المنهج المقترح لفهم المصطلح
الناشر
دار الهجرة للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م
مكان النشر
الرياض
تصانيف
المَنْهَجُ المُقْتَرَحُ
لِفَهْمِ المُصْطَلَحِ
دراسة تأريخية تأصيلية لمصطلح الحديث
(وهي مقدمة تمهيدية لكتابي:
المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس)
تأليف
الشريف حاتم بن عارف العوني
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن علوم السنة المشرفة من أجل العلوم أو أجلها، وأحقها بالتعلم والتعليم، وأولاها بكل اهتمام وعناية. فهي العوم التي عرفنا بها معاني كتاب الله، وبيان مجمل آياته، وتفسير حكمه وعظاته. وهي العوم التي أدت لنا أحاديث النبي ﷺ، وأسمعتنا ... منيرحروفها، وأرتنا مواقع العبر، وبصرتنا معالم الاقتداء، ومثلت لنا في فيها الأسوة الحية في شخصه ﷺ. وهي العوم التي حرست الدين، وحمت الشريعة، من كذب الكاذبين، وافتراء المبطلين، وجهل المسلمين
وهذه العلوم الشريفة - كشرف ما تخدمه من سنة النبي ﷺ قام بإنشائها وبنائها وإبداعها وإتمامها = علماء أمة محمد ﷺ عبر
1 / 5
العصور، وأئمة المسلمين على مر الدهور. فهم أصحاب تلك المفخرة، وبناة ذلك الصرح الخالد، وملاك مفاتيح قصوره. وكيف لا؟ وهم ورثة الأنبياء، ورسل الرسل، وحملة الشريعة، وأمناء المِلّة، وحرّاس الدين، والموقعين عن رب العالم، والموقعين عن رب العالمين!!
فخرجت علوم السنة من عصارة تلك العقول، ومن نتائج تلك الأفكار، علومًا عميقة، بعيدة الغور، دقيقة المسالك، فليس من السهل فهمُها، ولا من المتيسر إدراكها.
وعبّر عن ذلك قائلهم، بنوع من الطّرافة، فقال: «الحديث ذكر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم» (١) .
وكان قد بدأ مع نشأة هذه العلوم استخدام ألقاب وأوصاف للأحوال المختلفة للراوي والمروي، هي المسماة بمصطلح الحديث. وكانت تلك المصطلحات حية المدلول العرفي بين المحدثين حقبة من الزمن، فلم تكن تغمض عليهم معانيها، ولا يستشكل عليهم مفادها.
فلما تناقص العلماء، وتفانى أصحاب الحديث، واجتالت علومهم عوامل الضعف والتغير؛ بدا علم الحديث غريبًا بين أهله، بعيدًا بين أقربائه. فانبرى لذلك البقية المتبقية من علماء الحديث ونقاده، إلى شرح مصطلحه وبيان أصوله وضوابطه.
لكن (وعلى مر الأزمان) تعددت المناهج في فهم مصطلح الحديث، فاختلفت الأقوال في تفسيره؛ وتباعدت الطرائق في دراسة أصوله، فتباينت المذاهب في وضع قواعده وتحديد ضوابطه. وتأثرت كتب علوم الحديث بعقائد مؤلفيها ومذاهبهم،
_________
(١) انظر الكامل لابن عدي (١/٥٨ـ ٥٩)، وترجمة الزهري في تاريخ دمشق لابن عساكر، المطبوعة مفردة (١٥٠) .
1 / 6
وبعلوم أجنبية عنها، تشبع بها أولئك المصنفون.
فلما بلغ الأمر إلى هذا العصر، وقد قربت الساعة، وقل أهل السنة والجماعة، فكم هم؟ وأين هم؟ ازدادت غربت علوم السنة، وبعدت أفهام كثير من طلبة العلم من أهل عصري عن إدراك معاني مصطلحاتها. وصار كثير منهم إذا ابتغى الحق في مسائل علوم الحديث أخطأ طريقه، ورام غير سبيله، وهو صادق النية في ابتغائه بسبب عدم العم بنشأة العم الذي يبحث فيه، وكيفية تطور مصطلحه عبر العصور، وبأسباب قوته في قرونه الأولى، وعوامل ضعفه بعد ذلك. ثم بسبب الجهل بمناهج المصنفات في علوم الحديث، وبالمؤثرات المؤدية إلى اختلاف تلك المناهج، وبالتعامل المنصف السليم مع كل واحد منها، وإنزال الأقوال والتنظير المبني عليه منزلة أصله ومنبعه. وأخيرًا بسبب عدم وضوح الخطة التي يجب السير عليها لفهم المصطلح، وبخطواتها على التفصيل، حتى يمكن اقتفاؤها، وأسباب أخيار هذه الخطة دونما سواها على علوم السنة
وبعد إذ حباني الله تعالى - له الحمد والمنة - بأن كنت من طلبة علم الحديث الشريف، وممن له شغف واشتغال به منذ نعومة أظفاري، وقطفت معه زهرة شبابي، وأنا خلال ذلك ويعلم الله - منكب على قراءته ودرسه، منصرف عن غيره به، عازف عن استعجال التصنيف فيه قبل أوان التصنيف، مع ما أراه من أبناء عصري وإخوان جيلي من التسارع إلى ذلك. وكنت أثناء تعلمي - ولم أزل في تلك الأثناء، لا خرجت منها - قد وقفت على ذلك البحر المتلاطم، واخضم المتلاحم، من تلك الاختلافات في علوم الحديث، وذلك التباين في فهم مصطلحه،
1 / 7
وما جر هذا من تناقض التطبيق مع التقعيد، وتضاد الأقوال والمناهج أيضًا فهالني الأمر جدًا، وبقيت زمانًا متحيزًا بين تلك الموارد، مترددًا بين تيك المشارب
وكم كنت أسمع شيوخنا الأفاضل وأساتذتنا الأماثل عند أخذنا منهم لهذا العم، يرددون عبارة خطيرة المضمون، لكنها كانت تخرج منهم وتمر علينا دون أن نقدرها قدرها فقد كانوا يقولون عند شرحهم لبعض المصطلحات: «معنى المصطلح: (كذا)، عند المتأخرين، وليس معناه كذلك عند المتقدمين» . فكنت أعجب من ذلك غاية العجب، وأستغرب من دواعي هذا الاختلاف، ومن فائدة هذا الفهم المغاير لفهم أصحاب الأصول من أهل الاصطلاح، الذين: منهم، وإليهم، وفيهم، وعنهم: يدور الكلام في علم الحديث
وما زلت أستغرب ذلك حتى استنكرته، وحين استنكرته وضح لي الطريق، وتبينت المنهج، والله الحمد كله
وعندها لاحت لي أخطار جمة تحدق بعلوم السنة، لا يسعني السكوت عنها. فجردت القلم للدفاع عن السنة، وفي بيان (المنهج المقترح لفهم المصطلح)، وفي التحذير من المناهج ذات النتائج المدمرة لعلم الحديث.
وليس يخفى علي أن بعضًا من أهل عصري لن يرضى عن هذا الطرح، ولن يعجبه ذلك المنهج المقترح، لا لشيء، إلا لأن لسان حاله يقول: «يا ابن أخي لا خير لك فيما لم يبلغه علمي» لله أبوك ... فلاخير إذن في جل الحق !!!
لو كان جهل هؤلاء جهل من يدري بأنه لا يدري، لكان الخطب كلا خطب، فإنما شفاء العي السؤال. لكن جهلهم جهل من لا يدري بأنه لا يدري، فقتلوا العلم، قتلهم الله
1 / 8
وأمثل لك حالهم: هم ممن حدا العجز بهم إلى الرضى بالكسل والخمول، وفرحوا بالشهادات، ورضوا بالألقاب. ثم هداهم جهلهم إلى التشبث بقول من الأقوال، فلم يروا سواه، «وأجرأ الناس على الفتيا أجهلهم بالخلاف» . فلا كان الحق والصواب عندهم معيار الاختيار، ولا الباطل والخطأ سبب الرفض! وأنى لهم ذلك؟!! وقد قيدوا أنفسهم بمختصرات في علوم الحديث، إن زادوا زادوا عليها حواشيها وشروحها، فإن توسعوا اكتفوا بفهم خطأ وتأويل بعيدٍ لكلام أهل الاصطلاح. وهم خلال ذلك قد حصنوا أنفسهم بلقاح (إجلال العلماء)، وسوغوا للناس ذلك بجرعة (عظيم أقدار الأئمة)، وهي كلمات حق يراد بها باطل!!! فلا أجل العلماء، من قلد أحدهم غير ناظر إلى من عداه من العلماء؛ ولا عرف أقدار الأئمة، من رضي قولًا لواحدٍ منهم دون دليله، من غير اعتبارٍ لما سواه، وكأنه كلام ما قيل! أرأيت وقد قالوا عن الباطل: كيف وقد قيل؟ !!
ومع ذلك كله: فوالذي نفسي بيده! لو لم يكن الأمر من أجل السنة، وفي سبيل السنة، وعن منهاج السنة = لخطبت ودهم، ولسعيت إلى رضاهم. فلا رضي أبعدهم إذا كان العلم يسخطه، ولا قرت عينه إذا كان نور الحق يعشيه!!
وسوف ألفظ ذكرهم، بعد أن ضقت بهم، وكرهت معناهم ولفظهم!
أما بحثي هذا، فقد كان في صورته الأولى مقدمة مختصرة لكتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس: دراسة نظرية وتطبيقية على مرويات الحسن البصري) . جعلتها له مقدمة تأصيلية، أساسًا أبني عليها، وقاضيًا أحتكم إليها، فيما يعترضني من اختلافات ومذاهب.
1 / 9
ثم شاء الله تعالى، ولأسبابٍ لا أحب ذكرها، أن أفصل هذه المقدمة عن ذلك الكتاب. وكان ذلك خيرًا (بحمد الله تعالى)، حيث توسعت في هذه المعدمة، بما أرجو أن يكون أدعى لوضوحها وقبولها من القارئ الكريم. ولعلي أعود إليها بتوسع أكبر، وخاصة في بعض أبوابها، وفصولها، فيما إذا اضطررت إلى ذلك!
ثم إني إذ أكتب هذا البحث ن مسطرًا فيه ما أحسبه الحق الصراح؛ إلا أني لا أشك أن الخطأ حليف بني آدم، والنسيان من خلقة الإنسان. لكني أطلب من القارئ الإنصاف، وأسأله أن يجتهد في طلب العدل، كما أطالب نفسي بذلك. فإن وقف أحد على خطأ، أو اتضح له زلل، أو خالفني في شيءٍ من هذا البحث =
فالنقد العلمي سبيل التصحيح، والنصيحة الأخوية سبب القبول، والعدل في موازنة الحسنات بالسيئات نهج للحق واضح. إن أحب نشر ذلك: فبها ونعمت، وإن أحب أن يخصني بشيء منه: فهو حسن (١)
_________
(١) عنواني هو: المملكة العربية السعودية، مكة المكرمة، ص. ب ١٠٧٦٨/ العمرة.
1 / 10
الباب الأول:
تاريخ نشأة علوم الحديث وتطور
مصطلحه
الفصل الأول: في عصر النبي ﷺ وأصحابه ﵃.
الفصل الثاني: في عصر التابعين.
الفصل الثالث: في عصر أتباع التابعين.
الفصل الرابع: العصر الذهبي للسنة.
الفصل الخامس: في القرن الرابع الهجري.
1 / 12
الفصل الأول:
في عصر النبي ﷺ وأصحابه ﵃
لا شك أن نشوء علوم الحديث قديم قدم بدء الوحي على النبي ﷺ !
فأول علم نشأ منها علم الرواية، وأول رواية من هذا العلم سماع ورواية خديجة أم المؤمنين ﵂ لحديث بدء الوحي وقصة مجيء جبريل ﵇ بأوائل سورة (أقرأ) إلى النبي ﷺ في غار حراء (١) .
هذا أول حديث من وحي السنة، فهو أول ما نشا من علومها. ومن ذلك الحين، حين إنباء النبي ﷺ وإرساله، وإسلام السابقين الأولين، بزغ نور السنة مع القرآن، وسطعت شمس الإسلام بالآيات
والحكمة (٢)، وبدأت ملحمة الصلاع بين الحق والباطل.
_________
(١) حديث عائشة في بدء الوحي: أخرجه البخاري (رقم ٣ - وفيه أطرافه ـ)، ومسلم (رقم ١٦٠) .
(٢) ذكر الإمام الشافعي في الرسالة (٧٧- ٧٨ رقم ٢٥١- ٢٥٢) قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله والحكمة إن الله كان لطيفًا خبيرًا)] الأحزاب: ٣٤ [، فقال: «فذكر الله الكتاب، وهو القران، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقران يقول: الحكمة: سنة رسول الله ﷺ. (قال الشافعي:) وهذا يشبه ما قال، والله أعلم» .
1 / 13
وخلال هذه الفترة، فترة سنوات البعثة المحمدية (على صاحبها أفضل صلاةٍ وأتم تسليم) التي امتدت لثلاثةٍ وعشرين عامًا = كانت السنة النبوية ق
أنزلت منزلتها في مصادر التشريع الإلهي. وعلم من ذلك الحين أنه لا سبيل إلى رضى الله ﷿، وإلى الفوز بسعادة الدارين، إلا بكلام الله تعالى المنزل، وبيانه من سنة النبي ﷺ: القولية والفعلية والتقريرية.
ولن أطيل في ذكر عظيم حرص الصحابة ﵃ على الاقتباس من نور الملازمتهم للنبي ﷺ، وإصغائهم إليه بالألباب قبل الأسماع، ومد القلوب للنظر قبل الأبصار، واحتفافهم به ﷺ بالأرواح قبل الأجساد.
فما تركوا من أقواله قولًا إلا وفي القلوب نقشوه، ولا فعلًا إلا وضبطوه، ولا تقريرًا إلا وأحاطوا به علمًا. علموا أنه رسول الله فتتلمذوا عليه، وأيقنوا أنه وحي بجسده وروحه ﷺ فاقتدوا به، وأدركوا أنه سيد ولد آدم فلم يفوتوا فرصة حياته (طاب حيًا وميتًا بأبي هو وأمي ﷺ، وآمنوا أن حبه أحب الأشياء إليهم - بعد حب الله تعالى - فتفانوا وبذلوا حتى ﵃ وأرضاهم.
فلله درهم
ولم يزل النور متصلًا بالوحي من السماء حياته ﷺ ن فلقلوب بالإيمان تزخر، والنفوس بالخير تزكو، والعقول بالعلم تثقف ن والبصيرة بالنور السني تنفذ ن والجوارح بالقدوة تتطهر، والأرواح إلى الجنات ورضى الله تتسابق ز
فلما كمل الدين ن وتمت النعمة، ورضي الله لنا الإسلام دينًا، وبلغ النبي ﷺ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة،
1 / 14
وجاهد في الله حق جهاده = أتاه اليقين، ولحق بالرفيق الأعلى، وانقطع الوحي
عندها ختم على السنة بما كان في صدور الصحابة ﵃، وفقدت الأسوة إلا بما تمثله الجيل الأول ﵁.
فعلم الصحابة ﵃ عظم الأمانة التي عليهم للأمة عبر العصور، وأدركوا ثقل هذا الحمل الذي سيسائلهم الله تعالى عنه، ثم رغبوا أيضًا بالأجر العظيم الذي سينالونه إذا أدوا هذه الأمانة، وبالثواب الممتد الجزيل إذا حملوا ذلك الثقل الأجيال من بعدهم كما تحملوها هم، وعقلوا أن عليهم: من واجب نشر الدين، وتبليغ الدعوة ونصرة الإسلام، وانتشال العباد من عبادة العبباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى
سعة الدنيا والآخرة = من لن يكون إلا بينشر العلوم السنية، وتبليغ الآثار المصطفوية، وتأديب الخلق بالأخلاق المحمدية.
لكنهم كانوا يعملون تمام العلم خطورة الأمر، وأنه تشريف وتكليف - وأي تكليف؟ - أن تكون الأمة إلى قيام الساعة، ليس لها طريق إلى العلم بدين الله، إلا عن طريق هذا الجيل، من تلامذة محمد ﷺ ورضي عنهم.
ثم إن الله تعالى قد أدبهم ورسوله صلى الله، على التوثق في الأخبار، والتحري في قبول ناقليها. ومن ذلك قوله تعالى (يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا ...)] الحجرات: ٦ [وقوله سبحانه: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم﴾ .
وقال ﷿ ﴿وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم
1 / 15
ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا﴾ .
(١) ومنه أيضًا قوله ﷺ ك «كفى بالمرء كذبًا] وفي رواية: إثمًا [أن يحدث بكل ما سمع» (١)، وقوله ﷺ: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» (٢)، وقوله ﷺ: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (٣) .
لذلك فقد اجتمع في هذا الجيل، من دوافع نشر السنة وتعليمها، ومن أسباب التوثق والتورع؛ ما جعله يقوم بأداء الأمانة خير أداء، من غير زيادةٍ ولا نقصان، على الوجه الذي تكفل بتحميل تلك الأمانة للأجيال من بعدهم، وإخلاء المسؤلية عنهم بعد ذلك الكمال والشمول والدقة المتناهية في التبليغ والأداء.
وقد جاءت أخبار متكاثرة في بيان توثق الصحابة رضوان
_________
(١) جه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (رقم ٥)، وأبو داود (رقم ٤٩٩٣)، وابن حبان في صحيحه - الإحسان (رقم ٣٠)، والحاكم (١/١١٢)، وغيرهم. وقد اختلف في هذا الحديث على وصله وإرساله، فرجح الدارقطني في العلل إرسلاله (٣/١٧٥/أ)، بينما صححه ابن حبان والحاكم كما رأيت، مع عرض الحاكم للاختلاف فيه. وقد نبهني فضيلة الشيخ سعد الحميد على أنه وقع إقحام (في الطباعة) في أحد
طريقي الإمام مسلم، جعل الحديث من وجهيه متصلًا، مع أن الصواب أن الإمام مسلمًا أخرجه مبينًا الخلاف في وصله وإرساله.
(٢) هو حديث صحيح ثابت، مما وصف بأنه متواتر: انظر قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة للسيوطي (رقم ١)، ولقط اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة للزبيدي (رقم ٦١)، ونظم المتناثر في الحديث المتوتر للكتاني (رقم ٢)، وانظر مبحث (المتواتر) هنا= ص (٩١ـ ١٣٢) .
(٣) أخرجه الإمام أحمد (٤/٢٥٢، ٢٥٥)، ومسلم في مقدمة صحيحه (١/٩)، والترمذي (رقم ٢٦٦٢) وقال ك «حسن صحيح»، وابن ماجه (رقم ٤١)، وغيرهم = من حديث المغيرة بن شعبة ﵁، وهو صحيح عنه، كما قال الرمذي ز وأخرجه الإمام أحمد (٤/١٩ـ ٢٠) ن ومسلم في مقدمة الصحيح (١/٩)، وابن ماجه (رقم ٣٩)، وابن حبان في صحيحه ت الإحسان - (رقم ٢٩) = من حديث سمرة بن جندب ﵁، وهو صحيح عنه، كما ذكر ابن حبان.
1 / 16
الله عليهم في نقل السنة، في حياته ﷺ، فضلًا عما بعد وفاته ﵊.
ومن أمثلة توثق الصحابة ﵃ للسنة في حياته ﷺ، ما ثبت في حديث عمر بن الخطاب ﵁، في اعتزال النبي ﷺ نساءه، وما شاع حينها بين الصحابة أنه ﷺ طلقهن، فجاءه عمر ﵁ يستأذن عليه، ليستثبته عن الخبر، فقال عمر للنبي ﷺ: «أطلقت نساءك؟» فقال ﷺ: «لا»، فكبر عمر ﵁، وقال: «يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله ﷺ نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال:، عم، إن شئت ...» (١) .
ومن ذلك أيضًا حديث أنس ﵁، في وفود ضمام بن ثعلبة ﵁ على النبي ﷺ، ليتوثق من نقل الرسول الذي أرسله النبي ﷺ إلى قومه؛ حيث قال ضمام للنبي ﷺ: «يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق. قال: فمن خلق السماء؟ قال ﷺ: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله. قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال = آلله أرسلك؟ قال: نعم ...» الحديث (٢) .
أما بعد وفاته ﷺ، فقد ازداد شعور الصحابة بالضرورة
_________
(١) اخرجه البخاري (رقم ٨٩، ٢٤٦٨، ٤٩١٣، ٤٩١٤، ٤٩١٥، ٥١٩١، ٥٢١٨، ٥٨٤٣، ٧٢٥٦، ٧٢٦٣)، ومسلم (٢/١١٠٥ـ ١١١٣رقم ١٤٧٩)، وغيرهما.
(٢) أخرجه البخاري (رقم ٦٣)، ومسلم (رقم ١٢)، والفظ لمسلم.
1 / 17
القصوى للتوثق للسنة، إذ لم يمكنهم الرجوع إلى معدنها واصلها، بعد أن فقدوا شخص النبي ﷺ، وواروه التراب!!
ومن ذلك ما وقع للخلفية الثاني عمر بن الخطاب ﵁.
فعن أبي سعيد الخدري، قال: «كنا في مجلسٍ عند أبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضبًا] وفي رواية: فزعًا أو مذعورًا [حتى وقف، فقال: أنشدكم الله! هل سمع أحدُ منكم رسول الله ﷺ يقول: (الا ستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع)؟ قال أبي: وما ذاك؟ ! قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت. ثم جئت. ثم جئته اليوم، فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت أمس، فسلمت ثلاثًا، ثم انصرفت. قال: قد سمعناك، ونحن حينئذٍ في شغل، فلو استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله ﷺ. قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن شهد لك على هذا (١) .
فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا صنًا! قم يا أبا سعيد. فقمت حتى أتيت عمر، فقلت: قد سمعت رسول الله ﷺ يقول هذا» (٢)
_________
(١) لم يكن هذا من عمر ﵁، لأنه لم يكن يحتج بخبر الآحاد، كما زعموا!! فإنه لما قبل حديث أبي سعيد، لم يزل الخبر بعدها آحادًا. ولم يكن هذا أيضًا، لأ، هـ لم يكن يثق بأبي موسى، حاشاه، وإنما فعل ذلك زيادة في التثبت، طلبًا لاطمئنان القلب، كما جاء صريحًا عن عمر نفسه في بعض الروايات، وكما بينه العلماء أيضًا، فانظر فتح الباري (١١/٣٢شرح الحديث رقم ٦٢٤) .
(٢) أخرجه البخاري (رقم ٦٢٤٥)، ومسلم (رقم ٢١٥٣)، واللفظ لمسلم.
1 / 18
بل لقد كان عمر ﵁، كما سقول الإمام الذهبي: «هو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل» (١) . يعني: أنه حرص على إشاعة هذه السنة وتعليهما، وأخذ الرعية على التزامها، والتشديد في ذلك؛ وهي سنة التوثق والتحري للسنة.
قال إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: «بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود، وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود الأنصاري،] وإلى أبي ذر [، فقال: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله ﷺ!!
فحبسهم بالمدينة (٢)، حتى استشهد» (٣)
_________
(١) تذكرة الحافظ (١/٦) .
(٢) قال أبو عبد الله ابن بري شيخ الرامهرمزي - كما في المحدث الفاصل (٥٥٣رقم ٧٤٥) ـ: «يعني منعهم من الحديث، ولم يكن لعمر حبس» . قلت تنبيه حسن. ظاهر أن معنى (حبسهم)، أي: منعهم الخروج من المدينة.
(٣) إسناده صحيح، فإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قد سمع من عمر ﵁ على الصحيح، كما يأتي بيانه. أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم ٣٧٢)، وابن سعد في الطبقات (٢/٣٣٦)، وابن أبي شيبه في المصنف (٨/٧٥٦)، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم ١٤٧٩)، والبلاذري في أنساب الأشراف - ترجمة الشيخين: أبي بكر وعمر - (١٥١)، والطحاوي في بيان مشكل أحاديث رسول الله ﷺ واستخراج ما فيها من الأحكام ونفي التضاد عنها - المطبوع باسم: شرح مشكل الآثار! انظر نماذج المخطوطات في مقدمة تحقيقه (١/١٠٥ـ ١١٩)، وفهرسة أبي بكر الإشبيلي (٢٠٠) - (١٥/٣١١ـ ٣١٢)، والطبراني في المعجم الأوسط - كما في مجمع البحرين للهيثمي (رقم ٣٠٤)، والرامهرزي في المحدث الفاصل (رقم ٧٤٥)، والحاكم وصححه في المستدرك (١/١١٠)، وأبو نعيم في الإمامة (رقم ١٣٠)، وابن حزم في الإحكام (٢/١٣٩)، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (٨٧ رقم ١٩٠)، وابن عساكر في تاريخ دمشق - المطبوع ت (٣٩/١٠٨) - والمخطوط - (١٣/٧٤٩-٧٥٠، ٧٥٠) . وله أسانيد متعددة، تلتقي: في شعبة بن الحجاج أو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف
به.
والأسانيد بذلك صحيحه، كما سبق.
لكن بعض الأئمة أعله بالانقطاع بين إبراهيم وعمر ﵁، منهم: ابن حزم في الإحكام (٢/٢٣٩-١٤٠)، وشنع في رده. ونحوه الهيثمي في مجمع البحرين (١/٢٦٣)، حيث قال: «هذا باطل، لا يصح عن عمر..»، ثم أعله بالانقطاع، ورد قول الواقدي بإثبات سماع إبراهيم من عمر ﵁.
وإليك بسط مسألة سماع إبراهيم بن عبد الرحمن من عمر ﵁:
فنفى السماع - كما سبق ـ: ابن حزم، والهيثمي. وقال البيهقي في السنن الكبرى (٨/٢٧٧): «لم يثبت له سماع من عمر بن الخطاب ﵁، وإنما يقال رآه» .
وخالفهم جماعة: فقال الإمام أحمد في العلل (رقم ٤٦٤): «وإبراهيم بن عبد الرحمن لا شك فيه، سمع من عمر» .
وقال يعقوب بن شيبة - كما في تاريخ دمشق لابن عساكر المطبوع (٢/٤٦١)، وكما في تهذيب التهذيب (١/١٣٩) ـ: «لا نعلم أحدًا من ولد عبد الرحمن روى عن عمر سماعًا غيره» .
وأثبت السماع أيضًا: ابن جرير الطبري، كما في التهذيب (١/١٤٠) . وأثبته أيضًا الواقدي، فقال - كما في طبقات ابن سعد (٥/٥٦) ـ: «لا نعلم أحدًا من ولد عبد الرحمن بن عوف روى عن عمر سماعًا ورؤية غير إبراهيم» .
والفصل في ذلك الروايات بأزمتها وخطمها!
قال الدولابي في الكنى (١/١٨٩): «حدثنا محمد بن منصور الجواز، حدثنا عبد الله بن جعفر بن المسور ابن مخرمة، عن سعد بن إبراهيم، (أو حممة)، وكان جارنا يبيع الخمر» .
وهذا إسناد حسن.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات (٥/٥٦)، قال ك «أخبرنا يزيد بن هارون، ومعن بن عيسى، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديل، قالوا: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: إن عمر بن الخطاب حرق بيت رويشد الثقفي وكان حانوتًا للشراب، وكان عمر قد نهاه، فلقد رأيته يلتهب كأنه جمرة» .
وهذا إسناد صحيح. وقال سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: «اشهد على أبي، أنه أخبرني: أن أمه أمرت بشاةٍ فسلخت] وفي رواية: إني لأذكر مسك شاةٍ [، حين جلد عمر أبا بكرة، فألبستها إياه. فهل كان ذلك إلا من جلدٍ شديد؟!» . ... =
أخرجه عبد الرزاق (رقم ١٣٥١٠)، وابن أبي شيبة (٩/٥٢٤-٥٢٥، ٢٥٦، ووقع فيه تحريف ظاهر)، والبيهقي في السنن الكبرى (
٨/٣٢٦) . وإسناده صحيح. ومما يدل أيضًا على إدراكه لعمر ﵁: أنه ولد في أواخر حياة النبي ﷺ، ولذلك ذكره جماعة في الصحابة، كابن مندة، وأبي نعيم، وابن عبد البر، وابن الأثير، وابن حجر.
انظر معرفة الصحابة لأبي نعيم (٢/١٥٩رقم ٧٦)، والاستيعاب لابن عبد البر (١/٦١رقم ٢)، وأسد الغابة لابن الأثير (١/٥٣)، والإصابة لابن حجر (١/٩٨) .
1 / 19
وفي رواية أخرى لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال: «والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله ﷺ ن فجمعهم جميعًا من الآفاق ك حذيفة، وابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر. فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله ﷺ في الآفاق؟! قالوا: أتتهمنا؟ !!! قال ك لا، ولكن أقيموا عندي، ولا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم بما نأخذ منكم وما نرد عليكم. فما فارقوه حتى مات، فما خرج ابن مسعود إلى الكوفة ببيعة عثمان، إلا من سجن عمر (١) .
_________
(١) أورده ابن كثير في مسند الفاروق (٢/٦٢٤)، وقال: «إسناده جيد» .
قلت: وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس.
ثم اطلعت على الأثر: فقد أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق - المخطوط - (١١/٧٠٢)، وفيه تصريح ابن إسحاق بالسماع.
1 / 21
وهذا قرظة بن كعب الأنصاري ﵁، يروي أن عمر بن الخطاب ﵁ شيعه وفدًا خارجًا إلى الكوفة، فأوصى عمر الوفد وصية قال فيها: «إنكم تأتون بلدة ً لها دوي بالقرآن، كدوي النحل. فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله ﷺ] وفي رواية: فأقلوا الرواية عن رسول الله ﷺ [، وأنا شريككم» (١)
ولهذا التشديد في رواية السنة، والتحذير من أي دواعي الخطأ فيها، خطب معاوية بن أبي سفيان ﵁ على منبر دمشق قائلًا: «أيها الناس، إياكم وأحاديث رسول الله ﷺ، إلا حديثًا كان يذكر على عهد عمر ﵁، فإن عمر كان يخيف الناس في الله ﷿) (٢) .
وقد علق الإمام الطحاوي ٠ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصري ت ٣٢١هـ)، على هذه الآثار عن عمر
_________
(١) إسناده صحيح.
أخرجه أحمد في العلل (رقم ٣٧٣)، وابن ماجه في السنن (رقم ٢٨)، وأبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي (٢٩ـ ٣٠)، وابن سعد في الطبقات (٦/٧)، وابن أبي شيبة في المصنف - مختصرًا دون موطن الشاهد - (٦/٧)، وابن أبي شيبة في المصنف - مختصرًا دون موطن الشاهد - (١/١٠) (١٢/٥٣٥)، والدارمي في السنن (رقم ٢٨٥، ٢٨٦)، والطحاوي في بيان مشكل الأحاديث (١٥/٣١٦ـ ٣١٩)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (٥٥٣ رقم ٧٤٤)، وابن حبان في المجروحين ٠١/٣٥-٣٦)، والحاكم وصححه في المستدرك (١/ ١٠٢)، وابن حزم في الإحكام (٢/١٣٧-١٣٨)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (رقم ١٩٠٤ـ ١٩٠٦)، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (٨٨ رقم ١٩٢)، والمزي في تهذيب الكمال (٢٣/٥٦٥-٥٦٦) .
(٢) صحيح.
أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم ١٤٧٨)، وابن عدي في الكامل (١/٥، ١٩)، وأبو نعيم في الإمامة (رقم ١٣١)، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (٩١ رقم ١٩٨) .
1 / 22
﵁، في كتابه (بيان مشكل أحاديث رسول الله ﷺ، فقال: «فقال قائل: فما وجه هذا الذي رويتموه عن عمر، وهو إمام راشد مهدي؟ ! وأنتم تعلمون أنه لا يقف الناس على ماكان رسول الله ﷺ، إلا بما يحدثهم به أصحابه عنه، وفيما كان من عمر ما يقطعهم عن ذلك مما كان منه!!
(قال الطحاوي:) فكان جوابنا له في ذلك: أن عمر كان مذهبه حياطة ما يروى عن رسول الله ﷺ، وإن كان الذين رووه عدولًا. إذ كان على الأئمة تأمل ما يشهد به عندهم ممن قد ثبت عدله عندهم، فكان عمر فيما كان يحدث به عن رسول الله ﷺ مما لا يحفظه عنه كذلك أيضًا (١) . وكذلك فعل بأبي موسى مع عدله عنده فيما حدث به عنه، عن النبي ﷺ، مما لم يكحن عنده في الارستئذان مما ذكرناه فيما تقدم من كتابنا هذا. وقد وقف على ذلك منه أبي بن كعب ومن سواه من أصحاب رسول الله ﷺ، الذين وقفوا على ذلك منه ولم ينكروه عليه، ولم يخالفوه فيه، فدل ذلك على موافقتهم إياه عليه.
ولما كان ذلك كذلك: فعل في أمور الذين كان منه في حبسهم - مما كان فعله في ذلك - لهذا المعنى، لا لأن يقطعهم عن التبليغ عن رسول الله ﷺ الناس ما قد سمعوه منه. وكذلك كان أبو بكر ﵁ قبله في مثل هذا ...
(إلى أن قال:) وقد يحتمل أن يكون ما كان من الذين حبسهم - فيما كان حبسهم فيه - لتجاوز ما كان ينبغي أن يكون من أمثالهم، حتى خاف أن يقطعوا الناس بذلك، ويشغلوهم به
_________
(١) وهذا من (نقد المتون)، الذي ينكره أعداء السنة على علماء السنة أنهم لم يقوموا به.. هذا عمر قد سبق إليه!! وانظر ما يأتي في (ص ١٤٣) وحاشيتها.
1 / 23
عن كتاب الله ﷿، وتأمله، والاستنباط للأشياء منه، مما فيه تعلو مرتبة المستنبطين على من سواهم ممن يقرؤه، بقوله ﷿: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (١)، ولذكره سواهم ممن يقرؤونه بما سوى ذلك، بقوله: (لا يعلمون الكتب إلا أماني) (٢)، أي: إلا تلاوة، فلم يحمد ذلك منهم كما حمد أهل الاستنباط على الاستنباط» (٣) .
وقال ابن حبان (محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي: ت ٣٥٤هـ)، في كتابه (معرفة المجروحين): «لم يكن عمر بن الخطاب ـ] بما [قد فعل - يتهم الصحابة بالتقول على النبي ﷺ، ولا ردهم عن تبليغ ما سمعوا من رسول الله ﷺ، وقد علم أنه ﷺ قال: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» (٤)، وأنه لا يحل لهم كتمان ما سمعوا من رسول الله ﷺ. ولكنه علم ما يكون بعده من التقول على رسول الله ﷺ، لأنه ﵇ قال: «إن الله ﵎ نزل الحق على لسان عمر وقلبه» (٥)، وقال:
«إن
_________
(١) سورة النساء: ٨٣.
(٢) سورة البقرة: ٧٨.
(٣) بيان مشكل أحاديث رسول الله ﷺ، للطحاوي (١٥/٣١٣-٣١٦)، وانظر كلامًا نحو هذا الأخير في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (٢/١٠٠٤) .
(٤) حديث صحيح.
أخرجه البخاري (رقم ١٠٤، ١٨٣٢، ٤٢٩٥)، ومسلم (رقم ١٣٥٤)، من حديث أبي شريح الخزاعي، وأخرجاه وغيرهما من حديث غيره. بل عد هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، لأنه روي من طريق ثمانية عشر صحابيًا: انظر نظم المتناثر للكتاني (رقم ٤) .
(٥) حديث صحيح.
أخرجه الإمام أحمد (٢/٤٠١)، وابنه عبد الله في زياداته على فضائل الصحابة (رقم ٤١٥)، وابن حبان في صحيحه (رقم ٦٨٨٩)، وغيرهم من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 24
يكن في هذه الأ/ة محدثون: فعمر منهم» (١) .] فعمد عمر إلى الثقات [المتقنين، الذين شهدوا الوحي والتنزيل، فأنكر عليهم كثرة الرواية عن النبي ﷺ، لئلا يجترئ من بعدهم، ممن ليس في الإسلام محله كمحلهم، فيكثر الرواية، فيزل فيها، أو يقول متعمدًا عليه ﷺ لنوال الدنيا..» (٢) .
وقد علق الخطيب البغدادي على هذه الآثار عن عمر ﵁، بكلام نفيس، حيث قال: «إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله ﷺ، وتشديده عليهم في ذلك؟ قيل له: إنما فعل عمر ذلك احتياطًا للدين، وحسن نظر للمسلمين. لأنه خاف أن ينكلوا عن الأعمال، ويتكلوا على ظاهر الأخبار. وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها. فقد يرد الحديث مجملًا، ويستنبط معناه وتفسيره من غيره. فخشي عمر أن يحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحكم بخلاف ما أخذ به.
وكذلك نهى عمر الصحابة أن يكثروا رواية الحديث، وفي تشديد عمر أيضًا على الصحابة في روايتهم = حفظ لحديث رسول الله ﷺ، وترهيب لمن لم يكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها؛ لأنه إذا رأى الصحابي المقبول القول، المشهور بصحبة النبي ﷺ، قد تشدد عليه في الرواية، كان هو أجدر أن يكون للرواية أهيب، ولما يلقي الشيطان في النفس من تحسين
_________
(١) حديث صحيح.
أخرجه البخاري (رقم ٣٤٦٩، ٣٦٨٩): من حديث أبي هريرة ﵁، وأخرجه مسلم (رقم ٢٣٩٨): من حديث عائشة ﵂.
(٢) المجروحين لابن حبان (١/-٣٧) .
1 / 25