الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - جامعة المدينة
الناشر
جامعة المدينة العالمية
تصانيف
-[الإعجاز العلمي في القرآن]-
كود المادة: GUQR٥٣١٣ و GAQD٥١٣٣
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة غير معروفة
الدرس: ١ التفسير العلمي: تعريفه - كثرة القائلين به - مؤلفاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(التفسير العلمي: تعريفه - كثرة القائلين به - مؤلفاته)
معنى التفسير العلمي
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
قبل أن نخوض في الإعجاز العلمي نود أولًا أن نعرف نبذة عن التفسير العلمي:
أولًا: معنى التفسير العلمي:
التفسير العلمي هو: التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن الكريم، يعني مثلًا مصطلح علمي مثلًا تناقض ضغط الجو والأكسجين، كلما ارتفعنا في الفضاء يأتي التفسير العلمي. ويأتي على الآية التي تقول: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ (الأنعام: ١٢٥). فيأتي بهذه المصطلحات العلمية، ويحاول أن يفسر بها عبارات القرآن الكريم، ويجتهد الذي يفسر القرآن تفسيرًا علميًّا في استخراج مختلف العلوم.
التوسع في هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به
لقد اتسع القول في احتواء القرآن كل العلوم ما كان منها وما يكون، فالقرآن في نظر أصحاب هذه الطريقة يشمل إلى جانب العلوم الدينية ال اعتقادية، والعملية سائر علوم الدنيا على اختلاف أنواعها، وتعدد ألوانها. وممن توسعوا في التفسير العلمي الإمام الغزالي. الإمام الغزالي كان إلى عهده أكثر من استوفى بيان هذا القول في تفسير القرآن الكريم، وأهم من أيده وعمل على ترويجه في الأوساط العلمية الإسلامية على رغم ما قرر فيها من قواعد فهم عبارات القرآن الكريم.
1 / 9
وكتاب (الإحياء في علوم الدين) ينقل فيه عن بعض العلماء أن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع. ثم يروي عن ابن مسعود ﵁ أنه قال: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"، ثم يقول بعد ذلك كله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله ﷿ وصفاته. وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها وفي القرآن إشارة إلى مجامعها، ثم يزيد على ذلك فيقول: بل كل ما أشكل فهمه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات في القرآن، إليه رمز ودلالات عليه. يختص أهل الفهم بدركها"، ثم لو تصفحنا كتاب الغزالي (جواهر القرآن)، الذي ألفه بعد (إحياء علوم الدين)، فنجده يزيد هذا الذي قرره في الإحياء بيانًا وتفصيلًا، فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها، وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها.
ونكتفي بأن نقول: إن الغزالي قسم علوم القرآن إلى قسمين: الأول: علم القشر يعني السطحيات، وجعل من مشتملاته علم اللغة وعلم النحو وعلم القراءات وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر. والقسم الثاني: علم اللباب وجعل من مشتملاته علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السنة، ثم بعد ذلك يعقد الفصل الخامس من كتابه (جواهر القرآن) لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن الكريم. فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالم، وهيئة أجسام الحيوان وتشريح أعضائه، وعلم السحر وغير ذلك، ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها. ثم بعد ذلك يقول: ولا حاجة لي إلى ذكرها بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة، التي لا يتمارى فيها أن في
1 / 10
الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها. وعلوم كانت قد خرجت من الوجود واندرست الآن، فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها. وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، والإمكان في حق الملك محدود إلى غاية من النقصان، وإنما الله -سبحانه- هو الذي لا يتناهى العلم في حقه.
ثم يقول بعد ذلك: ثم هذه العلوم ما عددناه وما لم نعدده ليست أوائلها خارجة من القرآن، فإن جميعها مقترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال يقول: وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادًا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد. فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلًا الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ (الشعراء: ٨٠)، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله. إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه، ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ (الرحمن: ٥). وقال تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس: ٥)، وقال تعالى: ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ (القيامة: ٨، ٩)، وقال تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ﴾ (الحج: ٦١). وقال تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (يس: ٣٨)، ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض.
1 / 11
وهو علم برأسه ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ (الانفطار: ٦ - ٨)، إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها. وقد أشار في القرآن مجامع علم الأولين والآخرين، وكذلك لا يعرف معنى قوله تعالى: ﴿سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ (الحجر: ٢٩) ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها. يقول الغزالي: ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها، فتفكر في القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين". بهذا نعرف أن الغزالي كان من المكثرين في القول بالتفسير العلمي، ومن المؤيدين له.
بعد ذلك نذهب إلى إمام آخر نحى منحى الغزالي في القول بالتفسير العلمي وهو الجلال السيوطي، فنجده يقرر ذلك بوضوح وتوسع في كتابه (الإتقان) في النوع الخامس والستين منه. كما يقرر ذلك أيضًا بمثل هذا الوضوح والتوسع في كتابه (الإكليل في استنباط التنزيل)، ونجده يسوق من الآيات والأحاديث والآثار ما يستدل به على أن القرآن مشتمل على كل العلوم.
فمن الآيات نجد قول الله تعالى في الآية ٣٨ من سورة الأنعام: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُم﴾ (الأنعام: ٣٨) وقوله في الآية ٨٩ من سورة النحل: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ﴾ (النحل: ٨٩). ومن الأحاديث التي ساقها، ويستدل بها على أن القرآن مشتمل على كل العلوم: ما أخرجه الترمذي وغيره أن رسول الله ﷺ قال: «ستكون فتن قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم». وكذلك أيضًا ما أخرجه أبو
1 / 12
الشيخ عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة» ومن الآثار ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين". وما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود ﵁ أنه قال: "أنزل الله في القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء، لكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن".
ثم نجد السيوطي بعد أن يسوق هذه الأدلة وغيرها، يذكر لنا عن بعض العلماء أنه استنبط أن عمر النبي ﷺ ثلاث وستون سنة، من قوله تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة المنافقون يقول: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾ (المنافقون: ١١). فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها أي ذكر بعدها سورة التغابن؛ ليظهر التغابن في فقد النبي ﷺ.
بعد أن ذكرنا الجلال السيوطي وكثرته من القول في التفسير العلمي نأتي بعد ذلك إلى عالم آخر يقرر ما قرره السيوطي وما قرره الغزالي، هذا العالم هو أبو الفضل المرسي. لقد ذكر عن أبي الفضل المرسي أنه قال في تفسيره: "جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علمًا حقيقة إلا المتكلم به، وهو الله سبحانه، ثم رسول الله ﷺ خلا ما استأثر به ﷾. ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنه التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم. وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه. فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه وأنصافه
1 / 13
وأرباعه، وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه. ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء، واعتنى النحاة بالمعرب منه، والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به.
حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة، واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني. وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضى نظره، واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة القطعية، والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبياء: ٢٢) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. فاستنبطوا منها أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقِدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين، وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك. فاستنبطوا منها أحكام اللغة من الحقيقي والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة.
واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه، وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام،
1 / 14
فأسسوا الأصول وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضًا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ. وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ، التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير، وذكر الموت والمعاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب والجنة والنار. استنبطوا من ذلك فصولًا من المواعظ وفصولًا من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ، واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير، يعني تفسير الرؤيا مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان، وفي منامي صاحبي السجن. وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسموه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تأويل كل رؤيا من الكتاب، فإن عز عليهم إخراجها منه، فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عز فمن الحكم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (لقمان: ١٧).
وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك، أخذوا علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض، ومسائل العدل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله والبروج وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ
1 / 15
والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع. ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة، فلاح لهم من ألفاظه معاني ودقائق جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط، وما أشبه ذلك.
هذه الفنون أخذتها الملة الإسلامية منه، وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل، مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم، أما الطب فمداره على نظام الصحة واستحكام القوة. وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ (الفرقان: ٦٧)، وعرفنا فيه ما يفيد نظام الصحة بعد اختلالها. وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله تعالى: ﴿شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ (النحل: ٦٩)، ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور. وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات، التي ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات. وأما الهندسة ففي قوله تعالى: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ (المرسلات: ٣٠، ٣١)، فإن فيه قاعدة هندسية وهو أن الشكل المثلث لا ظل له. وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئًا كثيرًا، ومناظرة إبراهيم نمرود ومحجته قومه أصل في ذلك عظيم. وأما الجبر والمقابلة: فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام التواريخ لأمم سالفة، وإن فيها بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض.
1 / 16
وفي القرآن أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليه، كالخياطة في قوله تعالى: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ﴾ (الأعراف: ٢٢)، والحدادة في قوله تعالى: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾ (الكهف: ٩٦). والبناء في آيات والنجارة في قوله تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (هود: ٣٧)، والغزل في قوله تعالى: ﴿نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ (النحل: ٩٢)، والنسج في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ (العنكبوت: ٤١). والفلاحة في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ (الواقعة: ٦٣)، والصيد ذكر في آيات، وكذلك الغوص وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ (ص: ٣٧)، وقوله تعالى: ﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً﴾ (النحل: ١٤). والصياغة في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ﴾ (الأعراف: ١٤٨)، والزجاج في قوله: ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ (النور: ٣٥)، وقوله تعالى: ﴿مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ﴾ (النمل: ٤٤). والفخار في قوله تعالى: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ (القصص: ٣٨)، والملاحة في قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ﴾ (الكهف: ٧٩)، والكتابة في قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ (العلق: ٤) وفي آيات أخرى. والخبز في قوله تعالى: ﴿أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا﴾ (يوسف: ٣٦)، والطبخ في قوله تعالى: ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ (هود: ٦٩)، والقصارى بعد غسل الملابس وتنظيفها في قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (المدثر: ٤). ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ (الصف: ١٤) قيل: وهم القصارون وكذلك الجزارة في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ (المائدة: ٣) والبيع والشراء في آيات، والصبغ في قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ (البقرة: ١٣٨) و﴿جُدَدٌ بِيضٌ﴾ (فاطر: ٢٧). والحجارة في قوله تعالى: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ (الشعراء: ١٤٩)، والكيالة والوزن في آيات كثيرة، والرمي في قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْت إِذْ رَمَيْتَ﴾ (الأنفال: ١٧)، وفي قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: ٦٠). وفي القرآن الكريم من أسماء الآلات، وضروب
1 / 17
المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: ٣٨).
قال السيوطي: انتهى كلام أبي الفضل المرسي ملخصًا مع زيادة". ثم بعد رواية السيوطي لهذه المقالة الطويلة نجده يذكر عن أبي بكر بن العربي أنه قال في كتابه (قانون التأويل): "علوم القرآن خمسون علمًا، وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة. إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار الترتيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يحصى وما لا يعلمه إلا الله". وأخيرًا عقب السيوطي على هذه النقول وغيرها، فقال: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواعه فليس منها باب ولا مسألة هي أصلًا وإلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات، وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وما تحت الثرى. وإلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات".
ومن هنا يتبين كيف ظهرت آثار الثقافات العلمية للمسلمين في تفسير القرآن الكريم وكيف حاول هؤلاء العلماء المتقدمون أن يجعلوا القرآن منبع العلوم كلها ما جد، وما يجد إلى يوم القيامة، هذه النزعة التفسيرية العلمية للقرآن الكريم تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا. وفي بداية الأمر كانت عبارة عن محاولات يقصد منها التوفيق بين القرآن، وما جد من العلوم، ثم وجدت الفكرة مركزة وصريحة على لسان الغزالي وابن العربي والمرسي والسيوطي، وهذه الفكرة قد طبقت علميًّا. وظهرت في مثل محاولات الفخر الرازي ضمن تفسيره للقرآن، ثم وجدت بعد ذلك كتب مستقلة لاستخراج العلوم من القرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم. وراجت هذه الفكرة في العصر المتأخر رواجًا كبيرًا بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما ألفت بعض التفاسير التي تسير على ضوء هذه الفكرة. هؤلاء هم المؤيدون للتفسير العلمي.
1 / 18
نماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث
وأرى من المستحسن أن نذكر بعض النماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث، وهو اللون العلمي للتفسير في عصرنا الحاضر.
إن هذا اللون من التفسير -أعني التفسير العلمي- الذي يرمي إلى جعل القرآن مشتملًا على سائر العلوم ما جد منها، وما يجد قد استشرى أمره في هذا العصر الحديث، وراج لدى بعض المثقفين الذين لهم عناية بالعلوم، وعناية بالقرآن الكريم. وكان من أثر هذه النزعة التفسيرية، التي تسلطت على قلوب أصحابها أن أخرج لنا المشغوفون بها كثيرًا من الكتب، يحاول أصحابها فيها أن يحملوا القرآن كل علوم الأرض والسماء، وأن يجعلوه دالًّا عليها بطريق التصريح أو التلميح. اعتقادًا منهم أن هذا بيان لناحية من أهم نواحي صدقه وإعجازه، وصلاحيته للبقاء.
أهم الكتب التي عنيت بهذا اللون، أعني التفسير العلمي:
ومن أهم هذه الكتب التي ظهرت فيها هذه النزعة التفسيرية:
كتاب (كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية، والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية) للإمام الفاضل والطبيب البارع، محمد بن أحمد الإسكندراني من علماء القرن الثالث عشر الهجري، وهو كتاب كبير الحجم يقع في ثلاثة مجلدات، ومطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة ١٢٩٧ هجرية، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية. ورسالة عبد الله باشا فكري في مقارنة بعض مباحث الهيئة بالوارد في النصوص الشرعية، وقد طبعت بالقاهرة سنة ١٣١٥ هجرية.
وهناك كتاب آخر اسمه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لرجل الإصلاح الإسلامي، المرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبي. وهو عبارة عن مجموعة
1 / 19
مقالات له، نشرها في بعض الصحف عندما زار مصر سنة ١٣١٨ هجرية، وقد طبع هذا الكتاب وأبهم اسم مؤلفه، ورمز له الرحالة ك.
هذا الكتاب (طبائع الاستبداد) للسيد عبد الرحمن الكواكبي، نريد أن نبين أهم الملامح، وأهم منهج هذا المؤلف في بيانه لهذا التفسير العلمي، فنجده ينحاز انحيازًا بليغًا إلى هذا اللون من ألوان التفسير، فيصف القرآن بأنه شمس العلوم، وكنز الحكم. ويقرر بأن السبب في إحجام العلماء عن تفسير قسمي الآلات والأخلاق من القرآن، وبيان ما يشتمل عليه من العلوم المختلفة هو أنه كانوا يخافون مخالفة رأي بعض السلف القاصرين في العلم، فيكفرون فيقتلون.
ثم يقول: "وهذه مسألة إعجاز القرآن، وهي أهم مسألة في الدين لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث، واقتصروا على ما قاله بعض السلف: أن الإعجاز في فصاحته وبلاغته وإخباره عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون". هذا ما يراه السيد عبد الرحمن الكواكبي في سبب انصراف العلماء عن التفسير العلمي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 / 20
الدرس: ٢ أهم الكتب التي عنيت بالتفسير العلمي
1 / 21
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(أهم الكتب التي عُنيت بالتفسير العلمي)
تتمة الحديث عن نماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
كنا تعرضنا لكتاب (طبائع الاستبداد ونصائح الاستعباد) لرجل الإصلاح الإسلامي المرحوم السيد عبد الرحمن. في هذا الكتاب سنتعرض لاهتمامه بالتفسير العلمي:
نرى عبد الرحمن الكواكبي يأخذ في بيان اشتمال القرآن على ما جد من نظريات علمية تؤيد إعجاز القرآن، فيقول: "إنه لو أطلق للعلماء عنان التدقيق، وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات؛ لرأوا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز. أيضًا لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان تبرهن على إعجازه بصدق قوله تعالى: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (الأنعام: ٥٩) رأوا فيه برهان عيان لا مجرد تسليم وإيمان، ومثال ذلك: أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق، وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا وأمريكا.
والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن، منذ ثلاثة عشر قرنًا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء، إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه. وذلك أنهم كشفوا أن مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين، فقال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ (فصلت: ١١)، وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة. والقرآن يقول: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾ (يس: ٣٣) إلى أن يقول: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (يس: ٤٠)، وحققوا أن الأرض منفتقة من النظام الشمسي، والقرآن يقول: ﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (الأنبياء: ٣٠).
وحققوا أن القمر منشق من الأرض، والقرآن يقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ (الرعد: ٤١) ويقول: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر: ١). وحققوا أن طبقات الأرض سبع، والقرآن يقول: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ (الطلاق: ١٢)، وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض، أي: ترتج في دورتها. والقرآن يقول: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ (النحل: ١٥)، وكشفوا أيضًا أن التغيير في التركيب الكيمياوي، بل والمعنوي ناشئ عن تخالف نسبة المقادير. والقرآن يقول: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ (الرعد: ٨)، وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور، والقرآن يقول: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء: ٣٠)،
1 / 23
وحققوا أن العالم العضوي، ومنه الإنسان ترقى من الجماد، والقرآن يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ (المؤمنون: ١٢).
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات، والقرآن يقول: ﴿خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ (يس: ٣٦)، ويقول: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ (طه: ٥٣)، ويقول: ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (الحج: ٥). ويقول: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ (الرعد: ٣)، طريقة إمساك الظل أي: التصوير الشمسي، والقرآن يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ (الفرقان: ٤٥). وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء، والقرآن يقول بعد ذكره الدواب والجواري بالريح، يقول الله: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ (يس: ٤٢)، وكشفوا وجود الميكروب وتأثيره كالجدري وغيره من المرض. والقرآن يقول: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ (الفيل: ٣)، أي: متتابعة مجتمعة يقول تعالى: ﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ﴾ (الفيل: ٤) أي: من طين المستنقعات اليابس. إلى غير ذلك من الآيات
1 / 24
الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة النواميس الطبيعية، وبالقياس على ما تقدم ذكره، يقتضي أن كثيرًا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون تجديدًا لإعجازه، ما دام الزمان وما كر الجديد".
وكذلك هناك كتاب (إعجاز القرآن) للمرحوم مصطفى صادق الرافعي، وهو من أنصار هذه النزعة التفسيرية، ومن المؤيدين لها:
وفي هذا الكتاب نجد المؤلف ﵀ يعقد بحثًا خاصًّا لموضوع القرآن والعلوم. وفيه يقرر أن القرآن بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله على بسيط هذه الأرض، من لدن ظهور الإسلام إلى ما شاء الله، ثم يستطرد إلى ذكر بعض ما نقله السيوطي في (الإتقان) و(الإكليل) عن العلامة المرسي في اشتمال القرآن على سائر العلوم.
وهنا نجده يعلق استخراج علم المواقيت من القرآن، فيقول: "قال بعض المتأخرين: إن الميقات مشار إليه في القرآن بقوله تعالى: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ (غافر: ١٥) قال: فإن عدد رفيع بحساب الجمل ثلاثمائة وستون، وهي عدد درج الليل والنهار. ثم يقول الرافعي نفسه بعد هذا: وإذا أطلق حساب الجمل في كلمات القرآن كشف منه كل عجائب العصور وتواريخها وأسرارها، ثم يقول الرافعي: ولو أن هذا خارج عن غرض الكتاب لجئنا منه بأشياء كثيرة من القديم والحديث.
ثم نرى الرافعي ﵀ يسترسل في حديثه إلى أن يقول: وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية وبسطوا كل ذلك بسطًا ليس هو من غرضنا، فنستقصي فيه على أن هذا ومثله إنما يكون فيه إشارة ولمحة. ولعل متحققًا بهذه العلوم
1 / 25
الحديثة لو تدبر القرآن، وأحكم النظر فيه، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم، ولا يلتوي عليه أمر لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم، وإن لم تبسط من أنبائها وتدل عليها وإلم تسمها بأسمائها.
ثم يقول: وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم، وإلى تمحيصها وغايتها على ما وصفناه آنفًا، وذلك قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: ٥٣). ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: ﴿فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾، هذه آفاق وهذه آفاق أخرى، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة، فليس يصح في الأفهام شيء".
ثم نجد كتابًا آخر عنوانه (الإسلام والطب الحديث) للدكتور عبد العزيز السباعي الطبيب المعروف:
هذا الكتاب يظهر فيه أن مؤلفه ينحاز إلى هذا اللون من ألوان التفسير وهو التفسير العلمي. هذا الكتاب جمع فيه مؤلفه مقالاته التي نشرها في مجلة الأزهر، وهو مطبوع بمطبعة الاعتماد سنة ١٣٥٧ هـ، وفيه نجد المؤلف ﵀ يقرر أن القرآن ليس بكتاب طب أو هندسة أو فلك، ولكنه يشير أحيانًا إلى سنن طبيعية، ترجع إلى هذه العلوم.
كما يقرر أن كثيرًا من آيات القرآن لا يفهم شيئًا من معناها الحقيقي، إلا من درس العلوم الحديثة، كما يؤكد أن العلم الحديث كشف عن معنى بعض الآيات، وسينكشف الباقي منها كلما تقدمت العلوم، ثم يأتي وقت يكون فيه العلماء الماديون أقرب الناس إلى الدين. وفي هذا اتهام للصحابة، ومن جاء بعدهم من سلف الأمة بأنهم لم يفهموا المعاني الحقيقية لبعض الآيات القرآنية؛
1 / 26
لجهلهم بهذه العلوم المستحدثة، وهذا اتهام نعيذ منه صحابة رسول الله ﷺ وسلف الأمة -رضوان الله عليهم-.
ونحن إذا تتبعنا ما في هذا الكتاب لوجدنا الكثير منه لا يقصده القرآن، ولا يهدف إليه من وراء خطابه للعربي الأمي. فمثلًا نجده يعرض لقوله تعالى في الآية ٢٢ من سورة البقرة: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ (البقرة: ٢٢) تحت عنوان: الحياة تحت ضوء القرآن. وفيه يقول: "هذه الآية الكريمة معناها والله أعلم: أن اللحوم والأسماك والألبان إلى آخره أفضل في التغذية من البقول والقمح والذرة، وليست الأفضلية في مقدار المواد الزلالية الضرورية للجسم في كل نوع؛ لأن هذا يجب ألا يكون سببًا مهمًّا للأفضلية.
ثم يعقد مقارنة بين بعض الأغذية، وما فيها من نسبة المواد الزلالية، ثم يقول: وقد اهتدت أخيرًا لجنة الأبحاث بانجلترا إلى أن قيمة المواد الزلالية تختلف في نوعها، وفي المقدار منها الذي يمنع المواد الزلالية المكونة للأنسجة من أن تخترق. ورأوا أن اللحوم بالنسبة للمواد الزلالية، ونوعها لها قيمة أكثر من اللبن والذرة، مثل البيان التالي: لحوم يضع تحتها عدد ١٠٤، لبن القمر يضع تحتها عدد ١٠٠، أرز يضع تحته عدد ٨٨، بطاطس ٧٩ فول ٧٠، دقيق ٤٠ ذرة ٣٠.
ثم يقول: إن هذه النتيجة التي لخصها القرآن الشريف لم تظهر حقيقة ثابتة، إلا منذ سنوات قليلة.
وغير هذا كثير في كتاب (الإسلام والطب الحديث) مما لا نصدق أنه مراد الله من خطابه للعرب بالقرآن، وإن كان لا يتعارض مع ما ثبت من ذلك علميًّا وتحققت صحته، هذا وإن أعظم علماء العصر الحديث تشيعًا للنزعة التفسيرية العلمية.
1 / 27
منهج الشيخ طنطاوي جوهري في كتاب (الجواهر)
وأكثرهم إنتاجًا لهذا التفسير العلمي هو المرحوم الشيخ طنطاوى جوهري؛ إذ إنه جمع كثيرًا من هذا العلم، وأطال في تفسيره (الجواهر) الذي يقع في خمسة وعشرين جزءًا كبارًا، والمطبوع بمصر سنة ١٣٤١هـ / ١٣٥١ هـ، يعني في هذه المد
يقول الدكتور الذهبي: "ولهذا أرى أن أتكلم عنه بما يكشف عن طريقة مؤلفه ومنهجه، الذي سلكه فيه". أولًا: الدوافع التي حملت المؤلف على كتابة هذا التفسير، الشيخ طنطاوي جوهري يقول عن نفسه: "إنه مغرم بالعجائب الكونية، معجب بالبدائع الطبيعية، مشوق إلى ما في السماء من جمال وما في الأرض من بهاء وكمال".
ثم يقول الشيخ طنطاوي جوهري: "إنه لما تأمل الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية، وجد أكثر العقلاء وبعض أجلة العلماء عن تلك المعاني معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم، وما أودع فيها من الغرائب. فدفعه ذلك إلى أن ألف كتبًا كثيرة مزج فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعل آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع، وحكم الخلق، وكان من أهم هذه الكتب كتاب (نظام العالم والأمم) و(جواهر العلوم) و(التاج المرصع) و(جمال العالم) و(النظام والإسلام) و(الأمة وحياتها) ". لكنه وجد أن هذه الكتب رغم كثرتها وانتشارها وترجمتها إلى اللغات الأجنبية، لم تشف غليله، فتوجه إلى ذي العزة والجلال أن يوفقه إلى أن يفسر القرآن تفسيرًا ينطوي على كل ما وصل إليه البشر من علوم، فاستجاب الله دعاءه، وتم له ما أراد.
1 / 28