ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي
الناشر
دار الكلمة
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
تصانيف
الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريشًا، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك" (١) .
إن هذا الحديث يعطي فيما يعطي من دلالات: اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة التكليف وعبء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية - ومنها سنة اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض - مع سنة العهد الرباني بنصر أوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملًا واحدًا في النهاية.
وهنا نحتاج أن نقف وقفة طويلة لنستجلي الإيمان بالعمل، والعقيدة بالحركة، من خلال مسيرة هذا الدين الواقعية ووجوده المادي في الأرض.
إن الإعداد لتلك المهمة الضخمة - المشار إليها - يبدو ظاهرًا جليًا في كل مرحلة من مراحل الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جد ونصب، وكله صبر وابتلاء.
١- فمنذ اللحظة الأولى لنزول هذا الدين تأتي الشدة والإجهاد في معاناة تلقي الوحي، وتبدأ المخاوف والنذر الثقيلة لمستقبل من يحمله.
فقد روت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن "أول ما بدئ به الرسول من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت
_________
(١) رواه مسلم رقم (٢٨٦٥)، وقد سبق أوله، ص ٢٥.
1 / 31