الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة على ألفية بن مالك
الناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
رقم الإصدار
السنة الثالثة والثلاثون
سنة النشر
العدد الحادي عشر بعد المائة - ١٤٢١هـ/٢٠٠١م
تصانيف
الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة تطبيقية على ألفية ابن مالك
إعداد
د. إبراهيم بن صالح الحندود رئيس قسم النحو والصرف وفقه اللغة كلية العلوم العربية والاجتماعية بالقصيم فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
حمدًا لك اللهم لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد أفضل من أرسل إلى البشرية وخير من نطق بالعربية وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنه لم يبلغ قوم في الحفاظ على لغتهم، والحرص على نقائها، والتفاني في خدمتها ما بلغه المسلمون؛ إذ يسَّر الله ﷿ من هذه الأمة من نذر نفسه لخدمة هذه اللغة في شتى فروعها. وما كثرة المصنفات وتتابع ظهورها حتى اليوم - وما بعده - إن شاء الله تعالى - إلا دليل على ذلك. ولا غرو في هذا فهي لغة القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه إلى يوم الدين ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ١، ﴿إناَّ نَحْنُ نَزَّلْنا الْذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ ٢.
وممَّا لقي عناية من علماء العربية لغة النثر والشعر من حيث اتفاقُهما أو اختلافهما في بناء الألفاظ وصياغة العبارات، وكذا الخضوع لقواعد اللغة، والنحو حسب طبيعة كلٍّ منهما.
لقد كانت النظرة في بادئ الأمر إلى فنّيَ الشعر والنثر واحدة من حيث الخصائص التعبيرية في صياغة العبارة وبناء الألفاظ؛ بدليل اشتراكهما في شواهد اللغة والنحو، فلم يفرق علماء العربية بين شاهد المنثور وشاهد المنظوم
_________
١ الآية ٢٨ من سورة الزمر.
٢ الآية ٩ من سورة الحجر.
1 / 389
في كتبهم، فترى الشاهد من القرآن الكريم جنبًا إلى جنب مع الشاهد من الحديث النبوي، والشعر، والمأثور من أقوال البلغاء على الرغم من التفاوت الملحوظ في طريقة الصياغة أو الإعراب. وغاية ما في الأمر أنَّ هذا التغير عندهم يُعدُّ شذوذًا عن القاعدة قد يرقى إلى درجة الجواز إذا جاء في القرآن أو الحديث أو المقبول إذا جاء على لسان شاعر كبير ممن يستشهد بشعرهم١. وما عدا ذلك خطأٌ لا ذكر للضرورة فيه.
وإن المتتبع لسيبويه ﵀ ليلحظ أنه لم يصرِّح في كتابه بتعريف محدد للضرورة، بل إن لفظ "الضرورة" لم يجر له ذكر عنده على الإطلاق
- على اتساع الكتاب - وإنما كان يكتفي بتعبير يؤدي إلى معناه دون التصريح بلفظه٢.
ودخلت الضرورة - فيما بعد - في ميادين البحث اللغويّ، والنقديّ على نطاق واسع.
فدخلت ميدان اللغة؛ لأنها تضطر الشاعر إلى تغيير بناء اللفظ؛ زيادةً أو حذفًا أو خروجًا عن القياس، فتناول اللغويون ذلك بالبحث من خلال معاجم اللغة وأشاروا إلى هذه الضرائر.
ودخلت ميدان النحو لكونها تدفع الشاعر إلى مخالفة القياس في بناء الجملة وفي عمل الأدوات وكذا التغيير في تركيب الجملة٣ (من حيث التقديم والتأخير) .
إن قضية الضرورة وما أثارته من اهتمام لدى العلماء تعتبر أحد الموضوعات التي استهوت عددًا غير قليل من الدارسين، وشغلت أذهان الكثير
_________
١ انظر: مقدمة كتاب ما يجوز للشاعر في الضرورة للقزاز ١٦.
٢ انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي ص ١٣٢.
٣ انظر: في الضرورة الشعرية ص ٧.
1 / 390
من القدماء، والمحدثين وذلك للعلاقة المتينة بين اللغة والشعر؛ إذ إن الشعر من المصادر الرئيسة التي استمد منها العلماء قواعد اللغة وأصولها. ولكنهم وجدوا فيه بعض الألفاظ والتراكيب التي تشذ عن هذه الأصول التي استنبطوها منه ومن كلام العرب المحتج بكلامهم فدفعهم ذلك إلى التأمل والتماس العلل.
ولأهمية هذا الموضوع واختلاف أقوال العلماء فيه رأيت أن أدلي دلوي فيه من خلال هذا البحث المقرون بتطبيق الضرورة على ألفية ابن مالك لكونها نظمًا تسوغ فيه الضرائر من جهة، وما يعتقده صاحبُها من أن الضرورة (ما لا مندوحة للشاعر عنه بأن لم يمكنه الإتيان بعبارة أخرى) .
ولا أزعم أني أوفيت البحث حقَّه، كما لا أدعي خلّوه من الخطأ والثغرات، ولكن حسبي أني اجتهدت وبذلت وسعي ما استطعت. فإن وفقت للصواب فلله الحمد والمنة على توفيقه، وإن أخطأت أو قصَّرت فأسأله هَدْيَه وتوفيقه.
وفي الختام أتوجه بالشكر إلى الله ﷿ على أن وفقني لإتمام هذا البحث، وأسأله تعالى أن يجعل مابُذل فيه خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
د. إبراهيم بن صالح الحندود
1 / 391
تمهيد
طبيعة الشعر وعلاقته بالضرورة
...
التمهيد
أولًا: طبيعة الشعر وعلاقته بالضرورة:
الشعر كلام موزون بأفاعيلَ محصورة في عدد معيّن من الحروف، والحركات، والسكنات١، يستلزم بناؤه على هذه الصورة المقيَّدة بالوزن، والقافية أن يلجأ قائله - أحيانًا - إلى الخروج عن القواعد الكلّيّة وارتكاب ما ليس منها؛ إمّا بزيادة اللفظ أو نقصانه أو تغيير في تركيب الجملة من تقديم وتأخير أو فصل بين متلازمين، وغير ذلك مما لا يُستجاز في الكلام مثله٢؛ لأن الشاعر غير مختار في جميع أحواله فيفعل ذلك تلافيًا لقصور اللفظ الذي يناسب المعنى الذي يريد مع الحفاظ على الوزن وسلامة القافية.
على أنه لا يخرج عن القواعد المذكورة كيفما اتفق، وإنما يسلك طريقة لها وجه في العربية٣.
قال سيبويه (١٨٠هـ): "وليس شيءٌ يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهًا"٤ "فإن جهلنا ذلك فإنما جهلنا ما علمه غيرنا، أو يكون وصل إلى الأول ما لم يصل إلى الآخر"٥.
_________
١ انظر: شرح ألفية ابن معطي ٢/١٣٨٠.
٢ انظر: ما يحتمل الشعر من الضرورة ٣٤، ضرائر الشعر لابن عصفور ١٣.
٣ انظر: شرح ألفية ابن معطي ٢/١٣٨٠.
٤ الكتاب ١/١٣.
٥ شرح ألفية ابن معطي ٢/١٣٨٠.
1 / 392
كما ألحقوا الكلام المسجوع في ذلك بالشعر لكون السجع يجري في ذلك مجرى الشعر، بدليل قولهم: "شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى"١ فحذفوا التنوين من "ثرى"، ومن "مرعى" إتباعًا لقولهم: "ترى"؛ لأنه فعل فلم ينوّن لذلك٢.
وقالوا: "الضِّيح والريح" فأبدلوا الحاءَ ياءً إتباعًا للريح، والأصل: الضِّحّ٣.
وفي الحديث عن النبي ﷺ قال: "ارجعن مأزورات غير
مأجورات"٤؛ بإبدال الواو ألفًا إتباعًا لمأجورات، والأصل: "موزورات"؛ لأنه من الوزر.
وقد جاء مثل ذلك أيضًا في فواصل القرآن لتتفق. قال ﷿: ﴿فَأَضَلُّونا السَّبِيلا﴾ ٥، وقال سبحانه: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا﴾ ٦. فإن زيادة الألف في "السبيلا" و"الظنونا" بمنزلة زيادتها في الشعر على جهة الإطلاق٧.
_________
١ أي شهور الربيع، أي يمطر أولًا ثم يظهر النبات فتراه، ثم يطول فترعاه الأنعام.
انظر: مجمع الأمثال ١/٣٧٠.
٢ انظر: ضرائر الشعر لابن عصفور ١٣، ١٤، والارتشاف ٣/٢٦٨.
٣ الضّحّ: ما برز للشمس، والريح: ما أصابته الريح، من قولهم: جاء فلان بالضِّحِّ والريح، أي جاء بما طلعت عليه الشمس وجرت عليه الريح. انظر: مجمع الأمثال ١/١٦١.
٤ أخرجه ابن ماجة في كتاب الجنائز (٥٠)، باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز رقم ١٥٧٨.
٥ من الآية ٦٧، من سورة الأحزاب.
٦ من الآية ١٠، من سورة الأحزاب.
٧ انظر: ضرائر الشعر لابن عصفور ١٤، الارتشاف ٣/٢٦٩.
1 / 393
وقد كان النحاة يقفون إزاء الأبيات المخالفة لمذاهبهم وأقيستهم فيعمدون إلى التأويل لإدخالها ضمن هذه الأقيسة، فأصبحت تلك الأبيات الخارجة عن القياس المألوف ميدانًا رحبًا لتأويلات النحاة وتعليلاتهم، فدخلت بسبب ذلك ضمن الخلاف النحوي؛ إذ كل طرف لا يتردد في إلقاء جملة مما احتج به الطرف الآخر في بحر الضرورة١.
١ انظر: في الضرورات الشعرية ٧.
٢ انظر: الضرورة الشعرية دراسة نقدية لغوية ١٩١.
٣ الأصول ٣/٤٣٥.
ثانيًا: التأليف في الضرائر: لسيبويه ﵀ جهود في مجال الكتابة عن الضرورة - وإن كانت لفظة "الضرورة" غير مذكورة في كتابه كما سبق - إلاّ أن دراسته لهذه الظاهرة تفتقر إلى المنهجية المحددة القائمة على التقسيم، والتصنيف للمظاهر العامة للضرورة. وهذا لا يلغي سمة التبكير، والريادة في معالجة موضوع متشعب الأطراف. فما كتبه عن الضرورة يعدّ إضاءات موزعة ذات فوائد متفرقة، أفاد منها النحاة في هذا المجال١. ولعل أبا بكر بن السراج (٣١٦هـ) قد سبق في بداية القرن الرابع إلى تثبيت مبادئ التصنيف في الضرائر الشعرية بقوله: "ضرورات الشعر أن يضطر الوزن إلى حذف، أو زيادة، أو تقديم أو تأخير في غير موضعه، وإبدال حرف، أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل، أو تأنيث مذكر على التأويل"٢. هذا النص يمكن عدُّه الأساس التاريخي الأول لحركة التأليف، والكتابة المنهجية عن الضرورة. _________ ١ انظر: الضرورة الشعرية دراسة نقدية لغوية ١٩١. ٢ الأصول ٣/٤٣٥.
ثانيًا: التأليف في الضرائر: لسيبويه ﵀ جهود في مجال الكتابة عن الضرورة - وإن كانت لفظة "الضرورة" غير مذكورة في كتابه كما سبق - إلاّ أن دراسته لهذه الظاهرة تفتقر إلى المنهجية المحددة القائمة على التقسيم، والتصنيف للمظاهر العامة للضرورة. وهذا لا يلغي سمة التبكير، والريادة في معالجة موضوع متشعب الأطراف. فما كتبه عن الضرورة يعدّ إضاءات موزعة ذات فوائد متفرقة، أفاد منها النحاة في هذا المجال١. ولعل أبا بكر بن السراج (٣١٦هـ) قد سبق في بداية القرن الرابع إلى تثبيت مبادئ التصنيف في الضرائر الشعرية بقوله: "ضرورات الشعر أن يضطر الوزن إلى حذف، أو زيادة، أو تقديم أو تأخير في غير موضعه، وإبدال حرف، أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل، أو تأنيث مذكر على التأويل"٢. هذا النص يمكن عدُّه الأساس التاريخي الأول لحركة التأليف، والكتابة المنهجية عن الضرورة. _________ ١ انظر: الضرورة الشعرية دراسة نقدية لغوية ١٩١. ٢ الأصول ٣/٤٣٥.
1 / 394
أما المبكِّر إلى حصر تلك المظاهر حصرًا علميًا فهو أبو سعيد السيرافي (٣٦٨هـ) حيث يقول: "ضرورة الشعر على تسعة أوجه: الزيادة، والنقصان، والحذف، والتقديم، والتأخير، والإبدال، وتغيير وجه من الإعراب إلى وجهٍ آخر على طريق التشبيه، وتأنيث المذكر وتذكير المؤنث"١.
وإنما يُعَدّ هذا النص لشارح "الكتاب" أصلًا لكل ما ورد في فصول النحاة من نصوص، وإشارات إلى أنواع هذه الظاهرة؛ لأن ابن السراج قد اقتصر على سبعة أقسام فقط ولم يشر إلى ما يقع في الشعر من تذكير المؤنث، إلا أن يكون هذا النقص سهوًا من ناسخ كتاب "الأصول" أو محققه٢.
ويمكن اعتبار تذكير المؤنث الذي لم يذكره أبو بكر داخلًا ضمن الحذف الذي أشار إليه.
أمَّا التطور في تصنيف الضرورات فقد سار - بعد أبي سعيد السيرافي - على مرحلتين:
الأولى: الانتقال من التصنيف السباعي إلى التصنيف الخماسي، كما هو الشأن عند ابن عصفور (٦٦٩هـ) في "ضرائر الشعر"، و"شرح الجمل"، و"المقرب" وأبي الفضل الصفار القاسم بن علي البَطَلْيوسي (بعد ٦٣٠هـ) في "شرح كتاب سيبويه". وجرى على هذا أبو حيان (٧٤٥هـ)، في "ارتشاف الضرب".
ويتمثل هذا التقسيم في: الزيادة، والنقص، والتقديم والتأخير، والبدل.
الثانية: الانتقال من التصنيف الخماسي المذكور إلى تصنيف آخر ثلاثي يتمثل في الزيادة، والحذف، والتغيير٣. وقد بنى الآثاري٤ (٨٢٨هـ)
_________
١ ما يحتمل الشعر من الضرورة ٣٤، ٣٥.
٢ انظر: الضرورة الشعرية دراسة نقدية لغوية ١٩٢.
٣ انظر: الضرورة الشعرية. دراسة نقدية لغوية ١٩٣.
٤ أبو سعيد زين الدين شعبان بن محمد الآثاري. ولد في الموصل سنة ٧٦٥هـ، وتوفي بمصر. (الضوء اللامع ٣/٣٠١ - ٣٠٣، شذرات الذهب ٧/١٨٤، الأعلام ٣/١٦٤) .
1 / 395
سرده للضرورات في منظومته "كفاية الغلام في إعراب الكلام"١ فقال:
ضرورة الشاعر تمحو ما وجبْ ... على الذي يتبع أوزان العربْ
وهي ثلاث فاغنم الإفادة ... الحذف والتغيير والزيادة
كما أقام على هذا التقسيم أبو المعالي محمود شكري الآلوسي (١٣٤٢هـ) ترتيب الضرورات في كتابه "الضرائر"، وجرى على هذا جمعٌ غير قليل من العروضيين المعاصرين وغيرهم مفيدين من التصنيفات المذكورة السابقة مع اختلاف يسير٢.
فللدكتور عبد الوهاب العدواني كتاب بعنوان "الضرورة الشعرية. دراسة نقدية لغوية"، وللدكتور محمد حماسة عبد اللطيف مصنَّفٌ بعنوان "الضرورة الشعرية في النحو العربي"، كما صنَّف الدكتور خليل بنيان الحسون مصنفًا بعنوان " في الضرورة الشعرية".
على أن أول كتاب يصل إلينا يستقل ببحث الضرورة هو كتاب "ما يجوز للشاعر في الضرورة" لأبي جعفر القزاز٣ (٤١٢هـ) ٤.
_________
١ ص١٤.
٢ انظر: الضرورة الشعرية. دارسة نقدية لغوية ١٩٤.
٣ محمد بن جعفر التميمي القزاز القيرواني. ولد بالقيروان وتوفي بها. يغلب عليه علم النحو واللغة. من مصنفاته: كتاب "الجامع" في اللغة.
(معجم الأدباء ١٧/١٠٥ - ١٠٩، وفيات الأعيان ٤/٣٧٤ – ٣٧٦) .
٤ انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٣٠.
1 / 396
الفصل الأول: مفهوم الضرورة لدى النحويين
أولًا: رأي سيبويه وابن مالك:
لم يصرّح سيبويه بتعريف محدد للضرورة، وإنما كان يكتفي ببعض العبارات التي فهم منها بعض شرّاح "الكتاب" ودارسيه مفهوم الضرورة عنده من خلال تناوله لبعض المسائل، وبخاصة الباب الذي عقده في أول الكتاب بعنوان "ما يحتمل الشعر"١.
فمن خلال بعض النصوص حدّد العلماء رأي سيبويه في "الضرورة" وهو أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز له في الكلام بشرط أن يضطر إلى ذلك، ولا يجد منه بدًا، وأن يكون في ذلك ردُّ فرع إلى أصل، أو تشبيه غير جائز بجائز٢.
قال سيبويه - عند قول أبي النجم العجلي -:
قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ تدَّعي ... عليَّ ذنبًا كلُّه لم أصنعِ٣
_________
١ انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٣٢.
٢ انظر: شرح الجمل ٢/٥٤٩، الارتشاف ٣/٢٦٨، الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٣٤.
٣ من "الرجز". وقال بعض المحققين: بهذه الرواية - أي رفع "كل" يتم المعنى الصحيح؛ لأنه أراد التبرؤ من الذنب كله، ولو نصب لكان ظاهر قوله: إنه صنع بعضه. وأمُّ الخيار: زوجته.
الديوان ١٣٢، الكتاب ١/٦٩، الخصائص ١/٢٩٢، ٣/٦١، شرح المفصل ٢/٣٠، ٦/٩٠.
1 / 397
"هذا ضعيف، وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسر البيت ولا يخل به ترك إظهار الهاء"١.
ولا يبعد مفهوم ابن مالك (ت ٦٧٢هـ) للضرورة عن مفهوم سيبويه المتقدم وهو أن الضرورة: ما لا مندوحة للشاعر عنه بحيث لا يمكن الاتيان بعبارة أخرى.
صرَّح بهذا في شرح التسهيل وشرح الكافية الشافية.
فوصل "أل" بالمضارع - على سبيل المثال - جائز عنده اختيارًا لكنه قليل، فذكر أن قول الفرزدق:
ما أنتَ بالحكمِ التُرضى حكومته ... ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ٢
وقول ذو الخِرَق الطهوي ٣:
يقول الخنا وأبغض العجم ناطقًا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدعُ٤
_________
١ الكتاب ١/٤٤.
٢ البيت من "البسيط" من أبيات قالها في هجاء رجل من بني عذرة كان قد فضل جريرًا عليه.
والحكم: الذي يحكّمه الخصمان ليفصل بينهما. والأصيل: الحسيب. والجدل: شدة الخصومة والقدرة على غلبة الخصم.
والبيت في: الإنصاف ٢/٥٢١، المقرب ١/٦٠، شرح شذور الذهب ١٦، تخليص الشواهد ١٥٤، شرح ابن عقيل ١/١٥٧، التصريح ١/٣٨، ١٤٢، الخزانة ١/٣٢، الدرر ١/٢٧٤.
٣ اسمه خليفة بن حمل بن عامر بن حنظلة. شاعر جاهلي. (المؤتلف والمختلف ١٠٩، الخزانة ١/٤٤) .
٤ من "الطويل".
الخنا: الفاحش من الكلام. والعجم: جمع أعجم أو عجماء وهو الحيوان؛ لأنه لا ينطق.
اليُجدَّع: هو الذي قطعت أذناه؛ فإن صوت الحمار حالة تقطع أذنه أكثر وأقبح، لما يقاسيه من الألم.
انظر: نوادر أبي زيد ٢٧٦، أمالي السهيلي ٢١، المقاصد النحوية ١/٤٦٧، الهمع ١/٢٩٤، الخزانة ١/٣١، ٣٤، ٣٥، ٥/٤٨٢، الدرر ١/٢٧٥.
1 / 398
غيرُ مخصوص بالضرورة؛ لتمكن قائل الأول من أن يقول:
"ما أنت بالحكم المرضي حكومته"
ولتمكن الآخر من أن يقول:
"إلى ربنا صوت الحمار يُجدعُ"
فإذ لم يفعلا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار١.
وهذا الاتجاه في فهم الضرورة قد نُسب إلى ابن مالك وشُهر به، حتى إن كثيرًا ممن خالف هذا المنهج وجّه نقده إلى ابن مالك وحده ولم يتعرّض لسيبويه٢، كقول أبي حيان: "لم يفهم ابن مالك معنى قول النحويين في ضرورة الشعر ... " إلخ ٣.
وإن المتأمل ليستوقفه النظر حيال قبول الناس لهذا الرأي في فهم الضرورة؛ إذ لم يجد كثرة من الأنصار له على الرغم من أن أشهر الذين قالوا به هما سيبويه وابن مالك، والأول كان يعيش في عصر الاستشهاد ويستقي شواهده من المصادر الحية أو ممن سمعها من المصادر الحية، والآخر يعد أمَّة لا في الاطلاع على كتب النحاة وآرائهم فحسب، بل أيضًا في اللغة وأشعار العرب بله القراءات ورواية الحديث النبوي٤.
_________
١ انظر: شرح التسهيل ١/٢٠٢، وانظر كذلك: ١/٣٦٧، وشرح الكافية الشافية ١/٣٠٠.
٢ انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٣٧.
٣ التذييل والتكميل ج (١) لوحة ١٦٧.
٤ انظر: المدارس النحوية لشوقي ضيف ٣٠٩، ٣١٠، وانظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٣٧.
1 / 399
(ومعنى هذا أنّ رأي هذين الإمامين لما امتازا به من سعة رواية ونفاذ رأي ينبغي أن يكون له وزنه في دراسة اللغة؛ لأنه نابع من فهم لخصائصها أصيل وحسّ بها غير مدخول) ١.
لكن هذا الرأي قد تعرَّض لنقد شديد من المتأخرين كأبي إسحاق الشاطبي (٧٩٠هـ)، وأبي حيان، وابن هشام (٧٦١هـ)، والشيخ خالد الأزهري (٩٠٥هـ)، وعبد القادر البغدادي (ت١٠٩٣هـ) .
وملخص رد الشاطبي على ابن مالك يتمثل في الآتي:
أولًا: أن النحاة قد أجمعوا على عدم اعتبار هذا المنزع، وعلى إهماله في النظر القياسي جملة، ولو كان معتبرًا لنبهوا عليه.
ثانيًا: أن الضرورة لا تعني عند النحويين أنه لا يمكن في الموضع غير ما ذكر؛ لأنه ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره، دليل ذلك الراء في كلام العرب، فإنها من الشياع في الاستعمال بمكان لا يُجهل، ولا يكاد ينطق أحد بجملتين تعريان عنها. وقد هجرها واصل بن عطاء٢ (١٣١هـ) لمكان لثغته فيها، بل كان يناظر الخصوم ويخطب على المنبر فلا يُسمع في نطقه راءٌ، حتى صار مثلًا. وإن الضرورة الشعرية لهي أسهلُ من هذا بكثير، وإذا كان الأمر هكذا أدى إلى انتفاء الضرورة في الشعر وذلك خلاف الإجماع، وإنما معنى الضرورة أن الشاعر قد لا يخطر بباله إلا لفظة ما اقتضت ضرورة النطق بها في ذلك
_________
١ الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٣٧، ١٣٨.
٢ أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزّال. رأس المعتزلة. ولد بالمدينة سنة ٨٠هـ، ونشأ بالبصرة.
(أمالي المرتضى ١/١٦٣ - ١٦٥، وفيات الأعيان ٦/٧-١١، النجوم الزاهرة ١/٣١٣، ٣١٤) .
1 / 400
الموضع زيادة أو نقص أو غير ذلك، في الوقت الذي قد يتنبه غيره إلى أن يحتال في شيءٍ يزيل تلك الضرورة.
ثالثًا: أنه قد يكون للمعنى الواحد أكثر من عبارة بحيث يلزم في إحداها ضرورة ولكنها هي المطابقة لمقتضى الحال، وهنا يرجع الشاعر إلى الضرورة؛ لأن اعتناء العرب بالمعاني أشد من اعتنائهم بالألفاظ. وإذا تبيَّن في موضع ما أن ما لا ضرورة فيه يصلح هنالك، فمن أية جهة يعلم أنه مطابق لمقتضى الحال؟
رابعًا: أن العرب قد تأبى الكلام القياسي لعارض زحاف فتستطيب المزاحف دون غيره أو بالعكس فتركب الضرورة لذلك١.
ومن أقوال ابن هشام في الرد على ابن مالك قوله: "إذا فُتح هذا الباب - يعني زعم القدرة على تغيير بنية الشعر وألفاظه - لم يبق في الوجود ضرورة، وإنما الضرورة عبارة عما أتى في الشعر على خلاف ما عليه النثر"٢.
ومن أقواله أيضًا: إن كثيرًا من أشعار العرب يقع عن غير روية، وهو مما يدعو إلى عدم التمكن من تخيّر الوجه الذي لا ضرورة فيه.
كما أن الشعر لمّا كان مظنة للضرورة استُبيح فيه ما لم يُضطرّ إليه، كما أُبيح قصر الصلاة في السفر؛ لأنه مظنة المشقة مع انتفائها أحيانًا والرخصة باقية٣.
هذا الكلام قاله ابن هشام في رده على ابن مالك إذ زعم أن إيراد الضمير المتصل بعد "إلاَّ" في قول الشاعر٤:
_________
١ انظر: شرح الألفية للشاطبي ج٢ لوح ٥٧.
٢ تخليص الشواهد ٨٢.
٣ انظر: المصدر السابق ٨٣.
٤ لم أجد من سمَّاه.
1 / 401
وما نبالي إذا ما كنتِ جارتَنا ... ألاّ يجاورنا إلاَّكِ ديارُ١
ليس ضرورة، لتمكن قائله من أن يقول:
"ألا يكون لنا خلٌّ ولا جارُ" ٢
ثم إن الشاعر قد يتاح له في حرارة التجربة الشعرية غير عبارة عن الفكرة الواحدة، لكنه لا يختار من الألفاظ إلا ما يأنس فيه الملاءمة التامة للمعنى الذي ينشده وإن ساوره قلق فني في دقة لغته، وقدرتها على التعبير عنه. فإذا ثبت هذا وأنه هو واقع الشعر اللغوي فإن التفكير بنفي الضرورة، ومحاولة استبدالها بما لا ضرورة فيه أمرٌ من الصعوبة بمكان على الشاعر، ناهيك عن الناقد اللغوي، والنحوي وذلك لتفاوت القدرات على تخيّل الألفاظ، واستحضارها من المعاجم الذهنية المختلفة في سعتها، وتنوعها، وصفائها٣.
وقد حاول بعض المحدثين٤ الاعتذار لابن مالك بأنه كان يعمل ثقافته، وفكره حين بيّن رأيه في الضرورة الشعرية. فكان يضع في اعتباره لهجات العرب المتباينة، والقراءات القرآنية، والحديث النبوي الشريف بحيث إذا ورد فيها شيء قال النحاة عن نظيره في الشعر إنه ضرورة لم يعدّه هو كذلك، بل
_________
١ البيت من "البسيط". يقال: ما بها ديَّار، أي ما بها أحد.
والشاهد في قوله: " إلاَّك " حيث أوقع الضمير المتصل بعد "إلاَّ" للضرورة الشعرية، والقياس: إلا إياك والبيت في: الخصائص ١/٣٠٧، ٢/١٩٥، المفصل ١٢٩، أمالي ابن الحاجب ٢/١٠٥، المغني ٥٧٧، التصريح ١/٩٨، ١٩٢، شرح الأشموني ١/١٠٩، الدرر ١/١٧٦.
٢ انظر: شرح التسهيل ٢/٢٧٦.
٣ الضرورة الشعرية. دراسة لغوية نقدية ١٤٧ (بتصرف) .
٤ هو الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في كتابه: الضرورة الشعرية في النحو العربي ص١٤١.
1 / 402
يرجع كل ظاهرة إلى أصلها، وأحيانًا ينصّ على أنه لهجة قبيلة معينة وضرورة عند غيرهم. فنراه - مثلًا - يقول عن تسكين هاء الغائب واختلاس حركتها: "وقد تسكن أو تختلس الحركة بعد متحرك عند بني عُقَيل، وبني كلاب اختيارًا، وعند غيرهم اضطرارًا"١.
وقد ذكر في كتاب "التسهيل" جملة من المسائل يعدّها بعضهم ضرورة ولا يراها هو كذلك كحذف نون الوقاية من "ليس"، و"ليت"، و"عن"، و"قد"، و"قط"٢، وزيادة "ال" في العلم، والتمييز، والحال٣، وإسكان عين "مع"٤، والفصل بينها وبين تمييزها٥، وتأكيد المضارع المثبت٦، ومجيء الشرط مضارعًا، والجواب ماضيًا٧، وإجراء الوصل مجرى الوقف٨.
وفي بعض كتبه الأخرى يشير إلى أن بعض الظواهر تكثر في الشعر دون النثر٩.
(ولعله في هذا متأثر بسيبويه. وهذا يشعر بأنهما يدركان أن للشعر نظامًا خاصًا به في صرفه، ونحوه ينبغي أن يدرس وحده منفصلًا عن النثر، ولكن النظرة السائدة إلى وحدة اللغة جعلت هذه الملاحظة تقف عند حدّ الإدراك الذي لم يؤيده التنفيذ العملي) ١٠.
_________
١ التسهيل ٢٤.
٢ انظر: المصدر السابق ٢٥.
٣ انظر: التسهيل ٤٢.
٤ انظر: المصدر السابق ٩٨.
٥ انظر: المصدر السابق ١٢٤.
٦ انظر: المصدر السابق ٢١٦.
٧ انظر: المصدر السابق ٢٤٠.
٨ انظر: المصدر السابق ٣٣١.
٩ الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٤١، ١٤٢ (بتصرف) .
١٠ المصدر السابق ١٤٢.
1 / 403
ثانيًا: رأي ابن جني والجمهور:
يرى أبو الفتح عثمان بن جني (٣٩٢هـ) وكثير من النحويين أن الضرورة ما وقع في الشعر سواء كان للشاعر عنه مندوحة أم لا؟ ولم يشترطوا في الضرورة أن يضطر الشاعر إلى ذلك في شعره، بل جوّزوا له في الشعر ما لم يجز في الكلام؛ لأنه موضع قد أُلفت فيه الضرائر. دليل ذلك قول الشاعر١:
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا ... وكريمٍ بخله قد وضَعَهْ ٢
-في رواية من خفض "مقرف"، حيث فصل بين "كم" وما أضيفت إليه بالجار والمجرور، وذلك لا يجوز إلا في الشعر، ولم يضطر إلى ذلك إذ يزول الفصل بينهما برفع "مقرف" أو نصبه٣.
ومما استدل به صاحب هذا المذهب - أيضًا - قول الآخر٤:
فلا مزنةٌ ودقت ودقَها-ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها ٥
_________
١ هو أنس بن زُنَيْم. شاعر صحابي. عاش إلى أيام عبيد الله بن زياد.
(المؤتلف والمختلف ٥٥، الإصابة ١/٨١، ٨٢، الخزانة ٦/٤٧٣) .
٢ البيت من "الرمل" من قصيدة قالها الشاعر لعبيد الله بن زياد بن سميّة.
المقرف: النذل اللئيم الأب. ومعنى البيت: إن الجود قد يرفع اللئيم بينما كريم الأب قد يتضع بسبب بخله.
والبيت في: الكتاب ١/٢٩٦، المقتضب ٣/٦١، الأصول ١/٣٢٠، الإنصاف ١/٣٠٣، شرح المفصل ٤/١٣٢، شرح شواهد الشافية ٥٣، الدرر ٤/٤٩، ٦/٢٠٤.
٣ انظر: ضرائر الشعر لابن عصفور ١٣.
٤ هو عامر بن جُوَيْن الطائي. شاعر، فارس، من أشراف طيّىء في الجاهلية.
(رغبة الآمل ٦/٢٣٥، الأزمنة والأمكنة ٢/١٧٠، الخزانة ١/٥٣) .
٥ البيت من " المتقارب " في وصف أرض مخصبة بما نزل بها من الغيث.
المزنة: هي السحابة المثقلة بالماء، والودق: المطر. وقوله: أبقلت إبقالها: أي نبت بقلها.
=انظر البيت في: الكتاب١/٢٤٠، الخصائص ٢/٤١١، المغني ٨٦٠، ٨٧٩، أوضح المسالك ٢/١٠٨، المقاصد النحوية ٢/٤٦٤، التصريح ١/٢٧٨، الخزانة ١/٤٥، ٤٩،٥٠.
1 / 404
ألا ترى أنه حذف التاء من أبقلت، وقد كان يمكنه أن يثبت التاء وينقل حركة الهمزة فيقول: أبقلت ابقالها١.
قال ابن جني في قول الشاعر٢:
فزججتها بمزجة ... زجَّ القلوصَ أبي مزاده ٣
- (فصل بينهما بالمفعول به)، هذا مع قدرته على أن يقول:
زجّ القلوص أبو مزاده
كقولك: سرَّني أكلُ الخبز زيدٌ ... فارتكب هاهنا الضرورة مع تمكنه من ترك ارتكابها٤.
_________
١ انظر: شرح الجمل ٢/٥٥٠.
٢ لم أقف على اسمه.
٣ قال البغدادي: "يقال: زججته زجًّا: إذا طعنته بالزُّجّ - بضم الزاي - وهي الحديدة في أسفل الرمح.
وزج القلوص: مفعول مطلق، أي زجًا مثل زج. والقَلوص - بفتح القاف - الناقة الشابة. وأبو مزادة: كنية رجل".
وقول العيني: الأظهر أن الضمير في زججتها يرجع إلى المرأة؛ لأنه يخبر أنه زج امرأته بالمزجة كما زج أبو مزادة القلوص كلامٌ يُحتاج في تصديقه إلى وحي، وقد انعكس عليه الضبط في "مزجَّة" فقال: هي بكسر الميم، والناس يلحنون فيها فيفتحون ميمها " الخزانة ٤/٤١٥.
والبيت في: معاني القرآن ١/٣٥٨، ٢/٨١، وفيه "متمكنًا" بدل: "بمزجة"، مجالس ثعلب ١/١٢٥، الخصائص ٢/٤٠٦، الإنصاف ٢/٤٢٧، المقاصد النحوية ٣/٤٦٨.
٤ الخصائص ٢/٤٠٦.
1 / 405
وإلى هذا المذهب ذهب كل من الأعلم الشنتمري (٤٧٦هـ)، والرضي١ (٦٨٦هـ)، وأبو حيان، وابن هشام٢، والبغدادي، والشيخ محمد الأزهري المعروف بـ "الأمير" (١٢٣٢هـ) .
قال الأعلم: "والشعر موضع ضرورة يحتمل فيه وضع الشيء في غير موضعه دون إحراز فائدة ولا تحصيل معنى وتحصينه، فكيف مع وجود ذلك"٣؟
وقال أبو حيان - في التذييل والتكميل -: "لا يعني النحويون بالضرورة أنه لا مندوحة عن النطق بهذا اللفظ، وإلا كان لا توجد ضرورة؛ لأنه ما من لفظ أو ضرورة إلا ويمكن إزالتها ونظم تركيب آخر غير ذلك التركيب، وإنما يعنون بالضرورة أن ذلك من تراكيبهم الواقعة في الشعر المختصة به، ولا يقع ذلك في كلامهم النثريّ، وإنما يستعملون ذلك في الشعر خاصة دون الكلام"٤.
أما البغدادي فيقول عن الضرورة: "والصحيح تفسيرها بما وقع في الشعر دون النثر سواء كان عنه مندوحة أوْ لا"٥.
وخالف الأمير قول ابن مالك بحجة أنه - كما يقول -: "يسد باب الضرورة، فإن الشعراء أمراء الكلام قل أن يعجزهم شيء. على أنه لا يلزم الشاعر وقت الشعر استحضار تراكيب مختلفة"٦.
وما احتج به أصحاب هذا الرأي لم يسلم من المعارضة من قبل أنصار الرأي الأول كاعتراضهم على الاحتجاج بقول الشاعر:
_________
١ انظر: الخزانة ١/٣٣.
٢ انظر: تخليص الشواهد ٨٢.
٣ تحصيل عين الذهب ٨٦.
٤ التذييل والتكميل ج٢ لوحة ٣٧. وانظر: الهمع ٥/٣٣٢.
٥ الخزانة ١/٣١.
٦ حاشية الأمير على المغني ١/٤٨.
1 / 406
بأنه يحتمل أن يكون الذي اضطره إلى حذف التاء أنه ليس من لغته النقل، فلو قال: أبقلت ابقالها من غير نقل على لغته لم يصل للوزن١.
ولعل أهم ثمرة للخلاف بين الجمهور من جهة، وسيبويه وابن مالك من جهة أخرى؛ أن الضرورة واسعة المدلول حسب رأي الجمهور؛ فهي تشتمل كل ما ورد في الشعر، أو كَثُر فيه سواء أكانت له نظائر في النثر أم لا. فكثرت أنواع الضرائر نتيجة لهذا؛ لأنهم لا يريدون تمزيق القاعدة، أو الإكثار من القواعد فاستندوا إلى هذا الحكم (الضرورة في كل بيت يخالف القاعدة. وأما على رأي سيبويه، وابن مالك فإن ما يجد الشاعر عنه بدلًا لا يعدُّ ضرورة، بل نوع من التغيير يجوز في الشعر والنثر على حد سواء) ٢.
_________
١ انظر: شرح الجمل ٢/٥٥٠.
٢ انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٥٢، ١٥٣.
ثالثًا: رأي أبي الحسن الأخفش: يرى أبو الحسن الأخفش (٢١٥هـ) أن الشاعر يجوز له في كلامه وشعره ما لا يجوز لغيره في كلامه؛ لأن لسانه قد اعتاد الضرائر، فكثيرًا ما يقول: جاء هذا على لغة الشعر، أو يحمل على ذلك قوله تعالى: ﴿قَوارِيرًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ ١في قراءة من قرأ٢ بصرف "قوارير"٣. _________ ١ من الآية ١٦ من سورة الإنسان. ٢ قرأ أبو جعفر ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم: (قواريرًا. قواريرًا مِنْ فِضَّةٍ (بالتنوين فيهما في الوصل. ووقفوا عليهما بالألف. (السبعة ٦٦٣، المبسوط ٤٥٤، النشر ٢/٣٩٥) . قال ابن عصفور: (وهذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون التنوين في قوله: " قواريرًا" بدلًا من حرف الإطلاق، فكأنه في الأصل " قواريرا" وحرف الإطلاق يكون في الشعر وفي الكلام المسجوع إجراءً له مجرى الشعر، فأجريت رؤوس الآي مجرى الكلام المسجوع في لحاق حرف الإطلاق فيكون مثل قوله تعالى: ﴿وتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا﴾، و﴿فَأَضَلُّونا السَّبِيلا﴾ . شرح الجمل ٢/٥٥٠. ٣ انظر: شرح الجمل ٢/٥٥٠.
ثالثًا: رأي أبي الحسن الأخفش: يرى أبو الحسن الأخفش (٢١٥هـ) أن الشاعر يجوز له في كلامه وشعره ما لا يجوز لغيره في كلامه؛ لأن لسانه قد اعتاد الضرائر، فكثيرًا ما يقول: جاء هذا على لغة الشعر، أو يحمل على ذلك قوله تعالى: ﴿قَوارِيرًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ ١في قراءة من قرأ٢ بصرف "قوارير"٣. _________ ١ من الآية ١٦ من سورة الإنسان. ٢ قرأ أبو جعفر ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم: (قواريرًا. قواريرًا مِنْ فِضَّةٍ (بالتنوين فيهما في الوصل. ووقفوا عليهما بالألف. (السبعة ٦٦٣، المبسوط ٤٥٤، النشر ٢/٣٩٥) . قال ابن عصفور: (وهذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون التنوين في قوله: " قواريرًا" بدلًا من حرف الإطلاق، فكأنه في الأصل " قواريرا" وحرف الإطلاق يكون في الشعر وفي الكلام المسجوع إجراءً له مجرى الشعر، فأجريت رؤوس الآي مجرى الكلام المسجوع في لحاق حرف الإطلاق فيكون مثل قوله تعالى: ﴿وتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا﴾، و﴿فَأَضَلُّونا السَّبِيلا﴾ . شرح الجمل ٢/٥٥٠. ٣ انظر: شرح الجمل ٢/٥٥٠.
1 / 407
وقال تعالى: ﴿وتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا﴾ ١، و﴿فَأَضَلُّونا السَّبِيلا﴾ ٢ بزيادة الألف لتتفق الفواصل، كزيادة الألف في الشعر للإطلاق٣.
وهذا الاتجاه في الرأي يقلل من وجود ما يسمى بالضرورة من قبل أنه يبيح للشاعر في كلامه المعتاد ما لا يباح لغيره إلا في الاضطرار لاعتياد لسانه الضرائر على حدِّ تعبيره٤.
ويعترف أبو الحسن من جانب آخر بتأثير هؤلاء الشعراء في غيرهم بوصفهم طبقة ذات مكانة اجتماعية تقلدها العامة وتقتدي بها وبذلك تشيع الظاهرة في الشعر، والنثر على السواء، وعليه فلا محل إذن للقول بأنها ضرورة٥.
_________
١ من الآية ١٠ من سورة الأحزاب.
٢ من الآية ٦٧ من سورة الأحزاب.
٣ انظر: معاني القرآن ١/٢٤١، ٢/٦٦٠، والارتشاف ٣/٣٧٨.
٤ انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي ١٥٥.
٥ انظر: المصدر السابق ١٥٥.
رابعًا: رأي ابن فارس: يختلف موقف أحمد بن فارس (٣٩٥هـ) من ضرائر الشعر عن موقف النحويين جميعهم؛ إذ لا يكاد يعترف بما يسميه النحاة ضرورة، فيتعيّن على الشاعر أن يقول بما له وجه في العربية، ولا ضرورة فيه حينئذٍ. فإن لم يك ثمت وجه منها رُدَّ وسمّي باسمه الحقيقي وهو الغلط أو الخطأ، ولا داعي للتكلف واصطناع الحيل للتخريج١. قال في كتابه الصاحبي: "وما جعل الله الشعراء معصومين يُوَقُّون الخطأ والغلط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وما أبته العربية، وأصولها فمردود"٢. _________ ١ انظر: المصدر السابق ١٥٧. ٢ الصاحبي ٤٦٩.
رابعًا: رأي ابن فارس: يختلف موقف أحمد بن فارس (٣٩٥هـ) من ضرائر الشعر عن موقف النحويين جميعهم؛ إذ لا يكاد يعترف بما يسميه النحاة ضرورة، فيتعيّن على الشاعر أن يقول بما له وجه في العربية، ولا ضرورة فيه حينئذٍ. فإن لم يك ثمت وجه منها رُدَّ وسمّي باسمه الحقيقي وهو الغلط أو الخطأ، ولا داعي للتكلف واصطناع الحيل للتخريج١. قال في كتابه الصاحبي: "وما جعل الله الشعراء معصومين يُوَقُّون الخطأ والغلط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وما أبته العربية، وأصولها فمردود"٢. _________ ١ انظر: المصدر السابق ١٥٧. ٢ الصاحبي ٤٦٩.
1 / 408