تظل الأم رانية إلى الحارة. الدكاكين مقفلة، والطريق خال إلا من متأخر يروده منهوكا عجلا يريد أن يسارع بالعودة إلى داره فيعوقه تعب النهار، فالهمة بادية في عينه وإن قصرت قدماه عن همته، وتطول الجلسة بمريم، ويبدأ التجار والصناع في العودة إلى محالهم. وتكثر الأرجل الضاربة في الحارة، ويتجمع أصحاب المحال في أماكنهم التي تعودوا التجمع فيها، وترتفع أصوات بالتحايا وأخرى بالنكات وأخرى بالضحك وأخرى بالزجر يلقيه كل رئيس عمل إلى عماله مظهرا سيطرته عليهم. وترتفع أعين إلى الشبابيك، وتتابع أعين أجسام المارات، وتعلو بين الحين والحين تكبيرة لله أريد بها وجه الشيطان، أو مصمصة شفاه أريد بها إعلان غزل. ولا تعدم الحارة صوت حاج فيها يزع الغاوين وينصحهم بالاحتشام، فيلقونه بالصمت حينا أو بالقول الرضي الخجلان حينا آخر.
ويخيل لمريم أن باب بيتها قد فتح وأقفل، ولكنها لا تعنى بالالتفات إلى الباب، فقد كانت بتفكيرها المضطرب في شغل شاغل. وما يلبث ابنها حامد أن يبدو في الطريق في مشيته البطيئة المليئة بالعظمة، تلك العظمة التي لا تتفق وجسمه القميء الضئيل أو وجهه الدقيق القسمات، يرين عليه الجد والعمل من طول ما تعود الجد والعمل، فعينان غائرتان عميقتان، ووجنتان لاصقتان بأسنانه، وفم مطبق لا ينفرج، وطربوش لاصق برأسه في ميل لا يختلف في يوم عن يوم حتى ليحسب من يراه أنه لا يخلعه في ليل أو نهار، فإنه من العسير أن يتأتى لأحد بالغة ما بلغت دقته، أن يظل طربوشه في وضع واحد لا ينحرف عنه قيد شعرة، إلا إذا كان لا يخلعه.
ويسير حامد في طريقه بطيئا كما عهدته الحارة، عظيما كما عهده أهلها. وتراه أمه يرفع يده بالتحية للقوم الجلوس، وتسمع تحيته التي عهدتها وتعودت أذنها أن تلتقطها من بين الأصوات الصاخبة، تلك التحية الواهنة النغمة الأنيقة المخارج. ورأت مريم القوم يجيبون تحية ابنها، وتفيق على أصواتهم من سرحتها، فأصواتهم اليوم غيرها بالأمس، كانوا يحتفون بابنها إذا مر وحيا، ولكنهم اليوم يردون تحيته وكأنهم يقومون بواجب فرضه عليهم القرآن الكريم من رد التحية بأحسن منها. بل إنهم حتى لا يردونها بأحسن منها ولا بمثلها، إنما هي همهمة لا تكاد تبارح شفاههم إلا لتسقط في الطريق قبل أن تبلغ الأذن، فما تعي الأذن منها إلا طنينا. وتدرك أم حامد أن فهمي قص على إخوانه من أهل الحارة إباء حامد أن يزوجه دولت، وتدرك الأم أن أهل الحارة أحسوا كبر حامد من رفضه هذا، فهم ساخطون يفرجون عن سخطهم في هذه النغمة المتخاذلة التي أجابوا بها تحية حامد. ويدرك حامد هذه المعاني ولكنه لا يعنى بها إلا هنيهة، ثم ينصرف بتفكيره وجسمه أيضا إلى هذا الأمل الذي يسعى طريقه إليه.
الفصل الخامس
ظل خيري في مذاكرته تلك التي لا تغني، يقرأ لحظات بذهن شارد، ثم يرفع رأسه عن الكتاب ليفرغ للشرود فراغا كاملا، ثم يعود شاردا إلى الكتاب مرة أخرى. وهكذا حتى وجد حامد أفندي واقفا على رأسه يلقي عليه التحية في ود ظاهر وإشراق: السلام عليكم.
ويفيق خيري تماما إلى أستاذه ويقف ليحييه، ويسأل حامد: وأين محسن، ألم يأت بعد؟ - والله أخته الصغيرة مريضة، وقد اتفقنا أن نؤجل الدرس إلى الغد. - أهي مريضة إلى هذا الحد؟ - لا، ولكن رأيته مشغول الخاطر، فاعتقدت أنه لن يكون صالحا للدرس اليوم. - ما هذا الكلام يا أخي؟ لقد اقترب الامتحان. - نعم صحيح، ولكن أخته عزيزة عليه جدا. - أعتقد أن المذاكرة ستشغله عن التفكير في مرضها. - أترى ذلك؟ - طبعا. - نطلبه في التليفون ليأتي. - ولماذا لا نذهب إليه نحن، فنطمئن على أخته من جهة و...
وقاطع خيري أستاذه في لهفة: فكرة، هيا بنا.
وهكذا وجد اقتراح حامد نفسا متوثبة لتنفيذه، وقد كان خيري خليقا أن يكون هو المقترح، ولكن من أين له الذهن الذي يداور ويخلق المعاذير وهو فارغ لتوه من هذا الحديث الخطير الذي دار بينه وبين أمه؟ لقد كان مشغولا عن وفية بها، كان مشغولا عن خلق المعاذير للذهاب إليها بالتفكير في زواجه منها.
أما حامد فقد كان شغله الشاغل أن يلقى عزت بك، وأن يجعل رجاءه لديه لندن بدلا من المدارس الثانوية، والتقت من حامد وخيري الرغبتان وإن اختلفت الدوافع وتباينت الأسباب. •••
كان محسن جالسا إلى أخته فايزة لا يرفع نظره عنها، وهي مغمضة العينين بلا حديث ولا مطالب إلا أنفاسا تتردد متسارعة. وقد جلس أفراد الأسرة الآخرون حولها شأنهم شأن محسن، لا يتكلمون، وإنما أصبحوا جميعا عيونا لا تميل عن طفلتهم الحبيبة. وجاءت الخادم تنبئ محسن أن خيري وحامد ينتظرانه في الطابق الأسفل، وحاول أن يستدعي خيري ليعتذر إليه ولكن أباه قال له: لماذا لا تنزل؟ انزل أنت فأختك بخير، وسألحق بك أنا أيضا بعد قليل.
صفحة غير معروفة