النظام القضائي في الفقه الإسلامي
الناشر
دار البيان
رقم الإصدار
الثانية ١٤١٥هـ١٩٩٤م
تصانيف
المقدمة
تقديم البحث
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم البحث:
أحمد الله ﵎ وأستعينه، وأستهديه، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن الشريعة الإسلامية وسائر الشرائع الإلهية، قد جاءت لتحقيق مصالح الناس، ولا شك في أن وجود القضاء في المجتمع الإنساني، هو إحدى الوسائل المحققة لهذه المصالح، فبه تحمى الحقوق وتصان عن الانتهاك، ويزال بوساطته تعدي الناس بعضهم على بعض، وهو أحد المناصب العظيمة التي تحقق العدل وتمنع الظلم، وترسي الحق، والعدل هو أحد مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، قال ﵎: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ ١. والقسط هو العدل، فهما كلمتان مترادفتان، وأي طريق أدى إلى الوصول إلى العدل بين الناس كان مطلوبًا في الشرع، قال ابن القيم: "إذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريقة كان، فثم وجه الله ودينه، فأي طريق استخرج به العدل والقسط فهو من الدين وليس مخالفًا له"٢.
والقضاء وسيلة من أعظم وأسمى وسائل تحقيق العدل بين الناس، تحقيق العدل بينهم في العلاقات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية وكل نشاط من أنشطة الحياة بين الأفراد والدول، سواء أكانت هذه العلاقات بين المسلمين أم بينهم
_________
١ سورة الحديد، الآية رقم ٢٥.
٢ الطرق الحكمية لابن القيم، ص١٦.
1 / 1
وبين غيرهم.
ولمكانته السامية الجليلة تولاه الرسل فحكموا بين الناس، وولوه غيرهم، قال ﵎: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ ١، وقال ﷿ لرسوله -محمد ﷺ: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ٢. وقد ثبت أن الرسول ﷺ بعث القضاة إلى النواحي، فبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وعتاب بن أسيد إلى مكة.
وقد بين فقهاؤنا ﵃ أن شريعة الإسلامة توجب وجود القضاء في المجتمع، ووضحوا الشروط التي لا بد من توافرها فيمن يتولى هذا الأمر الخطير، هذه الشروط التي استنبطوها من القرآن، والسنة، وغيرهما من مصادر التشريع الإسلامي، وتكلموا عن طرق الإثبات أمام القاضي، وعما يجب على القاضي اتباعه عند نظره القضايا وفصله فيها، وعن أمور أخرى تتصل بهذا المنصب الجليل، وآمل أن يكون هذا البحث إسهامًا بسيطًا في خدمة الفقه الإسلامي، وإضافة لبنة صغيرة إلى هذا الصرح الشامخ، والتراث الجليل الذي ورثناه عن فقهائنا العظام، وأدعو الله ﷿ أن يثيبني على ما بذلت فيه من جهد المقل، وأن يغفر لي إن أخطأت في فهم حكم، أو ترجيح رأي من آراء علمائنا على رأي آخر.
وقد خططت ليكون هذا البحث في مقدمة، وأربعة فصول.
_________
١ سورة ص، الآية رقم ٢٦.
٢ سورة النساء، الآية رقم ٦٥.
1 / 2
أما المقدمة، فقد خصصتها للتعريف بالقضاء في لغة العرب، واصطلاح الفقهاء، وبيان حكم وجوده في المجتمع، والفرق بينه وبين التحكيم الذي كان موجودًا عند العرب قبل الإسلام.
وخصصت الفصل الأول لبيان شروط الصلاحية للقضاء، والأمور التي يعزل بها القاضي عن منصبه.
والفصل الثاني جعلته لبيان الدعوى، وأركانها، وشروط صحتها، ونظام الفصل فيها.
وجعلت الفصل الثالث للكلام عن وسائل الإثبات، فتكلمت عن الإقرار والبينة، ونكول المدعى عليه عن اليمين، ويمين المدعي مع الشاهد، ويمين المدعي إذا نكل المدعى عليه، والقسامة، والقافة، والقرائن، والقرعة، وختمت هذا الفصل بالكلام في قضيتين هامتين: أولاهما قضاء القاضي بعلمه، وثانيتهما هل يجوز للإنسان أن يستوفي حقه الذي ينكره الخصم بدون اللجوء إلى القضاء؟ وبينت الخلاف إن وجدته لعلمائنا في بعض وسائل الإثبات، وما استندت إليه آراء العلماء.
وأما الفصل الرابع الأخير، فعقدته للكلام عن أمور، وصفتها بأنها أصول في القضاء، وهي وجوب العدل بين الخصمين، وأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وأن حكم القاضي لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، وأن القاضي لا يقضي بين الناس وهو غضبان، ولا يقبل الهدية ممن له خصومة عنده، ولا يقضي لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له، وأن الحكم بالاجتهاد الثاني للقاضي، وأنه يجوز الاستئناف في الأحكام.
1 / 3
وكان منهجي في هذا البحث أن كنت أكتفي بذكر آرء علمائنا في المسائل المختلف فيها، وبيان أدلة أصحابها، والمناقشات التي وردت عليها، ولا أختار رأيا إلا إذا بان لي أن الأرجح من حيث الدليل؛ لأن ترجيح رأي معين إنما هو كإفتاء للقارئ بهذا الرأي، ولا يحوز أن يفتي الإنسان إلا بما غلب على ظنه أنه الحق، فإن أكن وفقت في ترجيح الآراء فهذا من فضل الله ﷿، وإن كان الخطأ قد وقع، فذلك مني ومن الشيطان، وأستغفر الله ﵎، وأختم كلمتي ببعض من الدعاء الذي علمنا الله إياه في قرآنه الحكيم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾، ﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، اللهم آمين.
دكتور محمد رأفت عثمان
مدينة العين - الإمارات العربية المتحدة
الجمعة ٦ من ربيع الثاني سنة ١٤٠٨هـ، ٢٧ نوفمبر سنة ١٩٨٧م
1 / 4
التعريف بالقضاء:
جرت عادة العلماء عندما يتعرضون لبيان معنى كلمة من الكلمات التي استعملت في مجال بيان الأحكام الشرعية، مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والزواج، والطلاق، والبيع، والإجارة، وغير ذلك من كلمات كانت موضوعًا للبحوث الفقهية، جرت عادتهم كمدخل للكلام عنها أن يوضحوا معناها في اللغة العربية أولا، ثم يبينوا بعد ذلك معناها عند علماء الشريعة، وهو ما
يعبرون عنه بمعناها في الاصطلاح؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية جاءت في بيئة عربية، فاقتضت حكمة الله ﵎ أن يكون كتابه الكريم بلغة العرب، وهو المصدر الأول للتشريع، والمصدر الثاني بعد الكتاب الكريم هو السنة النبوية الشريفة، والسنة هي أقوال الرسول ﷺ وأفعاله وتقريراته، والرسول ﷺ عربي يتكلم العربية، وكان من الطبيعي أن تستعمل الشريعة الإسلامية ألفاظًا كان العرب يستعملونها قبل ورود الشريعة، وفي كثير من الأحوال كان استعمال الشريعة للفظ العربي في معنى مختلف عن المعنى الذي كان العرب يستعملونه فيه قبل ورود الشريعة، وذلك واضح في ألفاظ مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك، فلفظ الصلاة قبل مجيء الإسلام كان يستعمل عند العرب في معنى الدعاء. ولكن عندما جاء الإسلام استعمل في أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم بشروط مخصوصة، ولفظ الزكاة استعمل في لغة العرب بمعنى النماء، وبمعنى التطهير، فيقال مثلا: زكا الزرع، ويكون المعنى نما الزرع، ويقال: زكت نفس فلان، ويكون المعنى طهرت نفس فلان، ولكن
الشريعة استعملت لفظ الزكاة في مال مخصوص يخرج من مال مخصوص ليدفع إلى طائفة خاصة، وهكذا في لفظ الصيام، ولفظ الحج،
1 / 6
وغيرها.
فمن الطبيعي -إذن- أن يتكلم العلماء عن معنى كلمة من الكلمات التي استعملتها الشريعة في لغة العرب، قبل أن يتكلموا عن معناها في الشريعة، أو عند علماء الشرع، أو ما يعبر عنه بمعناها في الاصطلاح، ومعنى الاصطلاح: إخراج اللفظ عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد١.
وجريا على هذه العادة عند العلماء سنبين أولا معنى كلمة "القضاء"، في لغة العرب ثم نبين معناها في اصطلاح علماء الشرع.
القضاء في لغة العرب:
يوجد في لغة العرب بعض الألفاظ التي لها أكثر من معنى، كلفظ العين، ولفظ القرء، فمن معاني لفظ العين، الجاسوس، والباصرة، وعين الماء، والذهب، وغير ذلك، ولفظ "القرء" أيضا وضع في اللغة العربية لمعنى الحيض، ولمعنى الطهر الذي يفصل بين كل حيضتين.
ولفظ "القضاء" من هذا القبيل، أي: من الألفاظ التي وضعتها العرب لأكثر من معنى، وترجع كل المعاني التي وضعتها العرب لهذا اللفظ. كما قال العلماء إلى معنى: انقضاء الشيء وتمامه٢.
_________
١ وهناك تعريفات أخرى لكلمة الاصطلاح، فقيل معناها: إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، وقيل الاصطلاح: اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى، وقيل الاصطلاح: لفظ معين بين قوم معينين. التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، ص١٥.
٢ كتاب النيل وشفاء العليل، لعبد العزيز الثميني، مع شرحه لمحمد بن يوسف أطقيش، ج١٣، ص١٠، الطبعة الثالثة.
1 / 7
فيطلق لفظ "القضاء" في اللغة العربية على الأمر، ومنه قول الله ﵎: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ ١ والمعنى: أمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه، ويطلق على الفراغ ومنه قول الله ﷿: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ ٢، أي: فرغ، ويطلق على الفعل، مثل قوله ﷾: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ ٣، ويطلق على الإرادة مثل قوله ﷿: ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ٤، ويطلق على الموت، مثل قوله ﵎: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾، ويطلق على الحكم والإلزام، مثل قضيت عليك بكذا، وقضيت بين الخصمين وعليهما٥، ويطلق على الأداء، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ أي: أديتموها. ويطلق على الصنع والتقدير، ومنه قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ ٦ ومنه القضاء والقدر، وغير ذلك من المعاني٧.
ويسمي العلماء هذا النوع من الألفاظ التي لها أكثر من معنى بالمشترك
_________
١ سورة الإسراء، آية رقم ٢٣، وقد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ . فالأكثرون على أنه بمعنى أمر، لا بمعنى حكم، ويرى البعض أنه يصلح أن يكون بمعنى حكم.
٢ سورة يوسف، الآية رقم ٤١.
٣ سورة طه، الآية رقم ٧٢.
٤ سورة غافر، الآية رقم ٦٨.
٥ كما أن القضاء في اللغة يطلق على الحكم، ويطلق الحكم ويراد به القضاء، كما في قول الله ﵎: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، سورة المائدة، الآية رقم٤٢.
٦ سورة فصلت، الآية رقم١٢.
٧ المصباح المنير، محمد بن علي المقري الفيومي، مادة قضى، ومواهب الجليل لشرح مختصر الخليل، للخطاب. ج٦ ص٨٦.
1 / 8
اللفظي١.
القضاء في اصطلاح فقهاء الشريعة:
يحسن بنا قبل أن نذكر تعريف القضاء في اصطلاح فقهاء الشريعة أن نذكر
_________
١ المشترك إما أن يكون مشتركًا لفظيا، أو مشتركًا معنويا:
فأما المشترك اللفظي، فهو اللفظ الذي يتعدد وضعه ويتعدد معناه، مثل كلمة "عين"، فإنها موضوعة للباصرة، أي: العين التي نبصر بها، وموضوعة للجاسوس، وغيرها، ومثل كلمة "قرء" فإنها موضوعة للحيض والطهر.
وأما المشترك المعنوي، فهو اللفظ الذي وضعته العرب وضعا واحدا لمعنى كلي يشترك فيه أفراد كثيرة، وذلك مثل كلمة "موجود"، فإن العرب قد وضعتها لمفهوم عام، وهو المتصف بالوجود مطلقا، سواء أكان واجب الوجود، كذات الله ﵎، فإن ذاته سبحانه واجبة الوجود، أم كان ممكن الوجود، كغير الله ﷿ من سائر مخلوقاته.
ويسمي العلماء هذا النوع من الألفاظ: مشتركا معنويا؛ لأن أفراده العديدة تشترك في معناه، بخلاف المشترك اللفظي.
وإذا وجدت كلمة "مشترك" في تعبير العلماء مطلقة غير مقيدة بأنها مشترك لفظي، أو معنوي، فإنها في هذه الحال تنصرف إلى المشترك اللفظي، فإذا قال العلماء عن لفظ ما، إنه مشترك، ولم يبينوا هل هو مشترك لفظي أو مشترك معنوي، فإننا نفهم من الإطلاق أنهم يريدون به المشترك اللفظي.
وأما إذا أريد به المشترك المعنوي، فلا بد من التقييد، فيقال: هذا اللفظ مشترك معنوي.
هذا، ويرى بعض العلماء أنه لا يوجد مشترك في اللغة، واحتجوا على رأيهم هذا بأن الغرض من وضع اللغة هو أن تتميز المعاني بالأسماء ليحصل بها الإفهام، فلو كان هناك لفظ واحد وضع لمعنى، ووضع لمعنى آخر خلاف هذا المعنى على طريق البدل، لما فهم أحد بهذا اللفظ أحد هذين المعنيين، وهذا يؤدي إلى انتقاض الغرض من المواضعة.
ولكن جماهير العلماء يرون وجود المشترك في اللغة، والحجة في هذا أنه لا يوجد ما يمنع عند بداية الوضع اللغوي أن تضع قبيلة من القبائل مثلا اسم "القرء" للحيض، وتضعه قبيلة أخرى للطهر، ويشيع استعمال ذلك بين الناس، ويخفى أن هذا الاسم قد وضع لهذين المعنيين من جهة قبيلتين، فيفهم من هذا اللفظ عند إطلاقه الحيض والطهر، على طريق البدل.
انظر: المعتمد لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، الجزء الأول، ص٢٢، طبع المطبعة الكاثوليكية في بيروت، ١٩٦٤، وانظر: أصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص٣٤٧.
1 / 9
أن العلماء بينوا أن الحكم أعم من القضاء؛ وذلك لأن كلمة الحكم تصدق على أمرين:
أحدهما: حكم من حكمه خصمان.
والثاني: حكم من نصبه رئيس الدولة أو نائبه ليحكم بين الناس.
فبين اللفظين عموم وخصوص مطلق؛ لأن كل قضاء حكم، وليس كل حكم قضاء، وكذلك كل قاض حاكم، وليس كل حاكم قاضيًا١.
وهذا مثل العلاقة بين كلمة إنسان وكلمة حيوان، فكل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنسانًا؛ لأن الإنسان نوع من الحيوان هو الحيوان الناطق.
كما يحسن أيضًا أن نبين أن العلماء تكلموا عن القضاء في مجالين:
أحدهما: مجال العبادة كالصلاة، والصيام، والقضاء فيها عندهم هو أن تفعل خارج وقتها المحدود شرعا، والأداء فعلها في الوقت المحدود، وهو استعمال مخالف للوضع اللغوي لكنه اصطلاح بين العلماء لكي يميزوا بين الوقتين٢.
والمجال الثاني: وهو المجال الذي نتكلم فيه الآن، هو مجال الحكم بين الناس.
ولفقهاء الشريعة تعريفات متعددة للقضاء الذي هو الحكم بين الناس، نذكر أمثلة منها:
_________
١ كتاب النيل وشفاء العليل، لعبد العزيز الثميني، مع شرحه لمحمد بن يوسف أطقيش، ج١٣، ص١٠، مكتبة الإرشاد بجدة، الطبعة الثالثة.
٢ المصباح المنير، للفيومي، مادة قضى.
1 / 10
عند الحنفية:
عرفه علماء الحنفية بأنه: "الفصل بين الناس في الخصومات، حسما للتداعي، وقطعا للنزاع بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة"١.
وعند المالكية:
وعرفه ابن عرفة من علماء المالكية بأنه: "صفة حكمية، توجب لموصوفها٢ نفوذ٣ حكمه الشرعي، ولو بتعديل أو تجريح، لا في عموم مصالح المسلمين"، والمراد بنفوذ حكمه نفوذ جميع أحكامه، وبهذا يخرج التحكيم، وكذلك تخرج ولاية الشرطة وأخواتها؛ لأنها خاصة ببعض الأحكام، والحسبة فإنها خاصة بأحكام السوق.
ويخرج بجملة "لا في عموم مصالح المسلمين" الولاية العظمى أي: رياسة الدولة، فإن رياسة الدولة نفوذ حكمها عام في مصالح المسلمين٤. بخلاف القضاء، فليس للقاضي حق تقسيم الغنائم، وتفريق الزكاة، ولا ترتيب الجيوش، ولا قتال البغاة، ولا الإقطاعات٥.
_________
١ رد المحتار حاشية ابن عابدين ج٤ ص٤٥٩.
٢ موصوفها هو القاضي.
٣ النفوذ -بالذال المعجمة- الإيصال والإمضاء، وهو المراد هنا، وأما النفود -بالإهمال- فهو الفراغ والتمام. شرح النيل وشفاء العليل، ج١٣، ص١٢.
٤ شرح الإمام محمد التاودي، المسمى بحلى المعاصم لبنت فكر ابن عاصم، وهو شرح لأرجوزة: تحفة الحكام لمحمد بن محمد بن عاصم، ج١، ص١٤.
٥ البهجة في شرح التحفة، لعلي بن عبد السلام التسولي على تحفة الحكام لابن عاصم، ج١، ص١٥.
1 / 11
وعرفه الدردير من علماء المالكة أيضًا، بأنه: حكم حاكم أو محكم بأمر ثبت عنده، كدين وحبس، وقتل، وجرح، وضرب، وسب، وترك صلاة، ونحوها، وقذف، وشرب، وزنا، وسرقة، وغصب، وعدالة، وضدها، وذكورة، وأنوثة، وموت، وحياة، وجنون، وعقل، وسفه، ورشد، وصغر، وكبر، ونكاح، وطلاق، ونحو ذلك، ليرتب على ما ثبت عنده مقتضاه، أو حكمه بذلك المقتضى١.
وبعد أن ذكر الدردير هذا التعريف، أراد أن يبين معنى عبارة، "ليرتب على ما ثبت عنده مقتضاه، أو حكمه بذلك المقتضى"، فقال: "مثاله: لو ثبت عنده دين أو طلاق، فالحكم تارة بالدين أو الطلاق، ليرتب على ذلك: الغرم: أو فراقها، وعدتها، أو يحكم بالغرم أو الفراق، لما ثبت عنده على حسب ما يقتضيه الحال من الرفع له".
ويلاحظ على هذا التعريف التطويل الذي لا داعي له؛ لأن التطويل يعاب في التعاريف، إذ التعاريف مبناها على الاختصار.
عند الشافعية:
وعرفه بعض فقهاء الشافعية بأنه: "فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى"٢. وعرفه بعض فقهائهم أيضًا أنه: "إلزام من له الإلزام بحكم الشرع"، وإن كان يرد على التعريفين أنهما غير مانعين؛ لأنهما شاملان لرياسة الدولة والتعريف الأول يشمل حكم المحكم أيضًا.
_________
١ الشرح الصغير، لأحمد الدردير، ج٤، ص١٨٥، ١٨٦.
٢ مغني المحتاج، ج٤، ص٣٧١، وحاشية الشرقاوي على التحرير، ج٢، ص٤٩١.
1 / 12
هذا وسلطة الإلزام ملاحظة في تعريف القاضي بخلاف المفتي؛ لأن المفتي وإن كان يتفق مع القاضي في أن كلا منهما مظهر لحكم الشرع، إلا أن القاضي له سلطة الإلزام والإمضاء، أي: تنفيذ الحكم بجانب إظهاره لحكم الشرع، وأما المفتي فليس له سلطة الإلزام والإمضاء، وإنما هو مظهر فقط لحكم الشرع في المسألة التي يستفتى فيها، ولذلك قال بعض العلماء: إن القيام بحق القضاء أفضل من الإفتاء١، وإن كان المفتي أقرب إلى السلامة وأبعد من القاضي عن الإثم٢.
وقد لاحظ أيضًا ابن رشد -أحد فقهاء المالكية- سلطة الإلزام الثابتة للقاضي، عند تعريفه للقضاء، فعرفه بأنه. "الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام"٣ ومن هذا التعريف أيضًا يتبين الفرق بين المفتي والقاضي.
عند الحنابلة:
وعرفه بعض فقهاء الحنابلة بأنه: "الإلزام بالحكم الشرعي وفصل الخصومات"٤. وهناك تعريف آخر في كتب الحنابلة هو "تبيين الحكم الشرعي والإلزام به، وفصل الخصومات"٥.
_________
١ نهاية المحتاج. للرملي، ج٤، ص٢٣٥، وحاشية الشرقاوي على التحرير ج٢. ص٤٩١.
٢ إعلام الموقعين لابن قيم الجورية، ج١، ص٣٦.
٣ تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبراهيم بن علي بن فرحون، مطبوع بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد أحمد عليش. ج١، ص١٢.
٤ كشاف القناع، للبهوني، ج٦، ص٢٨٥.
٥ شرح منتهى الإرادات المجلد الثالث. ص٤٥٩.
1 / 13
وعرفه الصنعاني بأنه: "إلزام ذي الولاية بعد الترافع". وذكر الصنعاني تعريفا آخر لغيره من العلماء هو أنه: "الإكراه بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة"، ثم بيّن الصنعاني أن المراد بالجهة كما لو حكم القاضي لبيت المال "الخزانة العامة للدولة"، أو عليه١.
رأي القرافي:
ويرى القرافي -أحد كبار علماء المالكية- التعبير بإنشاء الإلزام بدلا من الإلزام، فقد عرف الحكم أي: القضاء بقوله: "إنشاء إلزام أو إطلاق"، فإنشاء الإلزام كما إذا حكم القاضي بلزوم المهر للزوجة، أو النفقة لها، أو حكم بلزوم الشفعة، وما ماثل هذا.
فالحكم بالإلزام هو الحكم، وأما الإلزام الحسي من حبس أو غيره فليس بحكم؛ لأن القاضي قد يعجز عن ذلك. وأما الحكم بالإطلاق فكما لو نظر القاضي في قضية أرض زال الإحياء عنها٢، فحكم بزوال الملك، فإنها تبقى مباحة
_________
١ سبل السلام، للصنعاني، ج٤، ص١١٥.
٢ إصلاح الأراضي البور يسمى في الاصطلاح الفقهي: إحياء الموات، شبه العلماء عمارة الأرض بالحياة، وتعطيلها بعدم الحياة، فإحياء الأرض عمارتها، وبيّن العلماء أن الموات هو ما ليس يملكه أحد من الأرض، ولا ينتفع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع، ويكون موقعها خارج البلد، وعلى هذا لا يعد مواتا أرضًا مملوكة لأحد، أو أرضًا ينتفع بها على أي صورة كان الانتفاع كما لو كانت مرعى للحيوانات، أو كانت أرضًا داخل البلد.
وجمهور العلماء على أنه يجوز إحياء الموات وتملكه ولو لم يستأذن الحاكم في ذلك، وأبو حنيفة يشترط استئذانه.
وقد استند الجمهور إلى ظاهر الحديث الوارد في هذا، وهو ما رواه البخاري عن عروة، عن عائشة ﵂، أن النبي ﷺ قال: "من عمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها"، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته.
واستندوا أيضًا إلى القياس على تملك الماء المأخوذ من البحر والنهر، وما صيد من الطيور والحيوانات، فإن العلماء متفقون على أنه لا يشترط في ذلك إذن الحاكم. سبل السلام، للصنعاني، ج٣، ص٨٢. والفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ج٤، ص٧٠.
1 / 14
لكل أحد، أو زوال ملك الصائد عن صيد ند، فيجوز لكل أحد بعد ذلك أن يصيده١.
الرأي غير صحيح:
وهذا الرأي غير صحيح؛ لأن ولاية إنشاء الأحكام أو الإلزام بها ليست ثابتة للقاضي بل هي لصاحب الشرع خاصة، ولذلك يقول الفقهاء، إن حكم القاضي مظهر للحق وليس مثبتا له، أي: ليس منشئًا له.
فالإلزام الذي يصدر من القاضي إلزام في ظاهر الأمر فقط، أي: ليس إلزامًا حسيا، وأما التنفيذ الحسي فهو للسلطة التنفيذية، وهو تنفيذ للإلزام الذي ثبت بخطاب الشارع.
ولهذا فالصحيح أن القضاء إخبار وليس إنشاء، والإلزام الذي هو في ظاهر الأمر هو الذي يميز القضاء عن الفتوى، وتشترك الفتوى مع القضاء في أن كلا منهما إخبار عن الحكم الشرعي، ولكن الذي يميز القضاء عن الفتوى أن الفتوى إخبار عن الحكم ولا إلزام فيها، أما القضاء فهو إخبار عن الحكم على سبيل الإلزام٢.
هذا، ويمكن أن نختار من بين هذه التعريفات تعريف ابن رشد للقضاء، وهو "الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام".
_________
١ تبصرة الحكام لابن فرحون، مطبوع بهامش فتح العلي المالك، ج١، ص١٢، والبهجة في شرح التحفة لعلي بن عبد السلام التسولي، ج١، ص١٥، دار المعرفة، بيروت.
٢ أستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، "محاضرات في علم القضاء"، مكتوبة بالآلة الكاتبة، ص١٢.
1 / 15
ضرورة القضاء وسموه وخطره:
ضرورة القضاء:
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه الذي فطره الله عليه، لا يستطيع العيش -في يسر- منفردا، فلا تستقيم حياته إلا إذا عاش في جماعة، وإذا كان الناس لا يستطيعون الحياة الكاملة إلا مجتمعين، فلا بد أن تحدث نزاعات وخلافات حول الكثير من الأمور، لتعارض المصالح والرغبات، ولحب السيطرة، والاستيلاء على ما هو من حقوق الغير، وضن النفوس بحقوق الآخرين، فإذا لم يوجد رئيس لهذه الجماعة يكون حاسما للتنازع والتواثب، وظلم الناس بعضهم لبعض، ومؤديا الحقوق إلى أصحابها، أدى ذلك إلى حدوث ضرر جسيم، قَلّ أن يسلم منه أحد من أفراد الجماعة، ولذلك كان من الواجبات التي أوجبها الشرع -بإجماع العلماء- إقامة رئيس للدولة، لكي يحقق العدل ويمنع ظلم
البعض للبعض، ويؤكد شرع الله؛ لأن طبائع البشر قد جبلت على التظالم، وقَلّ من الناس من ينصف من نفسه، فلا بد من وجود سلطة قادرة قاهرة لها السيادة على الجميع تمنع المظالم وتقطع المنازعات التي هي مادة الفساد، وهذه السلطة تتمثل في رئيس الدولة.
رئيس الدولة مشتغل بما هو أهم من القضاء:
ومن المعلوم أن الرئيس الأعلى للدولة، مشتغل بما هو أهم من القضاء، ولا يستطيع أن يقوم بنفسه بكل الأمور التي نصب من أجلها، فهو يحتاج إلى من ينوب عنه ويقوم مقامه، فكان لا بد من وجود القاضي لينوب عن رئيس الدولة في رفع الظلم وإيصال الحقوق إلى أربابها، وكل ما هو من مصالح الناس، ولهذا كان رسول الله ﷺ يبعث القضاة إلى الآفاق، فبعث معاذ بن جبل
1 / 16
﵁ إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة١.
سمو القضاء:
دلت النصوص الشرعية على أن في القضاء فضلا عظيمًا لمن قوي على القيام به وأداء الحق، من ذلك ما بينه رسول الله ﷺ من أن الله ﷿ جعل فيه أجرا مع الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، فعن عمرو بن العاص ﵁ أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ فله أجر". رواه البخاري ومسلم٢.
وفي رواية صحح الحاكم إسنادها "فله عشرة أجور" لكن الإمام الشوكاني بين أن هذه الرواية التي رواها الحاكم والدارقطني في إسنادها فرج بن فضالة، وهو أحد الضعفاء في الحديث، فلا تقبل هذه الرواية، وكذلك توجد رواية أخرى عند أحمد بن حنبل بلفظ "إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت، فأخطأت فلك حسنة"، وهذه أيضًا رواية ضعيفة٣، فالثابت هو الرواية التي بينت أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران.
وقد أجمع علماء المسلمين على أن هذا الأجر في الحاكم إذا كان عالما مجتهدا، أما الجاهل فهو آثم بجميع أحكامه، حتى إن وافق حكمه الصواب، وأحكامه كلها مردودة عند بعض العلماء؛ لأن الإصابة في أحكامه اتفاقية٤.
_________
١ بدائع الصنائع. للكاساني، ج٧، ص٢، ونهاية المحتاج للرملي، ج٨، ص٢٣٦.
٢ سبل السلام، للصنعاني، ج٤، ص١١٧، ١١٨.
٣ نيل الأوطار، للشوكاني، ج٩، ص١٦٤، ١٦٥.
٤ حاشية الشرقاوي على التحرير، ج٢، ص٤٩١.
1 / 17
القضاء من أعمال الطاعات:
والقضاء يعد من أعمال الطاعات والتقرب إلى الله ﷿ إذا أخلص فيه القاضي وقصد به وجه الله؛ لأن في القضاء أمرًا بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداء للحقوق إلى أصحابها، وإصلاحا بين الناس، وتخليصا لبعضهم من بعض، وذلك كله من أبواب الطاعات والتقرب إلى الله ﷿ ولذلك تولى النبي ﷺ القضاء، وتولاه الأنبياء قبله، عليهم الصلاة والسلام جميعًا، فكانوا يحكمون لأممهم، وبعث ﷺ علي بن أبي طالب ﵁ قاضيًا إلى اليمن، وكذلك بعث معاذ بن جبل قاضيا.
خطر القضاء:
لكن يجب أن يلاحظ أنه إذا لم يقم صاحب هذا المنصب الخطير بما أوجبه الشرع، ولم يؤد الحق فيه، فإنه يعرض نفسه لخطر عظيم ووزر كبير، ولذلك نقل عن علمائنا السابقين ﵃ أنهم كانوا يتخوفون منه، ويمتنعون عن توليه أشد الامتناع، فقد حكى العلماء أن أبا حنيفة اجتنب القضاء، وصبر على الضرب، والسجن حتى مات في السجن، وقال: البحر عميق فكيف أعبر بالسباحة؟ ١. وامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون للقضاء.
ويقال أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة٢.
ولشدة خطره نجد رسولنا ﷺ يقول فيما رواه أبو هريرة عنه: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين"، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود
_________
١ شرح فتح القدير، للكمال بن الهمام، وحاشية سعدي جلبي، ج٧، ص٢٦٠.
٢ المغني لابن قدامة، ج٩، ص٣٤، ٣٥، وسبل السلام، ج٤، ص١١٧.
1 / 18
والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وابن حبان.
فهذا الحديث الشريف يفيد عظم خطر منصب القضاء، يقول الصنعاني عند شرحه لهذا الحديث الشريف: "كأنه يقول من تولى القضاء فقد تعرض لذبح نفسه، فليحذره، وليتوقه، فإنه إن حكم بغير الحق مع علمه به، أو جهله له، فهو في النار".... وقال الصنعاني: "وقيل ذبح ذبحًا معنويا؛ لأنه إن أصاب الحق فقد أتعب نفسه في الدنيا، لإرادته الوقوف على الحق وطلبه، واستقصاء ما تجب عليه رعايته في النظر في الحكم، والموقف مع الخصمين، والتسوية بينهما في العدل والقسط، وإن أخطأ في ذلك لزمه عذاب الآخرة، فلا بد له من التعب والنصب"١.
وجه تشبيه القضاء بذبح بغير سكين:
ويذكر بعض العلماء وجه تشبيه القضاء بالذبح بغير سكين، فيقول: لأن السكين تؤثر في الظاهر والباطن جميعًا، والذبح بغير سكين يؤثر في الباطن بإزهاق الروح، ولا يؤثر في الظاهر، ووبال القضاء لا يؤثر في الظاهر، فإن ظاهره جاه وعظمة، لكن باطنه هلاك٢.
وبين الشيخ عبد الله الشرقاوي من علماء الشافعية، أن هذا الحديث محمول على عظم الخطر فيه، أو على من يكره له أن يتولى القضاء، أو يحرم عليه ذلك٣.
وروى الإمام مسلم عن أبي ذر قال: يا رسول الله ألا تستعملني؟ "أي: توليني عملا من الولايات العامة"، قال: "إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"، قال الإمام النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي الخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلا وعدل فيها، فأجره عظيم، كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها والله أعلم٤.
وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي٥ أن رسول الله ﷺ قال: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار".
_________
١ سبل السلام، ج٤، ص١١٦.
٢ شرح فتح القدير، وحاشية سعدي جلبي، ج٧، ص٢٦٢.
٣ حاشية الشرقاوي على التحرير، ج٢، ص٤٩١.
٤ فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج٣، ص١٢٦.
٥ سبل السلام، ج٤، ص١١٥.
1 / 19
مشروعية القضاء:
من القرآن:
قامت الأدلة من الكتاب الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وإجماع علماء الأمة الإسلامية على أن القضاء مشروع، فمن الكتاب الكريم قول الله ﵎: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ
1 / 20
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ١، وقوله ﷿: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ٢، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ ٣، وقوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ٤، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ ٥.
من السنة:
وأما السنة، فمنها ما رواه عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث الشريفة.
من الإجماع:
وقد أجمع علماء المسلمين على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس٦.
_________
١ سورة ص، الآية: ٢٦.
٢ سورة المائدة، الآية: ٤٩.
٣ سورة النور، الآية: ٤٨.
٤ سورة النساء، الآية: ٦٥.
٥ سورة النساء، الآية: ١٠٥.
٦ المغني لابن قدامة. ج٩، ص٣٤.
1 / 21