خواطر حول الوهابية

الناشر

دار التوحيد للتراث

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م

مكان النشر

الإسكندرية

تصانيف

خواطر حول الوهابية إعداد محمد إسماعيل المقدم عفا الله عنه دار التوحيد للتراث الإسكندرية

صفحة غير معروفة

حقُوق الطبع محفُوظَة دار التوحيد للتراث الإسكندرية لصاحبها/ أشرف نصار الطبعة الأولى ١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م رقم الإيداع ٢٠٠٨/ ٤١٧١ جمهورية مصر العربية - الإسكندرية- الورديان بجوار مسجدي أبي بكر الصديق وناصر السنة هاتف: ٠١٢٤٠٦٠٠٤٥

1 / 2

بسم الله الرحمن الرحيم

1 / 3

خواطر حول الوهابية

1 / 4

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نصر نبيه وخليله محمدًا ﷺ بالرعب مسيرة شهر، وجعل النصر حليف من اتبعه إلى آخر الدهر، وصلى الله على عبده ورسوله محمدٍ وآله وصحبه، وسلم صلاة وسلامًا دائمَيْنِ بلا حَصْر. أما بعد: فقد مضت سنة الله -تَعَالى- التي لا تتبدل أن يعارض أهلُ الباطل أهلَ الحق الداعن إليه، وأن يشنعوا عليهم، ويثيروا الشبه والشكوك حولهم ليصدوا عن سبيل الله، ويبغوها عوجًا. ولأن دعواتِ الإصلاح والتجديد لا ترضى بالحلول الوسط، ولا بأنصاف الحلول، فإنها تصارع المعتقداتِ الفاسدة، وتلقي في أول أمرها مقاومة عنيفة كرد فعل دفاعي من خصومها، إذ إنها حين تصطدم بالمألوف "المُتكَلِّس" وتحاول تغييره، فإنها تتحدى أهلَه والمنتفعين به، وتستفزهم مهما كانت فدائية ومنقذة لهم، تلك طبيعة الأشياء، ولذلك جابههت دعوة التجديد التي أنار شعلتهاَ شيخُ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- حالة عدم الانقياد والتصلب التي أظهرها معارضوه، ولم تقتصر تلك الحالة على شَهْر السلاح في وجه هذه الدعوة وتجييشِ الجيوش، بل انضم إليها أقلام متعصبة حاولت مسخ حقيقتها، وتشويه صورتها بالافتراء والكذب. لقد تسرع الكثيرون في الحكم على الشيخ، ولعل بعضهم لم يقرأ للشيخ أصلًا، وإنما قرأ عنه من أعدائه، ولعبت السياسة دورًا في هذا، لا سيما السياسة

1 / 5

الإنكليزية التي كانت ترصد وتراقب بواعث النهضة في الأمة الإسلامية، وتحاول الإجهاز عليها قبل أن تؤتي ثمارها. كما أن الدولة العثمانية -التي انتشرت في ظلها طرق صوفية غالية- انطلقت في هجومها على الدعوة السلفية لمخالفتها لها في المنهاج، وفي بعض متعلقات العقيدة كالتوسل، والاستغاثة بالموتى، وسائر البدع والشركيات. أضف إلى ذلك جماعة الروافض الذين ينالون من أصحاب رسول الله ﷺ، ورضي الله عنهم-، ومن أعلام أهل السنة، ويتورطون في شركيات يزعمونها من أصول الدين. ولا يظن ظانٌّ أن مناطق الاحتكاك أو مسائل الاختلاف بين الوهابيين وخصومهم تخص الوهابيين وحدهم، بل هي معتقد السلف الصالح والصدر الأول المبنيُّ على أدلة الكتاب والسنة، انطلاقًا من "منهاج النبوة"، وليس للوهابية سوى فضل إحيائها، وتجديدها، وتذكير المسلمين بها، وتنبيههم إليها، ونفض غبار البدع عنها. ولست بمقتصرٍ -لتأييد هذه الحقيقة- على ذكر شهادات المئات من أعلام المسلمين الذين نافحوا عن هذه الدعوة، وأقروا بدورها التجديدي العظيم، ولكني أعرض أولًا شهاداتِ خصوم الإسلام ممن أنصفوها، من باب: ومليحةٍ شهدت لها ضَرَّاتُها ... والفضل ما شهدت به الأعداءُ ثم أُثنِّي بذكر شهادات بعض أعلام المسلمين ممن أشادوا بها (١).

(١) وعامتها منقول من كتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي -رحمه الله تعالى- ص (٨٠ - ١١٧) بتصرف.

1 / 6

جاء في "دائرة المعارف البريطانية": "الحركة الوهابية اسم لحركة التطهير في الإسلام، والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده، ويهملون كل ما سواها، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح". وقال المستشرق الأسباني "أرمانو": "إن كل ما ألصق بالوهابية من سفاسف وأكاذيب لا صحة له على الإطلاق، فالوهابيون قوم يريدون الرجوع بالإسلام إلى عصر صحابة محمد ﷺ ". وقال المستشرق "جولدتسيهر" في كتابه "العقيدة والشريعة": "إذا أردنا البحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أنه مما يسترعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ المديني الحقيقة الآتية: يجب على كل من ينصب نفسه للحكم على الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصارًا للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي وأصحابه، فغاية الوهابية هي إعادة الإسلام كما كان" اهـ. وقال "برنارد لويس" في كتابه "العرب في التاريخ": "وباسم الإسلام الخالي من الشوائب الذي ساد في القرن الأول، نادى محمد ابن عبد الوهاب بالابتعاد عن جميع ما أضيف للعقيدة والعبادات من زيادات باعتبارها بدعًا خرافية غريبة عن الإسلام الصحيح"اهـ

1 / 7

وقال المستشرق الإنكليزي "جب" في كتابه "الاتجاهات المدنية في الإسلام": "أما مجال الفكر: فإن الوهابية بما قامت به من الفتن ضد التدخلات العدوانية، وضد الأصول القائلة بوحدة الوجود، التي تريد تدنيس التوحيد في الإسلام، فقد كانت عاملًا مفيدًا للخلاص الأبدي، وحركة تجديد أخذت تنجح في العالم الإسلامي شيئًا فشيئًا"اهـ وقال بوكهارت: "وما الوهابية -إن شئنا أن نصفها- إلا الإسلام في طهارته الأولى"اهـ، وقال: "لكي نصف الدين الوهابي، فإن ذلك يعني وصف العقيدة الإسلامية، ولذا فإن علماء القاهرة أعلنوا أنهم لم يجدوا أي هرطقة -أي بدعة أو خروجًا عن الدين- في الوهابية"اهـ. وذكر الدكتور "داكبرت" المؤرخ الألماني في كتابه "عبد العزيز" أن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب كانت تملأ قلبه فكرة جديدة للقوى العربية، وأنه عزا تلاشي قوة العرب الذي أخضعهم للنفوذ الأجنبي إلى ابتعادهم عن سيرة السلف الصالح، وانقسامهم إلى شيع، وابتعادهم عن خُلُقهم العربي الأصيل، ثم قال د. "داكبرت": "ورأى الشيخ أن سبب الإنقاذ هو الرجوع إلى تعاليم الدين المشروعة، إلى تعاليم الرسول الصحيحة، فراح يبشر -بوحي من ضميره وعقيدته - بمحاربة البدع التي أُدْخِلت على الإسلام عبر العصور الغايرة، والضالِّ المضل من تقارير علماء الدين غيرَ مقيمٍ وزنًا إلا لما نصَّ عليه القرآن صراحة، أو لما يمكن نسبتُه بصورة قاطعةٍ للنبي محمد ﷺ، وراح يحارب بكل قواه المستمدة من عقيدته الصلبة تقديسَ الأولياء، وجعلهم واسطة بين الله وبين الناس، وينادي

1 / 8

بهدم الأضرحة، ومزارات الأولياء، وإزالة معالمها، اقتداءً بالنبي الكريم، الذي حارب بدعة تقديس الهياكل، وعبادة الأصنام الموروثة من الجاهلية"اهـ. ملخصًا. وقال المؤرخ الفرنسي الشهير "سيديو" ما معناه: "إن انكلترا وفرنسا حين علمتا بقيام محمد بن عبد الوهاب وابن سعود وبانضمام جميع العرب إليهما لأن قيامهما كان لإحياء كلمة الدين، خافتا أن ينتبه المسلمون فينضموا إليهما، وتذهب عنهم غفلتهم، ويعود الإسلام كما كان في أيام عمر ﵁، فيترتب على ذلك حروب دينية وفتوحات إسلامية ترجع أوروبا منها في خسران عظيم، فحرضتا الدولة العلية على حرجهم، وهي فوضت ذلك إلى محمد علي باشا"اهـ (١). ... وفي كتابه "الحياة الأدبية في جزيرة العرب" ص (١٣) قال الدكتور "طه حسين" مشيرًا إلى المذهب الوهابي:

(١) هكذا نقله عنه أحمد بن سعيد البغدادي في كتابه "نديم الأديب" ص (١١)، حيث قال: "وأما سبب حرب صاحب مصر لهذه الطائفة فقد ذكره المؤرخ الشهير الموسيو (سيديو) الفرنساوي، وكلامه هذا محذوف من ترجمة كتابه التي أمر بها المرحوم على باشا مبارك، وخلاصة معناه"، ثم ذكر كلامه المثبت أعلاه وانظر: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي ص (٩٧).

1 / 9

"قلت: إن هذا الذهب جديد وقديم معًا، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر، لأنه ليس إلا الدعوة القويمة إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي ﷺ خالصًا لله وحده، مُلغيًا كل واسطة بين الله والناس"اهـ. وقال أيضًا في صفحتَيْ (١٤،١٣): " ... ولولا أن الترك والمصرين اجتمعوا على حرب هذا المذهب، وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها، لكان من المرجو أن يُوحِّدَ هذا المذهبُ كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول". وقال "طه حسين" أيضًا: "إذا كان الوهابيون لم يستطيعوا تكرار الفتح الإسلامي، فقد استطاعوا أن يبرهنوا على إمكانية تحقيقه، أو على الأقل استطاعوا أن يدعموا حجة الرافضين للحل التغريبي" (١). موقف الشيخ "محمد عبده": قال أحمد أمين (٢): "وفي مصر شب الشيخ محمد عبده فرأى تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو، فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد

(١) نقله عنه في "السعوديون والحل الإسلامي" ص (١١٠). (٢) في كتابه "من زعماء الإصلاح" ص (١٩).

1 / 10

الرسول ﷺ إلى عهد ابن تيمية إلى عهد ابن عبد الوهاب وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته للمسلمين بعمل صالح، فأداه اجتهاده وبحثه إلى هذين الأساسين اللذين بني عليهما محمد بن عبد الوهاب تعاليمه، وهما: ١ - محاربة البدع وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالى. ٢ - فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين، وجرد نفسه لخدمة هذين الغرضين" ... وفي كتابه "خمسون عامًا في جزيرة العرب" يذكر الشيخ حافظ وهبة أنه سمع الشيخ محمد عبده مفتي مصر "يثني في دروسه بالأزهر على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويلقبه بالمصلح العظيم، ويلقي تبعة وقف دعوته الإصلاحية على الأتراك، وعلى محمد علي الألباني لجهلهم، ومسايرتهم لعلماء عصرهم، ممن ساروا على سنة من سبقهم من مؤيدي البدع والخرافات، ومجافاة حقائق الإسلام"اهـ (١). استدراك: إن القول بأن دعوة الشيخ محمد عبده صدًى لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يخلو من مسامحة، ولا شك في وجود بعض الملامح المشرقة في

(١) نقلًا من "من زعماء الإصلاح" لأحمد أمين ص (٢١).

1 / 11

دعوة الأول، لكن أن نغلو في وصفها حتى نعدها امتدادًا للمنهج السلفي الواضح الذي تبناه ابن عبد الوهاب فهذه مجازفة، أضف إلى ذلك النّفس الاعتزالي الذي اتسمت به دعوة الشيخ محمد عبده، التي تميزت بالمبالغة في الاعتداد بالعقل، والانهزام أمام الغرب المكذِّب بعالم الغيب. وإذا كان الشيخ محمد عبده قد هاجم بدع الصوفية وانحرافاتهم، الأمر الذي يلتقي به مع الوهابية، لكن ذلك بمجرده لا يكفي لوصف منهج محمد عبده بأنه سلفي، يقول د. محمد محمد حسين ﵀: " .. حتى خلطوا بهم - أي بالوهابيين السلفين - كل من دعا بهذه الدعوة - أي: مهاجمة الصوفية - واعتبروه منهم، غافلين عن أن التصوف يمكن أن يهاجم من منطلقين مختلفين: - من منطلق سلفي يهاجم الابتداع. - ومن منطلق عَلْماني ينكر الغيبيات، ويخضعها للتفكير الحر، ومن هذا المنطلق خلطوا بين الأفغاني ومحمد عبده، وبن محمد بن عبد الوهاب"اهـ (١).

(١) انظر: "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ص (٢٩). استدراك: ويكفي للتدليل على بعد الشيخ محمد عبده عن المنهج السلفي أنه في "رسالة التوحيد" لم يورد توحيد العبادة الذي هو أول واجب على المكلف، حتى استدرك عليه تلميذه العلامة السيد محمد رشيد رضا ﵀ قائلًا: فات الأستاذَ أن يصرح بتوحيد العبادة، وهو أن =

1 / 12

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يعبد الله وحده، ولا يُعبَدَ غَيرُه بدعاءٍ، ولا بغير ذلك مما يتقرب به المشركون إلى ما عبدوا معه من الصالحين والأصنام ... هذا التوحيد هو الذي كان أول ما يدعو إليه كلُّ رسولٍ قومَه بقوله: ﴿أعبُدُوا اَللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهَ غَيرُه﴾. وقال الدكتور محمد خليل هراس ﵀ في كتابه "دعوة التوحيد": "وقد عرَّفه -أي: التوحيد- الشيخ محمد عبده ﵀ في رسالة التوحيد بأنه: (علم يُبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن يثبت له من صفات، وما يجوز أن يوصف به، وما يجب أن يُنفى عنه، وعن الرسل لإثبات رسالتهم، وما يجب أن يكونوا عليه، وما يجوز أن ينسب إليهم، وما يمتنع أن يلحق بهم)، فلم يذكر في تعريفه شئون الغيب، وأحوال المعاد" -مع أن الحد ينبغي أن يكون جامعًا مانعًا- ثم قال بعد ذلك: "وأصل معنى التوحيد اعتقاد أن الله واحد لا شريك له، وسمِّي هذا العلم به تسميةً له بأهم أجزائه، وهو إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان، وأنه وحده مرجع كل كون، ومنتهى كل قصد، وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي ﷺ كما تشهد به آيات الكتاب العزيز) "اهـ. وقد غلط الشيخ محمد عبده في اعتباره توحيد الربوبية والانفراد بالخلق هو الغاية العظمى من بعثة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ... ولعل فضيلة الشيخ عبده في هذا كان متأثرًا بالأشعرية الذين جعلوا الانفراد بالخلق هو أخص خصائص الإلهية، واهتموا في كتبهم بإقامة البراهين على هذا النوع من التوحيد دون أن يشيروا إلى توحيد الإلهية الذي هو أقصى الغايات ونهاية النهايات"اهـ انظر: "دعوة التوحيد" ص (٨ - ١٠).

1 / 13

وقال أحمد بن سعيد البغدادي: "وأما حقيقة هذه الطائفة فإنها حنبلية المذهب، وجميع ما ذكر المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف، وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليه بتأمل، لأن غالب مؤرخي الشرقيين ينقلون عن الكتب الإفرنجية، فإن كان المؤرخ المنقول عنه صاحب دراية وصادق الرواية تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة على قدر اللفظ فيضيع مزية الأصل، وإن كان المؤرخ غير صادق الرواية فمِن باب أولى، ومنهم من يقول إن هذه الطائفة تنهى عن وصف النبي ﵊ بأوصاف المدح والتعظيم، ويقول إنها تؤمن بقدم القرآن، وبهذا يظهر بدهية التناقض، لأن من يؤمن بقدم القرآن يؤمن بما فيه، وفي القرآن الشريف مدح النبي ﵊، قال تعالى: ﴿وَإِنَكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وآيات غير هذه كثيرة، أما ما نهى عنه محمد بن عبد الوهاب فإنما هو الوصف بأوصاف الألوهية كالقدرة والإرادة وعلم الغيب كما وصف النصارى عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، فقد قال ﵊: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعبد"، وَمَنْ أراد أن يعرف جليًّا اعتقاد هذه الطائفة فليطالع كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل ﵁ فإنه مذهبهم .. " إلى أن قال ﵀: "وهذه الطائفة بريئة مما ينسب إليها الجاهلون، ومَنْ سَبَّها يأثم، والله أعلم بغيبه وأحكم"اهـ (١).

(١) "نديم الأديب" ص (١١).

1 / 14

وكتب الأستاذ محمد كرد علي ﵀ فصلًا ممتعًا عن أصل الوهابية في كتابه "القديم والحديث"، ثُم قال في أهل نجد: "وما ابن عبد الوهاب إلا داعية، هداهم من الضلال، وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدة من بعضهم، فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعبًا من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص، مثل هؤلاء القوم. وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم، سنين طويلة، فلم نرهم حادوا عن الإسلام قِيدَ غَلْوَة (١)، وما يتهمهم به أعداؤهم، فزورٌ لا أصل له"اهـ وقال الدكتور محمد عبد الله ماضي في كتابه "حاضر العالم الإسلامي": "كما بُعث الرسول محمد بن عبد الله ﷺ بين العرب، وهم في فوضى شاملة، وانحطاط عام، وتفكك وانحلال، ليس لهم وحدة تربطهم، ولا فكرة صالحة تجمعهم، فنشر مبادئ الإسلام بينهم، وجمعهم على التوحيد، فوحَّد بينهم في العقيدة، فأصبحوا يدينون بمبدأ واحد، ويعبدون الله وحده، فوحَّد بينهم في المظهر، وجعل منهم أمة واحدة عربية مسلمة، قوية عزيزة الجانب، وأقام لهم دولة على أساس من الدين الحنيف. فكذلك أخذ المصلح المديني، والزعيم الإسلامي محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، يدعو إلى تصحيح العقيدة، والرجوع إلى

(١) أي: مقدار رمية سهم، وتقدر بثلاث مائة ذراع إلى أربع مئة.

1 / 15

مبادئ الإسلام الصحيحة، واعتناقها من جديد بين النجدين، وكانوا قد فسدت عقيدتهم، وضلَّت سيرتهم "اهـ. وقال الدكتور محمد ضياء الدين الريس أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة فؤادا لأول: "والوهابيون يتبعون في فروع الأحكام حيث الفقه، مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي العقائد مذهب أهل السنة، وبخاصة - كما قررها وفسرها الإمام السني، العلامة ابن تيمية. وابن تيمية هو الأستاذ المباشر لابن عبد الوهاب (١)، وإن فصل بينهما أربعة قرون (٢).

(١) "كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب محبًّا لابن تيمية وما أحبَّ أحدًا من علماء الدين الذين سبقوه، بعد الإمام أحمد بن حنبل، كما أحب ابن تيمية"اهـ. من "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" لحسين خزعل ص (٣٣٤). (٢) ولئن وصف الأستاذ مالك بن نبي دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في التراث الإسلامي بأنها: "تكوِّن الترسانة الفكرية التي لا زالت تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية إلى اليوم" -كما في تقديمه لكتاب "حتى يغيروا ما بأنفسهم" لجودت سعيد ص (٩) - فإن الدعوة الوهابية هي الثمرة الكبرى لتلك البذور الباركة التي هيَّأ تربتها وبذرها وسقاها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته العظام من بعده، وقد آتت أكلها "بعد حين" بإذن ربها مجسدة في الدعوة الوهابية التجديدية.

1 / 16

فقد قرأ كتبه (١) وتأثر كل التأثر، بتعاليمه. والمبادئ الأساسية للدعوة الوهابية، هي تنقية معنى التوحيد من شوائب الشرك، ظاهرة وخفية، وإخلاص الدين لله، وعدم الالتجاء إلى غير الله، وعدم الغلو في تمجيد الرسول بما يخرجه عن حدود الطبيعة البشرية، وتحديد معنى الرسالة التي كلف بإبلاغها. ومصادر العقيدة هي: الرجوع إلى مذهب السلف في فهم الدين، وتفسيرِ آيات القرآن، وأحاديث الرسول ﷺ. وتكره الوهابية التعقيدات التي أدخلها المتكلمون والفلاسفة والصوفية، ولا مانع من الاجتهاد، كما يرون ضرورة القيام بواجب الجهاد. وهذه الحركة كانت نهضة أخلاقية شاملة، ووثبة روحية جريئة ودعوة إلى دين الحق والإصلاح. فقد أيقظت العقول الراقدة، وحركت المشاعر الخامدة، ودعت إلى إعادة النظر في الدين، لتصفية العقيدة، وتطهير العقول من الخرافات والأوهام، فقد احتوت على مبدأَين، كان لهما أكبر الأَثر في تطور العالم الإسلامي وتقدمه، وهما:

(١) أولع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، حتى كان ينسخ الكثير منها، وتوجد حتى اليوم بالمتحف البريطاني في لندن كتب لشيخ الإسلام ابن تيمية بخط الإمام محمد بن عبد الوهاب - مجلة العربي- العدد (١٤٧) - فبراير ١٩٧١م- مقالة "الوهابية وزعيمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ.

1 / 17

الدعوة إلى الرجوع إلى مذهب السلف -مع الاعتماد على الكتاب والسنة- وتقرير مبدأ الاجتهاد، فكان هذان المبدآن أساسًا لنهضة فلسفية روحية. والواقع أن كل حركات الإصلاح التي ظهرت في الشرق، في القرن التاسع عشر، كانت مدينة للدعوة الوهابية، لتقرير هذه الأُصول. ويمكن تحديد الصلة بينها وبين كل من هذه الحركات، إما عن طريق الاقتباس أو المحاكاة، أو مجرد التأثر" انتهى ملخصًا. وقال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه "محمد بن عبد الوهاب" العقل الحر: "الكلمة الطيبة كلمة مباركة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لأنها كلمة الحق، والحق في ظل الله، يباركه وينتصر له. ودعوة محمد بن عبد الوهاب من الكلم الطيب، لأنها تستند إلى الحق، وتدعو له، وتعمل في سبيله، لهذا كانت دعوة مباركة، وفيرة الثمر، كثيرة الخير. لقد قام صاحبها، يدعو إلى الله، لا يبغي بهذا جاهًا، ولا يطلب سلطانًا، وإنما يضيء للناس معالم الطريق، ويكشف لهم المعاثر والمزالق التي أقامها الشيطان وأعوان الشيطان". إلى أن قال: "والذي لا شك فيه، أن الدعوة الوهابية، كانت أشبه بالقذيفة الصارخة، تنفجر في جوف الليل، والناس نيام. كانت صوتًا راعدًا أيقظ المجتمع الإسلامي كله، وأزعج طائر النوم المُحَوِّمَ على أوطانهم منذ أمد بعيد"اهـ

1 / 18

وقال الزركلي في "الأعلام" في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "إنه كان ناهجًا منهج السلف الصالح، وداعيًا إلى التوحيد الخالص، ونبذ البدع، وتحطيم ما علق بالإسلام من الأوهام، وكانت دعوته الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله، تأثر بها رجال الإصلاح في الهند ومصر والعراق والشام وغيره"اهـ (١). مختصرًا. وقال الشيخ علي طنطاوي ﵀ في كتابه "محمد بن عبد الوهاب": "فشت البدع قبل ولادة الشيخ محمد، واعتقد الناس النفع والضرر بالرسول والصالحين، وبالقبور والأشجار، والقباب والمزارات، فيطلبون منهم الحاجات، ويرجعون في الشدائد إليهم، وينذرون لهم، ويذبحون لهم، واشتد تعظيم الأموات. وكان حظ نجد في هذه الجاهلية الجديدة أكبر الحظوظ، فقد اجتمع على أهله الجهل، والبداوة، والفقر، والانقسام في كل ناحية من نواحي نجد، من الأمراء، بمقدار ما كان فيها من القرى، ففي كل قرية أمير، وفي كل ناحية جمعية أمم، وكان في كل إمارة قبر، عليه بناء، أو شجرة لها أسطورة، يقوم عليها سادن من شياطين الإنس، يزين للناس الكفر، ويدعوهم إلى الاعتقاد بالقبر والذبح له، والتبرك به، والدعاء عنده.

(١) "الأعلام" للزركلي (٦/ ٢٥٧)، وانظر نص كلام الزركلي، والتعليق عليه في كتاب "الانحرافات العقدية والعلمية" (٢/ ٣٦٤ - ٣٧٢).

1 / 19

ثم ذكر شجرة تسمى "شجرة الذئب"، وقبر "زيد بن الخطاب" وذلك على سبيل المثال. قال: وكان العلماء قلة، والحكام عتاه ظلمة، والناس فوضى يغزو بعضهم بعضًا، ويعدُو قويهم على ضعيفهم. في تلك البيئة نشأ "محمد بن عبد الوهاب" ﵀ فرأى شمس الإسلام إلى أَفول، ورأى ظلمة الكفر إلى امتداد وشمول. وأراد الله له الخير، فقدر له أن يكون أحد الذين أخبر الرسول أنهم يبعثون ليجددوا لهذه الأمة دينها، بل لقد كان أحق بهذا الوصف من كل من وصِفَ به في تاريخنا. فقد حقق الله على يديه عودة نجد إلى التوحيد الصحيح، والدين الحق، والألفة بعد إلاختلاف، والوَحدة بعد الانقسام. ولا أقول: إن الرجل كامل، فالكمال لله، ولا أقول: إنه معصوم، فالعصمة للأنبياء، ولا أقول: إنه عارٍ عن العيوب والأخطاء. ولكن أقول: إن هذه اليقظة، التي عمت نجدًا ثم امتدت حتى جاوزته إلى أطراف الجزيرة، ثم إلى ما حولها، ثم امتدت حتى وصلت إلى آخر بلاد الإسلام ليست إلا حسنة من حسناته عند الله إن شاء الله"اهـ. وقال الأستاذ محمد جلال كشك ﵀ وعفا عنه-: "ونحن إذ نصف (الوهابية) بأنها أول استجابة للتحدي الذي خيَّم على العالم الإسلامي، فلأنها أول حركة تعلن أن هناك خطأ في الجتمع الإسلامي يجب

1 / 20