السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة
الناشر
دار القلم
رقم الإصدار
الثامنة
سنة النشر
١٤٢٧ هـ
مكان النشر
دمشق
تصانيف
ـ[السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة]ـ
المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: ١٤٠٣هـ)
الناشر: دار القلم - دمشق
الطبعة: الثامنة - ١٤٢٧ هـ
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة غير معروفة
الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدّمة الكتاب
الحمد لله الذي عمر الأرض ببني الإنسان، ومن عليهم بنعمتي العقل والبيان، ليميزوا بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين، وهادين إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، لتقوم على الناس الحجة، وتنقطع المعذرة.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي العربي، الذي أرسله الله سبحانه على حين فترة من الرسل، والناس في ضلالة عمياء، وجهالة جهلاء، ففتح الله به أعينا عميا، واذانا صمّا، وقلوبا غلفا، فكانت حياته خيرا وبركة على الدنيا كلها، وبعثته رحمة للعالمين.
أما بعد:
فإن خير ما يتدارسه المسلمون، ولا سيما الناشئون والمتعلمون، ويعنى به الباحثون والكاتبون دراسة السيرة المحمدية؛ إذ هي خير معلّم ومثقّف، ومهذب ومؤدب، واصل مدرسة تخرّج فيها الرعيل الأول من المسلمين والمسلمات، الذين قلّما تجود الدنيا بأمثالهم.
ففيها ما ينشده المسلم، وطالب الكمال من دين، ودنيا، وإيمان واعتقاد، وعلم، وعمل، واداب وأخلاق، وسياسة وكياسة، وإمامة وقيادة، وعدل ورحمة، وبطولة وكفاح، وجهاد واستشهاد، في سبيل العقيدة والشريعة، والمثل الإنسانية الرفيعة، والقيم الخلقية الفاضلة.
ولقد كانت السيرة النبوية مدرسة تخرج فيها أمثل النماذج البشرية، وهم
1 / 7
الصحابة- رضوان الله عليهم- فكان منهم الخليفة الراشد، والقائد المحنك، والبطل المغوار، والسياسي الداهية، والعبقري الملهم، والعالم العامل، والفقيه البارع، والعاقل الحازم، والحكيم الذي تتفجر من قلبه ينابيع العلم والحكمة، والتاجر الذي يحول رمال الصحراء ذهبا، والزارع والصانع اللذان يريان في العمل عبادة، والكادح الذي يرى في الاحتطاب «١» عملا شريفا يترفع به عن التكفف والتسول، والغني الشاكر الذي يرى نفسه مستخلفا في هذا المال ينفقه في الخير والمصلحة العامة، والفقير الصابر الذي يحسبه من لا يعلم حاله غنيا من التعفف، وكل ذلك كان من ثمرات الإيمان بالله، وبرسول الله، وبهذا كانوا الأمة الوسط، وكانوا خير أمة أخرجت للناس!!
لقد كان السلف الصالح من هذه الأمة الإسلامية يدركون ما لسيرة خاتم الأنبياء، وسير الصحابة النبلاء، من اثار حسنة في تربية النشء، وتنشئة جيل صالح لحمل رسالة الإسلام، والتضحية في سبيلها بالنفس والمال، فمن ثمّ كانوا يتدارسون السيرة، ويحفظونها، ويلقنونها للغلمان كما يلقنونهم السور من القران، روي عن زين العابدين علي بن الحسين- رضي الله تعالى عنهما- قال: «كنا نعلّم مغازي رسول الله ﷺ، كما نعلّم السورة من القران» «٢» .
وهذا هو الإمام الزهري عالم الحجاز والشام وهو من قدماء من عنوا بجمع السيرة، بل قيل إن سيرته أول سيرة ألفت في الإسلام «٣»، يقول: «في علم السيرة علم الدنيا والاخرة» «٤»، وإنها لكلمة صدق وحق، وروي عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص- ﵁ قال: «كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني هذه شرف ابائكم، فلا تضيعوا ذكرها» «٥» نعم- والله- إنها لشرف الاباء، والمدرسة التي يتربى فيها الأبناء!!
_________
(١) الاحتطاب جمع الحطب الذي توقد به النار، من الصحاري ورؤوس الجبال.
(٢) رواه الخطيب وابن عساكر.
(٣) السيرة الحلبية، ج ١ ص ٢.
(٤) رواه الخطيب وابن عساكر.
(٥) شرح المواهب، ج ١ ص ٤٧٣.
1 / 8
فما أجدر المسلمين في حاضرهم: رجالا ونساء، وشبابا وشيبا أن يتعلموها ويعلموها غيرهم، ويتخذوا منها نبراسا يسيرون على ضوئه في تربية الأبناء، والبنات، وتنشئة جيل يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بالإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، والتضحية بكل شيء في سبيل سيادته وانتشاره، لا يثنيهم عن هذه الغاية الشريفة بلاء وإيذاء، أو إطماع وإغراء.
لسنا نريد من دراسة السيرة العطرة: سيرة النبي ﷺ، وسير الرعيل الأول وهم الصحابة الكرام، أن تكون مادة علمية يجوز بها طلاب العلم في المعاهد، والمدارس، والجامعات الامتحان أو الحصول على الإجازات العلمية أو أن تكون حصيلة علمية نتفيهق بها، ونتشدّق في المحافل والنوادي، وقاعات البحث والدرس، وفي المساجد، والمجامع، كي نحظى بالذكر والثناء، وننتزع من السامعين مظاهر الرضا والإعجاب.
ولكنا نريد من هذه الدراسة أن تكون مدرسة نتخرج فيها، كما تخرج السادة الأولون، وأن نكون مثلا صادقة لصاحب الرسالة ﷺ، وصحابته الكرام عليهم الرضوان- في إيمانهم وعقيدتهم، وفي علمهم وعملهم، وأخلاقهم وسلوكهم، وسياستهم وقيادتهم حتى يعتز بنا الإسلام، كما اعتز بهم، ونكون في حاضرنا- كما كانوا- خير أمة أخرجت للناس.
وقد شاء الله سبحانه- وله الخيرة- أن أخرج سفرا في القسم الثاني من السيرة، وهو من بعد الهجرة إلى الوفاة النبوية منذ سنين، وقد نفد، وها أنذا أكمل ما بدأت، وهو الكتابة في القسم الأول من قبل الميلاد إلى الهجرة.
وقد شاء الله أيضا- ولله الحمد والمنة- أن أراجع بعض ما كتبت في القسم الأول في المدينة المنورة، وفي الروضة الشريفة، التي هي من رياض الجنة «١»، وأنا على قيد أذرع من البقعة المشرفة التي ضمت أفضل مخلوق على
_________
(١) روى مسلم في صحيحه بسنده عن النبي ﷺ أنه قال: «ما بين بيتي ومنبري، روضة من رياض الجنة» .
1 / 9
الله، وأطهر جسد عرفته الدنيا: جسد النبي ﷺ، وأن أبدأ بتبييض هذا الجزء في «طيبة» طابت وطاب المقام فيها.
ومن الله أستمد العون والتوفيق، فاللهم أعن وسدّد، امين.
وكتبه أبو السادات «١» محمّد بن محمّد أبو شهبته
من علماء الأزهر الشريف والمتخصص في القران وعلومه، والسنة وعلومها
_________
(١) لقد منّ الله عليّ بثلاثة ذكور، هم: محمد رضا، وأبو بكر، وعمر، فلم يكن أحب إلى نفسي من هذه الكنية.
1 / 10
مقدّمات تمهيديّة لدراسة السّيرة
١- منهجي في هذه الدراسة.
٢- تاريخ التأليف في السيرة وأشهر كتبها.
٣- التأليف في السيرة في العصر الحاضر.
1 / 11
- ١- منهجي في هذه الدراسة
١-: [ذكر الايات القرانية المتعلقة بحوادث السيرة]
لما كانت هذه الدراسة في ضوء القران والسنّة، فسأعنى بذكر الايات القرانية المتعلقة بحوادث السيرة ووقائعها، وشرح ما غمض منها، وإزالة ما عسى أن يكون بين ظواهر هذه الايات من توهم الاختلاف أو التعارض، وتنزيل هذه الايات على حسب الوقائع والحوادث.
بل رأيت كما رأى ابن إسحاق، ومن بعده ابن هشام، شرح الايات في الموضوع الواحد شرحا موجزا ولا سيما في الغزوات: كالأحزاب، والحديبية، وبني النضير، وكما صنعت في ايات الإفك. وإنّ من نافلة القول أن نقول: إن المرجع الأول في دراسة السيرة النبوية هو القران الكريم، لأنه الكتاب المتواتر الذي يفيد القطع واليقين، ولا يتطرق إليه الشك والارتياب، فهو أوثق المصادر، وأولاها بالقبول.
٢-: [ذكر الأحاديث المتصلة بموضوعات البحث]
وسأعنى أيضا بذكر الأحاديث المتصلة بالموضوعات التي سأعرض لها. ولن أذكر منها إلا ما هو صالح للاحتجاج من حديث صحيح، أو حسن، أو مقبول، ولن أذكر شيئا من الأحاديث الموضوعة أو الإسرائيليات المكذوبة، أو الروايات الشديدة الضعف، إذ في الأحاديث الثابتة ما يغني عنها، ومما ينبغي أن يعلم أن كتب السير والموالد فيها الصحيح والضعيف، بل والمكذوب المختلق، وذلك مثل ما زعمه بعض الكاتبين في الإسراء والمعراج من أن النبي ﷺ وطىء العرش بنعليه، وأن الله- ﷻ قال: لقد شرف
1 / 13
العرش بنعلك يا محمد، وهو كلام باطل، وقد سئل الإمام رضيّ الدين القزويني عن ذلك فقال: «أما حديث وطء النبي ﷺ العرش بنعله، فليس بصحيح، ولا ثابت، بل وصوله إلى ذروة العرش لم يثبت في خبر صحيح، ولا حسن، ولا ثابت أصلا، وإنما ثبت في الأخبار انتهاؤه إلى سدرة المنتهى فحسب» .
ومن ذلك الروايات التي تزعم تمسّح النبي صلوات الله وسلامه عليه بالأصنام، فكلها باطلة عقلا ونقلا، والروايات التي رويت عن ابن عباس وغيره من الصحابة التي ذكروا فيها عمر الدنيا، وأنها سبعة الاف سنة فهي إسرائيليات مكذوبة، ولا تمت إلى الإسلام بصلة، وعمر الدنيا أضعاف أضعاف ذلك، فلا نلتفت إلى شيء من ذلك مما قد نجده في بعض كتب التفسير، والحديث، والتاريخ والسير ونحوها.
٣-: [الاعتماد على كتب التاريخ والسير]
إن اعتمادي بعد القران والأحاديث الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد على كتب التاريخ والسير قديمها وحديثها، بعد البحث والتمحيص والتحقيق، والموازنة بين الروايات، والأخذ بما يصلح للاحتجاج منها، وترك ما عداه. ولن اخذ برواية راو، أو قول قائل يصادم عقلا، أو يخالف نقلا متواترا أو صحيحا، أو يمس عصمة النبي ﷺ، إلا إذا كان للرواية مخرج محتمل معقول، أو تأويل قريب مقبول، من غير تكلّف ولا تمحّل. وفي مقدمة كتب السّير كتاب شيخ كتّاب السير، وإمام أهل المغازي: محمد بن إسحاق، إلا إذا عارض روايته ما هو أصح منها كرواية صاحبي الصحيحين، فإني أرجّح ما في الصحيح، وابن إسحاق على جلالته في السيرة له بعض أوهام عرضت لها أثناء الكتاب، وبينت وجه الحق فيها.
٤-: [تحامل المبشرين والمستشرقين على النبي ص]
إن كثيرين من المبشرين، والمستشرقين، الذين يتأكّلون بالباطل قد تحاملوا على النبي ﷺ استجابة لنداء الصليبية التي ورثوها من ابائهم،
1 / 14
ورضعوها في لبان أمهاتهم، ورموه بأشنع الصفات التي يتنزه القلم عن ذكرها، وأسفّوا في ذلك غاية الإسفاف «١»، ولكن المنصفين منهم- وقليل ما هم- ردّوا عليهم، وأنصفوا النبي ﷺ بعض الإنصاف، وإن لم تخل كتبهم من الغمز واللمز.
وقد استندوا في طعونهم وسفاهاتهم إما على روايات باطلة اعتبروها صحيحة، وإما على روايات صحيحة حرّفوها عن مواضعها، وإما على أوهام تخيّلوها.
ومن الأباطيل التي تمسك بها بعض الكاتبين في السيرة من الغربيين، وأبواقهم المقلّدون لهم قصة الغرانيق، وزعمهم قيام الإسلام على السيف والإكراه، وطعنهم في النبي بسبب تعدد زوجاته ﷺ، وقصة زواجه بالسيدة زينب بنت جحش على ما يذكرها من لا علم عندهم، ولا تحقيق ولا تمييز بين الغث والسمين.
ومن مزاعمهم إنكارهم الوحي بالمعنى الشرعي، وتفسيرهم له بالوحي النفسي، بل أسفّ بعضهم فجعل الحالة التي كانت تعتري النبي صلوات الله وسلامه عليه عند الوحي نوعا من الصّرع، إلى غير ذلك مما أشبعت القول فيه في هذه السيرة المحققة.
ومن عجيب أمر المبشرين والمستشرقين أنهم في سبيل إرضاء أهوائهم، ونزواتهم الجامحة، وأحقادهم الموروثة يصحّحون الروايات المكذوبة، والإسرائيليات المدسوسة، ما دامت تسعفهم وتساعدهم على باطلهم، على حين نجدهم يحكمون على روايات صحيحة، بل في أعلى درجات الصحة بالوضع والاختلاق؛ لأنها لا تؤيدهم فيما يجترحون من طعون، وتجن أثيم على مقام النبي وال بيته.
ولست أدّعي أني في ردّي أباطيل المستشرقين والمبشرين ابن بجدتها،
_________
(١) حياة محمد، لإميل در منغم، ترجمة عادل زعيتر ص ١١؛ وحياة محمد، لهيكل ص ١٠، ١١.
1 / 15
وأبو عذرتها «١»، فقد سبق إلى تزييف ذلك في القديم والحديث علماء أجلاء جازاهم الله خيرا- ولكني- ولله الحمد والمنّة- قد أمكنني أن أضيف كثيرا إلى ما سبقت إليه، حتى غدا كأنه جديد.
كما أعانني تخصصي في الأصلين الشريفين: القران وعلومه، والسنّة وعلومها، وصحبتي لهما ما يقرب من نصف قرن؛ أن أنقد المرويات وأمحصها وأن أميّز بين صحيحها وضعيفها، وغثّها وسمينها، وأن أضيف إلى ما قاله السابقون بعض ما فاتهم، وذلك كما صنعت في إبطال قصة الغرانيق، وفرية قيام الإسلام على السيف، وبيان الحكم لتعدد زوجاته ﷺ، فقد استقصيت فيها القول، وأمطت اللثام عن وجه الحق.
٥-: [الجمع بين الهيكل التاريخي للسيرة النبوية التعليق على المواقف]
لن أقصر دراستي في السيرة النبوية على السرد التاريخي فحسب، كما صنع معظم المتقدمين، وبعض المتأخرين، ولا على التعليق على مواقف السيرة، أو جلها، مع إغفال الهيكل الأصلي، أو الجانب التاريخي كما صنع بعض المحدثين، وإنما جمعت بين الحسنيين: الهيكل التاريخي مع تحرّي الحقيقة، والتعليق على المواقف، ولا سيما الحاسمة في تاريخ الدعوة، وانتزاع العبر النافعة، والدروس المفيدة منها.
وما أذكر أنى تركت حدثا مهما، أو موقعة فاصلة، أو سرية مهمة، أو عملا بارعا، أو سياسة راشدة، أو قيادة حكيمة، أو أي تصرف كريم للنبي ﷺ، أو لأحد أصحابه، إلا وقفت عنده، أو عندها وقفة أو وقفات، ليتبين للقارىء فرق ما بين الأخلاق المحمدية، وسياساته الحكيمة الرشيدة في السلم، والحرب، ومع الأصدقاء، ومع الأعداء، وما بين أخلاق غيره، وسياسته ومعاملته لأصحابه، ولأعدائه، مهما بلغ ذلك الغير من العقل، والعلم، والكياسة، والسياسة، والقيادة، والعدل، والرحمة؛ لكي أخلص من ذلك إلى الفرق البعيد ما بين النبوة، وغير النبوة، والبشر الرسول، وغير الرسول.
_________
(١) يقال فلان ابن بجدتها، للعالم بالشيء، وأبو عذرتها إذا أتى بما لم يسبق إليه.
1 / 16
وفي الحق أن المحدثين في باب التحليل، والتعليق، والموازنة بين المواقف قد أربوا في ذلك على المتقدمين، وأكسبوا السيرة جدّة ورواء، وقد تفاوتوا في ذلك على حسب تفاوتهم في المواهب، وسعة العلم والأفق، والاطلاع على سير الاخرين.
٦- النبوة شيء، والعبقرية شيء اخر
وقد حرصت حينما فكرت في عنوان لهذا الكتاب ألاأتكلّف، فسميته «بالسيرة» «١»، وهو اللفظ الذي اختاره قدماء المؤلفين في السير، وقدماء الفقهاء حتى صار عرفا إذا ذكر اسم السيرة ألاينصرف إلا إلى سيرة النبي ﷺ، أو سير أصحابه الكرام رضوان الله عليهم. وقد أضفت «في ضوء القران والسنّة» لأن طبيعة البحث والمنحى تقتضي ذلك، ولم أرتض أن أجعل العنوان «العبقرية» «٢» وكذلك حرصت حينما كتبت في هذه السيرة، وحلّلت المواقف، وعلّقت عليها على ألاأصف النبي بالعبقرية، كما صنع مؤلفو «العبقريات» أو الزعامة السياسية، أو القيادة الحربية كما صنع الذين ألّفوا في الزعامات والقيادات، أو أعدّ النبي بطلا فحسب كما صنع «كارليل» في كتابه «الأبطال» أو «رسول الحرية»، كما فعل بعض الكاتبين، إلى غير ذلك مما افتنّ فيه المؤلفون؛ لأني أؤمن عن يقين وعلم أنه ﷺ فوق هؤلاء جميعا، إنه النبي والرسول، وكفى!!
_________
(١) قال في المصباح المنير: «والسيرة: الطريقة، وسار في الناس سيرة حسنة أو قبيحة. والجمع سير مثل سدرة وسدر، وغلب اسم السير في ألسنة الفقهاء، على المغازي، والسيرة أيضا، الهيئة والحالة» .
(٢) العبقرية نسبة إلى عبقر، أرض تزعم العرب أنها تسكنها الجن، ضرب بها العرب المثل لكل شيء عجيب عظيم، وقيل: قرية تصنع بها الثياب والبسط الفاخرة، فنسبوا إليها كل أمر عجيب، وكل شيء فاخر. وفي الكتاب الكريم: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ، وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ جيد البسط وفاخرها، ويطلق العبقري أيضا على سيد القوم، وقيمهم، وأعقلهم.
1 / 17
والعبقري: هو الأصيل الرأي، البعيد النظر، الذي لا يفوقه أحد في حل المشكلات، من غير تعمّل، ولا تكلّف، وقد وصف به النبي ﷺ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه- ففي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ: «أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر، فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا «١»، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت- أي الدلو- غربا «٢»، فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روى الناس، وضربوا بعطن» «٣» . ولم أعلم أحدا غير عمر وصفه النبي ﷺ بالعبقري، وهو ما عبّر عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه في حديث اخر «بالمحدّث» .
ففي الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما بسندهما عن النبي ﷺ قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدّثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب» والمحدّثون: هم الملهمون في إصابة الحق والصواب، وفي حل المعضلات وابتداع ما لم يسبقوا إليه. قال الإمام الخطابي: «يلقى الشيء في روعه، فكأنه قد حدّث به، يظن فيصيب، ويخطر الشيء بباله فيكون» . وقال أبو أحمد العسكري وغيره: «هو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيره» «٤» . ووقع في بعض الروايات تفسير المحدّث بأنه «الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه»، ووقع في
_________
(١) القليب: البئر، الذنوب: الدلو الملأى بالماء، وهو كناية عن قصر مدة خلافته- ﵁ وقلة الفتوحات لاشتغاله بحروب الردة وتثبيت دعائم الإسلام وبحسبه فضلا هذا.
(٢) الغرب: الدلو الكبير.
(٣) يفري فريه: يعمل عمله، ويقدر الأمور مثله، والعطن: مبارك الإبل حول الابار والمياه، والكلام كناية عن طول خلافته، وكثرة الفتوحات في عهده، وانتفاع الناس بثمرات الفتوح، وتدوينه الدواوين، وتمصيره الأمصار.
(٤) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج ٧ ص ٣٩، ٤٠.
1 / 18
صحيح مسلم من رواية ابن وهب «ملهمون»، وهي «الإصابة بغير نبوة»، ووقع في رواية للبخاري زيادة «من غير أن يكونوا أنبياء» «١» .
فمن ثمّ نرى أن المعاني كلها تلتقي عند معنى الإلهام، وأن في بعض الروايات التنصيص على أنه إلهام بغير نبوة، فدل على فرق ما بين إلهام الأنبياء وإلهام المحدّثين غير الأنبياء، وهذا الإلهام بغير نبوة هو ما يعرف بالعبقرية، فهي لا ترجع إلى الذكاء، والفطنة، والتجربة، وإنما مرجعها إلى الإلهام وإلقاء الصواب في النفس من غير تعمّل وتكلّف، فالعبقرية إذا تليق بملهم محدّث من أصحابه كعمر، والزعامة إنما تليق بسياسي محنك كمعاوية مثلا، والقيادة الحربية إنما تليق بأمثال سيف الله خالد، وسعد، وأبي عبيدة، والبطولة إنما تليق بالكثيرين من أصحابه كعلي، وأبي دجانة، وأبي طلحة، والمقداد بن عمرو، وطلحة بن عبيد الله- ﵃ أجمعين- على ما اتصفوا به من قوة الإيمان، وحسن السيرة، وسمو الأخلاق.
إنه ﷺ فوق أي عبقري، وأجلّ من أي زعيم، وأعظم من أي قائد، وأشجع من أي بطل، وأسمى من أي مصلح، لقد جمع له من صفات هؤلاء خيرها، وأفضلها، وأعدلها، وأرحمها. ولكنه فوق هؤلاء جميعا، إنه نبي يوحى إليه، ورسول يبلّغ عن ربه، وهذا ما لا يدرك ولا ينال.
فجعل العبقرية، أو الزعامة، أو القيادة، أو البطولة، أو الإصلاح، أو أو ... عنوانا له ﷺ فيه تحيّف عليه، وهضم لحقه صلّى الله عليه وعلى اله وسلم.
والذين كتبوا في حياة النبي وسيرته من غير المسلمين لا يؤمنون به على أنه نبي ورسول، فمن ثمّ كتبوا عنه على أنه عظيم، أو بطل، أو مصلح، أو زعيم أو نحو ذلك، وإن كان بعضهم كتب عنه تحت عنوان «حياة محمد» ولا يجوز لنا معاشر المسلمين المؤمنين، ولا سيما أهل العلم، والدين، أن نجاريهم فيما عنونوا
_________
(١) صحيح البخاري- كتاب فضائل الصحابة- باب مناقب عمر، وصحيح مسلم- كتاب فضائل الصحابة- باب فضائل عمر.
1 / 19
به وفيما وصفوه مما يخلّ بالنبوة، أو يخدشها؛ لأننا نعتقد أنه نبي ورسول، وكل الصيد في جوف الفرا.
ومما يزيد الضوء والتوضيح لما أريد أن الفاروق الملهم العبقري، وصاحب الموافقات «١»، والذي قال فيه النبي «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» «٢» كان كثيرا ما يبدي رأيا، ويبدي رسول الله رأيا، فإذا به يعود إلى رأي رسول الله مذعنا مقتنعا، فمن ذلك أنه لما عرض على النبي أن يقتل رأس النفاق ابن أبيّ بعد ما كاد يثير فتنة بين المهاجرين والأنصار قال له النبي: «وكيف يتحدّث الناس- يا عمر- أن محمدا يقتل أصحابه»؟!! ثم كان من المؤمن الصادق عبد الله بن عبد الله بن أبيّ أن جاء إلى النبي يعرض عليه قتل أبيه فقال له: «لا بل نترفّق به، ونحسن صحبته ما دام بيننا» !! وصار من أمر رأس النفاق أنه كلما أبدى لونا من ألوان النفاق لامه قومه وعنفوه، فأراد أن يبين الرسول لسيدنا عمر بعد نظره، وأصالة رأيه لمّا أبى على عمر قتله فقال: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له انف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» !! فقال عمر: قد- والله- علمت لأمر رسول الله ﷺ أعظم بركة من أمري!!.
وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة قال الفاروق عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، وما كان- علم الله- منافقا، فقال له النبي:
«وما يدريك يا عمر لعل الله اطّلع على أهل بدر، فقال لهم: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم ذنوبكم» !!
فإذا عمر يبكي بعد أن تبين له الحق، فيقول: «الله ورسوله أعلم» !! وسيدنا عمر هو القمة في العبقرية، ولكن أين العبقرية من النبوة؟! ومن العجيب حقا أن هذا المعنى الدقيق سبق إلى العلم به العباس عم
_________
(١) كان الفاروق عمر يرى الرأي ويتمناه فينزل الوحي بموافقته.
(٢) رواه أحمد وغيره.
1 / 20
النبي ﷺ، على حين غفل عن إدراكه كبار الكتاب، وحذّاق المؤلفين المعاصرين الذين ضربوا في كل علم وفن بسهم، وليس أدل على هذا من هذه القصة:
ذلك أنه لما أسلم أبو سفيان بن حرب ليلة الفتح- وكان العباس ﵁ قد سبقه إلى الإسلام- قال النبي للعباس: «خذ أبا سفيان، وقف به عند خطم «١» الجبل» وذلك ليرى جيش الفتح، فمرت به كتائب الله، وفيها «الكتيبة الخضراء» كتيبة رسول الله ﷺ، فلم يملك أبو سفيان نفسه أن قال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما!! فقال له العباس ﵁: إنها النبوة يا أبا سفيان!! فقال: نعم- والله- إنها النبوة!!
لقد وقفت عند هذه الكلمة طويلا، وهي التي أوحت إلي بما كتبت، وأكّدت في نفسي ما كنت علمت «٢» .
٧- المعجزات الحسية:
الذي أؤمن به أن القران هو المعجزة العظمى للنبي ﷺ، والاية العقلية الباقية على وجه الدهر، وأنه اية الايات، ومعجزة المعجزات، ولكني أؤمن أيضا أن النبي ﷺ أوتي من المعجزات الحسية مثل ما أوتي الأنبياء السابقون، بل وأعظم، وهذه المعجزات الحسية بعضها ثابت بالقران الكريم نصا: كالإسراء، وانشقاق القمر، أو بالإشارة إليه كالمعراج، وبعضها ثابت بالأحاديث المتواترة، والكثير منها ثابت بالأحاديث الصحيحة المروية في الصحيحين وغيرهما من كتب
_________
(١) هو ما برز منه في الطريق.
(٢) أذكر أنه طلب إلي من منذ بضعة عشر عاما أن أكتب مقالا لمجلة الأزهر بمناسبة الميلاد النبوي، فكتبت مقالا تحت عنوان «عبقرية النبي السياسية» وقد عرض المقال على أستاذنا الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين ﵀ رحمة واسعة، وكان شيخ الأزهر انذاك، فقرأ المقال وارتضاه، إلا أنه وقف عند العنوان، وصار يبتسم ابتسامته الوقورة المعبّرة، ففهمت ما أراد، واستشرته، فأشار علي أن أغيّر «عبقرية» «بموهبة» فأذعنت بعد أن اقتنعت، وكتبت تحت هذا العنوان بضع مقالات موسمية في مجلة «الأزهر»، ومن يومها وأنا أبالغ في التحرّي حينما أكتب عن الرسول ﷺ.
1 / 21
السنن والمسانيد. ولا يطعن في كونها معجزات أن النبي ﷺ لم يتحدّ الناس بها كما تحدّاهم بالقران الكريم؛ لأن فريقا من العلماء لا يشترط في المعجزة أن تكون مقترنة بالتحدي، ثم إن بعضها وإن لم يقع التحدّي به صراحة، لكنه في قوة المتحدّى به، ففي الصحيحين وغيرهما عن عدة من الصحابة أن المشركين من أهل مكة «سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم اية، فأراهم القمر شقّين حتى رأوا حراء بينهما» .
ولا أدري ما الداعي إلى إنكار المعجزات الحسية؟! والشيء إذا تواردت عليه الأدلة والبراهين ازداد قوة وثبوتا، وفي كتب الأحاديث من الصحاح والسنن والمسانيد الكثير من المعجزات الحسية، والإمامان البخاري ومسلم وهما من هما، دقة وتحريا عن الرجال، وتشدّدا في الحكم بالتصحيح- قد خرّجا في صحيحيهما قطعة كبيرة منها، وعقد الإمام البخاري لذلك بابا كبيرا «١»، ومن أراد زيادة في بحث «المعجزات الحسية» فليرجع إلى الفصل الذي كتبته في الرسالة التي ألفتها في «الإسراء والمعراج» «٢» .
والأقدمون من المؤلفين في السير والتاريخ ذكروا الكثير من المعجزات الحسية، وإن اختلفوا في ذكرها قلّة وكثرة، وابن إسحاق- شيخ كتاب السّير وعمدتهم- ذكر منها جملة مع قرب عصره من عصر النبوة، وقد لقي الكثيرين ممن أخذوا العلم والحديث عن الصحابة العدول، وروى عنهم.
وقد ابتدع هذه البدعة السيئة- وهي الاكتفاء بالقران- المستشرقون، ثم سرت عدوى هذه البدعة إلى كتابنا المعاصرين كالدكتور محمد حسين هيكل ﵀ في كتابه «حياة محمد»، وكذلك صنع المستشرق الفرنسي الذي أسلم (اتيين دينيه) وزميله السيد سليمان إبراهيم الجزائري، في كتابيهما «حياة محمد»، وقلما تجد أحدا من المؤلفين المتأخرين في «السيرة النبوية» يذكر شيئا من المعجزات الحسية.
_________
(١) صحيح البخاري- باب علامات النبوة.
(٢) ص ٢٠- ٢٧.
1 / 22
ومن هؤلاء من يتلطف فيقول: إنه ما دام القران اية دالة على صدق النبي ﷺ، فنحن في غنية عن غيره من الايات، ولا سيما والكثير منها لم يثبت إلا بالطرق الاحادية التي لا تفيد اليقين، ومنهم من يجاهر فينكر المعجزات الحسية جملة!!.
وأحب أن أقول لهؤلاء وأولئك: إن موقفهم من المعجزات الحسية وإنكارها، حدا ببعض المبشرين والمستشرقين إلى الطعن في النبي، وتفضيل غيره من الأنبياء عليه، بحجة أن النبي محمدا ﵊ ليس له من المعجزات الحسية المتكاثرة ما لموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وهكذا نراهم قد أعطوا لأعداء النبي- وإن لم يقصدوا- متكأ لهمزه ولمزه.
وأما أنا- اتباعا للمنهج العلمي الصحيح- فلن أجاريهم في هذا، فالشيء ما دام من الممكنات العقلية، ثم أخبر بوقوعه الرواة الموثوق بهم عدالة، وضبطا، وأمانة، فلا يجوز أن ننكره استنادا إلى استبعاده في العادة، وهل المعجزات إلا أمور خارقة للعادة.
وقد يكون من العوامل التي جعلتني أقف هذا الموقف بعد البحث والروية أني من المتخصصين في الحديث الشريف وعلومه، الذين سبحوا في بحاره، وغاصوا في أعماقه، حتى وصلوا إلى شيء من لالئه ودرره، واقتنعوا بعد الدراسة الطويلة المضنية بدقة ووفاء القواعد التي وضعها أئمة الحديث، وصيارفته وأطباؤه، لمعرفة الصحيح، من الحسن، من الضعيف، والمقبول من المردود «١»، وليس من البحث العلمي السليم إنكار المرويات جملة، وإنما الطريقة العلمية الصحيحة نقدها من ناحية السند والمتن، فإن لم نجد فيها مطعنا قبلناها، وإلا تركناها، فإذا لم نتبع هذه الطريقة صار الإنكار هوى وشهوة.
وإليك ما ذكره الإمام الحافظ الكبير ابن حجر في هذا، قال: «وأما ما عدا القران من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام، وانشقاق القمر، ونطق
_________
(١) أعلام المحدثين للمؤلف ص ٣٥- ٤٢.
1 / 23
الجماد، فمنه ما وقع التحدّي به، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحدّ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده ﷺ من خوارق العادات شيء كثير، كما يقطع بوجود جود حاتم، وشجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت مورد الاحاد، مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر، وانتشر، ورواه العدد الكبير، والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالاثار، والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه الرتبة لعدم عنايتهم بذلك، بل لو ادّعى مدّع أن غالب هذه الوقائع مفيدة للقطع بطريق نظري لما كان مستبعدا، وهو أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدّثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة، ولا من بعدهم مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك، ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق، لأن مجموعهم محفوظ من الإغضاء على الباطل» «١» .
ومعذرة إذا كنت أطلت في هذا، فالأمر يتعلق بمنهجين، وطريقتين، فكان لا بد من بيان الطريقة المثلى، والمنهج الحق المبين.
٨-: [الاعتناء بذكر التشريعات الإسلامية وتاريخها]
قد عنيت- ما استطعت- بذكر التشريعات الإسلامية وتاريخها، ولا سيما في القسم الثاني المدني الذي حفل بها، لأنها وثيقة الصلة بالسيرة النبوية، كما أخذت نفسي بذكر نبذ موجزة- ولكنها مفيدة- عن هذه التشريعات، حتى أعطي للقارئ صورة صادقة للإسلام الصحيح، وذلك كما صنعت في تشريع الصلاة، والأذان، وتحويل القبلة إلى الكعبة، والصوم، والزكاة، والعيدين، والحجاب، ونكاح المتعة ونحوها، وكذلك الأحداث المتعلقة بالسيرة كبناء مسجد قباء، والمسجد النبوي، وفضلهما، ومنزلة المساجد في الإسلام، ومسجد الضرار، وزواج النبي من أزواجه، مع بيان الحكمة في هذا الزواج، وذكر تعريف بكل زوجة، ومواليد المشاهير من الصحابة،
_________
(١) فتح الباري، ج ٧ ص ٣٩٢- ٣٩٣ ط الحلبي.
1 / 24
ووفياتهم، والتعريف بفضلهم ومنزلتهم بإيجاز، حتى لا يصل الكتاب إلى بضعة أسفار، إلى غير ذلك مما لا يستغني عن معرفته مسلم، فضلا عن طالب علم.
ولذلك التزمت التسلسل الزمني في السيرة بذكر السنوات وما حدث فيها كما صنع كثير من المؤلفين، ليسهل على القارىء لهذه السيرة معرفة تاريخ هذه التشريعات حتى بمجرد النظر إلى الفهرس، وقد اثرت هذه الطريقة على الطريقة الموضوعية في البحث، وإن كنت في بعض الأحيان التزمت الطريقة الموضوعية في البحث كما صنعت في هذا الجزء حينما عرضت لسياسة «الاضطهاد والإيذاء» وسياسة «الإطماع والإغراء» وعدم جدوى السياستين مع النبي ﷺ والمؤمنين المخلصين.
وفي الجزء الثاني حينما عرضت لبيان «موقف الإسلام من اليهود، وموقف اليهود من الإسلام» فقد جمعت الموضوع في مكان واحد، وكذلك فاتني، أو إن شئت الدقة فقل: أعجلت عن أن أكتب فصلا اخر عن «موقف الإسلام من المنافقين وموقف المنافقين من الإسلام» وسأتدارك ذلك- إن شاء الله- في الطبعة الثانية للجزء الثاني، كما فاتني أن أذكر في الفصول الموجزة التي ختمت بها الجزء الثاني عن المثل الكامل ﷺ، وجوانب حياته المشرقة بعض الفصول مثل «النبي المشرّع» و«النبي القاضي» و«النبي المفتي» ونحوها وسأتدارك ذلك بمشيئة الله ﵎.
وقد التزمت هذا المنهج بذكر التشريعات، وأخلاق الرسول في نفسه، ومع ربه ﵎، ومع أهله وزوجه وولده، ومع أصحابه، ومع أعدائه، وفي سره، وعلنه، ويسره، وعسره، ومنشطه، ومكرهه، حتى يخرج القارىء لهذه السيرة العطرة بصورة مشرقة معبرة عن الرسالة، وعن الرسول.
٩-: [ذكر النقول بنصها]
قد حرصت ما استطعت على ذكر النقول بنصها ولا سيما فيما يتعلق بما ذكره ابن إسحاق في سيرته، إلا أن يكون هناك نص أصح منه، أو أوثق أو أوفى مروي في غير السيرة فإني أؤثره عليه، وذلك لما يمتاز به التأليف في
1 / 25
العصور الأولى من قوة الأسلوب، وفحولة المعاني، وجزالة الألفاظ، وإشراق الديباجة، والتزام أساليب العرب، ومذاهبهم في البيان.
وإنك لتقرأ في كتب الحديث، أو في سيرة ابن هشام، أو إن شئت الإنصاف سيرة ابن إسحاق، فتحس بأنك تعيش في جو عربي أصيل، وأنك بين قوم عرب أصلاء، فلا ميوعة في الألفاظ، ولا ضحولة في المعاني، ولا مسخ لمناهج العرب في التعبير، ولهذا اثرت المحافظة على النصوص حتى تكون السيرة إلى فائدتها العلمية أداة من أدوات تقويم اللسان، واستقامة البيان، وتعلم الأساليب العربية الفحلة، ولن يستقيم للأمة العربية اليوم أساليبها البيانية، وتتقوم ألسنتها على القواعد العربية، حتى ترجع إلى منابع العربية الفصحى السليمة وهي القران، والحديث، وما أثر عن العرب الخلّص في الجاهلية والإسلام.
1 / 26