خامسًا:- التعليق على الحديث:
اختلف العلماء في حكم طهارة جلود الميْتة، سَلَفًا وخلفًا؛ لتعارض الأدلة الواردة في ذلك، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى الترجيح بين هذه الأقوال، فرجحوا قوْل الجمهور، القائل: بجواز طهارة جلود الميْتة بالدباغ، وغيره، مستدلِّين على ذلك بالأحاديث الدَّالة على ذلك، وقد سبق ذكرها أثناء تخريج هذا الحديث، وهي بفضل الله مُخَرَّجة في "الصحيحين"، وذكرتُ كلام الترمذي، وأجابوا عن أدلة المانعين بضعفها، واضطرابها، مع معارضتها للأحاديث الصحيحة الواردة في جواز ذلك.
وأحسنُ ما استدل به المانعون ما أخرجه الترمذي في "سننه" عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: "أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ". (^١)
وقال الترمذي: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَيُرْوَى عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ، عن أَشْيَاخٍ له هَذا الحَدِيثُ، وَلَيْسَ العَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرَيْنِ، وَسَمِعْتُ أحمد بن الحسن، يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلَى هذا الحَدِيث لِما ذُكِر فِيه: قَبْل وَفَاته بِشَهْرَيْن، وكان يَقول: كان هذا آخِرَ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ تَرَكَ أحمد بن حَنبل هذا الحَدِيث لَمَّا اضْطَرَبُوا في إِسْنَاده، حَيْثُ رَوَى بَعْضُهُمْ، فَقَال: عن عَبْدِ اللهِ بن عُكَيْمٍ، عن أَشْيَاخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ. ا. هـ
بينما حاول البعض الجمع بين هذه الأقوال، فقال الحازمي: فإذا تَعَذّر ذلك - أي الترجيح -، فالمصير إِلَى حديث ابن عَبَّاس أَوْلَى، لوجوه من الترجيحات، ويُحمل حَدِيث ابن عُكيم عَلى منع الِانْتِفَاع بِهِ قبل الدّباغ، وحينئذٍ يُسمَّى: إهابًا. وَبعد الدّباغ يُسمَّى جِلدا، وَلَا يُسمى إهابًا، وَهَذَا مَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة ليَكُون جمعا بَين الْحُكمَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الطَّرِيق فِي نفي التضاد عَن الْأَخْبَار. (^٢)
قال ابن المُلَقّن في "البدر المنير": مَا أَشد تَحْقِيقه. (^٣)
وقد ذهب إلى الجمْع غير واحدٍ من أهل العلم، منهم: البيهقي، وابن القيّم، وابن قُدامة، وابن قُتيبة، والصنعاني، والشوْكاني، والنووي، والحافظ ابن حجر، وغيْرهم. (^٤)