يسر العقيدة الإسلامية - ضمن «آثار المعلمي»
محقق
علي بن محمد العمران
الناشر
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٤ هـ
تصانيف
يُسْرُ العَقِيدة الإسْلامِية
تأليف
الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني
رحمه الله تعالى
(١٣١٢ - ١٣٨٦)
تحقيق
علي بن محمد العمران
مقدمة 5 جـ / 1
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فهذه رسالة في العقيدة للشيخ العلامة المعلمي رحمه الله تعالى، أراد منها تسهيل العقيدة وتيسيرها كما أفصح عن ذلك في مقدمتها، وسيأتي نص كلامه، ولذلك أطلق عليها «دين العجائز أو يسر العقيدة الإسلامية» إلا أنه لم يتمكن من إتمامها ليتحقّق له مراده، وسنتحدّث عنها في عدة مباحث:
* اسم الرسالة
تردّد المؤلف في تسمية الرسالة، فكتب على رأس الصفحة الأولى منها «دين العجائز أو يُسر العقيدة الإسلامية» فكأنه لم يجزم بواحدٍ منهما فتركهما أملًا أن يستقرّ رأيه على واحدٍ منهما لو تمَّت الرسالة، لكنه لم يتمها فبقي الاسم على حاله. فاخترنا على الغلاف كتابة أوضحهما دلالةً على مقصود الكتاب وهو «يُسْر العقيدة الإسلامية». ولا أعتقد أن تقديم «دين العجائز» في الذكر يدل على تفضيل المؤلف له على الاسم الآخر، والله أعلم.
* سبب تأليفها
صرَّح المؤلف في صدر رسالته بسبب تأليفها، حيث ذكر اختلاف الناس في العقائد وتفرّقهم، وأنواع الكتب المؤلفة في العقائد، وأنها بأنواعها الثلاثة «المختصرة، والمتوسطة، والمطولة» لا تفضي إلى العلم اليقين
مقدمة 5 جـ / 5
والاطمئنان، بل إلى الشك والحيرة والتقليد، ثم قال ص ٥: «فأحببتُ أن أكتب رسالةً أوضِّح فيها الكلام، وأُقرِّب المرام، وأحرص على تقرير الحجة على وجهٍ يشفي غليل المستفيد، وتخرجه إن شاء الله تعالى عن الحيرة والتقليد».
* موضوعات الرسالة
بدأ المؤلف مقدمة رسالته بتمهيد بيَّن فيه اختلافَ الناس وتفرّقهم في العقائد، وأن كتب العقائد على ثلاث طبقات؛ مختصرات ومتوسطات ومطوّلات. وبيَّن ما في كل واحدة منها من عيوب، ثم خلص بمحصّلة من تلك الكتب وفائدتها لمن يطالعها بقوله (ص ٤): «وبالجملة، فلا يكاد الناظر في تلك الكتب يخلص منها إلا بإحدى ثلاث: التقليد المحض، أو الحيرة، أو الشك في أصل ...»
ثم ذكر (ص ٥ - ٦) أن هذا هو السبب الداعي إلى تأليف رسالته هذه، وغرضه منها، وتجرّده للحق بغضِّ النظر عن أيّ انتماء لفرقة من الفرق، وأنه نَظَر نَظَر صِدْق للحق.
- ثم بدأ المصنف كتابه بمقدمات ثلاث:
المقدمة الأولى: في أصول لابدّ منها (ص ٧ - ٢١) وذكر فيها خمسة أصول.
المقدمة الثانية: في التقليد والتحقيق (ص ٢٢ - ٣٩).
ذكر فيها أن على المرء أن يسأل نفسه: هل تريد التقليد أو التحقيق؟ وأنه ينبغي على من اختار أحد الأمرين أن يقلّد الكتاب والسنة أو يحقق فيهما،
مقدمة 5 جـ / 6
فهما أولى ما قُلّد وأولى ما حُقق، وأن المرء إذا رأى لنفسه النظر في كتب المتكلمين فعليه أن يحذر ما فيها ولا يغتر بما يزعمونه من حجج وبراهين.
وكان المؤلف قد كتب فصلًا في الأسلحة التي يصول بها الفلاسفة، وكانت سببًا في ضلال كثير من الناس، ثم ضرب عليه، فأثبتُّه في موضعه في الهامش للفائدة.
ثم عقد فصلًا ذكر فيه أن الخائضين في العقائد فِرَق، فذكر سبعًا منها إجمالًا، ثم تكلم عن كل واحدة بما يلخِّص طريقتها. ثم تكلم على ثلاثة من العلماء ممن جمع بين الكلام والفلسفة، وما وقع لهم من الرجوع للحق، وهم الجويني والغزالي والرازي. ولم يتمكّن من إتمام الكلام فيهم في هذه النسخة فترك بياضًا، أو أنه أراد نقله من الكتب الأخرى التي تكلم فيها على هؤلاء العلماء، فنقلتُ كلام المؤلف في المتن حينًا وفي الهامش أحيانًا أخرى بحسب ما يقتضيه السياق، مع الإشارة إلى كل ذلك.
ثم عقد فصلًا في ذكر جنايات المتكلمين على الإسلام، وذَكَر المتصوّفة، وفلاسفة العصر.
المقدمة الثالثة: في تقسيم العقائد (ص ٤٠ - ٤٦).
قسَّم العقائد إلى قسمين: قسم لا يمكن في هذه الدار الوصول إلى معرفته، وقسم يمكنهم. فالأول (ما لا يمكنهم) لابدّ أن يكون الشارع قد حظر عليهم الخوض فيه لأسباب ثلاثة وذكرها.
وأما القسم (الذي يمكنهم معرفته) فعلى ضربين، ما لم يكلفهم الشرع بطلبه، وما كلفهم به، وأن الأول على أقسام، محظور ومكروه ومباح. وأما
مقدمة 5 جـ / 7
الثاني فينظر في الطريق الموصل إليه، وأن الطريق الموصل ليس كما يهواه الإنسان، وقد تكون محفوفة بالابتلاء لكنها موصلة، وضرب لذلك مثلًا بأحد الملوك ...
ثم عقد فصلًا ذكر فيه أن المكلّف بطلب هذا القسم ينقسم بالنظر إلى درجة التكليف إلى أضْرب، فذكر أربعة.
- بعد الانتهاء من المقدمات بدأ بالباب الأول في الضروريات، وذكر تحته أصولًا:
الأصل الأول: وجود رب العالمين.
قرّر فيه أن جميع الأمم من الأولين والآخرين كانوا مقرين بوجود رب العالمين، وأحال في استكمال الاستدلال بذلك إلى كتاب «العبادة» له.
ثم ذكر فرقة «الدهرية» وحقق كونهم لا ينكرون وجود الربّ تعالى، ولا ينكرون كونه يهلكهم، وذكر احتمالين في المسألة.
ثم عقد سبعة فصول نذكر موضوعاتها بإيجاز، فعقد فصلًا في سنة القرآن أن ما كان من الحق معروفًا لا يورد عليه الشبهات وإنما يؤخذ منه البرهان، وذكر أن البراهين على وجود رب العالمين كثيرة منها: الاستدلال بوجود الأثر على المؤثر، وتكلم عن هذا الدليل واختلاف الناس في تلخيصه.
ثم عقد فصلًا فيما يجده الإنسان في نفسه من الاطمئنان بأن للعالم ربًّا ليس من جنس ما يراه ويشاهده، وما يعرض له حين تَصفُّح استدلال الفلاسفة أو أسلافه في النسب والتعليم. ثم أجاب عن اعتراض بعضهم بأن
مقدمة 5 جـ / 8
بعض الناس قد يفزعون عند الشدائد إلى غير الله ﷿.
ثم عقد فصلًا للجواب عن سؤال: كيف حصل للنفس هذا الإدراك النفسي؟ وفصلًا بعده في الدلالة الظنية، وأنه ينبغي للعاقل ألا يلغيها وضرب أمثلةً على ذلك.
ثم عقد فصلًا فيمن نشأ على خلاف الحق ماذا ينبغي له أن يعمل.
وفصلًا يليه في أن الله تعالى إنما خلق الناس ليبتليهم في الأخْذِ بما ظهر لهم من الحق والأحوط وما يكون لهم من التوفيق والسداد، بخلاف مَن أبى ما ظهر له من الحق.
ثم عقد فصلًا في تدبُّر ما حول الإنسان من الآلات والصناعات، وفي خلق الإنسان والحيوان، وتفاصيل خلق الإنسان، وتدبر أمر الشمس والقمر .. وارتباط الموجودات ببعضها ... وأن هذه الأمور مجتمعة تضطرك إلى الإيمان بأن لها صانعًا وأن تدبيره لا يفتر.
ثم عنون بقوله: «مبلغ علم الملحدين» (ص ٦٣ - ٦٧)، ذكر فيه أن من الأدلة على وجود الرب تعالى وأن الهداية بيده: النظر في حال الملحدين، وكيف أنهم مع تبحُّرهم في معرفة الأمور الكونية نظروا إليها لذاتها ولم يهتدوا بها إلى حق .. وشَرْح ذلك والرّد عليهم. ثم عاد إلى ذِكْر الفصول المتعلقة بالأصل الأول فذكر خمسة فصول.
ذكر في الأول منها الأمور التي تبعث المتشككين في إصرارهم على دعوى الشك فذكر ثمانية منها.
ثم عقد فصلًا ذكر فيه طائفة من الأدلة على وجود رب العالمين، فمنها
مقدمة 5 جـ / 9
ما يُشاهَد من تعجيل العقوبة لكثير من أهل البغي والظلم، ومنها إجابة الدعاء، وغير ذلك.
ثم عقد فصلين صغيرين في الموضوع، وفصلًا ثالثًا ذكر فيه أن ثمرة النظر في نفس الناظر تدل على وجود ربّ حقيقيّ، وليس هو ذاك الكوكب ولا تلك الشمس، وذَكَر أسباب ذلك.
ثم ذكر الأصل الثاني: أنه ﷿ واحد، وذكر الفِرَق التي قد تخالف هذا الأصل، فذكر ثلاث فرق وردّ عليها.
ثم عقد فصلًا ذكر فيه اعتراضًا وردّ عليه، ثم عقد فصلًا ذكر فيه الشبهات التي تعترض الطلاب في هذا الزمان وتكاد تشككهم في ذلك، وذكر تحته مسائل (ص ٨٤ - ٩٥).
الأولى: ما هو؟
الثانية: كيف؟
الثالثة: أين؟
وأطال في بسط هذه المسألة الثالثة، وذَكَر شُبَه المتكلمين والجواب عنها (ص ٩١ - ١٠٨).
ثم قال: وهنا مباحث:
المبحث الأول: المماثلة بين الشيئين تأتي على ثلاثة أضرب. وذكرها.
المبحث الثاني: المماثلة في الوصف أو الأوصاف على أربعة أوجه. وذكرها.
مقدمة 5 جـ / 10
المبحث الثالث: فيما بين هذه الأوجه من التلازم والتنافي.
المبحث الرابع: في نفي المماثلة.
وبه ينتهي ما وُجد من الكتاب.
ثم ألحقتُ الكتاب بنصٍّ جاء في (ق ٤١ ب - ٤٢ ب) وقد كتب المؤلف فوقه: «هذا مع الورقة الآتية يؤخَّر إلى بحث توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى» إلا أن هذا المبحث لم نقف عليه فيما وُجد من الرسالة، فلا ندري أكتبه المؤلف أم لا؟ فألحقته في نهايتها للفائدة.
* وصف النسخة
للكتاب نسخة واحدة محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [٤٦٦٦] وتقع في ٦٢ ورقة في دفتر مسطّر من القطع العادي، وهي بخط مؤلفها المعروف. وهي نسخة مسوّدة كثيرة الضرب واللحق والتخريج، كتب المؤلف عنوانها في رأس الصفحة الأولى: «دين العجائز أو يُسر العقيدة الإسلامية» ثم بدأ بالبسملة فالمقدمة، وتنتهي الرسالة عند قوله: «... هي الحاصلة على الوجه الأول».
والحمد رب العالمين.
وكتب
علي بن محمد العمران
في ٢٢/ ٥/ ١٤٣٣ هـ
مكة المكرمة حرسها الله
مقدمة 5 جـ / 11
نماذج من النسخة الخطية
مقدمة 5 جـ / 13
الورقة الأولى من "يسر العقيدة"
مقدمة 5 جـ / 15
الورقة الأخيرة من "يسر العقيدة"
مقدمة 5 جـ / 16
يُسْرُ العَقِيدة الإسْلامِية
تأليف
الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني
رحمه الله تعالى
(١٣١٢ - ١٣٨٦)
تحقيق
علي بن محمد العمران
5 جـ / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمَه، ويكافئ مزيدَه، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك على محمد خاتم النبيين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وسائر عباد الله الصالحين.
أما بعد؛ فإن الناس تشعَّبوا في العقائد شعوبًا، وتفرَّقوا فيها فِرقًا، وأمْعَنت كلُّ فرقة في الانتصار لقولها ودفع ما عداه، وصارت كتب العقائد على ثلاث طبقات:
الأولى: مختصرات، يسرد مؤلِّفوها عقائد سلفهم، ويُلْزمون أبناء تلك الفرقة بحفظها واعتقادها والاستيقان بها، ولا يذكرون حُجةً ولا دليلًا.
والثانية: متوسّطات، يسوق مصنفوها عقائد فرقتهم وبعضَ ما احتجَّ به قدماؤها عليها، وعلى دفع ما خالفها، على وجهٍ لا يكادُ يثمر غلبةَ الظن، فكيف اليقين؟!
والثالثة: مطوَّلات، يُبْسَط فيها الخلاف، مع ذِكْر كثير من الحُجج، مع تدقيق الكلام، بحيث يصعب المرام، ويعتاص على الأفهام، فيعجز الناظر عن استيفاء النظر فيها، ويخرج منها كما دخل فيها، بل أشدَّ حيرةً وارتباكًا.
وربما ذكر الماتنُ (^١) دليلًا، ثم ذكر اعتراضًا عليه، وأجاب عنه، ثم ذكر ردًّا لهذا الجواب ودفعه.
_________
(^١) أي: صاحب المتن.
5 جـ / 3
فيجيء الشارح فيذكر دفعًا لهذا الدفع وجوابًا عنه، وربما ذكر دفعًا لهذا الجواب ثم رده، فيجيء المُحَشِّي (^١)، فيذكر دفعًا لذلك الرد ثم يجيب عنه.
وهكذا لا تكاد هذه السلسلة تنقطع، وربما يقتصرون في الجواب على قولهم: "وهذا غير مسلَّم"، أو: "وفيه نظر"، أو دعوى بطلانه بالبديهة.
وكثيرًا ما يُشَكِّكون في أجوبتهم، بقولهم: "قد يقال كذا"، أو: "فليتأمل" أو نحو ذلك.
وكثيرًا ما يكون اعتمادهم على الإلزام للمخالف، أو الاستناد إلى دليل عقليّ قد اختلفوا فيه، أو الإحالة على مسألة أخرى مختلف فيها أيضًا.
وكثيرًا ما يكون الناظر في تلك الكتب قد شدا شيئًا من العلم، فيظهر له ضَعْف بعض تلك الأجوبة، ولكنه لا يستطيع أن يفهم مِنْ ضَعْفه أنّ مقابِلَه حق.
وغالب المؤلفين ينتسب أحدهم إلى فرقة خاصة، ويتقيَّد بها، ويلتزم الذَّبَّ عنها، وتسميتها (^٢): أهلَ الحق، ويطلق على مخالفيها الأنباز الشنيعة.
وذلك كله مما يزهِّد الناظرَ ــ إن كان طالب حق ــ في كلامه، ويسيء ظنه في حُجَجه، ولا يأتمنه على نقله عن الفرق المخالفة له، ويَحْدِس أن المؤلف لم يذكر من حُجَج مخالفيه وأجوبتهم إلا أضعفها.
وبالجملة؛ فلا يكاد الناظر في تلك الكتب يخلص منها إلا بإحدى ثلاث: التقليد المحض، أو الحيرة، أو الشك في أصلٍ اتفق عليه المختلفون
_________
(^١) أي: صاحب الحاشية.
(^٢) تحتمل: "ويسميها".
5 جـ / 4
في تلك المسألة إن لم يستظهر بطلانه.
كمسألة الجهة للرب سبحانه، قد يتدبر الناظر الأدلة العقلية للفريقين، ثم يخرج بالشكِّ في وجود الله ﷿ أو إنكاره، فيقول: ما كان في جهة فليس برب، وما لم يكن في جهة فهو معدوم (^١)!
فأحببتُ أن أكتب رسالةً أوضِّح فيها الكلام، وأُقرِّب المرام، وأحرص على تقرير الحجة على وجهٍ يشفي غليل المستفيد، وتخرجه إن شاء الله تعالى عن الحيرة والتقليد.
وهواي فيها إن شاء الله تعالى مع الحق، لا مع فرقة من الفرق، [ص ٢]
_________
(^١) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في "منهاج السنة": (٢/ ٢٢١ - ٢٢٣): "للناس في إطلاق لفظ (الجهة) ثلاثة أقوال، فطائفة تنفيها وطائفة تثبتها وطائفة تفصّل ...
والمتبعون للسلف لا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين أن ما أُثبت بها فهو ثابت وما نُفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صار لفظ (الجهة) في اصطلاحهم فيه إجمال وإبهام كغيرها من ألفاظهم الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي؛ ولهذا كان النفاة ينفون بها حقًّا وباطلًا، ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يُدخل فيها معنى باطلًا مخالفًا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان.
وذلك أن لفظ (الجهة) قد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقًا، والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات، فإنه بائن من المخلوقات.
وإن أريد بالجهة أمر عَدَمي، وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده ... ". وانظر "مجموع الفتاوى": (٣/ ٤١، ٥/ ٢٩٦ وما بعدها) و"درء التعارض": (٣/ ٢٩٥ وما بعدها).
5 جـ / 5
وتقيُّدي فيها بالإسلام، ليس لأنه ديني ودين قومي، وإنما هو لاستيقاني بعد صِدْق النظر أنه الحق. وسترى إن شاء الله تعالى تصديقَ قولي هذا بقدر ما تَسَعه هذه العُجالة.
5 جـ / 6
مقدمات
الأولى: في أصول لا بد منها
الأصل الأول
من المعلوم أن الإنسان يولد لا يعلم شيئًا، وإنما معه الإحساس بالألم ونحوه، أعني بحيث إذا قُرِص ظَهَر إحساسُه بألم القَرْصَة. وهذا الإحساس يلزمه منذ نفخ الروح، وليس هو بِعلمٍ، ومعه إلهامٌ فطري، به يلتقم الثدي ويمتصُّه. وهذا مع وضوحه لا أحفظ فيه خلافًا، وقد قال الله ﷿: [﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾] [النحل: ٧٨] (^١).
ثم عَقِب الولادة يشرع في إدراك المحسوسات بحواسه، ثم يتدرَّج بطريق القياس.
تجري العادة بأن أمه إذا أرادت إرضاعه ترفعه من مَهْده، فإذا تكرر هذا أدرك بطريق القياس أنه إذا رفعته من مهده فإنها سترضعه، فتراه إذا مسَّه الجوع يبكي، فإذا أخذَتْه من مهده سكت، فإذا مضت هُنَيهةٌ ولم ترضعه عاد إلى بكائه. وهكذا تتربّى معلوماته بالإحساس والقياس، ويقوى القياس في نفسه بالتكرر، وذلك هو الاستقراء.
ثم بالإحساس والقياس ترتسم في نفسه القضايا الأولية، مثل أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الشيء أعظم من جزئه، ويرتسم في
_________
(^١) بيّض المؤلف للآية أملًا في إلحاقها، ورجّحت أنه أراد الآية التي أثبتُّها.
5 جـ / 7
نفسه أن الحادث لا بد له من مُحْدِث.
والمقصود أنّه إنما يدرك بحسه أو بقياسه على ما أدركه بحسه. غاية الأمر: أن العقلَ يتصرَّف في المحسوسات والمقيسات، فيحكم فيها بأن هذا صواب جزمًا أو رُجْحانًا، وهذا خطأٌ كذلك، وهذا محتمل.
وهذه الحال تلازم الإنسان مدة حياته، إلا أنه كلما كبر وتعلَّم وتعقَّل وتفكر اتسعت دائرة معلوماته بكثرة الإحساس والتوسع في القياس وقوة العقل.
[ص ٣] فإذا كان معك في البيت إنسان، فإنك تدرك وجودَه برؤيتك له، أو بسماع صوته أو حِسّه، أو بلمسك له (^١)، أو شمك لرائحته.
وتُدْرِك أنه إنسان باستقرائك السابق أن ذلك الشكل، أو ذلك الصوت، أو ذلك الملمس أو الرائحة إنما يكون للإنسان.
وتدْرِك أنه فلانٌ باستقراء آخر، وهو أن ذلك الشكل والصوت والملمس والرائحة إنما يكون لفلان.
وقد تخرج من حُجرتك ولا تدع بها أحدًا ثم تعود إليها عن قُرْب، فتجد حادثًا قد حدث فيها، فتعلم بسابق استقرائك مع حكم عقلك أنه إنما حدث عن سبب، فإذا أحببت معرفة السبب نظرتَ في ذلك الحادث مستعينًا باستقرائك السابق، فقد تكون ورقةٌ خفيفةٌ قد تحولت عن موضعها، فتُجوِّز أن يكون السبب هو الريح. وقد يكون كتابٌ كان في موضع غير متمكِّن فيه، فترى أنه
_________
(^١) في الأصل: "أو بلمسك لك"، سبق قلم. والكلمة على الصواب في صياغات سابقة لهذه الفقرة ضرب عليها المؤلف.
5 جـ / 8
سقط، وإذا فكرت رأيت أنه لعدم تمكُّنه، كان مِن مدّة بسبب ثقله وعدم تمكُّنه يميل إلى الجهة التي سقط منها قليلًا قليلًا حتى سقط في ذلك الوقت.
وإذا كان شيء معلّقًا بخيط ضعيف، فانقطع، وفكّرت، رأيتَ أن الخيط كان بسبب ثقل ما عَلِق به تَهِنُ قواه، وتتقطع شيئًا فشيئًا إلى أن انقطع.
وإذا كان إناء فيه طعام، وهو متمكِّن في موضعه، فجئتَ وقد سقط، ظننتَ أن فأرة أو هرة أو نحوهما وثبت إليه فأسقطته.
وإذا كان إناءُ طعام خفيف قد أُخِذَ من فوق مائدة، ووُضِع فوق مائدة أخرى بعيدة عنها، وكان في البيت أو جواره قِرْدٌ يمكن أن يكون دخل تلك الحجرة، جوَّزتَ أن يكون هو صنع ذلك.
وإذا كان صندوق ثقيل، كان موضوعًا بالأرض، فحُوِّل عن موضعه إلى موضع آخر، رأيتَ أن إنسانًا دخل فصنع ذلك، وتَعْلَم مع ذلك أن ذلك الإنسان حي له قدرة على مثل ذلك الفعل.
فإذا كانت عدة أشياء كانت في الحجرة قد حُوِّلت عن مواضعها ورُتِّبَت ترتيبًا أحسن وأتقن مما كانت= علمتَ أن ذلك الإنسان حكيم أيضًا إلى الحدِّ الذي يقتضيه ذلك الترتيب.
فإذا كانت الحجرة مُحكمة الإغلاق من داخل وأنتَ خرجتَ منها، ووقفت قريبًا من الباب، وتعلم أنه لا يمكن أن يكون دخلها إنسانٌ بعدك، ثم عدتَ إليها فوجدتَ الأمتعة قد حُوِّلت عن مواضعها ورُتِّبت ترتيبًا آخر أبْدَع وأتقن مما كان، فإنك تُجَوِّز أحدَ أمرين:
- إما أن إنسانًا له قدرة خارقة دخل إلى الحجرة من حيث لم تَجْرِ العادة بدخول الإنسان.
5 جـ / 9
- وإما أن يكون [ص ٤] موجود حيٌّ عالمٌ قديرٌ حكيمٌ إلى ذلك الحد، خارجٌ عن نوع الإنسان، وعن سائر الأنواع التي شاهدْتَها قبل، ومع ذلك فإنما أدركتَ وجودَه بالقياس على وجود المحسوسات، وكذلك ما أدركته من صفاته، فتدبر.
* * * *
الأصل الثاني
العلم المُكْتسب من الخبر لا يتحصَّل إلا بمعونة الحسّ والقياس، فإن الخبر يتضمن حُكمًا ومَحكومًا به ومحكومًا عليه، فلا يستفيد السامع حتى يكون قد عرف المحكوم به والمحكوم عليه وصورة الحكم بحسٍّ أو قياس.
وأكثر الكلمات تتغير صورة المفهوم منها بتغيّر المنسوب إليه، فإذا قلت: "وجه زيد" تصوَّر السامع ــ إذا كان يعرف زيدًا ــ وجهه المخصوص. فإذا قلت: "وجه بكر" تصوَّر وجهًا آخر غير الأول. فإن قلت: "وجه رجل" تصور القَدْر المشترك بين وجوه الرجال. فإن قلت: "وجه إنسان" ازداد الاشتراك. فإن قلت: "وجه حِصان" تصوَّر شيئًا آخر، وهكذا: "وجه جمل"، "وجه صقر"، "وجه حيوان"، "وجه الدار"، و"وجه المسجد"، و"وجه الشهر"، و"وجه الأمر".
وإذا قلت: "وجه ضيغم"، وصاحبك لا يدري ما الضيغم، لم يستطع أن يُثبت في ذهنه صورةً ما.
فإن قلتَ له: الضيغم شيء حيٌّ مما على الأرض، قَرُب أن يتصوَّر صورة مبهمة مشتركة بين الإنسان والفيل والبعوضة وغيرها، وهو مع ذلك لا يستطيع أن يثبتها.
5 جـ / 10