الهادي والمهتدي
الناشر
(بدون ناشر) (طُبع على نفقة رجل الأعمال الشيخ جمعان بن حسن الزهراني)
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٧ هـ - ٢٠١٥ م
تصانيف
الهادي والمهتدي
تأليف
الدكتور/ مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني
الطبعة الأولى
(١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م)
1 / 1
الإهداء
إلى صانع عاصفة الحزم خادم الحرمين الشريفين؛ الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود أيده الله بنصره وتوفيقه، وأعز به البلاد والعباد، فلم يكن لنا عز إلا بالله ثم به وبجنوده البواسل، وشعبه الصادق الوفي، فنبارك جهوده في خدمة دينه وطنه وشعبه والأمة الإسلامية، لقد طرق بابا بَزَّ فيه الأقران اليوم بقيادة المملكة العربية السعودية لعاصفة الجزم، وأرسى نواة مباركة في وحدة الصف العربي الإسلامي، وجدد الآمال في النفوس الأبية بنجدة جار طلب الغوث لحمايته من دمار شامل، ولحماية حدود أرض الحرمين مهبط الوحي، ومهوى أفئدة المسلمين فلا يطالها عبث أذناب الأعداء، فله مني ومن أبنائي ومن الشعب السعودي تحية ولاء وإكبار على هذا الإنجاز العظيم، إنجاز لا يصنعه إلا العظماء، والتحية موصولة لقادة التحالف العشري الميمون، شكر الله لهم المسعى، وبارك في الجهود، وخيب الله كيد الأعداء وأطماع الطامعين.
المؤلف
الدكتور/ مرزوق بن هيّاس الزهراني
1 / 5
المقدمة
منذ بدء الخلق اقتضت إرادة الله ﷿ أن لا يُعبد سواه، فكانت دعوة الرسل متفقة على توحيد الله ﷿، وعبادته وحده لا شريك له، وعلى هذا أطبقت دعوات الرسل ﵈، فما من رسول إلا دعا أمته إلى توحيد الله ﷿، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وقد كان كل نبي يُبعث في قومه خاصة، ولما أراد الله ﷿ أن يكون نبيه محمد ﷺ رسولا إلى الناس كافة، معززًا الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، أرسله إلى الناس كافة؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (١)، ولم تكن رسالة نبينا محمد ﷺ قاصرة على بني آدم، بل تشمل الجن قال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ (٢)، وقد ثبت أنه ﷺ اجتمع بالجن ودعاهم إلى الإسلام، فلا يسع أحدا من الجن والإنس سمع به منذ نبوته ﷺ إلى قيام الساعة إلا الإيمان به ومن لم يؤمن به ﷺ ويتبع الحق الذي جاء به كتابا وسنة فهو من الخاسرين، وقد قال الله تعالى في شأن تكليف الجن باتباع نبينا محمد ﷺ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ (٣)، قَالَ ابن عباس ﵄: "كَانُوا سَبْعَة من جن نَصِيبين فجعلهم رَسُول الله ﷺ رسلا إِلَى قَومهم" وفي قَوله: فجعلهم رسول الله ﷺ رسلا إِلَى قَومهم دليل على أَنه كَلمهم بعد ذَلك (٤)، وَلهذَا ﴿قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (٥)، وكان سبب صرفهم إليه ﷺ
_________
(١) الآية (٢٨) من سورة سبأ.
(٢) الآيتان (١، ٢) من سورة الجن.
(٣) الآية (٢٩) من سورة الأحقاف ..
(٤) آكام المرجان في أحكام الجان ١/ ٦٩.
(٥) الآيتان (٣٠، ٣١) من سورة الأحقاف.
1 / 7
منعهم من استراق السمع، وقد قرأ عليهم رسول الله ﷺ بِالْحَجُونِ، وفي رواية بوادي نخلة قرب الطائف، قال ابن عباسٍ ﵄: "إن النفر الذين أتوا رسول الله ﷺ من جن نَصِيبِينَ (١)، أتوه وهو بِنَخلَةَ"، ومن هنا نقول: لن يحصل اجتماع الأمة المحمدية إلا على منهج الكتاب والسنة، فالله تعالى يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (٢)، ولا خلاص للأمة من نكباتها والمخاطر المحيطة بها إلا بالوحدة على منهج الكتاب والسنة، اعتقادا بوحدة المعبود ﷿، وعملا بوحدة المتبوع ﷺ، ووحدة المنهج وذلك بالعمل بالكتاب والسنة، هذه الأسس الثلاثة لا تقوم وحدة الأمة المحمدية إلا عليها، ومن رام غير هذا فإنما يبحث عن سراب، ومن هنا وسمنا كتابنا هذا بـ "الهادي والمهتدي" فالهادي رسول الله ﷺ، ولا نقصد هداية التوفيق فهذه خاصة برب العزة والجلال، يمنحها من يشاء من عباده، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (٣)، فالهداية المنفية عنه ﷺ هي هداية التوفيق، والذي نقصده هداية الدلالة والإرشاد وقد أثبتها له ربنا جل وعلا، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (٤)، ولا نشك في أن رحمة الله بهذه الأمة هي السمة البارزة في هذا الدين، فقد جاء الرحمة المهداة نبينا محمد ﷺ، رسولا للعالمين ورحمة لهم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (٥)، أثنى على ربه ﷿، فقال ﷺ: «كلكم أثنى على ربه، وأنا مثن على ربي قال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس، بشيرا ونذيرا، وأنزل عليَّ الفرقان فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتي هم الأولون وهم
_________
(١) مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام (معجم البلدان ٥/ ٢٨٨) وانظر: الطبري ١٢/ ١٧٠.
(٢) من الآية (١٠٣) من سورة آل عمران ..
(٣) الآية (٥٦) من سورة القصص.
(٤) من الآية (٥٢) من سورة الشورى.
(٥) الآية (١٠٧) من سورة الأنبياء.
1 / 8
الآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحا خاتما» (١)، ومن رحمة الله للأمة المحمدية، أن أذاب الفوارق بين المؤمنين، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (٢)، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (٣)، وقال ﷺ: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» (٤)، ولئن كان التفاضل بين الناس عربا وغير عرب مزية اجتماعية يحسب لها حسابها، فقد مقتها الإسلام في الأمة المحمدية، وأرسى قاعدة «كلكم لآدم» كما في الحديث السابق، ومن رحمة الله للأمة المحمدية أن رحمته سبقت سخطه، قال رسول الله ﷺ: «إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي» (٥)، ومن رحمة الله بالأمة المحمدية أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، لأن العبد مهما عمل من الخير، ومهما عُمّر في ذلك، فلن يوازي شكر نعمة واحدة من نعم الله عليه، والله غني عن ذلك كله، فكانت رحمته أوسع لعباده، قال رسول الله ﷺ: «لن يُدخِل أحدًا عملُه الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضل ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا» (٦)، ومن رحمة الله بالأمة المحمدية أن الشريعة الإسلامية بنيت على اليسر، ورفع الحرج يقول الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (٧)، ويقول رسول الله ﷺ: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (٨)، ويقول ﷺ: «دعوني ما تركتكم،
_________
(١) الطبري ١٤/ ٤٣٧ ..
(٢) من الآية (١٠) من سورة الحجرات.
(٣) الآية (١٣) من سورة الحجرات.
(٤) أحمد حديث (٢٣٤٨٩).
(٥) أخرجه البخاري، حديث (٧٤٢٢).
(٦) أخرجه البخاري، حديث (٥٦٧٣).
(٧) الآية (١٨٥) من سورة البقرة ..
(٨) أخرجه البخاري، حديث (٦٠٢٤).
1 / 9
إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (١)، وكلما أتاه مستفتٍ يوم النحر في منى قال: «افعل ولا حرج» قال عبدالله بن عمرو بن العاص ﵄: "إن النبي ﷺ بينما هو يخطب يوم النحر إذ قام إليه رجل فقال: كنت أحسب - يا رسول الله - كذا وكذا قبل كذا وكذا، ثم قام آخر فقال: يا رسول الله، كنت أحسب كذا وكذا، لهؤلاء الثلاث"، فقال النبي ﷺ: «افعل ولا حرج» (٢)، لهنَّ كلِّهنَّ يومئذ، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال: «افعل ولا حرج» والنصوص في هذا الباب كثيرة يكفي منها ما ذكرنا، كل هذا من أجل الرفق بالأمة المحمدية، وتجنيبها الغلو في العبادة، فضلا عن الغلو في الأشخاص، مهما كان فضلهم وصلاحهم.
أما المهتدي: فقد قصدنا به كل من آمن بالله ربا فوحَّده في العبادة، وبمحمد ﷺ نبيا ورسولا فوحَّده في الاتباع، وبالإسلام دينا فوحَّد الكتاب والسنة وجعلهما أُسَّ العمل في كل شؤن الحياة، من عهد رسول الله ﷺ إلى أن يرث الله ﷿ الأرض ومن عليها، وأول هؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ الذين لم يخرجوا عن العمل بكتاب الله ﷿ وسنة معلمهم الهدى ﷺ، وقصدنا ضمنا الباحث عن الحق الراغب في الاهتداء.
المؤلف
_________
(١) أخرجه البخاري، حديث (٧٢٨٨) ومسلم، حديث (١٣٣٧).
(٢) أخرجه البخاري، حديث (٦٦٦٥).
1 / 10
القسم الأول
خطوات الوحدة الإسلامية
الاصطفاء للرسالة:
كانت أول خطوة لوحدة الأمة اصطفاء نبينا محمد ﷺ للرسالة، وحمل أمانة البلاغ لكل صغيرة وكبيرة تتعلق بالدين الإسلامي، وإعلام الأمة بها من غير زيادة ولا نقص، لمَّا بلغ رسول الله ﷺ أشده وبلغ أربعين سنة، أنزل عليه ربه الوحي، بعد أن هيأه لذلك، وكانت هذه المرحلة من أشق المراحل على رسول الله ﷺ فقد كان وحيدا في قومه مفطورا على الخير، والعفة والنزاهة، والصدق والأمانة، وحسن الخلق، وجاءه أمر عظيم تنوء بحمله الجبال الرواسي، ألم يقل الله ﷿: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ﴾ (١) إنه أمر له تبعات عظيمة، لا يقوى عليها إلا من أعده الله ﷿ لذلك، وكان له ناصرا ومعينا، وقد تحقق كل ذلك لنبينا محمد ﷺ، بدءا من قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (٢)، وختما بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (٣).
نزول الوحي
إنه تشريع من حكيم حميد، فالمشرِّع هو الله ﷿، وناقل التشريع هو روح القدس جبريل ﵇، والرسول إلى الناس كافة هو محمد بن عبد الله ﷺ، والوحي المنزل هو القرآن كلام الله ﷿.
أمر الله ﷿ عبده ورسوله نبينا محمدًا ﷺ بإبلاغ عباد الله تعالى إنسًا وجنًا ما أوحى الله ﷿ إليه من العلم والحكمة ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا
_________
(١) الآية (٢١) من سورة الحشر.
(٢) الآية (١) من سورة العلق.
(٣) من الآية (٣) من سورة المائدة.
1 / 11
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (١)، تلقى المصطفى أمر ربه، مؤمنا مصدقا بعظمة الخالق ﷿ لكل شيء، وعزَم على حمل الأمانة، والقيام بمسؤولية هداية الثقلين، هداية دلالة وإرشاد وتوجيه، فاصطفى الله ﷿ له من شاء من عباده، لنصرته ومؤازرته.
العهد النبوي
لن نتعرض لنشأة رسول الله نبينا محمد ﷺ وسنتجاوز المرحلة الأولى مرحلة العهد المكي؛ لأن ذلك لا يجهله أحد من المسلمين، وإن وجد من يجهله منهم فهم الغثاء من الأمة المحمدية، الذين أخبر عنهم النبي ﷺ أنهم من الكائنين في آخر الزمان، وسنبدأ من العهد المدني الذي تحقق فيه إعلاء كلمة الله ﷿، وكانت وقعة بدر يوما مشهودا في بداية انتصار الحق على الباطل، وما تلاها من انتصارات أسست شأن الأمة المحمدية، في جزيرة العرب أولا، وكان يوم الفتح العظيم في السنة الثامنة من الهجرة النبوية، دخل الناس في دين الله أفواجا، ولئن كان خروج رسول الله ﷺ من مكة سرا متخفيا ليلا من أسفلها، فقد أبا اللهُ ﷿ إلا أن يعود نهارا عيانا بيانا من أعلاها، خاشعا لربه متواضعا شاكرا حامدا، أعزه الله ﷿ في يوم أذل فيه قريشا بأجمعها، وكانت الرحمة المهداة غير متخلفة عن قريش الذين آذوا رسوله وطردوه، فلما تمكن منهم لم يظنوا به إلا خيرا لِما عرفوا من سيرته ﷺ، وعفوه ورحمته، سألهم «يا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (٢)، ارتبطت مكة بطيبة بعد هذا اليوم، واتجه رسول الله ﷺ إلى نشر توحيد الله ﷿، والدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتطهير جزيرة العرب من الأوثان، فبعث البعوث، واستقبل الوفود، وشرّع للناس ما يتعلق بعبادة ربهم، وسياسة دنياهم، أحاط به الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار ﵃، وكانت المعجزات تتفجر في حياة رسول الله ﷺ تأييدا
_________
(١) الآية (٦٧) من سورة المائدة.
(٢) السيرة لابن حبان ١/ ٣١٥ ..
1 / 12
من الله ﷿ لصدق نبوته ﷺ، وتثبيتا لقلوب المؤمنين به، فما زادهم ذلك إلا إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد كانت حياة رسول الله ﷺ بينهم، نورا وسعادة وشفاء، بصَّر من العمى، وهدى من الضلال، وانتشر الإخاء بين بني آدم، وجمع الله به قلوب المؤمنين على المحبة والإخاء، والعمل بما جاء به ﷺ، فاستظل الناس بعدله، وكمال خلقه وتواضعه ﷺ وكان رحمة من الله ﷿ للأمة المحمدية ولا يزال كذلك حتى تقوم الساعة، وبعد قيام الساعة فهو شفيع الأمة المحمدية، لقد أشرق كل شيء في طيبة حين وصل إليها رسول الله ﷺ، وأظلم كل شيء فيها حين لحق بالرفيق الأعلى ﷿، كما في حديث أنس ﵁ (١)، لكنه ربى جيلا هم خيار الناس على الإطلاق، الأمثل منهم فالأمثل، ﵃ أجمعين، على أن العهد النبوي لم يسلم من كيد أعداء الإسلام، كمحاولة يهود بني النظير قتله ﷺ، وما جرى في فتوحاته من منازلة الأعداء، ولكن الله ﷿ كتب له ولأصحابه ﵃ النصر والتمكين، إعلاء لكلمته ﷿، ورحمة بالأمة من عبادة غير الله ﷿، كان العهد النبوي رحمة للعالمين، لم تكن رحمته ﷺ قاصرة على العرب بني جنسه ومحتده، بل كل من آمن به من بني آدم، وعمل بما جاء به من الهدى، فاز في الدنيا والآخرة، فهو المبعوث إلى الناس كافة، ولقد تعدى خيره وبركته إلى غير المؤمنين به، من أهل الذمة، بما أبرم لهم من حقوق يلتزم بها المسلمون، فقد حفظ دماءهم وأعراضهم وأموالهم، فلا يجوز الاعتداء عليهم بغير حق قال ﷺ: «من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» (٢)، وكان المؤمنون به أمة واحدة، كما وصفهم رب العزة والجلال ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (٣)، المراد أمة نبينا محمد ﷺ، وهم كل من صدقه وآمن به من جميع بني آدم على اختلاف لغاتهم، وألوانهم، وتعدد قبائلهم وشعوبهم وأعراقهم، هذه الخيرية جاءت من إيمانهم بالله ﷿ ورسوله ﷺ،
_________
(١) الترمذي حديث (٣٦١٨) ..
(٢) البخاري حديث (٦٤٠٣).
(٣) من الآية (١١٠) من سورة آل عمران.
1 / 13
واتباعهم ما جاء به من الحق والهدى، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم كما وصفهم رسول الله ﷺ «المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» (١)، وضرب لهم مثلا في كمال التلاحم والتآزر، وصدْق الإحساس والشعور بالمسؤولية فقال ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (٢)، وقد أذاب الإسلام كل الفوارق بين بني الإنسان، فكلهم أبناء آدم ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (٣)، وما دام الأمر كذلك فالتفاخر والتفاضل بينهم منفي إلا فيما يرضي الله ﷿، قال رسول الله ﷺ: «أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، ألا وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى» (٤)، وبسبب هذا الكمال في العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، قامت للأمة الإسلامية وحدة لم تعرف الدنيا مثيلا لها، ولم تكن حضارة على وجه الأرض أطهر وأنقى ولا أعدل وأكمل منها، كل ذلك بفضل امتزاج الدين الخالص بالحياة، وهيمنته على القلوب، فاحتوى العربيَّ وغيره، والأسود والأبيض، والغني والفقير، والمالك والمملوك، وأصبح الضاعن رجلا أو امرأة يسير من أقصى الدنيا قاصدا بيت الله الحرام لا يخشى على نفسه، آمنا مطمئنا في ظل الإسلام الوارف، وكان لسان حال كل مسلم يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
هذه هي الدائرة الأولى، وهي الأساس في بناء الحضارة الإسلامية التي أخبر باتساعها فيما بعد رسول لله ﷺ، بقوله: «زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطيت الكنزين: الأصفر، أو الأحمر، والأبيض يعني الذهب والفضة
_________
(١) أبو داود حديث (٢٧٥١) ..
(٢) مسلم حديث (٤٦٨٥).
(٣) الآية (١٣) من سورة الحجرات.
(٤) إتحاف الخيرة المهرة حديث (٢٦١٤).
1 / 14
وقيل لي: إن ملكك إلى حيث زوي لك» (١)، والمراد ملك الأمة، فهو نبي وليس ملكا، وتنبأ به هرقل في حواره مع أبي سفيان حول رسول الله ﷺ، ومساءلته لأبي سفيان، ولم يكن أبو سفيان مسلما في ذلك الوقت، وبعد سماع هرقل لإجابة أبي سفيان على كل سؤال سأله قال: "فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه"، وملكت ذلك الأمة بعد موته ﷺ في عهد عمر ﵁، وفي حديث أنس بن مالك ﵁: حدثتني أم حرام بنت ملحان: "أن النبي ﷺ قال (٢)، في بيتها يوما، فاستيقظ وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله، ما أضحكك؟، قال: «رأيت قوما من أمتي يركبون ظهر هذا البحر، كالملوك على الأسرة» قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم نام أيضا فاستيقظ وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله، ما أضحكك؟، قال: «رأيت قوما من أمتي يركبون ظهر هذا البحر، كالملوك على الأسرة» قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «أنت من الأولين» قال: فتزوجها عبادة بن الصامت، فغزا في البحر فحملها معه، فلما قدموا قُرِّبت لها بغلة لتركبها، فصرعتها فدقت عنقها فماتت" (٣)، وقد تحقق ذلك كله، لأمة محمد ﷺ، حين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقد كانت كتبه ﷺ إلى الآفاق بدايةَ اتساع ديار الإسلام، ودعوةَ الناس كافة للدخول في دين الله ﷿، وكان ركوب البحر في عهد معاوية ﵁، وقد كان الناس قبل بعثة نبينا محمد ﷺ أمما في معتقداتهم، وعاداتهم ومناهج حياتهم، جَعلت العاداتُ لكل منهم شرعة ومنهاجا، منهم من كان على جهل ببقايا ما جاءت به الرسل، ومنهم من اتخذ له إلها كما يهوى ويحب، وكان من العرب من بقي يتأمل شيئا من دين إبراهيم ﵇، وغالبهم يعبدون الأوثان، وهكذا غيرهم من المجوس والذين أشركوا، وليس بخاف على أحد دين اليهود والنصارى وما أوقعوا فيه من تحريف وضلال، فكان مبعث نبينا محمد ﷺ رحمة مهداة لهذه
_________
(١) أخرجه ابن ماجة حديث (٣٩٥٢).
(٢) من القيلولة، وهو النوم في وسط النهار.
(٣) أخرجه البخاري حديث (٢٧٨٨) ومسلم حديث (١٩١٢) ..
1 / 15
الأمة بكل أجناسها وقبائلها عربها وعجمها على حد سواء، ولم يكن لشعب دون شعب، بل كان للناس كافة، فقامت وحدة لم يسبق لها مثيل بالصفة التي أقامها رسول الله ﷺ، صفة استمدها من الوحيين الذين مَنَّ الله بهما عليه، وعلى أمته ﷺ.
ركائز وحدة الأمة
نستخلص من العهد النبوي أن ركائز وحدة الأمة خمس، دورها في وحدة الأمة كدور أركان الإسلام في بنائه، وهي:
الركيزة الأولى: الوحدة في الإيمان:
إن الإيمان بأن لهذا الكون خالقا يدبر أمره في كل ذرة منه، يقود إلى أن للإنسان ربا يستحق منه العبادة والتقديس، فإنه لا يكون في العبادة حق لغير الخالق، فلا يكون حينئذ لمقولة الدهريين قبول، لأنها مجرد هراء قادت إليه أفكار شيطانية، فقالت الألسنة الشريرة: "لا إله، والحياة مادة، وإنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر"، وأصحاب هذه المقولات هاجت بهم جنون الأفكار حتى ألقتهم في جهنم وبئس المصير، وأكثر منهم عقلا وإيمانا ذلك الأعرابي حين سئل كيف عرفت ربك؟ فقال: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟ " (١)، مقولة محفوظة معلومة، لأنها في بساطتها ذاتَ دلالة قاطعة على أن هذا الخلق العظيم لا يمكن أن يكون بدون خالق مدبر، فالإيمان الركيزة الأولى، وهي أساس الركائز الأربع التالية، وقد أُسست أركان الإيمان في حديث عمر بن الخطاب ﵁ قال: "بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ طلع علينا رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يُرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله ﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه"، ثم قال: «يا محمد أخبرني عن الإسلام، قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال:
_________
(١) البيهقي وموقف من الإلهيات ١/ ٣٨ ..
1 / 16
صدقت، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر كله: خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها - يعني علاماتها - قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة: رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» قال: ثم انطلق فلبثت ثلاثا، ثم قال: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل ﵇ جاءكم يعلمكم دينكم» (١).
تضمن هذا الحديث تحديدا لأركان الإيمان وهي ستة: قوله ﷺ: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر كله: خيره وشره» وما من ركيزة من الركائز الأربع التالية لها إلا وهذه الركيزة محورها، وقد يقول قائل: لِمَ ذكر أركان الإسلام إذًا؟ فالجواب أن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد، إذا اجتمعا افترقا في تفسير كل منهما، وأن الإسلام الإقرار باللسان، والعمل بالأركان، وأن الإيمان الاعتقاد بالقلب، وإذا افترقا أغنى كل منهما عن ذكر الآخر، لدخوله فيه ضمنا، فارتبط الظاهر بالباطن، والتحمت ركائز الوحدة الإسلامية، ولذلك قال ﷺ: «ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ﷺ رسولا» (٢)، لاحتواء الإيمان الركائز الثلاث التالية له، لأن المسلم تحصَّل له بالإيمان العلم بالله ﷿ فرضي به ربا، وحصلت له معرفة بالإسلام فرضيه منهجا، وحصل له الإقرار بنبوة محمد ﷺ فرضيه نبيا ورسولا، وليُعلم أن مسمى الإيمان ليس محصورا في الأركان الستة ومعها أركان الإسلام الخمسة، بل هو أوسع من ذلك فقد قال رسول الله ﷺ: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» (٣)، ورواية مسلم «بضع وسبعون شعبة» (٤)، فما ورد في حديث
_________
(١) مسلم حديث (٨).
(٢) مسلم حديث (٤٩).
(٣) البخاري حديث (٩).
(٤) البخاري حديث (١٦١) ..
1 / 17
جبريل ﵇ هو أصول الإيمان التي لا يصح إيمان عبد إلا باجتماعها، وقد ورد في الكتاب العزيز تناول مسمى الإيمان لأكثر مما في حديث جبريل، قال تعالى: ... ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (١)، هنا تكامل لعناصر الإيمان، وقد يؤخذ من حديث الصحيحين السابق أن أول الإيمان الإقرار، وآخره إماطة الأذى عن الطريق، صحيح أن الإيمان الاعتقاد بالقلب، ولكنه لا يُعلم إلا بالإقرار، فالنطق يكشف خبايا القلب، فكان الإقرار أول ما يُعلم به إيمان المرء، ولهذا فالمسلمون يتفاضلون في الإيمان على قدر ما يحوزون من تعظيم الله ﷿ ورسوله ﷺ، وتعظيم كتابه تعالى وسنة نبيه ﷺ، وعلى قدر التطبيق العملي لذلك.
الركيزة الثانية: الوحدة في المعبود:
المعبود بحق هو الله ﷻ وحده لا شريك له، وعلى هذا أطبقت الأديان السماوية، وجاء القرآن الكريم داعيا إلى ذلك، آمرًا النبي وأمته بالعلم بذلك، وأن يُتْبعَ العلم بالعمل قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ (٢)، وقال ﷺ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» (٣)، ولا عصمة لأحد بغير ذلك، وبها وبما بعدها صار الإسلام دين الله في الأرض لا يقبل سواه، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (٤)، هذا الدين العظيم الذي اتسع لكل البشر بالحرية والعدل والمساواة، قوامه الكتاب والسنة، وركائز وحدة الناس عليه أولها الإيمان بالله ﷿، وثانيها عبادة الله وحده لا شريك
_________
(١) الآية (١٧٧) من سورة البقرة.
(٢) من الآية (١٩) من سورة محمد.
(٣) البخاري حديث (٢٥) ومسلم حديث (١٣٣).
(٤) من الآية (٨٥) من سورة آل عمران.
1 / 18
له، فليس من العدل أن تعبد غير الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، فلا أصنام ولا أوثان ولا غير ذلك إلا الخالق البارئ المصور، من له الأسماء الحسنى، وسبحان الله عما يشركون، وعلى هذا المنوال كانت عبادة المؤمنين في العهد النبوي الكريم، وعصر الخلافة الراشدة.
1 / 19
الركيزة الثالثة: الوحدة في المتبوع:
المتبوع الذي خاطب الله به البشر جميعا وأمرهم أن يؤمنوا به هو نبينا محمد ﷺ لذلك أمر ﷺ بقتال من لم ينطق بالشهادتين: شطرها الأول لوحدة المعبود، وشطرها الثاني لوحدة المتبوع ﷺ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد احتفظ الإسلام بفضل الأنبياء وحافظ على مكانتهم في نفوس الناس، وجعل الإيمان بهم وبما جاؤوا به ركنا من أركان الإيمان، ولكن كانت إرادة الله ﷿ فيما مضى أن يبعث في كل أمة رسولا، وكان ذلك، وكانت دعوتهم إلى توحيد الله، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (١)، فلما وقع التحريف والتبديل فيما جاؤوا به، كانت رحمة الله لمن بعدهم أن لا يعذبهم بما اقترف غيرهم من تحريف الكتب المنزلة ولاسيما على موسى وعيسى ﵉، فوعد تعالى بعدم العذاب فقال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (٢)، وإن كان هذا عاما في الأمم فهو يتناول أمة محمد ﷺ، هذا من جانب، ومن جانب آخر اقتضت إرادة الله ﷿ أن يكون المبعوث رحمة للعالمين كافة وبشرع موحَّد، جعل فيه من اليسر والتخفيف مالم يكن فيما سبقه من الأديان، بيّن ذلك تعالى بقوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (٣)، وهذا يشمل التخفيف عن بني إسرائيل بنبوة عيسى ﵇، وعن أمة محمد ﷺ بنبوته، وأمرهم بوحدة الاتباع فلا يجوز لبشر على وجه الأرض يسمع بنبوة محمد ﷺ ولا يُقبل عليها ويتبين أمرها ليعلم الحق من الباطل، وقد قال ﷺ لعمر ﵁ ورآه ينظر في التوراة: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» (٤)، فتوحد المؤمنون على اتباع محمد ﷺ، ولم يخرجوا عن ذلك قيد أنملة، وهم الرعيل الأول من المؤمنين ﵃، وقد عجبت ممن يتصدر
_________
(١) من الآية (٣٦) من سورة النحل.
(٢) من الآية (١٥) من سورة الإسراء.
(٣) من الآية (١٥٧) من سورة الأعراف ..
(٤) شعب الإيمان للبيهقي حديث (١٧٦).
1 / 20
لتوجيه الناس، ويزعم أن كل أحد مخير فيما يدين ويعتقد ويستدل بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (١)، وقد غفل عن تأمله أول الآية، وكذلك لو تأمل آخرها لما وقع في هذه الطامة، ولفهم أنها للتهديد والوعيد لمن لم يؤمن، هذا هو الحق، وأن من كفر فهو ظالم وموعود بالنار قال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ... أي قل يا محمد إن ما جئت به هو الحق من ربكم ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ (٢)، فالآية ليس فيها تخيير البتة بل وعيد شديد يا أولي الألباب.
الركيزة الرابعة: الوحدة في المنهج:
جعل الله لهذه الأمة منهجا فريدا تلتقي عليه وحدتهم المصيرية في أمر الدين خاصة، وفي أمور الدنيا عامة، فقال عن كلامه المنزل على نبينا محمد ﷺ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (٣)، ولو حاول الراغب في التحريف فإنه يبوء بالفشل في الدنيا، والخسران في الآخرة، لأن القرآن الكريم مصون محفوظ من رب العزة والجلال، وها هو يطوي القرن الخامس عشر وهو محفوظ كما أقرأه رسول الله ﷺ أصحابَه ﵃، وقد خسيء كل من أراد النيل منه لفظا أو معنى، فإن الكثيرين من صغار المسلمين تحويه صدورهم فضلا عن كبارهم، كيف لا وهو المنهج الذي استقام عليه أمر الرعيل الأول في عهد النبوة، وعهد الخلافة الراشدة، إن هذه الركائز الثلاث هي التي تغلغلت في نفوس المؤمنين بالله ربا لا شريك له في العبادة، وبمحمد ﷺ نبيا ورسولا إلى الناس كافة، لا شريك له في الاتباع، لأن الله تعالى أمرهم بالركيزة الأولى بوحدة الإيمان فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
_________
(١) من الآية (٢٩) من سورة الكهف.
(٢) من الآية (٢٩) من سورة الكهف.
(٣) الآية (٩) من سورة الحجر.
1 / 21
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (١)، وفي الركيزة الثانية بوحدة المعبود، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ (٢)، وقال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (٣)، وفي الثالثة بوحدة الاتباع، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٤)، وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٥)، وقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (٦)، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ (٧)، وقال عن الركيزة الرابعة (٨)، وحدة المنهج: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (٩)، وحبل الله هو القرآن الكريم، وقال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (١٠)، فلا مرجعية لهم سوى الكتاب والسنة النبوية، عملا بوصية نبينا محمد ﷺ «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله» (١١).
_________
(١) من الآية (١٣٦) من سورة النساء.
(٢) من الآية (٣٦) من سورة النساء.
(٣) من الآية (٦٠) من سورة غافر ..
(٤) الآية (٣١) من سورة آل عمران.
(٥) من الآية (٧) من سورة الحشر.
(٦) من الآية (٧) من سورة النور.
(٧) الآية (٣٦) من سورة الأحزاب.
(٨) من الآية (٢٩) من سورة الكهف.
(٩) من الآية (١٠٣) من سورة آل عمران.
(١٠) الآية (٦٥) من سورة النساء.
(١١) مسلم حديث (١٢١٨).
1 / 22
ومع هذا يخرج بعض المغرورين فيزعم أن من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر على التخيير، ويرى بهذا الفهم السقيم أنه جاء بالفتح في هذا العصر، نعم فتح باب الضلال للضعفاء من المسلمين.
الركيزة الخامسة: حماية الركائز الأربع:
قال رسول الله ﷺ: «لكل شيء حمى، وحمى الله محارمه» (١)، فكل شيء في هذه الحياة لابد له من قوة، تصونه وتحميه من العوادي، ومكاسب الأمة كلها تتلخص في وحدتها على الركائز الخمس التي قام عليها الإسلام، فلا بد لكل ركيزة منها من وجود حماية تصونها من العبث، والزيادة، والنقص، فالله ﷿ صان القرآن وهو الذكر من العبث، والزيادة، والنقص، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (٢)، وقال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (٣)، ومن الباطل محاولة تحريفه لفظا أو معنى، وهذا ضمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك السنة النبوية، توعد رسول الله ﷺ من كذب عليه فقال: «من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» (٤)، وكذلك من عمل عملا لا يوافق أمره، قال ﷺ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد» (٥)، وهذا من حماية السنة، ومن ذلك جهود العلماء في نقد الأسانيد، والمتون، وقمع البدع، وبيان خطرها على الأمة، وقد بشرنا رسول الله ﷺ أن للعلم بالكتاب والسنة حُماته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال ﷺ: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (٦).
_________
(١) مستخرج أبي عوانة حديث (٥٤٧٥).
(٢) الآية (٩) من سورة الحجر.
(٣) (الآية (٤٢) من سورة فصلت.
(٤) البخاري حديث (١٠٧).
(٥) البخاري حديث (٢٠).
(٦) ذم الكلام للهروي ٤/ ١٩٩.
1 / 23
حماية الركيزة الأولى:
الركيزة الأولى تصان من أفكار الطبائعيين، والدهريين، الذين يزعمون أن لا إله، وأن الطبيعة هي الفاعلة في الحياة، حتى زعموا أن الإنسان كان أصله قردا، فتطور بالطبيعة شيئا فشيئا حتى وصل إلى ما هو عليه، ولكن نسألهم وهم الخاسرون، لِمَ لم تتطور الشمس، وكذلك القمر وغيرهما من الكواكب؟، ولِمَ لم تتطور مياه الأنهار والبحار، فتكون زيتا، فتستغني عنا دول العالم، أو تكون لبنا خالصا؟، أو عسلا مصفى، ولِمَ لم يتطور الإنسان عن صورته هذه، منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة؟ !، والعجب أنهم لم يتنبهوا إلى عجز الطبيعة، وحاجتها إلى خالقها، ولم يوفقوا إلى العلم بعجز الطبيعة أن تصنع لقمة طعام لمريض لا حول له ولا قوة، إن تلك الأفكار وما شابهها أو قاربها كانت تدميرا لفطرة الإيمان في النفوس، وفطرة الإنسان تقضي بحاجته إلى معبود يلجأ إليه في أزماته الفكرية والنفسية، والصحية والمعاشية، وكل ما تتطلبه حياته، وبعد موته أيضا، فكانت هذه الحاجة ملجئة إلى تنوع في المعبودات، وإلى صنع الآلهة الباطلة، والحق الصارخ الذي لا مرية فيه أن الخالق هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وليس إلا الله خالقا لهذا الكون وما فيه، فوجب على كل مسلم أن يحمي إيمانه من كل فكر لا يساوق الكتاب والسنة، فقد أوصى بذلك ربنا فقال: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ (١)، وأكد على أنه الخالق وحده، وأن لا إله معه سبحانه فقال: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَأُ
_________
(١) من الآية (١٩) من سورة محمد ..
1 / 24