منهج الدميري في كتابه حياة الحيوان

إبراهيم بن عبد الله المديهش ت. غير معلوم

منهج الدميري في كتابه حياة الحيوان

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤٣٥ هـ

تصانيف

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى ٥/ ١٤٣٥ هـ

1 / 2

بسم الله الرحمن الرحيم

1 / 5

أما قبل كان: تمهيدًا مختصرًا لرسالتي الماجستير: «الأحاديث المرفوعة والموقوفة في كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري، من بداية حرف التاء، إلى نهاية حرف الجيم - تخريجًا ودراسة ـ». ثم: أفردته هنا، مع تصحيحات، وإضافات، و«مقدمة». أما بعد حقيقة: تراثنا كبير، ومتنوع، ومميَّزٌ، وكافٍ ... نموذج من الإبداع: كتاب «حياة الحيوان» - على مافيه من مؤاخذات ـ. رأيتُ: انصراف كثير من أهل زماننا إلى الثقافة الغربية، وافتتانهم بها، وتبني بعض المكتبات، والمثقفين نشر التراث الغربي ... كتبتُ: مقدمة حول الموضوع «تغريب الثقافة». العلاقة: بين موضوع المقدمة، وكتاب الدميري، كالعلاقة بين الدواء والداء، والزَّبَد والماء ...

1 / 7

مقدمة فضيلة الشيخ د. عبدالله بن ناصر الشقاري - حفظه الله ـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ لله حَمْدَ الشَّاكِرِيْنَ الذَّاكِرِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلَانِ عَلَى أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ وَإِمَامِ المُرْسَلِيْنَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ وَبَعْدُ فَيُعَدُّ العَلَّامَةُ: كَمَالُ الدِّيْنِ الدَّمِيْرِيُّ ﵀ مِنْ عُلَمَاءِ الإِسْلَامِ، وَكِبَارِ المُؤَلِّفِيْنَ المَوْسُوْعِيِّيِنَ، الَّذَيْنَ أَثْرَوْا المَكْتَبَةَ الإِسْلَامِيَّةَ بِمُصَنَّفَاتِهِمْ فِيْ شَتَّى الْعُلُوْمِ وَالمَعَارِفِ، فَهُوَ قَدْ تَمَيَّزَ - مَعَ قِلَّةٍ مِنَ المُصَنِّفِيْنَ - بِتَنَوُّعِ مُصَنَّفَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ عُلُوْمِهَا وَمَعَارِفِهَا، فِيْ: التَّفْسِيْرِ، وَالحَدِيْثِ، وَالْعَقِيْدَةِ، وَالْفِقْهِ، إِلَى الْلُّغَةِ، وَالأَدَبِ، وَالتَّصَوُّفِ، إِلَى الْعُلُوْمِ الأُخْرَى كَعِلْمِ الحَيَوَانِ، والْأَلْعَابِ، وَغَيْرِهِ؛ وَاطْلَالَةٌ مِنَ الْقَارِئِ عَلَى مُصَنَّفَاتِهِ الَّتِيْ ذَكَرَهَا مَنْ كَتَبُوْا فِيْ سِيْرَتِهِ؛ تُوَضِّحُ ذَلِكَ وَتُجَلِّيْهِ؛ وَلَا أُرِيْدُ أَنْ أَسْتَبِقَ أَحْدَاثَ الْكِتَابِ، وَلَا أَسْتَرِقَ الْقَوْلَ مِنْ حَدِيْثِ مُؤَلِّفِهِ، فَفِيْهِ مَا يَشْفِيْ وَيَكْفِيْ - إِنْ شَاءَ اللهُ ـ.

1 / 9

لَقَدْ شَرَّفَنِيْ الْابْنُ الْعَزِيْزُ، وَالأَخُ الْفَاضِلُ الشَّيْخُ: إِبْرَاهِيْمُ بْنُ عَبْدِالله المُدَيْهِشْ، حَيْثُ طَلَبَ مِنِّيْ كِتَابَةَ مُقَدِّمَةٍ لِهَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ فَرِحْتُ بِذَلِكَ وَاغْتَبَطْتُّ بِهِ؛ لِمَا لِلْشَّيْخِ مِنْ مَكَانَةٍ فِيْ نَفْسِيْ تَدْفَعُنِيْ إِلَى تَلْبِيَةِ رَغْبَتِهِ، وَتَحْقِيْقِ بُغْيَتِهِ. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَلَسْتُ غَرِيْبًَا عَلَى هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا عَلَى مُؤَلِّفِهِ، جَمَعَتْنِيْ بِهِمْ عَلَاقَةٌ عِلْمِيَّةٌ حَمِيْمِةٌ، فَقَدْ حَظِيْتُ بِشَرَفِ الإِشْرَافِ الْعِلْمِيِّ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ مَشْرُوْعٌ عِلْمِيُّ بِعُنْوَان: «الأَحَادِيْثُ المَرْفُوْعَةِ وَالمَوْقُوْفَةِ فِيْ كِتَابِ حَيَاةِ الحَيَوَانِ الْكُبْرَى لِلْدَّمِيْرِيِّ». وَقَدْ كَانَ لِلْشَّيْخِ نَصِيْبٌ مِنْ هَذَا المَشْرُوْعِ، يَقُوْمُ بِهِ رِسَالَةً عِلْمِيَّةً لِنَيْلِ دَرَجَةِ المَاجِسْتِيْرِ فِيْ الْسُّنَّةِ وَعُلُوْمِهَا، وَمِنْ بَيْنِ مُتَطَلَّبَاتِ رِسَالَتِهِ: الْكِتَابَةُ عَنْ الْدَّمِيْرِيِّ وَكِتَابِهِ إِجْمَالًَا، وَدِرَاسَةُ جُزْئِيَّتَيْنِ مِنْ مَنْهَجِهِ الحَدِيْثِيِّ، وَهُمَا: طَرِيْقَةُ إِيْرَادِهِ لِلْحَدِيْثِ، وَمَنْهَجُهُ فِيْ الْتَّخْرِيْجِ؛ وَقَدْ أَطَالَ - حَفِظَهُ اللهُ - فِيْ تَرْجَمَةِ المُصَنِّفِ، وَالْتَّعْرِيْفِ بِالْكِتَابِ، إِطَالَةً أَخَذَتْ مِنْ وَقْتِهِ، وَمِنْ حَجْمِ رِسَالَتِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِذَلِكَ؛ فَأشَرَتُ عَلَيْهِ أَنْ يَدَعَ هَذِهِ الإِطَالَةَ، وَيَعُوْدَ إِلَيْهَا مُسْتَقْبَلًَا، فَيُفْرِدْهَا بِكِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ. فَقَالَ لِيْ: أَنَا قَد عَقَدْتُ الْعَزَمَ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ - أَثْنَاءَ الْبَحْثِ ـ.

1 / 10

وَالحْمَدُ لله رَبِّ الْعَالَمِيْنَ، فَهَاهُوَ الْكِتَابُ الَّذِيْ كَانَ فِكْرَةً فِيْ ذِهْنِ مُؤَلِّفِهِ، صَارَ حَقِيْقَةً وَاقِعَةً مَاثِلَةً لِلْعَيَانِ، يَقْرَؤُهَا طَلَبَةُ الْعِلْمِ، وَيَسْتَفِيْدُ مِنْهَا الَمُثَقَّفُوْنَ. وَهِيَ أَوَّلُ دِرَاسَةٍ مُفْرَدَةٍ - فِيْمَا أَعْلَمُ - تَنَاوَلَتْ الْعَلَّامَةَ الْدَّمِيْرِيَّ ﵀، وَمَنْهَجَهُ فِيْ كِتَابِهِ «حَيَاةِ الحَيَوَانِ». أَسْأَلُ اللهَ الْعَليَّ الْقَدِيْرَ أَنْ يَنْفَعَ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَيَجْزِيَ مُؤَلِّفَهُ خَيْرَ الجَزَاءِ فِيْ الْدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْ يَغْفِرَ لِيْ وَلَهُ، وَلِوَالِدِيْنَا وَلِمَشَايِخِنَا، وَمُحِبِّيْنَا، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ. هَذَا، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. د. عبدالله بن ناصر الشقاري الأُسْتَاذُ المُشَارِكُ بِقِسْمِ الْسُّنَّةِ وَعُلُوْمِهَا، وَوَكِيْلُ كُلِّيَّةِ أُصُوْلِ الْدِّيْنِ لِلْدِّرَاسَاتِ الْعُلْيَا - سَابِقًَا - وَرَئِيْسُ الجَمْعِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْسُّعُوْدِيَّةِ لِلْسُّنَّةِ وَعُلُوْمِهَا. ٢٦/ ٤/ ١٤٣٥ هـ

1 / 11

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد فإنَّ كتابَ «حياة الحيوان» مَعْلَمةٌ كبرى، وُلِدت في شهر رجب، من عام ٧٧٣ هـ (١)، وأُلبستْ من العلوم أفنانًا، ومن الأفنان ألوانًا حسانًا، وعُلِّق عليها ما يراه المحِقُّون سيئةً ونُكرانًا. (٢) جاءت تمشي قرونًا عديدة، يَمُدُّ إليها يده كلُّ صاحب علمٍ وأدَب، ويدَّعي بها وصلًا وَأرَب، تمشي وتتفرد، لا قرينةَ تعادلها، ولا شبيهةَ تماثلها في «فنِّها». تأتي مثلًا شاهدًا على غناء المكتبة العربية، وجمالها، ومتعها، وتنوعها

(١) فراغ الدميري من مسودة كتابه، كما في آخر الكتاب (٤/ ٢٤٩). (٢) كما سيأتي بيان ما فيه من الخزعبلات، والطلاسم، والبدع.

1 / 13

المتفرد، ولطافتها، وتأثيرها في حضارات الأمم الأخرى - كما سيأتي في ترجمات الكتاب ـ. قال الشيخ: علي الطنطاوي ﵀ عن الكتاب - وقد قرأه في أوائل شبابه ـ: (وهو كتابٌ عجيب، فيه فقهٌ، بل إنه يُعَدُّ أقرب مرجعٍ في معرفة ما يؤكل وما لايؤكل من الحيوان، وكتابُ لغةٍ فهو يضبط الأسماء، وكتابُ أدبٍ فهو يسرد الأخبار، وكتابُ طبيعةٍ فهو يشير إلى بعض خصائص الحيوانات، وكتابُ تاريخٍ فهو يُلَخِّص فيه مراحل طويلة من تاريخنا، وهو على ذلك كُلِّه مملوءٌ بالخرافات، والأوهام، والأباطيل، وما يدخلُ العقل ومالا يدخله، وما يُفسِدُه، ويُعطِّلُه، ثم لما كبرتُ قرأتُ كتاب «الحيوان» للجاحظ، فوجدتُ فيه تلك الألوان كُلَّها، ولكن الذي فيه أعلى وأغلى، وحسبُكَ أنه من تصنيف الجاحظ). (١)

= الدميري كانت في أوائل عمره، بخلاف كتاب الجاحظ - كما في النص أعلاه ـ؛ وسيأتي ذِكرُ الفرق بين الكتابين في (ص). وللأمانةِ وشُكْرِ العِلْم: ليس لي علمٌ بهذا النصِّ عن الطنطاوي، حتى أرشدني إليه الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان - جزاه الله خيرًا ـ. فائدة: أسند القاضي عياض في «الإلماع» (ص ٢٢٩): إلى أبي عُبيد (ت ٢٢٤ هـ) قولَه: (مِن شُكْر العِلم أن تستفيدَ الشيءَ فإذا ذُكِر قلتَ: خَفِيَ عليَّ كذا وكذا، ولم يكن لي به عِلْمٌ، حتّى أفادني فلان فيه كذا وكذا. فهذا شُكْرُ العِلْم). نقله السيوطي في «المزهر» (٢/ ٢٧٣) ثم قال: (قلت: ولهذا لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفًا إلا معزوًَّا إلى قائله من العلماء، مبينًا كتابَه الذي ذكر فيه).

1 / 14

ولعلي في هذه المقدمة أنتزع من بديع الدميري في كتابه معنى؛ فأقابل به وجوهًا ولَّت شطر مغرب الشمس، في أعين حمئة، تنظر الآفاق المغبَرَّة، ولاتبصر موضع قدمها، ولا جادة الأسلاف النيِّرة. تنظر شطر الغرب في أفكارها وكتبها مبنى ومعنى، في مترجماتها لأدبائها ومثقفيها؛ على حين غرة وغفلة منها عن كتب الأسلاف أهل الإسلام دينًا ولغةً وأدبًا ومعارف ثرَّةٍ؛ لم يقرأ منها ما يُقيم أوَدَه الثقافي!

= الدميري كانت في أوائل عمره، بخلاف كتاب الجاحظ - كما في النص أعلاه ـ؛ وسيأتي ذِكرُ الفرق بين الكتابين في (ص). وللأمانةِ وشُكْرِ العِلْم: ليس لي علمٌ بهذا النصِّ عن الطنطاوي، حتى أرشدني إليه الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان - جزاه الله خيرًا ـ. فائدة: أسند القاضي عياض في «الإلماع» (ص ٢٢٩): إلى أبي عُبيد (ت ٢٢٤ هـ) قولَه: (مِن شُكْر العِلم أن تستفيدَ الشيءَ فإذا ذُكِر قلتَ: خَفِيَ عليَّ كذا وكذا، ولم يكن لي به عِلْمٌ، حتّى أفادني فلان فيه كذا وكذا. فهذا شُكْرُ العِلْم). نقله السيوطي في «المزهر» (٢/ ٢٧٣) ثم قال: (قلت: ولهذا لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفًا إلا معزوًَّا إلى قائله من العلماء، مبينًا كتابَه الذي ذكر فيه).

1 / 15

يذهب دون تكبير واستفتاح، فيسجد هناك، ويهيم بكل غربي؛ تباهله أنه لن يجد ما يستحق الالتفاته إلا النزر اليسير؛ وهذا النزر لا يمسه إلا مميِّز، عرف حق أمته وفضلها ونتاجها، فنقل من أولئك - بحذر - ما يفيد، والحديث هنا عن الفكر والثقافة فقط. لو كان انبعاثه للمترجمات بعد الامتلاء من كتبنا، وتحصين نفسه بالمسلَّمات وحرَمِها؛ ثم اتجه لما يغلب تميزه، ويقلُّ وجوده في تراثنا؛ لكان لفعلته محملًا (١)؛ لكنه قام بذلك ولما يقم أوده الثقافي؛ حينها سترديه أرضًا؛ أو تحمله إلى مكان سحيق، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا. (٢) وما سبق ذكره من النقل باقتصاد من عالم بتراثنا، وما عند أولئك، يظهر في أمثلة قليلة، منها: ماصنعه العالم الفقيه المفسِّر النجدي الشيخ:

(١) قال الجاحظ في كتاب «الحيوان» (٣/ ٢٦٨): (وقَلَّ معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن قد وجدناه أو قريبًا منه في أشعار العرب والأعراب، وفي معرفة أهلِ لُغَتنا وملَّتنا). (٢) ينظر في ملابسات الاتصال بالثقافة الغربية: «المذاهب الأدبية الغربية» د. وليد قصاب (ص ١٨).

1 / 16

عبدالرحمن السعدي (ت ١٣٧٦ هـ) ﵀ لمَّا رأى في بيروت كتاب ديل كارنيجي «دع القلق وابدأ الحياة»، رآه صُدْفَةً ولم يقْصِدْ إليه، قرأهُ فاستَحْسَنَهُ، ورأى أنه لم يُكتب عندنا ببسط كما في الكتاب المذكور، وأنَّ أُسُسَهُ ومَبادِئَهُ مَوجُودَةٌ وزِيَادَةٌ في الكتابِ والسُّنَّة، عَمدَ إلى زُبْدة أفكار الكتاب، وعرضَهَا بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبِين، لاحشْوَ فيها ولا مُنَغِّصَات كما في المترجمات، ثم استدل لها بما في الوَحْيَيْن الشَّرِيفَين، فكان كتابًا خفيفَ المحْمَلِ بحجم الكَفِّ، سَهْلَ العبارة، لَطِيْفَ البَيَان، وسَمَّاهُ «الوسائل المفيدة للحياة السعيدة». وصُورَةٌ أخرى مقابلة: يأتي مُثَقَّفٌ، فيُثَاقِفُ ــ دَوْمًَا - بما لدى القوم، ــ «وثقافةُ كُلِّ أمَّةٍ مُستمَدَّةٌ من دِينَها» (١) ــ يَهْذِيْ ويرَى أنَّه يَهْدِيْ إلى خَيْرٍ! إلى تُرَاثِ الفِكْرِ لأُمَم الكُفْرِ؛ يَهْدِي النَّاس عَامَّتهم قَبْلَ خَاصَّتِهِم إلى سَلَفِيَّةٍ مُتَجَدِّدَةٍ - بِزَعْمِهِ ـ، ومُجتَمَعٍ مَدَنِيٍّ بفِكْرٍ غَرْبِيٍّ! هل جاءنا «طه حسين»، و«قاسم أمين»، وجماعتُهما، في رجلٍ واحدٍ من حيث لانحتسب؟ !

(١) سيأتي كلام للعلامة: محمود شاكر ﵀ حول هذا في (ص ٥١).

1 / 17

هدفُهُ أن يكون إمامًا وعميدًا ل «تغريب الثقافة» في بلد «الكتاب والسُّنَّة»، بعد أن ارتكس بين مؤلَّفات مفكري الغرب - ولو كان يعرف الشرق ـ، ثم رأى اغترار الناس به، وكثرة أتباعه المصفقين لسعة اطلاعه على كتب الروايات والمترجمات؛ وبئس اغترارٌ في سبيلِ تفرُّدٍ على مَنْهجٍ فَاسدٍ، حاملٍ لِواء الدعوة؛ والداعي إلى البدعة ليس كالمتلبِّس بها ... وليست كثرةُ الأتباعِ دليلًا على صِحَّةِ منهج المتبوع، فلو خَرَجَ مُدَّعٍ للنبوة، لوَجَد له أتباعًا، قال ابن قتيبة ﵀ (ت ٢٧٦ هـ): (والناسُ أسرابُ طَيرٍ يتبعُ بعضُها بعضًا؛ ولو ظهرَ لهم من يدَّعي النبوة ــ مع معرفتِهم بأنَّ رسولَ الله ﷺ خاتمُ الأنبياء، أو مَنْ يدَّعِي الرُّبُوبيَّةَ ــ؛ لوجدَ على ذلك أتباعًا وأشياعًا!). (١) أسأل الله أن يكفَّ عن المسلمين شرَّه وأمثاله، ويهدينا وإياهم سواء السبيل، وأن يبصرنا جميعًا بالحق، ويعيننا ويثبتنا عليه حتى نلقاه. قال العلامة: محمود شاكر ﵀: (إنَّ العار أن يقضي الشاب

(١) «تأويل مختلف الحديث» - ط. الريان والمكية - (ص ١٥٠).

1 / 18

من أول نشأته إلى آخر خروجه من دراسته أعوامًا طوالًا، يدرس في أثنائه تاريخ «نابليون» وأمته، وفلانًا وفلانًا من أفذاذ الأمم الغربية، وهو لايعرف من ماضي أمته العربية إلا نتفًا تذهب مع الأيام، هذا الماضي الذي يصوره الذين يتعرضون للتاريخ من مستشرقين يقولون غير مالايعلمون (١)، أو يقولون فيما لايعلمون؛ أو عرب قد فسدت قلوبهم على تاريخهم، فهم يتقيدون لآراء عن تاريخهم كلها بهتان وتدليس، هذا الماضي الذي يصورون في صورة مسخ تاريخي هائل، قد خرج على الدنيا كما يخرج الوباء، ثم انقشع عنها؛ فأعقبها صحة وعافية، أو كما يقولون!). (٢) وأفاد البشير الإبراهيمي الجزائري (ت ١٣٨٥ هـ) ﵀: أن الغرب يملأ عقول أبنائنا ونفوسهم بعلومهم وتاريخهم، حتى لا يبقى فيها متسع لذكريات ماضينا وأسلافنا، وإن الواحد من هذا الصنف من أبنائنا

(١) يُنظر في الهدف من كتابات المستشرقين: «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر ... (ص ٥٩). (٢) مقالة كتبها عام (١٣٥٣ هـ/ ١٩٣٥ م)، في مجلة المقتطف، وهي ضمن «جمهرة مقالاته» (٢/ ٧٠٠).

1 / 19

ليعرف الكثير عن «نابليون»، ولا يعرف شيئًا عن «عمر» ﵁، ويحفظ تاريخ «جان دارك» عن ظهر قلب، ولا يحفظ كلمة عن «عائشة» و«خديجة» ﵄ (١) وقال: (عمد الغرب إلى الشباب المسلم فرموه بهذه التهاويل من الحضارة الغربية، وبهذه التعاليم التي تأتي بنيانه الفكري والعقلي من القواعد، وتحرف المسلم عن قبلته، وتحول الشرقي إلى الغرب؛ وإن من خصائص هذه الحضارة أن فيها كلَّ معاني السحر، وأساليب الجذب، وحسبكم منها أنها تفرق بين المرء وأخيه، والمرء وولده؛ فأصبح أبناؤنا يهرعون إلى معاهد العلم الغربية عن طوعٍ مِنَّا يشبهُ الكُرْهَ، أو عن كُرْهٍ يشبه الطَّوْعَ، فيرجعون إلينا العلم، أشياء أخرى ليس منها الإسلام ولا الشرقية، ومعهم أسماؤهم، وليس معهم عقولهم ولا أفكارهم، وإن هذه لهي المصيبة الكبرى التي لا نبعد إذا سمَّيناها مسخًا، وليتها كانت مسخًا للأفراد، ولكنها مَسخٌ للأمم، ونَسْخٌ لمقوِّمَاتها). (٢)

(١) «آثاره» (٢/ ٤٦٨). (٢) «آثاره» (٢/ ٤٧٠). وانظر: «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر (ص ١٤٨ - ١٤٩، ١٥٤)، و«الابتعاث تاريخه وآثاره» د. عبدالعزيز البداح.

1 / 20

قال أيضًا ﵀: (إن هذا الجيل الجديد من أبنائنا واقفٌ في مفترق طرق، لا يدري أيها يسلك، وقد فتح عينيه على زخارف تستهوي من الثقافة الغربية، وقد أصبحت هذه الثقافة أقرب إلى عقله وذوقه لما مهَّد أهلها ودعاتها من المسالك إلى النفوس، ولما تنطوي عليه من المغريات والمعاني الحيوانية، ولما فيها من موجبات التحلل والانطلاق، ولما تزخر به من الشهوات وحظوظ الجسد، ولما يشهد لأهلها من شهود العلم، وهو يفتح عينيه كل يوم منها على جديد). (١) إنَّ مكتبتنا العربية، أعني (المؤلَّفة باللغة العربية) ثرَّةٌ غنيَّة، موردًا ورِيًَّا، تبزُّ الأمم الأخرى؛ كثرةً، وجودةً، وتنوعًا، فليس لأُمَّةٍ من الأُمَمِ مَا لأَهْلِ الإِسلامِ مِنْ تَنوِّع العُلُومِ والمعارف، والتفنُّنِ في التصنيف والتأليف، وتقريبِ المعلومات، فلا يخلو بابٌ من المعرفة إلا وضربوا فيه بِسَهْمٍ وافِرٍ، أحكموا فيه صنعه، نظمه، ونثره. قال ابن العربي المالكي (ت ٥٤٣ هـ) ﵀: (ولم يكن قط في

(١) «آثاره» (٢/ ٣٠٩).

1 / 21

الأمم من انتهى إلى حدِّ هذه الأمة من التصرُّف في التصنيف والتحقيق، ولاجاراها في مداها (١) من التفريع، «والتدقيق»). (٢) قال القَلْقَشَندي (ت ٨٢١ هـ) ﵀: «واعلَم أنّ الكُتبَ المصنَّفةَ أكثرَ مِن أَنْ تُحصَر، لاسِيَّما الكتب المُصَنَّفةَ في المِلَّةِ الإسلامِيَّة؛ فإنَّها لم يُصنَّف مِثلُها في مِلَّةٍ من المِلَل، ولا قام بِنَظِيرِها أمَّةٌ من الأُمَم ...». (٣) قال د. عبدالرحمن بن علي الحجي: (واغتنت المكتبة الإسلامية غناءً يعزُّ بلوغه، ولا ينال قُرْبُه، ولاتمكن مباراته، ليس للاكتناز بل للبناء، ونفع المجتمع، والانتفاع به، فكانت هناك رغبةٌ غامِرةٌ متجدِّدَةٌ لاتتوقف

(١) في مطبوعة «عارضة الأحوذي»: (ولا جاب لها في مراها) وهو تصحيف، والتصحيح مع زيادة الكلمة الأخيرة، من: «الخصائص الكبرى» للسيوطي - تحقيق هراس - (٣/ ٢١٩)، و«أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب» للسيوطي ... (ص ١١٢)، «شرح المواهب اللدنية» للزرقاني - ط. الكتب العلمية - (٧/ ٤٧٨). (٢) «عارضة الأحوذي» (١/ ٤)، وقد ذُكر من خصائص أمة محمد ﷺ أنهم أوتوا تصنيف الكتب. «شرح المواهب اللدنية» للزرقاني - ط. الكتب العلمية - (٧/ ٤٧٨). (٣) «صبح الأعشى» (١/ ٤٦٧).

1 / 22

ولاتنضب في تلقِّي العلم وبذله، بحرص شديد؛ لأن هذا كله جزء من العقيدة الإسلامية، وواجبات المسلم ...). (١) قال ابن خلدون (ت ٨٠٨ هـ) ﵀: «إن علومنا الشرعية والنقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملَّة بما لامزيد عليه، وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لافوقها، وهُذِّبَت الاصطلاحات، ورُتِّبت الفنون، فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق». (٢) «ومَنْ سَمَتْ به هِمَّتُه إلى الاطلاع على غرائب المؤلَّفات، وعجائب المصنفات؛ انكشفت له حقائقُ كثيرة من دقائق العلوم، وتنزَّهَت فكرتُه - إنْ كانت سليمةً - في رياض الفُهوم: فكُنْ رَجُلًا رِجْلُه في الثرى * وهامَةُ هِمَّتِهِ الثُّريَّا فالنفس الإنسانية بالاطلاع على حقائق المعارف تتكمل، والفاضل الكامل بمعرفة أنواع العلوم يتَفوَّق ويتفضل، لا بتحسين هيئة اللباس، والمزاحمة على التصدر في مجالس الناس». (٣)

(١) «جوانب من الحضارة الإسلامية» (ص ٥٠). (٢) «مقدمة ابن خلدون» تحقيق: د. علي عبدالواحد (٣/ ١٠٢٧). (٣) «حاشية العطار» (ت ١٢٥٠ هـ) على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - ط. دار الكتب العلمية - (٢/ ٥٠٦).

1 / 23

إن المرء ليحتار في تقديم أمثلة للشباب الناشئ، والكهول المفتونة، والأنفس الراغبة بالتميز خارج الحدود - حسًا ومعنى ـ؛ ماذا يعرض من كتب التراث؟ وكيف يعرض؟ ومن أي باب يبدأ للاستدلال على ما كان من الواضحات؟ ! أعتذر هنا باطلالة مقتضبة ــ وقد كانت مطوَّلة، فعدَلْتُ بها إلى كتاب بعنوان «تغريب الثقافة»، يسر الله إتمامه ــ. إن ضخامة تراثنا - كما قال القلقشندي - لا يمكن أن تحصر؛ فخزائن الكتب في بلاد الإسلام أعجزت الأولين عن تدوين عناوينها؛ فكيف بحملها، وجمعها في مكتبة واحدة (١) ولكثرتها تفننوا في التأليف، وابتكروا فيه طرائق قِدَدًَا؛ لتحريك الذهن، وشحذ الهمم. (٢)

(١) ينظر: «الكتاب في الحضارة الإسلامية» د. يحيى الجبوري (ص ١٦٩ - ٢٤٤)، ... «قطوف أدبية» لعبدالسلام هارون (ص ٣١)، «الذخائر الشرقية» لكوركيس عواد العراقي (٥/ ٣٦٠)، «الفكر السامي» للحَجَوي (٢/ ٤٥ - ٤٨)، «المكتبات في الإسلام» د. محمد ماهر حمادة. (٢) ينظر: «كناشة النوادر» لعبدالسلام هارون (ص ١٤٨).

1 / 24

قال الأديب الكبير: أحمد بن حسن الزيات المصري، صاحب «مجلة الرسالة» (ت ١٣٨٨ هـ) (١) ﵀: (إنكم لَتُكْبِرون ما بذله العرب من الجهود الجبارة في سبيل المدنية والعلم (٢)، إذا قستموه بما خلفوه من البحوث، وما ألَّفوه من الكتب، فقد تناولوا أصول المعارف الإنسانية بالتقصي الدقيق، والغوص العميق حتى فرَّعوها إلى ثلاثمئة علم أحصاها طاشكبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة»، ثم استنزفوا الأيام في معاناة التأليف على صعوبة النسخ، وكثرة المؤونة وقلة الجدوى، فتركوا للعالَم ذلك التراث الضخم الذي اشتملت عليه مكاتبهم في الشرق والغرب، فقد ذكر (جيبون) في كتابه عن الدولة الرومانية أنه كان في طرابلس على عهد الفاطميين مكتبة تحتوي على ثلاثة ملايين مجلد، أحرقها الفرنج (سنة ٥٠٢ هـ) ... ونقل الزيات أخبارًا نحو هذا عن المقريزي، وفيه ملايين المجلدات.

(١) ينظر ترجمته في «الأعلام» للزركلي (١/ ١١٣). (٢) فائدة: ردَّ البشيرُ الإبراهيمي الجزائري (ت ١٣٨٥ هـ) على من اتَّهم العرب فيما نقلوه عن غيرهم أنهم مجرد نقلة، لم يبذلوا جهدًا في التمحيص، والتنقيح، والنقد، والإضافة. ينظر في «آثاره» (١/ ٣٧٧).

1 / 25

ثم قال: (على أن توالي الفتن والمحن على العالم الإسلامي، لم يبق للعصر الحديث من هذا الكنز المذخور والمجد المسطور إلا ثلاثين ألفًا، وُزِّعت على مكاتب العالم). (١) ومن تفنن الأسلاف في التأليف، وابتكارهم ألوانًا يصعب على المرء مجاراتهم فيها: ما كتبه الحريري (ت ٥١٦ هـ): فقد كتب رسالةً التزم فيها الشين في كل كلمة، وفيها أبيات من الشعر، وله سينية أيضًا. (٢) وله رسالة التزم فيها كلمة منقوطة والتي تليها غير منقوطة، ورسالة أخرى أيضًا حرف منها منقوط، والآخر غير منقوط، وله كلام منثور ومنظوم يُقرأ طردًا وعكسًا، تقرأوه من اليمين، وتقرأوه منكوسًا، فتجده واحدًا بحروفه! (٣)

(١) «في أصول الأدب» لأحمد الزيات (ص ٨٦). (٢) ذكرهما ياقوت في «معجم الأدباء» (٥/ ٢٢٠٩)، ونشرتا في آخر طبعة المنهاج لكتاب «المقامات» للحريري، وانظر: «الموزون والمخزون» لأبي تراب الظاهري ... (ص ١٧). (٣) ينظر فيما لايستحيل بالانعكاس: «التبر المسبوك في ذيل السلوك» للسخاوي (١/ ٢٧٧).

1 / 26