المصطلحات الأربعة
في القرآن
أبو الأعلى المودودي
تقديم الطبعة الأولى
هذه رساله ألفها الاستاذ السيد أبو الأعلى المودودي في سنة ١٣٦٠هـ - ١٩٤١ م، ونشر فصولها تباعا في مجلته الشهرية " ترجمان القرآن " ثم جمعها ونشرها في رسالة سماها " المصطلحات الأربعة في القرآن ". وما كتبه الأستاذ المودودي نفسه في مقدمته لهذه الرساله عن أهميه هذه المصطلحات في الإسلام، فيه ما يغني عن إعادة ذكره في هذا التقديم، وحسبنا أن نبين هنا تأريخ تأليف هذه الرسالة والمناسبة التي دعت لتأليفها.
... تم تأليف هذه الرسالة سنة ١٣٦٠هـ، وهي السنة التي تأسست فيها " الجماعة الإسلامية " في الهند، فكان لهذه الرسالة يد – وأي يد – في إيضاح دعوة الجماعة، وتحديد موقفها من جميع الاحزاب والجمعيات التي كانت قائمة في البلاد. فما تقدم بعدها أحد للإشتراك إلا كان على بينة تامة من الفرق بين دعوة الجماعة وبين ما تدعو إليه سائر الاحزاب والجمعيات، على الرغم من أن بعضها يدعي أنها ما قامت إلا لأجل الاسلام ونشر دعوته.
... وقد ظهر من هذه الرسالة حتى الان أربع طبع – في كل طبعه نحو ٣٠٠٠ نسخة – باللغة الاردية، ولم تنقل حتى يومنا هذا إلى أيه لغة أخرى، إلا هذه الترجمة العربية التي نهض بها الاخ الفاضل الاديب الاستاذ السيد محمد كاظم سباق، من زملاء " دار العروبة للدعوة الاسلامية " وها نحن أولاء نتشرف بتقديمها إلى اخواننا الناطقين بالضاد.
وهذه الرسالة هي الثانية من رسائلنا – تحلت بالطبع في مدينة دمشق – معقل الاسلام الحصين – على أيدي اخوان لنا في العلم والدين، ممن اجتمعت قلوبنا وقلوبهم على حب الاسلام والاستماته في سبيله، جزاهم الله عن الاسلام وأهله خير الجزاء، ووفقنا جميعا للعمل بما فيه مرضاته، انه ولي التوفيق وانه سميع مجيب.
1 / 1
.. وقد سبق أن نشر في دمشق رسالة " مبادئ الاسلام " للأستاذ المودودي، وثماني رسائل أخرى نشرت في القاهرة - يجد القارئ اسماءها في ختام هذه الرسالة - والمأمول أن تعقبها رسائل أخرى من هذه السلسلة قريبا إن شاء الله.
... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
... لاهور في ١٣ جمادى الأولى ١٣٧٤ هـ
... ... ٨ كانون الثاني (يناير) ١٩٥٥ م
كتبه العاجز الفقير إلى رحمة الله تعالى
محمد عاصم الحداد
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الإله والرب والدين والعبادة
هذه الكلمات الأربع أساس المصطلح القرآني وقوامه، والقطب الذي تدور حوله دعوة القرآن. فجماع ما يدعو إليه القرآن الكريم هو أن الله تعالى هو الإله الواحد الأحد والرب الفرد الصمد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ولا يشاركه في ألوهيته ولا في ربوبيته أحد. فيجب على الإنسان أن يرضى به إلهًا وأن يتخذه دون سواه ربًا، ويكفر بألوهية غيره ويجحد ربوبية من سواه، وأن يعبده وحده ولا يعبد أحدًا غيره ويخلص دينه لله تعالى ويرفض كل دين غير دينه سبحانه كما ورد في التنزيل: (وَما أَرسَلْنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رَسولٍ إلاّ نوحي إليهِ أنهُ لا إله إلاّ أنا فاعبدونِ) . (الأنبياء: ٢٥)
(وما أُمِروا إلاّ لِيَعْيُدوا إلهًا واحِدًا لا إلهَ إلاّ هوَ سُبحانَهُ عمّا يُشْرِكون) . (التوبة: ٣١)
(إنَّ هذه أمّتُكُمْ أمَّة واحدةً وأنا رَبُّكُمْ فاعبدون) (الأنبياء: ٩٢)
(قل أغيْرَ الله ابغي رَبًّا وهُوَ ربُّ كلِّ شيء) (الأنعام: ١٦٤)
(فَمَن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا) (الكهف: ١١٠)
(ولقد بَعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل: ٣٦)
(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون) (آل عمران: ٨٣)
(قل إني أمرتُ أن أعبدَ الله مخلصًا له الدين) (الزمر: ١١) (إن الله ربي وربّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيم) (آل عمران: ٥١)
هذه الآي المعدودة إنما سردناها مثالًا وأنموذجًا، وإلا فمن قرأ القرآن وتتبع آياته، فإنه يحس لأول وهلة ان كل ما نزل به القرآن الكريم من الهدي والإرشاد لا يدور إلا حول هذه المصطلحات الأربعة، وليس موضوع الكتاب وفكرته الأساسية إلا:
أن الله هو الرب والإله.
وأنه لا رب ولا إله إلا هو.
فإياه ينبغي أن يعبد الإنسان.
وله وحده ينبغي أن يخلص الدين.
أهمية المصطلحات الأربعة
1 / 3
ومن الظاهر البيّن أنه لابد لمن أراد أن يدرس القرآن ويسبر غور معانيه، أن يتفهم المعاني الصحيحة لكل من هذه الكلمات الأربع ويتلقى مفهومها الكامل الشامل، فإذا كان الإنسان لا يعرف ما الإله، وما معنى الرب، وما العبادة، وما تطلق عليه كلمة الدين فلا جرم، أن القرآن كله سيعود في نظره كلامًا مهملًا لا يفهم من معانيه شيء. فلا يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد، أو يتفطن إلى ماهية الشرك، ولا يستطيع ان يخص عبادته بالله سبحانه أو يخلص دينه له. وكذلك إذا كان مفهوم تلك المصطلحات غامضًا متشابهًا في ذهن الرجل وكانت معرفته بمعانيها ناقصة فلا شك أنه يلتبس عليه كل ما جاء به القرآن من الهدى والإرشاد، وتبقى عقيدته وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمنًا بالقرآن. فإنه لن ينفك يلهج بكلمة لا إله إلا الله ويتخذ مع ذلك آلهة متعددة من دون الله. ولن يبرح يعلن أنه لا رب إلا الله ثم يكون مطيعًا لأرباب من دون الله في واقع الأمر. إنه يجهر بكل صدق وإخلاص بأنه لا يعبد إلا الله تعالى ولا يخضع إلا له، ولكنه مع ذلك يكون عاكفًا على عبادة آلهة كثيرة من دون الله. وكذلك يصرح بكل شدة وقوة أنه في حظيرة دين الله وكنفه وإن قام أحد يعزوه إلى دين آخر غير الإسلام هجم عليه وناصبه الحرب؛ ولكنه يبقى مع ذلك متعلقًا بأذيال متعددة ولا شك أنه لا يدعو أحدًا غير الله تعالى ولا يسميه بالإله أو الرب بلسانه، لكن تكون له آلهة كثيرة وأرباب متعددة من حيث المعاني التي وضعت لها هاتان الكلمتان، والمسكين لا يشعر أصلًا أنه قد أشرك بالله آلهة وأربابًا أخرى وغذ نبّهته إلى أنه عابد لغير الله ومقترفٌ للشرك في الدين، لانقض عليك يخمش وجهك، إلا أنه يكون عابدًا لغير الله حقًا وداخلًا في غير دينه بدون ريب من حيث مغزى (العبادة) و(الدين) وهو لا يدري مع كل ذلك أن الأعمال التي يرتكبها هي في حقيقة الأمر عبادة لغير الله وأن الحالة التي قد سقط فيها هي نفس الأمر دينٌ ما
1 / 4
انزل الله به من سلطان.
السبب الحقيقي لهذا الفهم الخاطئ
يدلنا النظر في عصر الجاهلية وما تبعه من عصور الإسلام أنه لما نزل القرآن في العرب وعرض على الناطقين بالضاد كان حينئذ يعرف كل امرئٍ منهم ما معنى (الإله) وما المراد بـ (الربْ)، لأن كلمتي (الإله) و(الرب) كانتا مستعملتين في كلامهم منذ قبل، وكانوا يحيطون علمًا بجميع المعاني التي تطلقان عليها. ومن ثم إذا قيل لهم: لا غله إلا الله ولا رب سواه ولا شريك له في ألوهيته وربوبيته، أدركوا ما دُعوا إليه تمامًا وتبين لهم من غير ما لبس ولا إبهام أي شيء هو الذي قد نفاه القائل ومنع غير الله أن يوصف به؛ وأي شيء قد خصه وأخلصه لله تعالى، فالذين كفروا إنما كفروا عن بينة ومعرفة بكل ما يبطله وينعي عليه كفره بألوهية غير الله وربوبيته، وكذلك من آمن فقد آمن عن بينة وبصيرة بكل ما يوجب قبول تلك العقيدة الأخذ به أو الانسلاخ عنه.
وكذلك كانت كلمتا (العبادة) و(الدين) شائعتين في لغتهم وكانوا يعلمون ما البعد، وما الحال التي بعبر عنها بالعبودية، وما هو المنهاج العملي الذي يطلق عليه اسم (العبادة) وما مغزى (الدين) وما هي المعاني التي تشتمل عليها هذه الكلمة؟ ومن ثم لما قيل لهم "أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" وادخلوا في دين الله منقطعين عن الأديان كلها ما أخطأوا في فهم هذه الدعوة التي جاء بها القرآن. وما إن قرعت كلماتها أسماعهم حتى تبينوا: أي نوع من التغيير في نظام حياتهم جاءت تطالبهم به تلك الدعوة؟
ولكنه في القرون التي تلت ذلك العصر الزاهر جعلت تتبدل المعاني الأصلية الصحيحة لجميع تلك الكلمات، تلك المعاني التي كانت شائعة بين القوم عصر نزول القرآن، حتى أخذت تضيق كل كلمة من تلكم الكلمات الأربع عما كانت تتسع له وتحيط به من قبل، وعادت منحصرة في معان ضيقة محدودة؛ بمدلولات غامضة مستبهمة. وذلك لسببين اثنين:
1 / 5
الأول: قلة الذوق العربي السليم ونضوب معين العربية الخالصة في العصور المتأخرة، والثاني أن الذين ولدوا في المجتمع الإسلامي ونشؤوا فيه، لم يكن قد بقي لهم من معاني كلمات (الإله) و(الرب) و(العبادة) و(الدين) ما كان شائعًا في المجتمع الجاهلي وقت نزول القرآن. ولأجل هذين السببين أصبح اللغويون والمفسرون في العصور المتأخرة يشرحون أكثر كلمات القرآن في معاجم اللغة وكتب التفسير بالمعاني التي فهمها المتأخرون من المسلمين بدلًا من معانيها اللغوية الأصلية. ودونك من ذلك أمثلة:
إن كلمة (الإله) جعلوها كأنها مترادفة مع كلمة الأصنام والأوثان.
وكلمة (الرب) جعلوها مترادفة مع الذي يربي وينشئ وللذات القائمة بأمر تربية الخلق وتنشئتهم.
وكلمة (العبادة) حددوها في معاني التأله والتنسك والخضوع والصلاة بين يدي الله.
وكلمة (الدين) جعلوها نظيرًا لكلمة النحلة (Religion) .
وكلمة (الطاغوت) فسروها بالصنم أو الشيطان.
1 / 6
فكانت النتيجة أن تعذر على الناس أن يدركوا حتى الغرض الحقيقي والمقصد الجوهري من دعوة القرآن فإذا دعاهم القرآن ألا يتخذوا من دون الله إلهًا، ظنوا أنهم وفّوا مطالبة القرآن حقها لما تركوا الأصنام واعتزلوا الأوثان؛ والحال أنهم لا يزالون متشبثين بكل ما يسعه ويحيط به مفهوم (الإله) ما عدا الأوثان والأصنام، وهم لا يشعرون أنهم بعملهم ذلك قد اتخذوا غير الله إلهًا. وإذا ناداهم القرآن أن الله تعالى هو الرب فلا تتخذوا من دونه ربًا، قالوا ها نحن أولاء لا نعتقد أحدًا من دون الله مربيًا لنا ومتعهدًا لمرنا، وبذلك قد كملت عقيدتنا في باب التوحيد، والواقع أنه قد أذعن أكثرهم لربوبية غير الله من حيث المعاني الأخرى التي تطلق عليها كلمة (الرب) غير هذا المعنى – المربي-. وإذا خاطبهم القرآن أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، قالوا: لا نعبد الأوثان، ونبغض الشيطان ونلعنه ولا نخشع إلا لله، فقد امتثلنا هذا الأمر القرآني أيضًا امتثالًا، والحال أنهم لا يزالون متمسكين بأذيال الطواغيت الأخرى غير الأصنام المنحوتة من الأحجار، وقد خصوا سائر ضروب العبادة – اللهم إلا التأله- لغير الله، وقل مثل ذلك في (الدين)، فإنه لا يفهم الناس من معنى إخلاص الدين لله تعالى غير أن ينتحل المرء ما يسمونه (الديانة الإسلامية) وألا يبقى في ملة الهنادك أو اليهود أو النصارى. ومن هنا يزعم كل من هو معدود من أهل الديانة الإسلامية أنه قد أخلص دينه لله، والحق أن أغلبيتهم ممن لم يخلصوا دينهم لله تعالى من حيث المعاني الواسعة التي تشتمل عليها كلمة (الدين) .
نتائج هذا الفهم الخاطئ
من الحق الذي لا مراء فيه أنه قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن، بل قد غابت عنهم روحه السامية وفكرته المركزية لمجرد ما غشي هذه المصطلحات الأربعة الأساسية من حجب الجهل. وذلك من أكبر الأسباب التي قد تطرق لأجلها الوهن والضعف إلى عقائدهم وأعمالهم على رغم قبولهم دين الإسلام وكونهم في عداد المسلمين. ومن أجل ذلك كله يجدر بنا أن نفصل معاني تلك المصطلحات الأربعة ونشرحها شرحًا كاملًا، ليتبين غرض القرآن الحقيقي وتعاليمه الأساسية.
ومع أني قد حاولت الإلمام بمفهوم تلك المصطلحات في مقالات لي عديدة تقدم لي كتابها، غير أن ما قد كتبته حتى الآن لا يكفي في حد ذاته لدرء الأخطاء التي قد تسربت إلى الأذهان في هذا الباب؛ ولا يكاد يقتنع به الناس ويطمئنون إليه لأنهم يحسبون كل ما آني به من الشرح والتفصيل لمعاني تلك الكلمات من غير استشهاد بآي الكتاب العزيز ومن غير استناد إلى معاجم اللغة - يحسبونه رأيًا لي ارتأيته؛ والظاهر أن رأيي الشخصي لا يمكن أن يقنع الذين لا يرون رأيي ولا يوافقونني عليه على الأقل. فأردت في هذه الرسالة أن أبين المعاني الكاملة الشاملة لهذه المصطلحات الأربعة، من دون أن آتي في ذلك بقول لا يؤيده القرآن أو برأي لا يستند إلى معاجم اللغة.
وسأتناول بالبحث أولًا كلمة (الإله) ثم (الرب) ثم (العبادة) ثم (الدين) إن شاء الله تعالى.
أبو الأعلى
1 / 7
الإله
التحقيق اللغوي
مادة كلمة (الإله): الهمزة واللام والهاء، وقد جاء في معاجم اللغة من هذه المادة ما يأتي بيانه فيما يلي: (١)
[ألهتُ إلى فلان]: سكنت إليه
[ألهَ الرجل يأله] إذا فرغ من أمرٍ نزل به فألهه أي أجاره
[ألِه الرجلُ إلى الرجل]: اتجه إليه لشدة شوقه إليه.
[اله الفصيل] إذا ولع بأمّه
[أله الإهة والُوهَة] عبد.
وقيل (الإله) مشتق من (لاه يليه ليهًا]: أي احتجب
_________
(١) انظر تفسير ابن كثير ١/١٩-٢٠، وتفسير النيسابوري بحاشية تفسير الطبري ١-٦٥ - ٦٦.
1 / 8
ويتبين من التأمل في هذه المعاني المناسبة التي جعلت "اله ياله إلهة" تستعمل بمعنى العبادة – (أي التأله) – (الاله) بمعنى المعبود:
١- أن أول ما ينشأ في ذهن الإنسان من الحافز على العبادة والتأله يكون ما أتاه احتياج المرء وافتقاره. وما كان الإنسان ليخطر بباله أن يعبد أحدًا ما لم يظن فيه أنه قادر على أن يسد خلته، وأن ينصره على النوائب ويؤويه عند الآفات، وعلى أن يسكن من روعه في حال القلق والاضطراب.
٢- وكذلك أن اعتقاد المرء أن أحدًا ما قاض للحاجات ومجيب للدعوات، لستلزم أن يعده أعلى منه منزلة وأسمى مكانة، وألا يعترف بعلوه في المنزلة فحسب، بل أن يعترف كذلك بعلوه وغلبته في القوة والأيد.
٣- ومن الحق كذلك أن ما تقضى به حاجات المرء غالبًا حسب قانون الأسباب والمسببات في هذه الدنيا، ويقع جل عمله في قضاء الحاجات تحت سمع المرء وبصره، وفي حدود لا تخرج من دائرة علمه، لا ينشئ في نفس المرء شيئًا من النزوع إلى عبادته أبدًا، خذ لذلك مثلًا أن رجلًا يحتاج إلى مال ينفقه في بعض حاجته، فيأتي رجلًا آخر يطلب منه عملًا أو وظيفة فيجيبه الرجل إلى طلبه ويقلده عملًا، ثم يأجره على عمله، فإن الرجل لا يخطر له ببال أصلًا – فضلًا عن أن يعتقد – أن الرجل يستحق العبادة من قبله، لما علم بل رأى بأمّ عينه كل المنهاج الذي بلغ به غايته وعرف الطريقة التي اتخذها الرجل لقضاء حاجته. فإن تصور العبادة لا يمكن أن يخطر ببال المرء إلا إذا كان شخص المعبود وقوّته من وراء حجاب الغيب، وكانت مقدرته على قضاء الحوائج تحت أستار الخفاء. من ها هنا قد اختيرت للمعبود كلمة تتضمن معاني الاحتجاب والحيرة والوله مع اشتمالها على معنى الرفعة والعلوّ.
٤- ورابع الأربعة أنه من الأمور الطبيعية التي لا مندوحة عنها أن يتجه الإنسان في شوق وولع إلى من يظن فيه أنه قادر على أن يقضي حاجته إذا احتاج، وعلى أن يؤويه إذا نابته النوائب، ويهدئ أعصابه عند القلق.
1 / 9
فتبين من ذلك كله أن التصورات التي قد أطلقت من أجلها كلمة (الإله) على المعبود هي: قضاء الحاجة والإجارة والتهدئة والتعالي والهيمنة وتملك القوى التي يرجى بها أن يكون المعبود قاضيًا للحاجات مجيرًا في النوازل وأن يكون متواريًا عن الأنظار يكاد يكون سرًا من الأسرار لا يدركه الناس، وأن يفزع إليه الإنسان ويولع به.
تصور الإله عند أهل الجاهلية:
ويجمل بنا بعد هذا البحث اللغوي أن ننظر ماذا كانت تصورّات العرب والأمم القديمة في باب الألوهية التي جاء القرآن بإبطالها.
يقول ﷾
١- (واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزًا) (مريم:٨١)
(واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم يُنصرون) (يس: ٧٤)
يتبين من هاتين الآيتين الكريمتين أن الذين كان يحسبهم أهل الجاهلية آلهة لأنفسهم كانوا يظنون بهم أنهم أولياؤهم وحماتهم في النوائب والشدائد وأنهم يكونون بمأمن من الخوف والنقض إذا احتموا بجوارهم.
٢- (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لمّا جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) (هود: ١٠١)
(والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون. أمواتٌ غير أحياءٍ وما يشعرون أيّان يبعثون. إلهكم إلهٌ واحدٌ) (النحل: ٢٠-٢٢)
(ولا تدع مع الله إلهًا آخر، لا إله إلا هو (١» (القصص: ٨٨)
(وما يتّبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) (يونس: ٦٦)
_________
(١) مما ينبغي أن يلاحظ في هذا المقام أن كلمة (الإله) جاء استعمالها في القرآن بمعنيين اثنين، أحدهما المعبود الذي يعبده الناس في الواقع، حقًا كان ذلك المعبود أم باطلًا، لا عبرة بذلك، وثانيهما المعبود الذي يستحق في حقيقة الأمر أن يعبد. وفي هذه الآية قد استعملت كلمة (الإله) في الموضعين منها بهذين المعنيين المختلفين.
1 / 10
وتتجلى من هذه الآيات بضعة أمور، أحدها أن الذين كان أهل الجاهلية يتخذونهم آلهة لهم كانوا يدعونهم عند الشدائد ويستغيثون بهم؛ والثاني: أن آلهتهم أولئك لم يكونوا من الجن أو الملائكة أو الأصنام فحسب بل كانوا كذلك أفرادًا من البشر قد ماتوا من قبل، كما يدل عليه قوله تعالى: "أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيان يُبعثون" دلالة واضحة والثالث: أنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم هذه يسمعون دعاءهم ويقدرون على نصرهم.
ولابد للقارئ في هذا المقام من أن يكون على ذكر من مفهوم الدعاء، ومن وضعية النصرة التي يرجوها الإنسان من الإله فالمرء إذا كان أصابه العطش مثلًا فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء أو إذا أصيب بمرض فدعا الطبيب لمداواته، ولا يصحّ أن يطلق على طلب الرجل للخادم أو للطبيب حكم "الدعاء" وكذلك ليس من معناه أن الرجل قد اتخذ الخادم أو الطبيب إلهًا له. وذلك أن كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب ولا يخرج عن دائرة حكمه. ولكنه إذا استغاث بولي أو وثن – وقد أجهده العطش أو المرض- بدلًا من أن يدعو الخادم أو الطبيب، فلا شك أنه دعاه لتفريج الكربة واتخذه إلهًا. فإنه دعا وليًا قد ثوى في قبر يبعد عنه بمئات من الأميال، فكأني له يراه سميعًا بصيرًا ويزعم أن له نوعًا من السلطة على عالم الأسباب مما يجعله قادرًا على ان يقوم بإبلاغه الماء أو شفائه من المرض، وكذلك إذا دعا وثنًا في مثل هذه الحال يلتمس منه الماء أو الشفاء، فكأنه يعتقد أن الوثن حكمه نافذ على الماء أو الصحة أو المرض، مما يقدر به أن يتصرف في الأسباب لقضاء حاجته تصرفًا غيبيًا خارجًا عن قوانين الطبيعة. وصفوة القول أن التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكًا للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة.
1 / 11
٣- (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرَّفنا الآيات لعلهم يرجعون. فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانًا آلهةً بل ضلّوا عنهم وذلك إفكُهم وما كانوا يفترون) (الأحقاف: ٢٧-٢٨)
(ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضرٍّ لا تغن عني شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون) (يس: ٢٢-٢٣)
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) (الزمر: ٣)
(ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) (يونس: ١٨)
1 / 12
فيتجلى من هذه الآيات الكريمة أمور عديدة منها أن أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أن الألوهية قد توزعت فيما بينهم، فليس فوقهم إله قاهر، بل كان لديهم تصور واضح لإله قاهر كانوا يعبرون عنه بكلمة (الله) في لغتهم. وكانت عقيدتهم الحقيقة في شأن سائر الآلهة أن لهم شيئًا من التدخل والنفوذ في ألوهية ذلك الإله الأعلى، وأن كلمتهم تُتَلقى عنده بالقبول وأنه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم ونستدر النفع ونتجنب المضار باستشفاعهم. ولمثل هذه الظنون كانوا يتخذونهم أيضًا آلهة مع الله تعالى. ومن هنا يتبين أن الإنسان عن اتخذ أحدًا شافعًا له عند الله ثم أصبح يدعوه ويستعين به ويقوم بآداب التبجيل والتعظيم ويقدم له القربات والنذور، فكل ذلك على ما اصطلح عليه أهل الجاهلية اتخاذه إياه إلهًا. (١)
٤- (وقال الله: لا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحدٌ فإياي فارهبون) (النحل: ٥١)
(ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا) (الأنعام: ٨٠)
(إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) (هود: ٥٤)
_________
(١) ومما يجب أن يعرفه القارئ في هذا المقام أن الشفاعة قسمان: شفاعة يكون من ورائها نوع من أنواع القوة والنفوذ، ويأبى الشافع إلا أن تقبل شفاعته. وشفاعة لا تقدم إلى المشفوع إليه غلا كما تقدم العرائض تذللًا وتخشعًا، لا يكون من ورائها نصر على أن تقبل في كل حال. فأما من ظن أحدًا شافعًا عند الله بالمعنى الأول فلا شك أنه قد اتخذه إلهًا وأشركه بالله تعالى في الألوهية. وهذه هي الشفاعة التي يرفضها القرآن ويبطلها، وأما الشفاعة بالمعنى الثاني فيجوز أن يكون كل من الأنبياء والملائكة والصالحين والمؤمنين وعامة العباد شافعين بهذا المعنى إلى الله تعلل فيمن سواه من عباده، ولله جل شأنه أن يقبل شفاعتهم أو لا يقبلها.
1 / 13
ويتضح من هذه الآيات الحكيمة، أن أهل الجاهلية كانوا يخافون من قبل آلهتهم أنهم إن أسخطوا آلهتهم على أنفسهم لسبب من الأسباب أو حرموا عنايتهم بهم وعطفهم عليهم نابتهم نوائب المرض والقحط والنقص في الأنفس والأموال ونزلت بهم نوازل أخرى.
٥- (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو) (التوبة: ٣١)
(أرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا) (الفرقان: ٤٣)
(وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) (الأنعام: ١٣٧)
(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (الشورى: ٢١)
وفي الآيات يقف المتأمل على معنى آخر لكلمة (الإله) يختلف كل الاختلاف عن كل ما تقدم ذكره من معانيها، فليس ههنا شيء من تصور السلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة، فالذي اتّخذ إلهًا هو إما واحد من البشر أو نفس الإنسان نفسه، ولم يتخذ ذلك إلهًا من حيث أن الناس يدعونه أو يعتقدون فيه أنه يضرهم وينفعهم، أو أنه يستجار به، بل قد اتخذوه إلهًا من حيث تلقوا أمره شرعًا لهم، وائتمروا بأمره وانتهوا عما نهى عنه، واتبعوه فيما حلله وحرمه، وزعموا ان له الحق في أن يأمر وينهى بنفسه، وليس فوقه سلطة قاهرة يحتاج إلى الرجوع والاستناد إليها. فالآية الأولى تبين لنا كيف اتخذت اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابًا وآلهة من دون الله، كما بين ذلك الحديث النبوي الشريف فيما رواه الإمام الترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم ﵁ "أنه دخل على رسول الله ﵌ وفي عنقه صليب من ذهب وهو يقرأ هذه الآية، قال، فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
وأما الآية الثانية فمعناها واضح كل الوضوح، وذلك أن من يتبع هوى النفس ويرى أمره فوق كل أمر فقد اتخذ نفسه إلهًا له في واقع الأمر.
1 / 14
أما الآيتان التاليتان بعدهما فإنه وإن وردت فيهما كلمة (الشركاء) مكان (الإله)، فالمراد بالشرك هو الإشراك بالله تعالى في الألوهية. ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على أن الذين يرون أن ما وضعه رجل أو طائفة من الناس من قانون أو شرعة أو رسم هو قانون شرعي من غير أن يستند إلى أمر من الله تعالى، فهم يشركون ذلك الشارع بالله تعالى في الألوهية.
ملاك الأمر في باب الألوهية
إن جميع ما تقدم ذكره من المعاني المختلفة لكلمة (الإله) يوجد فيما بينها ارتباط منطقي لا يخفى على المتأمل المستبصر. فالذي يتخذ كائنًا ما وليًا له ونصيرًا وكاشفًا عنه السوء، وقاضيًا لحاجته ومستجيبًا لدعائه وقادرًا على أن ينفعه ويضره، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية، يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنه فيه أن له نوعًا من أنواع السلطة على نظام هذا العالم. وكذلك من يخاف أحدًا ويتقيه ويرى أن سخطه يجر عليه الضرر ومرضاته تجلب له المنفعة، لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلا ما يكون في ذهنه من تصور أن له نوعًا من السلطة على هذا الكون. ثم أن الذي يدعو غير الله ويفزع إليه في حاجاته بعد إيمانه بالله العلي الأعلى، فلا يبعثه على ذلك إلا اعتقاده فيه أن له شركًا في ناحية من نواحي السلطة الألوهية. وعلى غرار ذلك من يتخذ حكم أحد من دون الله قانونًا ويتلقى أوامره ونواهيه شريعة متبعة فإنه أيضًا يعترف بسلطته القاهرة. فخلاصة القول أن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان.
استدلال القرآن
1 / 15
وهذا هو تصور السلطة الذي يجعله القرآن الكريم أساسًا يأتي به من البراهين والحجج على إنكار ألوهية غير الله، وإثبات الألوهية لله تعالى وحده. فالذي يستدل به القرآن في هذا الشأن هو انه لا يملك جميع السلطات والصلاحيات في السماوات والأرض إلا الله. فالخلق مختص به، والنعمة كلها بيده، والمر له وحده، والقوة والحول في قبضته، وكل ما في السماوات والأرض قانت له ومطيع لأمره طوعًا وكرهًا، ولا سلطة لأحد سواه ولا ينفذ فيها الحكم لأحد غيره، وما من أحد دونه يعرف أسرار الخلق والنظم والتدبير، أو يشاركه في صلاحيات حكمه. ومن ثم لا إله في حقيقة الأمر إلا هو، وإذ لم يكن في الحقيقة إله آخر من دون الله، فكل ما تأتونه من الأفعال معتقدين غيره إلهًا باطل من أساسه، سواء أكان ذلك دعاءكم إياه واستجارتكم له أم كان خوفكم إياه ورجاءكم منه، أم كان اتخاذكم إياه شافعًا لدى الله، أم كان إطاعتكم له وامتثالكم لأمره؛ فإن هذه الأواصر والعلاقات التي قد عقدتموها مع غير الله، يجب أن تكون مختصة بالله سبحانه لأنه هو الذي يملك السلطة دون غيره.
وأما الأسلوب الذي يستدل به القرآن الكريم في هذا الباب، فدونك بيانه في كلامه البليغ المعجز:
(وهو الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ وهو الحكيم العليم) (الزخرف: ٨٤)
(أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يُخْلَقون) (إلهكم إلهٌ واحدٌ) (النحل: ١٧، ٢٠، ٢٢)
(يا أيُّها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون) (فاطر: ٣)
(قل أرأيتم عن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إلهٌ غير الله يأتيكم به) (الأنعام: ٤٦)
1 / 16
(وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحُكم وإليه ترجعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياءٍ أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إلهٌ غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه أفلا تبصرون) (القصص: ٧-٧٢)
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير. ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (سبأ: ٢٢:٢٣)
(خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجلٍ مسمى) (الزمر: ٥)
(خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاثٍ ذلكم الله ربُّكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تُصرفون) (الزمر: ٦)
(أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلهٌ مع الله بل هم قومٌ يعدلون. أمن جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أنهارًا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزًا. أإلهٌ مع الله بل أكثرهم لا يعلمون، أمّن يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض. أإلهٌ مع الله قليلًا ما تذكرون. أمّن يهديكم في ظلمات البرِّ والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يُشركون. أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإلهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (النمل: ٦٠-٦٤)
(الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريكٌ في الملك وخلق كل شيءٍ فقدره تقديرًا. واتخذوا من دونه آلهةً لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا) (الفرقان: ٢: ٣)
1 / 17
(بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولدق ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيءٍ وهو بكل شيءٍ عليم. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) (الأنعام: ١٠١ – ١٠٢)
(ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله، ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إنّ القوة لله جميعًا) (البقرة: ١٦٥)
(قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ما خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) (الأحقاف: ٤، ٥)
(لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون. لا يُسئل عما يفعلُ وهُم يُسئلون) (الأنبياء: ٢٢-٢٣)
(ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذًا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) (المؤمنون: ٩١)
(قل لو كان معه آلهةٌ كما يقولون إذًا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا. سبحانه وتعالى عمّا يقولن علوًّا كبيرًا) (الإسراء: ٤٢ – ٤٣)
ففي جميع هذه الآيات من أولها إلى آخرها لا تجد إلا فكرة رئيسية واحدة ألا وهي أن كلًا من الألوهية والسلطة تستلزم الأخرى وأنه لا فرق بينهما من حيث المعنى والروح. فالذي لا سلطة له، لا يمكن أن يكون إلهًا ولا ينبغي أن يتخذ إلهًا. وأما من يملك السلطة فهو الذي يجوز أن يكون غلهًا وهو وحده ينبغي أن يتخذ إلهًا. ذلك بأن جميع حاجات المرء التي تتعلق بالإله أو التي يضطر المرء لأجلها أن يتخذ أحدًا إلهًا له لا يمكن قضاء شيء منها من دون وجود السلطة. ولذلك لا معنى لألوهية من لا سلطة له، فإن ذلك أيضًا مخالف للحقيقة، ومن النفخ في الرماد أن يرجع إليه المرء ويرجو منه شيئًا.
والأسلوب الذي يستدل به القرآن واضعًا بين يديه هذه الفكرة الرئيسية، يمكن القارئ أني فهم مقدماته ونتائجه حق الفهم بالترتيب الآتي:
1 / 18
١- إن أعمال قضاء الحاجة وكشف الضرر والإجارة والتوفيق والنصر والرقابة والحماية وإجابة الدعوات التي قد تهاونتم بها وصغرتم من شأنها، ما هي بأعمال هينة في حقيقة الأمر، بل الحق أن صلتها وثيقة بالقوى والسلطات التي تتولى أمر الخلق والتدبير في هذا الكون فإنكم إن تأملتم في المنهاج الذي تقضى به حوائجكم التافهة الحقيرة، عرفتم أن قضاءها مستحيل من غير أن تتحرك لأجله عوامل لا تحصى في ملكوت الأرض والسماء خذوا لذلك مثلًا كأسًا من الماء تشربونها أو حبة من القمح تأكلونها فما أدركوا إذ تعمل كل من الشمس والأرض والرياح والبحار قبل أن تتهيأ لكم هذه وتصل إلى أيديكم. فالحق أنه لا تتطلب إجابة دعائكم وقضاء حاجتكم وما إليها من الشؤون سلطة هينة، بل يتطلب ذلك سلطة يقتضيها ويستلزمها خلق السماوات والأرض وتحريك السيارات وتصريف الرياح وإنزال الأمطار وبكلمة موجزة يقتضيها ويتطلبها تدبير نظام هذا الكون بأسره.
٢- وهذه السلطة غير قابلة للتجزئة، فلا يمكن أبدًا أن تكون السلطة في أمر الخلق بيد وفي أمر الرزق بيد أخرى، وأن تكون الشمس مسخرة لهذا وتكون الأرض مذللة لذاك. كما لا يمكن أن يكون الإنشاء في يد والمرض والشفاء في يد أخرى، والموت والحياة بيد ثالثة. فإنه لو كان الأمر كذلك ما أمكن لنظام هذا الكون أن تقوم له قائمة. فما لابدّ منه أن تكون جميع السلطات والصلاحيات بيد حاكم واحد يرجع إليه كل ما في السماوات والأرض. فإنّ نظام هذا العالم يقتضي أن يكون الأمر كذلك وهو في الواقع كذلك:
1 / 19
٣- وإذ كانت السلطة كلها بيد الحاكم الواحد ولم يكن لأحد غيره نقير منها ولا قطمير، فالألوهية أيضًا مخصوصة به لا محالة، وخالصة له دون غيره ولا شريك له فيها. فلا يملك أحد من دونه أن يغيثك أو يستجيب دعاءك أو يجيرك أو يكون حاميًا لك ونصيرًا أو ليًا ووكيلًا، أو يملك لك شيئًا من النفع أو الضر. إذًا لا إله لكم غير الله بمعنى من تلك المعاني التي قد تخطر ببالكم، حتى إنه لا يمكن أن يكون أحدًا إلهًا لكم بأن له دالة عند حاكم هذا الكون وتتقبل شفاعته لديه، لمكانه من التقرب عنده. كلا بل ليس في وسع أحد أن يتصدى لأمر من أمور حكمه وتدبيره، ولا يستطيع أحد أن يتدخل في شيء من شؤونه، وكذلك قبول الشفاعة أو رفضها متوقف على مشيئته وإرادته، وليس لأحد من القوة والنفوذ ما يجعل شفاعته مقبول لديه.
1 / 20