذلك، فإن النتائج لن تكون جيدة؛ وقال ماكلوكلين: «وهذا ليس اكتشافا مفاجئا.»
9 (2) ما الوضع اليوم؟
في أثناء إعدادي لهذا الكتاب، كنت مهتما بمعرفة إلى أين أخذتنا الكتابات الخاصة بآثار الثنائية اللغوية؛ فاتصلت بأشهر اختصاصية في هذا المجال، الاختصاصية الكندية في علم اللغة النفسي التطوري إلين بياليستوك، وتفضلت بلطف وأطلعتني على آخر المستجدات، وأرسلت لي أحدث الأبحاث لقراءتها.
10
ففي الوقت الحالي لم تعد النتائج قاطعة مثلما كانت في الأبحاث السابقة؛ فلم تكن إيجابية بالكامل ولا سلبية بالكامل، وأصبحت الفروق بين الثنائيي اللغة والأحاديي اللغة، إن وجدت، ترتبط عادة بمهام معينة وأحيانا تكون غير واضحة على الإطلاق.
أثبتت بياليستوك مرارا وتكرارا أن الثنائية اللغوية تعزز القدرة على حل المشكلات، عندما تعتمد الحلول بشدة على التحكم في الانتباه (فهي تتحدث عن «الانتباه الانتقائي» و«ضبط الاستجابة») لأن هذه المهمة تحتوي على معلومات مضللة؛ على سبيل المثال: في دراسة أجرتها مع ليلي سينمان، عرضتا مجموعة من الأشياء المختلفة على أطفال أحاديي اللغة وثنائيي اللغة تتراوح أعمارهم بين سن الرابعة والخامسة. كان من بين هذه الأشياء قطعة من الإسفنج تبدو مثل الصخرة (أطلقتا عليها اسم الصخرة الإسفنجية)، وضعتا هذا الشيء على طاولة وقالتا للأطفال: «انظروا ماذا لدينا! هل تستطيعون أن تقولوا لنا ما هذا؟» أجاب معظم الأطفال الإجابة الصحيحة وقالوا إنها صخرة، ثم أظهرت الباحثتان السمة الخفية في هذا الشيء؛ حقيقة كونه قطعة من الإسفنج، وطرحتا المزيد من الأسئلة؛ فطرحتا بعض الأسئلة عن الشكل (على سبيل المثال: «ما الذي ظننتم عندما رأيتم هذا الشيء لأول مرة؟») وسؤالا عن حقيقته «ما طبيعة هذا الشيء؟» كان هذا السؤال الأخير الأصعب على الأطفال (فقد كانت الإجابة بالطبع: «قطعة إسفنج»)، بسبب ضرورة تجاهل أو تثبيط السمات الحسية لهذا الشيء (فقد كان شكله يشبه الصخرة). اكتشفت بياليستوك وسينمان أن الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة كانت إجاباتهم متشابهة على الأسئلة المتعلقة بالشكل، لكن الأطفال الثنائيي اللغة حققوا نتائج أكيدة أفضل من الأطفال الأحاديي اللغة في الأسئلة المتعلقة بطبيعة الأشياء. فسرت الباحثتان هذا الاختلاف باقتراح أن الأطفال الثنائيي اللغة أكثر تطورا من الأطفال الأحاديي اللغة في نمو ضبط الاستجابة لديهم.
11
تحدثت في موضع سابق من هذا الكتاب عن دراسة أخرى أجرتها إلين بياليستوك وزملاؤها أثبتت أن هذه الميزة تستمر طوال حياة الشخص الثنائي اللغة، وحتى توجد لدى الأشخاص الثنائيي اللغة الكبار السن.
12
وبناء على هذا البحث، يبدو أن العمليات التي تتحكم في الانتباه للغة دون الأخرى، أو لكلتا اللغتين، خلال عملية استخدام اللغة لدى الثنائيي اللغة؛ قد تكون الوظائف المعرفية نفسها المسئولة عن التحكم في الانتباه لأية مجموعة من الأنظمة أو المثيرات، كما ظهر في دراسات بياليستوك.
أحد المجالات الأخرى في الثنائية اللغوية لدى الأطفال التي خضعت للدراسة على نطاق واسع، والذي يقع بين الإدراك واللغة، يتعلق بالقدرات الميتا لغوية. يتعامل هذا المجال مع قدرتنا على تحليل الجوانب المختلفة للغة (الأصوات والكلمات وتركيب الجمل ومعاني الكلمات والجمل وما إلى ذلك)، والوصول عند الحاجة إلى هذه الخصائص والحديث عنها. توصل الاختصاصيون بعلم اللغة النفسي إلى عدة مهام ميتا لغوية تتطلب عمليات مختلفة، تميز بياليستوك بين اثنتين من هذه العمليات؛ تحليل البنى التمثيلية والتحكم في الانتباه الانتقائي، واكتشفت وجود اختلافات بين الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة في العملية الثانية؛ الانتباه الانتقائي (كما اتضح من الدراسة المذكورة أعلاه)، لكن ليس في العملية الأولى.
13
وسأتحدث فيما يلي عن هاتين العمليتين، كل على حدة.
تتمثل العملية الأولى، تحليل البنى التمثيلية، في القدرة على تكوين صور ذهنية بمزيد من التفصيل والبنية أكثر من التي توجد كجزء من المعرفة الضمنية المبدئية للمرء. تستخدم هذه العملية عند شرح الأخطاء النحوية الموجودة في إحدى الجمل، أو استبدال وحدة صوتية بأخرى، مثلما يحدث عندما نستبدل بالصوت الأول في كلمة
cat (قطة) الصوت الأول في كلمة
mop (ممسحة)، فتصبح لدينا الكلمة
mat (بساط). في مثل هذه المهام يحقق الأطفال الأحاديو اللغة والثنائيو اللغة نتائج مشابهة.
أما العملية الثانية، وهي التحكم في الانتباه الانتقائي، فتكون مسئولة عن توجيه الانتباه نحو جوانب معينة من مثير أو صورة ذهنية، كما رأينا من قبل. تخبرنا بياليستوك بوجود حاجة إلى مثل هذا التحكم عندما تشتمل المشكلة على وجود صراع أو غموض؛ فيتطلب الوصول إلى الحل الصحيح انتباه الأطفال (والكبار) إلى أحد التمثيلين المحتملين، مع تثبيط أو مقاومة الانتباه إلى التمثيل الآخر. إليك بعض الأمثلة على المهام التي تطلب من الأطفال وتتطلب التحكم في الانتباه الانتقائي: عد الكلمات الموجودة في جملة صحيحة، واستخدام اسم جديد (أو مبتكر) لشيء ما في إحدى الجمل (مثل استبدال كلمة
wood
بكلمة
plane
في جملة
the plane is flying past (الطائرة تطير بجانبنا))، والحكم على جملة مثل
apples grows on noses (التفاح ينمو على الأنوف) بأنها صحيحة نحويا على الرغم من احتوائها على انحراف في المعنى. تقول إلين بياليستوك إن الأطفال الثنائيي اللغة يكون أداؤهم أفضل من نظرائهم الأحاديي اللغة في هذه الأنواع من المهام.
14
بالإضافة إلى هذه المهام المعرفية والميتا لغوية، استخدمت كذلك بعض الاختبارات اللغوية، خاصة اختبارات المفردات، في دراسات لمقارنة الأطفال الثنائيي اللغة والأحاديي اللغة. (لاحظ أن ثمة جوانب لغوية أخرى من الثنائية اللغوية، مثل: سيادة لغة، و«الخلط» بين اللغات، والتداخل، واختيار اللغة، والتبديل اللغوي؛ قد تحدثنا عنها بالفعل في الفصل السادس عشر.) وعند تقييم المعرفة بالمفردات لدى الأطفال، يكون هذا عادة عبر اختبارات للمفردات الشائعة يتوجب فيها على الطفل اختيار صورة، من بين عدة صور، تعبر عن كل كلمة يذكرها القائم بالتجربة. استعرضت إلين بياليستوك وزميلتها جاوزي فينج عددا من الدراسات التي استخدمت مثل هذه الاختبارات، ووجدتا أن أداء الأطفال الثنائيي اللغة يكون أقل في هذه المهمة من الأطفال الأحاديي اللغة. يرجع هذا إلى أن المفردات التي توجد لديهم في كل لغة تكون عادة أقل من الموجودة لدى الأحاديي اللغة. بالطبع عندما يقيم الأطفال الثنائيو اللغة في كلتا اللغتين، فإن الوضع يتحسن كثيرا، لكن إذا نظرنا إلى لغة واحدة فقط، فسنجد عادة اختلافا.
15
ومع ذلك، لا يعتبر هذا أمرا مفاجئا؛ فهذا يشير إلى بدء تأثر الأطفال الثنائيي اللغة بمبدأ التكامل، الذي ينص على أن الثنائيي اللغة عادة ما يكتسبون لغاتهم ويستخدمونها لأغراض مختلفة، وفي مجالات حياتية مختلفة، ومع أشخاص مختلفين؛ لأن الجوانب المختلفة من حياتهم تتطلب عادة استخدام لغات مختلفة. للأسف لا تضع اختبارات المفردات هذا المبدأ في اعتبارها، ومن ثم تعاقب نتائج هذه الاختبارات الأطفال الثنائيي اللغة؛ ومع ذلك، أظهرت الباحثتان عدم وجود فرق في المهام اللغوية الأخرى، خاصة تلك التي تستدعي استخدام الذاكرة، بين الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة.
تلخص بياليستوك وفينج الأبحاث الحديثة عن آثار الثنائية اللغوية على النمو المعرفي للأطفال الثنائيي اللغة كما يلي:
إن الصورة التي تتضح لنا من مراجعة هذه الدراسات هي صورة معقدة للتفاعلات التي تحدث بين الثنائية اللغوية واكتساب المهارات، تظهر أحيانا وجود ميزات للأطفال الثنائيي اللغة، وعيوب أحيانا أخرى، وأحيانا لا يكون لها أي تأثير على الإطلاق.
16
وهذا وصف رائع للصورة الآخذة في التعقيد للفروق التي تكون عادة غير واضحة بين الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة، هذا في حال وجود فروق. (3) الأطفال الثنائيو اللغة واضطرابات اللغة
تذكرنا عالمة اللغة واختصاصية التخاطب سوزان دوبكا بوجود احتمال معاناة نحو 10 في المائة من الأطفال من صعوبات في تطور اللغة، وتؤكد على أن هذه النسبة تنطبق على «كل» من الأطفال الأحاديي اللغة والثنائيي اللغة. توجد أسباب كثيرة لحالات التأخر اللغوي واضطرابات اللغة، لكنها تؤكد على أن الثنائية اللغوية ليست أحدها؛ فتقول دوبكا إن هناك عددا من الأمور في لغة الطفل الأقوى قد تشير إلى أن لديه اضطرابا لغويا. من بين هذه الأمور، نجد عدم القدرة على فهم الكلمات المألوفة أو اتباع التعليمات المناسبة مع سن الطفل، ووجود صعوبة في إنتاج الكلمات أو العبارات أو تعلمها، واستخدام اللغة بطريقة غريبة، وحدوث تأخر في مجالات نمو أخرى، ووجود مشكلات سلوكية متعددة، وما إلى ذلك. تصر دوبكا على أن إيقاف استخدام لغة المنزل لا يحسن قدرات الطفل الثنائي اللغة في لغة الأغلبية (لغة المدرسة)؛ على العكس، فقد تكون له آثار أخرى قد تضر بالطفل وبيئته؛ ومن ثم، إذا نشأ الطفل ثنائي اللغة، فلا يجب إدخال أي تغيير على اللغات التي يستخدمها، على الرغم من الفكرة السائدة الخاطئة، التي ما زال بعض المختصين يروجون لها، بأن الاضطراب اللغوي لدى الطفل سيتحسن إذا جعله والداه يستخدم لغة واحدة فقط. تقول دوبكا بوضوح:
لا تسبب الثنائية اللغوية أي نوع من الاضطراب اللغوي، ولا يعمل التحول إلى استخدام لغة واحدة فقط على تحسين الاضطراب اللغوي.
17
إن عدد الأطفال الثنائيي اللغة المصابين باضطرابات لغوية ليس أكبر من عدد نظائرهم الأحاديي اللغة؛ ليس هذا فحسب، وإنما تتشابه أيضا عادة الصعوبات التي يتعرض لها كلا الطرفين. درست اختصاصية علم اللغة النفسي يوهان باراديس وزملاؤها الأخطاء التي ارتكبها أطفال ثنائيو اللغة وأحاديو اللغة يبلغون من العمر سبع سنوات ومصابون باضطراب يسمى «اضطراب اللغة المحدد»، واكتشفوا وجود أنماط الخلل نفسها لدى المجموعتين. يتمتع الأطفال المصابون بهذا الاضطراب بنمو اجتماعي وعاطفي طبيعي، بالإضافة إلى قدرات حسية وحركية طبيعية، لكن قدراتهم اللغوية تكون أقل من المتوقع لها بالنسبة إلى أعمارهم؛ فهم يتمتعون بالذكاء والصحة في كل مجال باستثناء الصعوبات التي يعانون منها مع اللغة. فحصت الدراسة الأخطاء في صيغة الفعل التي ارتكبها هؤلاء الأطفال (على سبيل المثال:
The teddy “want” juice (الدبدوب يريدون عصيرا)، أو
Brendan “bake” a cake last night (يخبز برندان كعكة البارحة))، واكتشفت أن المعرفة بلغتين الموجودة لدى الأطفال الثنائيي اللغة المصابين بهذا الاضطراب، لم تجعل أنماط الأخطاء لديهم تختلف عن الموجودة لدى نظرائهم من الأطفال الأحاديي اللغة. استنتج الباحثون أن تعلم لغتين لا يبدو أنه يتعارض مع المسار العام لاكتساب اللغة، حتى في ظروف وجود اضطراب لغوي .
18
وفي بحث لاحق قامت به باراديس قالت إن البحث المشار إليه آنفا الذي أجرته مجموعتها، لم يعثر على دليل علمي يدفعهم إلى نصح الآباء بالتخلي عن الحديث بإحدى لغتيهم مع الطفل الذي يعاني من اضطراب اللغة المحدد (خاصة إذا كان الطفل يكتسب لغتين في وقت واحد).
19
الفصل التاسع عشر
الثنائية اللغوية والتعليم
عندما يجمع مصطلحا «التعليم» و«الثنائية اللغوية» معا في جملة واحدة، يثار موضوع واسع النطاق ومثير للجدل عادة، إن لم يكن يثير الصراع في دول معينة. ونظرا لأن هذا الكتاب يدور حول الثنائية اللغوية، فسنتناول هذا الموضوع من زاوية معينة، وهي أن التعليم ينبغي، إن أمكن، أن يساعد الأطفال والمراهقين على اكتساب لغة ثانية أو ثالثة مع احتفاظهم بلغتهم (أو لغاتهم) الأولى. بالإضافة إلى ذلك، مرة أخرى إن أمكن، ينبغي أن يشجع التعليم على الاستخدام الفعال لهذه اللغات. لا يختلف هذا الرأي كثيرا عن أحد الأهداف التي اقترحتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في إعلانها العالمي للتنوع الثقافي الصادر في عام 2002، الذي نصه:
تشجيع التنوع اللغوي، مع احترام اللغة الأم، في كل مستويات التعليم، متى أمكن ذلك، وتدعيم تعلم عدة لغات منذ سن مبكرة.
1
كما سنرى يكون الهدف التعليمي لبعض البرامج المخصصة للأطفال الثنائيي اللغة ليس الثنائية اللغوية، بينما تكون الثنائية اللغوية أحد الأهداف الفعلية لبرامج أخرى. من المهم أن نؤكد على أن هذا الفصل لا يتحدث عن التعليم الثنائي اللغة على النحو المعروف في الولايات المتحدة، وإنما عن الأساليب التعليمية التي تؤدي إما إلى الأحادية اللغوية وإما إلى الثنائية اللغوية لدى الأطفال. إن ما يثير اهتمامي بالفعل هو الكيفية التي يمكن للمدارس أن تشجع بها الطفل أو المراهق على اكتساب لغات جديدة واستخدامها، بالإضافة إلى الاحتفاظ باللغة أو اللغات المعروفة لديه بالفعل. (1) عندما لا تكون الثنائية اللغوية هي الهدف
قبل تناول الموضوع الرئيسي المتعلق بالأطفال الذين يلتحقون بالمدرسة ومعهم لغة مختلفة عن لغة المدرسة الأساسية (سأطلق على الأولى لغة الأقلية)، يجب أن أتحدث قليلا عن تعلم اللغة الثانية المعتاد الذي يحدث في معظم المدارس في جميع أنحاء العالم، ما أتحدث عنه هنا هو، على سبيل المثال، كيفية تعلم طلاب المدارس البريطانيين للغة الألمانية، وتعلم الطلاب الفرنسيين للغة الإنجليزية، وتعلم الأمريكيين للغة الإسبانية، وما إلى ذلك. في معظم الحالات يكون التعلم رسميا إلى حد كبير؛ فتكون اللغة مادة تدرس، مثل غيرها من المواد الدراسية، في أوقات معينة خلال الأسبوع الدراسي؛ ونادرا ما تصبح وسيلة للتواصل، كما أنها لا تكون الوسيلة المستخدمة في تعلم مواد أخرى. وعادة يبذل معلمو اللغة الثانية (أو اللغة الأجنبية)، الذين كنت واحدا منهم في بداية حياتي المهنية، جهودا جديرة بالثناء من أجل تحويل عملية تعلم اللغة إلى نشاط ممتع ومشوق، فبالإضافة إلى المواد التقليدية، يستخدمون أساليب تعتمد على استعمال شبكة الإنترنت، وأساليب سمعية بصرية أخرى، واستراتيجيات تواصل متنوعة، من أجل تدريس اللغة المعنية، إلا أن الأمر لا يكون بهذه البساطة في ظل وجود مجموعة من عشرين إلى ثلاثين طالبا في الفصل الواحد، والتقائهم بالمعلم لبضع ساعات كل أسبوع. وفي نهاية تعليمهم المدرسي، يحتفظ عادة الطلاب بقدر من المعرفة باللغة الثانية التي تعلموها، لكن الاستخدام الفعلي لها يكون على نطاق ضيق، إلا إذا وجدوا أنفسهم في سياق من التواصل يحتاجون فيه إلى هذه اللغة. خلاصة القول، يكتسب كثير من هؤلاء الطلاب أساسا يمكنهم الاعتماد عليه عند استخدامهم الفعلي للغة؛ ومن ثم الثنائية اللغوية، إذا كان الموقف مناسبا وظهرت حاجة إلى ذلك، لكنهم لا يصبحون بعد ثنائيي اللغة.
قد يظن المرء، بسذاجة، أن الأطفال والمراهقين الذين يلتحقون بالمدرسة ولديهم معرفة بلغة أخرى (عادة لغة أقلية)، تكون لديهم أسبقية في التحول لثنائيي اللغة؛ ففي النهاية، ألن يصبح الطفل من نيكاراجوا، الذي يلتحق بمدرسة تطبق نظام التعليم الأمريكي مع معرفته القليل جدا عن الإنجليزية، بمرور الوقت ثنائي اللغة في الإسبانية والإنجليزية؟ كذلك، ألن يصبح الطفل الذي من شمال أفريقيا ويعيش في فرنسا ثنائي اللغة في العربية والفرنسية، أو الطفل التركي الذي يعيش في ألمانيا ثنائي اللغة في التركية (أو الكردية) والألمانية؟ في كثير من الدول الأفريقية والآسيوية ، تظهر الثنائية اللغوية فعليا لدى الأطفال المنتمين إلى خلفيات لغوية أخرى عند بدء التحاقهم بالمدرسة، لكن في مناطق أخرى في العالم حيث تكون الهجرة هي مصدر مجموعات الأقلية، نادرا ما نجد دولة تطبق عن عمد سياسة تعليمية تسمح للأطفال المنتمين لهذه المجموعات باكتساب لغتهم الأصلية المستخدمة في البلاد التي هاجروا منها، ولغة الأغلبية، والاحتفاظ بهما؛ ومن ثم تكون سياسة تدعم الثنائية اللغوية. توجد أسباب كثيرة لهذا (سياسية واقتصادية وثقافية)، ويوجد جدل مستمر حولها.
إن الأسلوب الأساسي الذي تنتهجه المدارس يتمثل في دمج هؤلاء الأطفال مع زملائهم في الفصول، وجعلهم يكتسبون لغة الأغلبية بأقصى قدر ممكن، دون الاهتمام بلغتهم الأولى أو استخدامها. ينتج عن اتباع هذا الأسلوب كثير من المشكلات، التي يطلق عليها البعض اسم «الانغمار اللغوي» أو «الفشل أو النجاح»، فإذا فشل الأطفال في فهم اللغة المستخدمة في المدرسة أو التحدث بها، فإن سرعة تعلمهم للمهارات والمحتوى الدراسي تقل إلى حد كبير ويتأخرون عن زملائهم. بالإضافة إلى ذلك، عادة ما يشعرون بالوحدة وعدم الأمان، خاصة إذا كانوا الوحيدين ضمن الأطفال الذين يعرفون بالفعل لغة الأغلبية. تشتد حدة هذا الصراع عندما لا توجد معرفة لدى المعلمين بلغة الأقلية وثقافتهم، ولا يوجد أحد لمساعدتهم. كتب جيم كومينز؛ الخبير في تعليم أطفال الأقليات، يقول إن من أكثر التجارب المحبطة التي يتعرض لها الأطفال الوافدون حديثا إلى دولة ما، عدم القدرة على التعبير عن ذكائهم ومشاعرهم وأفكارهم، وحتى حس الفكاهة لديهم، لمعلميهم وأقرانهم، فهم لا يستطيعون فعل هذا بلغة المدرسة، ولا يسمح لهم بفعله بلغتهم الأصلية.
2
تزخر السير الذاتية ومذكرات الذين مروا بهذه المحنة بإفادات مثل الإفادة التالية:
على الرغم من معرفة معظم المعلمين البريطانيين بقدر من الفرنسية، فإنهم لم يكونوا يستخدمونها قط لمساعدتي؛ كانوا يقولون إن «الممارسة» هي السبيل الوحيد للتعلم. كنت أنا وأختي الأكبر سنا في المدرسة نفسها، وكانت معرفتها بالإنجليزية أفضل بكثير مني، لكن لم يكن يسمح لها بمساعدتي، وكنا ممنوعين من التواصل أحدنا مع الآخر بالفرنسية.
3
قال الناشط الأمريكي، الذي من أصل مكسيكي، الشهير في مجالي حقوق العمال والحقوق المدنية سيزار شافيز، عن تجربته في هذا الشأن:
في الفصل كانت اللغة إحدى مشكلاتي الكبرى. بالطبع كنا مستائين بشدة لعدم قدرتنا على الحديث بالإسبانية، لكنهم أصروا على ضرورة تعلمنا الإنجليزية، فقالوا إننا إذا أردنا أن نكون أمريكيين، فلا بد لنا من التحدث بالإنجليزية؛ أما إذا أردنا التحدث بالإسبانية، فعلينا العودة إلى المكسيك.
4
توجد أشكال مختلفة لأسلوب فرض لغة الأغلبية هذا؛ يتمثل أحدها في توفير فصول خاصة لتعلم اللغة الثانية (يطلق على هذه الفصول في الولايات المتحدة فصول تعلم «الإنجليزية كلغة ثانية»)؛ حيث يتعلم الأطفال عادة بطريقة رسمية إلى حد كبير اللغة المستخدمة كوسط للتعليم في المدرسة. لا يكون ما يتعلمونه غير مفيد دوما فحسب، على الرغم من الجهود الكبيرة للمعلمين المخلصين، وإنما يعاني الأطفال بالإضافة إلى ذلك من وصمة إخراجهم من الفصول العادية وانتقالهم لتعلم اللغة في هذه الفصول؛ مما يزيد الفجوة بينهم وبين الأطفال الآخرين. إليك ما أخبرني به ذات مرة أحد الأشخاص الثنائيي اللغة في البرتغالية والإنجليزية عن تجربته:
عندما التحقت بالمدرسة لأول مرة عند وصولي إلى الولايات المتحدة، وضعت في أحد الفصول الخاصة لتعلم الإنجليزية كلغة ثانية، فكان هذا الفصل يضم كل الطلاب الذين لا يتحدثون الإنجليزية أو يتحدثونها على نطاق محدود. لقد كان هناك على الأقل عشرون طالبا من لغات وأعمار مختلفة. لم تكن المعلمة تتحدث إلا بالإنجليزية، وكانت تنقل تعليماتها إلى الطلاب الجدد عبر الطلاب الذين يفهمون الإنجليزية بالفعل؛ وانتهى الحال بجلوس كل مجموعة لغوية من الطلاب معا؛ ليتمكنوا من فهم إرشادات المعلمة وشرحها من خلال الطلاب الذين بإمكانهم ترجمتها شفويا. لا أعتقد أني تعلمت الحديث بالإنجليزية في هذا الفصل؛ فقد تعلمت هذا في الشارع من الأطفال الذين كنت ألعب معهم.
5
أكد كثير من الباحثين على مدى صعوبة اتباع الأطفال والمراهقين المناهج الدراسية العادية في أثناء عملية تعلم لغة الدراسة، ويؤكد جيم كومينز على حقيقة أن المتحدثين بلغة الأقلية يكون عليهم اللحاق ب «هدف متحرك» فيما يتعلق بالمحتوى الدراسي، ويشير إلى أن الأطفال المتحدثين بلغة الأغلبية لن يظلوا في مكانهم منتظرين وصول الأطفال الآخرين إلى مستواهم. وبمرور الوقت تصبح المفاهيم أكثر صعوبة، والمفردات متخصصة أكثر، والتراكيب النحوية أكثر تعقيدا. وكما علمنا في الفصل الخامس عشر، يقدر كومينز أن الأطفال المتحدثين بلغة الأقلية يحتاجون على الأقل خمس سنوات من أجل اللحاق بأقرانهم من المتحدثين بلغة الأغلبية في المهارات اللغوية المتعلقة بالقراءة والكتابة.
6
وتتمثل المشكلة في إصابة كثير منهم باليأس، وأن يتخلفوا أو يتركوا الدراسة.
مع معاناة الأطفال والمراهقين المتحدثين بلغة الأقلية مع لغتهم «الجديدة»، التي سيتقنها البعض ولن يتقنها البعض الآخر، يتعرضون أيضا ببطء إلى فقدان لغتهم الأصلية، التي لا تدعم ولا تطور في المدرسة. تعتبر تجربة ريتشارد رودريجيز؛ مؤلف كتاب «نهم الذاكرة»، مثالا على هذا، فقد تخطى الأمر باكتسابه اللغة الإنجليزية، لكنه في أثناء هذه العملية فقد لغته الإسبانية، على الرغم من التحاقه بفصول لتعلم اللغة الإسبانية القياسية في المدرسة الثانوية (لكن الوقت كان قد تأخر كثيرا)؛ إذ يقول:
لقد نشأت ضحية ارتباك أدى إلى إعاقة؛ فمع زيادة طلاقتي في اللغة الإنجليزية، لم أعد أستطيع التحدث بالإسبانية بثقة، على الرغم من استمراري في فهم الحديث بالإسبانية. وفي المدرسة الثانوية، تعلمت القراءة والكتابة بالإسبانية، لكني لم أستطع نطقها لعدة سنوات. لقد كان لدي شعور قوي بالذنب يعيق نطقي للكلمات؛ فقد كنت أفتقد رابطا أساسيا يربط الكلمات معا متى حاولت تكوين الجمل.
7
إذا أمكن استخدام لغة الأقلية في السنوات الأولى من الالتحاق بالمدرسة، فإن هذا لن تكون له فوائد اجتماعية وثقافية ونفسية مهمة فحسب بالنسبة إلى الأطفال، وإنما هذا سيساعدهم أيضا في اكتساب اللغة الثانية عبر انتقال المهارات من لغة للأخرى. ومع ذلك، قد تأتي مرحلة يكون فيها الأوان قد فات؛ تخبرنا عالمة اللغة ليلي وونج فيلمور عن فريدي؛ وهو متعلم «سابق» للغة الإنجليزية في السابعة عشرة من عمره، حصل على حصص خاصة في مادة الرياضيات حتى يتمكن من اجتياز امتحان التخرج من المرحلة الثانوية بولاية كاليفورنيا (فقد فشل بالفعل مرتين في الجزء الخاص بالرياضيات). كان يفتقر إلى مخزون من المفردات والقواعد النحوية في اللغة الإنجليزية يمكنه من فهم المادة التي يقرؤها. تسأل وونج فيلمور ما إذا كان من الأفضل تدريس الحصص الخاصة هذه باللغة الإسبانية، التي هي لغة فريدي الأولى؛ فتقول إنه في حالة فريدي، كان من الممكن أن يفيده هذا إذا كان أصغر سنا، لكن نظرا لتلقيه التعليم في المدرسة بالإنجليزية فقط، فلم يعد فريدي يفهم الإسبانية أو يتحدث بها مثل الإنجليزية. تستنتج وونج فيلمور من هذا أن فريدي كان سيصبح من الأسهل عليه تعلم المحتوى الذي طلب منه تعلمه في المدرسة، إذا كان هذا المحتوى قد درس له باللغة الإسبانية.
8
اعترافا بأهمية التدريس باللغة الأولى، الذي أكدت عليه اليونسكو في هدفها المذكور في بداية هذا الفصل، أنشأت بعض الهيئات التعليمية برامج انتقالية تستخدم فيها لغة الطالب الأولى كجسر لتعلم لغة ثانية؛ لغة الأغلبية. شاع استخدام هذا النوع من البرامج في الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين، وحاليا يوجد في دول مثل هولندا وإنجلترا والسويد، بحسب ما ورد عن خبيرة التعليم ماريا بريسك؛
9
حيث يتلقى الطلاب التعليم بلغتهم الأولى لمدة محددة، بينما يكتسبون مهارات لغوية في لغة الأغلبية، وبمرور الوقت (تستمر هذه البرامج بين سنة إلى أربع سنوات، بناء على الدولة) تزيد أهمية الدور الذي تعلبه لغة الأغلبية، وفي النهاية تهيمن بالكامل. توجد فوائد كثيرة لهذه البرامج؛ إذ يبدأ الأطفال دراستهم في المدرسة بلغة يفهمونها وترتبط بثقافتهم في المنزل، ويستطيعون التواصل بسهولة مع المعلمين والأطفال الآخرين، ويمكنهم إحراز تقدم في المواد الدراسية مع اكتسابهم للغة الأغلبية، ويمكن أن تنتقل مهارات القراءة والكتابة التي لديهم للغتهم الجديدة، وهكذا. تتمثل المشكلة الوحيدة، المتعلقة بالثنائية اللغوية، في أن هذه البرامج بطبيعتها انتقالية، ولا يبذل أي مجهود بعد انتهائها من أجل الحفاظ على لغة الأطفال وثقافتهم الأصليتين. قد يحصل بعض الأطفال على مساعدة كافية من منازلهم ومجتمعهم فيما يتعلق بالاحتفاظ بلغتهم الأولى، لكن كثيرا من الأطفال الآخرين يندمجون في التيار الثقافي السائد ويفقدون جذورهم اللغوية والثقافية، فيتحولون من كونهم أحاديي اللغة في لغة الأقلية إلى كونهم أحاديي اللغة في الأساس في لغة الأغلبية، ولا تقتصر ممارسة الثنائية اللغوية لدى كثير منهم إلا على فترة انتقالية قصيرة فقط بين هذين الوضعين. (2) عندما تكون الثنائية اللغوية هدفا للتعليم
قبل ذكر أمثلة على كيف يمكن للمدارس المساعدة في تحول الأطفال إلى ثنائيي اللغة والحفاظ على ذلك، سنذكر بعض الأحداث التاريخية الحديثة.
10
في ستينيات القرن العشرين ظهر ابتكار تعليمي مهم جدا في مدينة سان لامبرت الصغيرة في كيبك في كندا؛ كان لهذا الابتكار تبعات مهمة في جميع أنحاء العالم، وقد أخذت أهميته تزداد عاما بعد عام، فقد كان بعض الآباء الكنديين المتحدثين بالإنجليزية، الذين يعيشون في هذه المدينة التي يغلب عليها الحديث بالفرنسية، معترضين على الأسلوب التقليدي الخاص بتدريس الفرنسية في المدارس، وبمساعدة معلمين وعلماء نفس من جامعة ماكجيل (من أمثال والاس لامبرت وريتشارد تاكر وآخرين)، وضعوا «برنامج انغماس» يتعلم فيه الأطفال المتحدثون بالإنجليزية اللغة الفرنسية على يد معلمين يتحدثون الفرنسية، بداية من مرحلة الحضانة. كان يسمح للأطفال بالحديث بالإنجليزية بعضهم مع بعض في مرحلة الحضانة، لكنهم كانوا يمنعون من فعل هذا في عامهم الأول في المرحلة الابتدائية، ومنذ العام الأول في المرحلة الابتدائية، امتنع المعلمون عن التحدث بالإنجليزية مع الطلاب أو بعضهم مع بعض، حتى يخلقوا، قدر المستطاع، بيئة تتحدث بالفرنسية فقط بالكامل. بدأ الأطفال في تعلم القراءة والكتابة بالفرنسية منذ عامهم الأول في المرحلة الابتدائية، وفي السنة الثانية بدءوا في الحصول على حصص في اللغة الإنجليزية لمدة ساعة تقريبا في اليوم، لكن باقي البرنامج كان بالفرنسية. في السنوات الدراسية التالية، زاد مقدار ما يتعلمونه باللغة الإنجليزية، بحيث إنه عند وصولهم للصف السادس أصبح أكثر من نصف تعليمهم باللغة الإنجليزية؛ بهذه الطريقة، تعلم الأطفال أولا بلغة ثانية، ثم بالتدريج دخلت لغتهم الأولى كلغة ثانية للدراسة.
للوهلة الأولى، قد يظن المرء أن هذا مجرد شكل آخر لبرامج الانغمار اللغوي التي تحدثنا عنها في القسم الأول من هذا الفصل، لكن في الواقع توجد اختلافات كثيرة؛ فقد كان كل الأطفال في الفصل ينتمون إلى الخلفية اللغوية نفسها، وكانت لغة منزلهم تحترم، وقد أدخلت كلغة للتعليم في وقت قريب نسبيا، وكان آباؤهم يدعمون هذا البرنامج، ويتوقع المعلمون من الأطفال تحقيق إنجازات كبيرة. وفي الواقع، ثبت نجاح هذا الأسلوب كثيرا؛ فعند وصول الأطفال إلى الصف السادس لم يكونوا متأخرين على الإطلاق عن مجموعات الضبط في مهارات اللغة الإنجليزية، وفي المواد الدراسية الأخرى (فقد نقلوا مهارات القراءة المكتسبة حديثا من الفرنسية إلى الإنجليزية)، وكان مستوى ذكائهم مساويا لمستوى المنتمين إلى مجموعات الضبط، وكانت معرفتهم بالفرنسية أفضل بكثير من غيرهم من الكنديين المتحدثين بالإنجليزية في مثل أعمارهم. الأهم من ذلك أنهم تعلموا اللغة من خلال استخدامها في سياق بدلا من اكتسابها عبر نظام التعليم الرسمي. وحاليا تغطي الفرنسية عددا قليلا من المجالات في حياتهم، حتى إن ظلت الإنجليزية هي اللغة السائدة لديهم. ظل الأمر الوحيد المتبقي هو استخدام الفرنسية خارج المدرسة، لكن هذا ترك إلى الأسر لتعمل عليه. أدى نجاح مشروع سان لامبرت إلى تطوير مشاريع مشابهة في كندا والولايات المتحدة وكثير من الدول الأخرى، على أساس الصيغة الأصلية أو أحد أشكالها. أما برامج الانغماس المتأخر أو تبديل اللغة، على سبيل المثال، فتبدأ في تدريس اللغة الثانية في مراحل دراسية متأخرة، بينما تستخدم برامج الانغماس الجزئي اللغة الثانية لنصف اليوم فقط، أو في مواد دراسية معينة، إلى آخره.
لم يستخدم أسلوب الانغماس مع الأطفال المنتمين فقط إلى مجموعات اللغة السائدة، مثل الأطفال المتحدثين بالإنجليزية في الجزء الإنجليزي من كندا، وإنما أيضا مع أطفال الأقليات. سأذكر مثالا على هذا يتحدث عن برنامج إحياء لغة النافاجو في فورت ديفيانس في ولاية أريزونا. بناء على العمل الذي قام به عالم اللغة مايكل كراوس، تذكرنا اختصاصية التعليم تيريزا ماكارتي أن اللغات الأصلية في أمريكا معرضة لخطر الضياع؛ فمن بين 175 لغة توجد حاليا في الولايات المتحدة، لا يكتسب الأطفال إلا 20 لغة فقط منها فطريا.
11
إن النافاجو هي أكثر اللغات الهندية المستخدمة، لكنها لم تعد اللغة الأساسية لعدد متزايد من الأطفال المنتمين لقبيلة النافاجو؛ ومن ثم بدأ برنامج انغماس في لغة النافاجو في عام 1986 حتى يستطيع الأطفال اكتساب اللغة مع إحرازهم تقدما في الإنجليزية والمواد الدراسية الأخرى. بدأ الأطفال في مدارس فورت ديفيانس الابتدائية باستخدام لغة النافاجو في البداية، وتعلم مهارات القراءة والكتابة بهذه اللغة قبل انتقالهم إلى الإنجليزية. وفي السنوات الدراسية الأولى كان كل التواصل يحدث باستخدام لغة النافاجو، لكن المعلمين كانوا ثنائيي اللغة ويستطيعون مساعدة الأطفال عند مواجهتهم أية مشكلات. ومع انتقال الأطفال إلى السنوات الدراسية الأعلى، زاد تعرضهم للغة الإنجليزية (على سبيل المثال: كان اليوم الدراسي مقسما بين اللغتين في الصفين الثاني والثالث). المثير للدهشة بشأن هذا البرنامج أن مسئولي الرعاية المنتمين لهذه القبيلة كانوا يقضون فترة المساء في الحديث مع الأطفال بلغة النافاجو، بعد المدرسة، ويمارسون أنشطة مع الطلاب، مثل صنع الكتب. وقد جاء تقييم أجري على طلاب الصف الرابع في صالحهم، من حيث مهارات تعلم اللغتين النافاجو والإنجليزية، بالإضافة إلى أدائهم في المواد الأخرى مثل الرياضيات؛ وإضافة إلى ذلك، استعاد الطلاب فخرهم بانتمائهم لقبيلة النافاجو.
12
واين هولم هو رجل تربوي يحظى باحترام كبير، وقد عمل بالتدريس في مدارس النافاجو لما يقرب من خمسين عاما. يؤكد هولم على حقيقة أن أطفال هذه القبيلة الصغار، الذين خضعوا لهذا البرنامج، أصبح لديهم الآن اختيار الاستمرار في التحدث بلغة النافاجو واستخدامها لما بقي من حياتهم، ويقول في هذا الشأن:
إن تعلم المرء لغة قومه لا يجبره على الحياة بأسلوب واحد فقط؛ فهو يعمل على فتح الخيارات أمامه، حيث يستطيع الشاب الصغير الاختيار «ما» بين استخدام هذه اللغة أو لا، ومع «من» يستخدمها، و«ما» الأشياء التي يتحدث عنها بها. يحرم الأطفال الذين يمنعهم آباؤهم أو مدارسهم من استخدام لغتهم من الاختيار، وفي الوقت الذي قد يختار فيه المراهق أو الشاب الصغير التحدث بهذه اللغة، يكون الوقت في الأغلب قد تأخر بالفعل.
13
يوجد نوع من البرامج التعليمية يشجع الثنائية اللغوية وتعلم القراءة والكتابة بلغتين، بالإضافة إلى فهم حقيقي للشعوب والثقافات المعنية؛ إنه نوع البرامج الثنائية اللغة (التي يطلق عليها أيضا البرامج الثنائية الاتجاه)، التي تستخدم فيها لغتان طوال سنوات المدرسة، وينتمي الطلاب إلى كلتا الخلفيتين اللغويتين. يوجد أحد الأمثلة على مثل هذه البرامج في الولايات المتحدة في مدرسة أميجوس، الموجودة في مدينة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس. تقدم مدرسة أميجوس، بوصفها جزءا من المدارس الحكومية في كامبريدج، تعليما ثنائي اللغة يعلم القراءة والكتابة بلغتين منذ الحضانة وحتى الصف الثامن؛ للطلاب المنتمين لعائلات تكون فيها الإسبانية هي اللغة السائدة، بالإضافة إلى الطلاب الذين تكون الإنجليزية لغتهم الأساسية. توجد في كل مجموعة من الطلاب أو فصل مجموعة متوازنة من الذين يتحدثون الإنجليزية كلغتهم الأصلية والذين يتحدثون الإسبانية كلغتهم الأصلية. تتنقل المجموعات بين الفصول التي يدرس فيها بالإنجليزية وتلك التي يدرس فيها بالإسبانية؛ على سبيل المثال: يقضي الطلاب في الحضانة نحو يومين ونصف يوم في الفصل الذي يدرس فيه بإحدى اللغتين، ثم يتحولون إلى الفصل الذي يدرس فيه باللغة الأخرى طوال باقي الأسبوع. تتنقل الصفوف من الأول إلى الثالث أسبوعيا بين الفصول الخاصة باللغتين. في السنوات الدراسية التالية، يتعرض الطلاب يوميا لكلتا اللغتين عندما يتحولون من مادة تدرس بالإسبانية إلى أخرى تدرس بالإنجليزية. تنفذ عادة المشاريع الطويلة الأمد بلغة واحدة فقط، فيستخدم الأطفال اللغة المناسبة للفصل أو المادة، وفي مجال التعاملات العامة، كما هو الحال في الأروقة وفي الاجتماعات التي تعقد في المدرسة وغيرها، تستخدم كلتا اللغتين. يتمثل أحد الجوانب المتميزة لمثل هذه البرامج في عمل الطلاب الذين تهيمن على حياتهم إحدى اللغتين مع الطلاب الذين تهيمن على حياتهم اللغة الأخرى، ومساعدة بعضهم بعضا. هذا نوع رائع من التعليم؛ حيث إنه يحترم كلتا اللغتين والثقافتين ويقدرهما.
14
يجب أن أتوقف هنا لأذكر بعض النقاط عن تعلم القراءة والكتابة بلغتين؛ حيث يتساءل كثير من الآباء والتربويين عما إذا كان تعلم القراءة والكتابة بإحدى اللغتين يساعد تعلم القراءة والكتابة باللغة الأخرى أم يعيقه. في عام 2006، أصدرت الهيئة القومية لمحو الأمية لدى الأطفال والشباب المنتمين لأقليات لغوية - وهي هيئة مكونة من 16 باحثا أنشأتها وزارة التعليم في الولايات المتحدة - تقريرها بعد أربع سنوات من العمل. يضم المجلد الضخم الخاص بالتقرير جزءا عن تعلم القراءة والكتابة باللغتين الأولى والثانية، وقد ثبت وجود تأثير فعلي للمعرفة بالقراءة والكتابة والعمليات المستخدمة والأساليب المتبعة الخاصة بإحدى اللغتين (عادة اللغة الأقوى) على ما يقابلها في اللغة الأخرى؛ على سبيل المثال: تنتقل مهارات قراءة الكلمات التي تكتسب في إحدى اللغتين إلى اللغة الأخرى؛ ففي المراحل المبكرة من تطور تهجئة الكلمات في اللغة الثانية، تؤثر القواعد الصوتية والقواعد الخاصة بالكتابة للغة الأولى في تهجئة الكلمات في اللغة الثانية (هذا بالطبع عند تشابه أسلوب كتابة كلتا اللغتين)، وتنتقل أيضا القدرة على الفهم القرائي من لغة لأخرى.
15
باختصار، تساعد مهارات القراءة والكتابة، التي توجد لدى الطالب في إحدى اللغتين، في اكتسابه لمثل هذه المهارات في اللغة الأخرى، وبالطبع سيعتمد مدى هذا على العلاقة بين اللغتين ونظامي كتابتهما؛ فعلى سبيل المثال: يكون هذا المدى أكبر بين الإسبانية والإنجليزية مقارنة بما بين الصينية والإنجليزية، لكن من الواضح أن تعلم القراءة والكتابة في لغتين أمر ممكن، ولن يعيق الطفل الثنائي اللغة.
16
يوجد مثال آخر على البرامج الثنائية اللغة الناجحة في سويسرا، في مدينة بيين الثنائية اللغة (هذا هو اسمها الفرنسي)، وتسمى أيضا بيال (وهذا هو اسمها الألماني). تقدم المدارس الثانوية فيها برنامجا ثنائي اللغة مدته ثلاث سنوات من أجل اجتياز المرحلة الثانوية؛ يضم البرنامج كلا من الطلاب المتحدثين بالفرنسية والمتحدثين بالألمانية السويسرية، بحيث تكون نسبة كل منهم في كل فصل نحو 50 في المائة. يستخدم المعلمون لغتهم الأم في التدريس (الفرنسية أو الألمانية)، وتدرس المواد باللغة نفسها على مدار السنوات الثلاث، فيكون نحو نصف المواد بالألمانية والباقي بالفرنسية، وهكذا يستخدم الطلاب لغتهم الأولى نصف الوقت، واللغة الأخرى في النصف الآخر. يعاد ترتيب مجموعات الطلاب على أساس اللغة في مواد اللغة فقط (على سبيل المثال: يدرس الطلاب المتحدثون بالألمانية الأدب الألماني باللغة الألمانية). كذلك يساعد المعلمون المتحدثين غير الأصليين للغة في المواد التي يدرسونها عن طريق الترجمة لهم من وقت لآخر، ومن خلال التأكد من فهمهم للمادة العلمية؛ وعند تصحيح الاختبارات، لا توجد صرامة شديدة في التعامل مع ارتكاب الطلاب لأخطاء في لغتهم الأضعف. يدرب كذلك الطلاب الذين يدرسون إحدى المواد بلغتهم الأصلية على كيفية مساعدة زملائهم من غير المتحدثين الأصليين للغة، فيمكنهم الإجابة عن أسئلتهم، والترجمة لهم من وقت لآخر، وما إلى ذلك. لقد وضع هذا البرنامج بحيث يجد جميع الطلاب أنفسهم يمارسون دور الذين يقدمون المساعدة نصف الوقت، ودور الذين يحصلون عليها في النصف الآخر، فيشجعون على التفاعل بعضهم مع بعض عبر المجموعات اللغوية في فترات الاستراحة، ووقت الغداء، وفي الأنشطة البعيدة عن الدراسة؛ مثل: ممارسة الرياضة، والمعسكرات، والحفلات الموسيقية، والرحلات الدراسية. يسمح هذا لمتحدثي الألمانية السويسرية بتحسين لغتهم الفرنسية، وللطلاب المتحدثين بالفرنسية السويسرية بتحسين لغتهم الألمانية، ولا سيما الألمانية السويسرية (وهي اللغة الألمانية المستخدمة في الحياة اليومية في الجزء الألماني من سويسرا).
للأسف، إن برنامجي أميجوس وبيال/بيان هما الاستثناء؛ فوفقا لما جاء عن مركز علم اللغة التطبيقي بواشنطن، كان هناك نحو 332 برنامجا ثنائي اللغة من هذا النوع في المدارس الابتدائية في الولايات المتحدة في عام 2008، وهذا لا يمثل إلا نحو 1 في المائة من كل البرامج المطبقة؛ ولكنها، تماما مثل برامج الانغماس المبكر، كانت تضع نموذجا لما يمكن فعله من أجل مساعدة الطلاب في اكتساب لغتين، واكتشاف ثقافة المجموعة اللغوية الأخرى، والتفاعل مع المتحدثين لهذه اللغة والمنتمين لهذه الثقافة، والفهم - على نحو أفضل - لمعنى مساعدة شخص آخر لا يفهم ما يقال، وتلقي مثل هذه المساعدة عند التعرض لموقف مشابه. يكون هذا النوع من البرامج بالنسبة إلى كل الذين عانوا من أسلوب الانغمار في التعليم (وقد كنت واحدا من هؤلاء الأطفال) واعدا للغاية؛ فهذه البرامج تحقق تصالحا بين التعليم والثنائية اللغوية، وتفيد كل المعنيين ، سواء أكانوا منتمين إلى الثقافة السائدة أم إلى ثقافة أقلية ما .
17
خاتمة
لقد مضى نحو عشرة أشهر على كتابتي مقدمة هذا الكتاب، وما زلت مندهشا من الأشخاص الثنائيي اللغة والثقافة. قابلت زوجة الخباز بالأمس عندما ذهبت إلى متجرها وتحدثنا بالفرنسية كالمعتاد؛ أردت إخبارها بأنني انتهيت للتو من تأليف كتاب وذكرت ثنائيتها اللغوية فيه، لكني قررت الانتظار حتى نشر الكتاب. مع ذلك، أخبرت ميكانيكي السيارات منذ بضعة أيام عن ذكره في الكتاب، ولم يسعه إلا أن ابتسم لي وذهب ليفحص سيارتي ليعرف ما بها من عطل. ورأيت هذا الصباح طفلا صغيرا من مركز الرعاية النهارية الموجود في الجهة المقابلة من الشارع، وفكرت في الأغاني التي ينشدونها بالفرنسية والإيطالية التي استمتعت بها كثيرا.
كل هذا جعلني أدرك، مرة أخرى، كم يكون من الطبيعي الحياة فعليا بلغتين أو أكثر، ومدى ضعف فهمنا حتى الآن للثنائية اللغوية والثقافية؛ فعلى الرغم من عرضي في هذا الكتاب لنحو 15 خرافة عن هذه الظاهرة، أنا أول من يعترف بوجود وقت طويل أمام بعض منها حتى يختفي. على الرغم من ذلك، تجدر بنا إعادة الإشارة إلى أن عدد الأشخاص الثنائيي اللغة الموجودين على وجه الأرض في عصرنا الحالي يفوق عدد الأشخاص الأحاديي اللغة، وأن هذا العدد سيزيد بالتأكيد في ظل عصر التواصل العالمي والسفر؛ ومن ثم ستكون الثنائية اللغوية والثنائية الثقافية ظاهرتين طبيعيتين، على الرغم من النظر إليهما في الدول الكبرى الأحادية اللغة على نحو أساسي على أنهما الاستثناء.
إن أكثر الخرافات التي أريد أن أشهد اختفاءها هي أكثر الخرافات التي تمس الأشخاص الثنائيي اللغة مباشرة، خاصة الخرافة التي تقول إن الأشخاص الثنائيي اللغة تكون لديهم معرفة متساوية وممتازة بلغاتهم (والتي يضيف إليها الكثيرون أنهم يتحدثون هذه اللغات دون لكنة)؛ والخرافة التي تشير إلى أن لدى الأشخاص الثنائيي اللغة شخصية مزدوجة أو منفصمة؛ والخرافة التي تشير إلى وجود آثار سلبية للثنائية اللغوية على نمو الأطفال. بالنسبة إلى الخرافة الأولى، أتذكر بوضوح ما قاله لي أحد الأساتذة المشهورين في جامعة السوربون منذ نحو عامين بعد عودتي إلى فرنسا، بعد قضائي عشر سنوات في مدارس إنجليزية: «أتعلم يا جروجون أنني تساءلت حقا عما إذا كنت ستتمكن بالفعل من إتقان اللغتين؟» بالطبع من الواضح أن لديه وجهة نظر تقليدية للغاية عن الثنائية اللغوية، وأنه لا يدرك أن لغات الشخص الثنائي اللغة تعيد تنظيم نفسها، وتصل عادة في النهاية إلى المستوى اللغوي المطلوب المناسب لحياة الفرد الجديدة.
أما فيما يتعلق بخرافة الشخصية المزدوجة أو المنفصمة، فأتذكر السيرة الذاتية لأوليفيه تود، التي يشير فيها إلى أن الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر قد أخبره، وهو شاب صغير، بأن مشكلته الحقيقية تكمن في كونه ممزقا بين الانتماء لثقافة إنجلترا والانتماء لثقافة فرنسا؛ إذ لم تكن فكرة إمكانية أن يصبح المرء ثنائي الثقافة - بحيث تكون له جذور في كلتا الثقافتين، ويدافع عنهما على الرغم من احتمال سيادة إحداهما على الأخرى - مقبولة في ذلك الوقت. وعندما أنظر حولي في عصرنا الحالي وأجد كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة والثقافة، بعضهم في مناصب عامة بارزة إلى حد كبير، ما زالوا مترددين في الاعتراف علنا بلغتهم وثقافتهم الأخريين؛ أدرك أننا لم نتخلص بعد من هذه الخرافة، على الأقل في بعض أجزاء من العالم.
أخيرا، تذكرني خرافة أن هناك آثارا سلبية للثنائية اللغوية على نمو الأطفال بأينار هوجن؛ الاختصاصي الأشهر في مجال الثنائية اللغوية، الذي لم يعر والداه بالا «للأخطار الظاهرية» للثنائية اللغوية، وجعلاه ثنائي اللغة على أية حال. وقد أحسنا صنعا؛ فقد أصبح العالم أفضل بكثير بفضل أبحاثه العلمية في هذا المجال.
مع ذلك، على الرغم من هذه الخرافات، فإنني متفائل؛ إذ تحظى أعداد متزايدة من الأطفال والمراهقين الذين في سبيلهم إلى أن يصبحوا ثنائيي اللغة والثقافة، أو الذين قد يتعلم بعضهم القراءة والكتابة بلغتين، بالاهتمام الذي يحتاجون إليه لكونهم بالتحديد ثنائيي اللغة والثقافة. كما قلت من قبل، لا بد من أن يمروا بأوقات صعبة في بعض الأحيان، ويخيم على البعض شعور باليأس؛ ومن ثم من المهم أن يحصل الجميع على التشجيع والمساعدة. ومع تقدم الأطفال والمراهقين الثنائيي اللغة في العمر، لا بد من السماح لهم بالحديث عن معنى الثنائية اللغوية والثقافية بالنسبة إليهم، والتعبير عن بعض الصعوبات التي قد يتعرضون لها، كذلك لا بد من وجود بالغين مهتمين وعلى قدر من المعرفة من حولهم (الكثير يفعلون ذلك حاليا)، حتى يسهلوا انتقالهم من مرحلة إلى المرحلة التالية لها. أحلم باللحظة التي يشعر فيها هؤلاء الصغار - الذين سيصبحون كبارا فيما بعد - بالفخر من لغاتهم وثقافاتهم، ويتقبل الآخرون طبيعة كونهم ثنائيي اللغة والثقافة، ببساطة شديدة. •••
يمكن للقراء المهتمين بموضوع الثنائية اللغوية أن يتواصلوا مع المؤلف من خلال موقعه على الويب على العنوان التالي:
www.francoisgrosjean.ch .
الملاحظات
الجزء الأول: البالغون الثنائيو اللغة
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
حياته
الفصل
الفصل
اللغة
الفصل
ومشاعرهم
الفصل
الفصل
الجزء الثاني: الأطفال الثنائيو اللغة
الفصل
الفصل
الفصل
الأطفال
الفصل
الفصل
الفصل
صفحة غير معروفة