إلهية وشيئًا مقدسًا، بحيث أصبحت مادة تصاغ منها صبغ السحر، وهي تزداد في أعين الناس تقديسًا كلما ازدادت فراغًا من المعنى؛ ولا تزال في يومنا مقدسة إذا استخدمناها في الأسرار الخفية، حين تتحول "الكلمة" إلى "لحم" - مثلا - إن الألفاظ لم تكن وسيلة التفكير الواضح فحسب، بل كانت سبيلًا لإصلاح التنظيم الاجتماعي كذلك، لأنها ربطت بين الأجيال المتعاقبة ربطًا عقليًا وثيق العرى، بأن هيأت لهم وسيلة أصلح للتربية من جهة، ولنقل المعارف والفنون من جهة أخرى؛ فبظهور ألفاظ اللغة ظهرت أداة جديدة تصل الأفراد بعضهم ببعض بحيث يمكن للمذهب الواحد أو العقيدة الواحدة أن تصُبَّ أفراد الشعب في قالب واحد متجانس؛ وفتحت طرقًا جديدة لنقل الآراء وتبادلها، وزادت عمق الحياة زيادة عظيمة، كما وسَّعَت نطاقها ومضمونها، فهل تعرف اختراعًا آخر يساوي في قوته ومجده هذا الاختراع، اختراع الاسم الكلي؟.
وأعظم هذه المزايا التي لألفاظ اللغة - بعد توسيعها للفكر - هي التربية؛ فالمدنية ثروة زاخرة تجمعت على الأيام من الفنون والحكمة وألوان السلوك والأخلاق، ومن هذه الثروة الزاخرة يستمد الفرد في تطوره غذاء لحياته العقلية، ولولا أن هذا التراث البشري يهبط إلى الأجيال جيلًا بعد جيل، لماتت المدنية موتًا مفاجئًا، فهي مَدِينة بحياتها إلى التربية.
التربية بدايات ضئيلة من الشعوب البدائية، إذ التربية عندهم - كما هي عند الحيوان - هي قبل كل شيء نقل لضروب المهارة تدريب الناشئ تدريبًا يصوغ له شخصيته، فهي علاقة مفيدة سليمة بين العلم والتعلم في تلقين طرائق العيش؛ وهذا التعليم العملي المباشر شجع عند الطفل البدائي نموًا سريعًا؛ ففي قبائل "أوماها" يكون الولد وهو في سن العاشرة تقريبًا قد تعلمَ معظم فنون أبيه، مستعدًا للحياة؛ وفي قبائل "الألوت" Aleuts غالبًا ما يؤسس الولد دارًا لنفسه وهو في العاشرة، وأحيانًا يختار زوجة وهو في هذه السن؛ وفي نيجيريا يترك الأطفال وهم في السادسة
1 / 126