ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي
الناشر
دار الكلمة
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
تصانيف
ومن الشواهد الدالة على حقيقة ذلك أن الصحابة ﵃ مع كمال تحقيقهم للتوحيد - كانوا يخشون أن يفسده عليهم أدنى عارض ويحترزون من ذلك غاية الاحتراز، سواء أكانت الشائبة من جهة المعرفة والانقياد أو من جهة الإرادة والقصد.
ورحم الله من قال: "إن القوم قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا" (١)
ومن ذلك ما حدث للفاروق عمر بن الخطاب ﵁ يوم الحديبية، حيث خفي عليه وجه الحكمة والمصلحة في شروط الصلح، فأظهر امتعاضه من قبولها ورادّ النبي ﷺ في ذلك - على ما هو مفصل في السيرة -، فعدّ صنيعه هذا شائبة تشوب صفاء معرفة حق النبوة والانقياد لحكم الله، فما لبث ﵁ أن استدرك واستعظم ما صنع حتى إنه كان يقول: "ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به" (٢)
فهذا حاله وهو أكمل الأمة بعد نبيها ﷺ وصديقها، وهو إنما قال ما قال حمية لدينه وغضبًا لله ورسوله واجتهادًا في الاستدلال بالرؤيا النبوية.
وكذلك ما حصل للثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لما اعتراهم بعض خلل في الهمة والإرادة، ولم يستدركوه كما استدركه أبو خيثمة - حين فارق الظل والزوجة وطوى القفار حتى أدرك القوم - فما أن استيقنوا فوات ركب الجهاد حتى استوحشوا واستعظموا ما صنعوا ثم كان من أمرهم وعقوبتهم ما هو معروف، فهذا حالهم مع أن اثنين منهم شهدا بدرًا - مرارة وهلال - والثالث كعب شهد العقبة، ولم يقع بتبوك قتال.
وبمناسبة الحديث عن الصحابة ﵃ في موضع الاقتداء والتأسي نقول: لعله ليس من الاستطراد (٣) التنبيه إلى أن من أركان الانهيار الذي تردت فيه الأمة الإسلامية فساد الإرادة والمقصد المستوجب فساد المعرفة والسلوك.
دع من فسدت معرفته وسلوكه بالابتداع والتلقي عن غير منبع الوحي كسائر فرق الضلال. ولكن انظر إلى الأجيال المتأخرة التي ورثت عن الصحابة وصح تلقيها
(١) قالها الإمام الرباني أبو سليمان الداراني تعليقًا على ما جرى لابن سيرين رحمهما الله، انظر ترجمة ابن سيرين في صفة الصفوة (٣/٢٤٦) (٢) رواه ابن اسحاق (٠٣/٣٦٦) وسنده في قصة الحديبية هو سند البخاري، ولكن اختلفا في بعض السياق والذي في البخاري (٥/٣٢٢): قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالًا. (٣) لا سيما وقد التزمنا أن يكون من أهداف هذا البحث أخذ العبرة والعظة في واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة.
1 / 116