الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه
الناشر
المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية،المدينة المنورة
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٠٨هـ
مكان النشر
المملكة العربية السعودية
تصانيف
الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه
للدكتور محمد أمان بن علي الجامي
رئيس شعبة العقيدة بالدراسات العليا بالجامعة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وعطائه الذي لا يستقصى، أحمده كما ينبغي لجلاله، وكريم عطائه، وعظيم سلطانه، وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على نبيه المصطفى وآله وصحبه.
أما بعد: فلما كانت معرفة الله تعالى أول ما يجب على الإنسان في دينه، وكانت هذه المعرفة - لا تتم على الوجه الأكمل- إلا بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله في خلقه، والإيمان بتلك الأسماء والصفات والأفعال، وإقرارها، إذ بها تعرف الله إلى عباده سبحانه.
وعلى الرغم من هذا كله قد تعرض باب الأسماء والصفات لعواصف شديدة هُوجٍ منذ زمن طويل، فنقلت تلك العواصف أشياء كثيرة من أماكنها، وألقت بها في غير مواضعها، فتغيرت بسبب ذلك مفاهيم عديدة، فالتبست مسائل هذا الباب على كثير من الناس، حتى عجز أغلب طلاب العلم عن التمييز، بين الحق والباطل، فربما انعكس عليهم الأمر فرأوا الحق باطلًا، والباطل حقًا، مع العلم أن معرفة الله التي لا تتم إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، هي زبدة دعوة الرسل، وخلاصتها، وعندها تلتقي جميعها مع اختلاف مناهجها وشرائعها، لأن جميع الرسل إنما أرسلوا ليعرفوا الناس ربهم وخالقهم فيعبدوه في ضوء تلك المعرفة، فلما كان باب الأسماء والصفات بهذه المثابة، وله هذه المكانة- وقد تعرض مع ذلك للعواصف التي وصفتها، ووصفت آثارها - جعلت موضوع رسالتي لنيل درجة (الدكتوراه) إن شاء الله معالجة مباحث هذا الباب، بعنوان: (الصفات الإلهية في الكتاب
1 / 7
العام نحو هذا التراث، ولكن ليس هذا محل الحديث عنه فلندعه جانبًا.
هذا هو سر اتجاهي إلى هذا الموضوع الذي بين أيدينا كما قلت، إذ تتبعت نصوص الصفات في الكتاب والسنة فحاولت فهمها، كما فهمها السلف الصالح مستنيرًا بآثارهم وتفاسيرهم، ثم عرضتها جاعلًا الأدلة النقلية هي الأساس في الاستدلال مع عدم إهدار الأدلة العقلية، هذه طريقتي التي سلكتها في عملي ومنهجي الذي سرت عليه بتوفيق الله.
فشملت محتوياتها مدخلًا للبحث، وسبعة أبواب، وخاتمة.
أما المدخل فقد اشتمل على تسعة مباحث، وتشتمل بعض المباحث على فصول وفقرات.
فتناولت في المبحث الأول بيان معنى السنة لغة واصطلاحًا مع سوق الأدلة اللغوية والشواهد.
كما تحدثت في المبحثين الثاني والثالث عن مسألتي حجية القرآن والسنة في باب العقيدة، وحجية أخبار الآحاد في إثبات الصفات.
ثم تعرضت بالمناسبة في المبحث الرابع لإبطال شبه الذي يزعمون الاكتفاء بالقرآن دون السنة في باب العقيدة وغيره، وبينت بطلان زعمهم عقلًا وشرعًا.
ثم تحدثت في المبحث الخامس عن منهج السلف في إثبات صفات الله تعالى واستعمالهم الأدلة النقلية والعقلية في ذلك، وذكرت القواعد التي ينبني عليها منهجهم، القاعدة الأولى: تقديم النقل على العقل، وقد تحدثت عن هذه القاعدة بإسهاب، القاعدة الثانية: رفض التأويل في باب الأسماء والصفات، خيشة القول على الله بغير علم، وحذرًا من الزيغ، لأن المعنى المؤول إليه ظني قطعًا بالاتفاق، القاعدة الثالثة: عدم التفريق بين الكتاب والسنة، لأنهما وحيان من عند الله على تفصيل مذكور في صلب الرسالة.
ثم انتقلت إلى المبحث السادس لأتحدث عن مفهوم الذات الإلهية عند علماء الحديث والسنة، ثم تحدثت في الفقرات التي بعدها عن مفهوم
1 / 8
الإلهية لغة واصطلاحًا، ثم تكلمت عن معنى الصفة والنعت لغة واصطلاحًا، والفرق بينهما، ثم تحدثت عن مفهوم الذات في القرآن، ومفهوم الذات في السنة النبوية.
ثم انتقلت إلى المبحث السابع فتحدثت فيه عن بعض كبار أئمة المسلمين الذين دافعوا عن منهج السلف، وجددوا للناس دينهم وعقيدتهم، وذكرت نماذج من كلامهم، وهم:
- الإمام أحمد بن حنبل.
- والإمام البخاري.
- والإمام الدارمي.
- والإمام تقي الدين أحمد بن تيمية.
- والإمام محمد عبد الوهاب التميمي الذي تحدثت عن آثار دعوته في العالم المعاصر، واستمراريتها.
ثم انتقلت إلى المبحث الثامن، فناقشت فيه المعتزلة والأشاعرة في موقفهم من نصوص الصفات.
وأما في المبحث التاسع فقد تحدثت عن أسباب انتشار العقيدة الأشعرية على الرغم من رجوع الإمام أبي الحسن الأشعري عنها، ثم تحدثت عن توبة كبار شيوخ الأشاعرة الذين رجعوا إلى منهج السلف في آخر المطاف بعد أن قضوا جلّ حياتهم في علم الكلام، وذكرت منهم أبا الحسن الأشعري والجويني الأب والجويني الابن، والشهرستاني، والفخر الرازي، والغزالي ﵏.
ثم انتهيت إلى الأبواب الرئيسية في الرسالة، فتناولت في الباب الأول: الأسماء الحسنى، والصفات العلى بالحديث بإسهاب مبينًا الفرق بين الصفات والأسماء، وتلازمهما.
ثم تحدثت عن أنواع الصفات عند السلف والخلف، في أربع فقرات في الباب الثاني، تحدثت في الفقرة الأولى
1 / 9
عن الصفات السلبية، وفي الفقرة الثانية عن الصفات الثبوتية، وتناولت في الفقرتين الثالثة والرابعة صفات الذات، وصفات الأفعال.
وأما في الفصل الأول من هذا الباب فقد تحدثت عن الصفات الشرعية العقلية، والصفات الخبرية.
وفي الفصل الثاني تكلمت على مسألة التجدد في الصفات والأفعال.
ثم تناولت في الفصل الثالث بيان معاني الصفات الخبرية، وصفات الأفعال عند السلف والخلف بالجملة.
وفي الفصل الرابع تحدثت عن معانيها بالتفصيل بعد أن أطلقت عليها: (الصفاتُ العشرون المختارةُ) تحدثت في فقرة (أ) عن صفات الأفعال، صفة صفة وهي اثنتا عشرة صفة - وفي الفقرة (ب) - تكلمت عن الصفات الخبرية وهي ثماني صفات، وتحدثت عن كل صفة على حدة، مستندًا في كل ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة، وقد بينت سبب اهتمامي بهذه الصفات المختارة هناك.
ثم انتقلت إلى الباب الثالث لأتناول بالبحث العلاقة بين الصفات والذات.
وفي الباب الرابع تحدثت عن طبيعة علاقات الصفات بعضها ببعض من حيث الآثار والمعاني.
وأما في الباب الخامس، فقد بينت في فقرة (أ) حكم من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة، وفصلت القول في ذلك، وأما في فقرة (ب) فتحدثت عن حقيقة الإلحاد في الأسماء والصفات، مع بيان أنواعه مدعمًا كل ما ذكرت بأدلة من الكتاب والسنة وذكر الأمثلة من الواقع المُشاهَد.
ثم تكلمت في الباب السادس عن خلاصة المقارنة بين موقف السلف وموقف الخلف من معاني الصفات بصفة عامة.
ثم انتقلت إلى الباب السابع فبينت فيه آثار الصفات الإلهية في النفس البشرية والكون.
1 / 10
والسنة النبوية في ضوء التنزيه والإثبات)، نعم هذا هو السبب الذي من أجله اخترت هذا الموضوع، لأني تأكدت أن مسائل هذا الباب لم تكن محل عناية ودراسة اليوم -كما يجب- وأن العقيدة السلفية صار يجهلها كثير من شبابنا، ويتصورونها بغير صورتها، ليس العقيدة السلفية (التفويض المطلق) كما يظن كثير منهم، وليست هي تلك الحيرة التي يسمونها (الوقوف) كما يظن البعض الآخر، بل هي شيء آخر وراء ذلك كله، ولكنها سهلة وواضحة كل الوضوح إذا فهمت على حقيقتها، إذ ليس فيها أدنى غموض وهي بريئة من التعقيد والتفلسف.
وهي أن يفهم التالي لكتاب الله معاني نصوص الصفات التي تصف الله تعالى بأنه سميع بصير مثلًا، ويثبتها على ظاهرهما كما يليق بالله، ويثبت له كلامًا حقيقيًا يسمع، ووجها كريمًا يرى يومَ القيامة ويدين مبسوطتين، إلى آخر الصفات التي سوف تمر بنا في هذه الرسالة، يثبتها ولا يؤولها، فيحرفها بالتأويل (مفوضًا) إلى الله ﷿ حقيقتها وكيفيتها، كيلا يتوهم أن حقيقة سمعه وبصره كحقيقة سمع المخلوق وبصره، ولئلا يتوهم أن إثبات الكلام الحقيقي له سبحانه يلزم منه إثبات مخارج الحروف المعتادة كاللسان والشفتين، ولئلا يظن أيضًا أن إثبات الوجه والقدم واليدين مثلًا يعني إثبات الجوارح له سبحانه، كل ذلك غير وارد، لأن لوازم صفات المخلوق لا تلزم صفات الخالق، كما أن لوازم ذوات المخلوق لم تلزم ذاته سبحانه، إذ لا مناسبة بين الخالق والمخلوق ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ١.
بل الواجب إثبات هذه الصفات على الوجه الذي يليق بالله ﷿
_________
١ سورة الشورى آية: ١١.
1 / 11
دون تمثيل، أو تشبيه، لأنه تعالى له يد حقيقية يأخذ بها، ويقبض، ويعطي، ويطوي بها السموات كما يليق به سبحانه.
وفي ضوء هذا الشرح والبيان لعقيدة السلف بالاختصار، يلزم كل من يريد أن يفهم هذه العقيدة أن يفرق بين التفويضين اللذين سبق أن أشرنا إليهما.
أحدهما: تفويض المعنى والحقيقة والكيفية معًا بحيث يكون حظ التالي لكتاب الله مجرد سرد النصوص دون فهم لمعانيها بالنسبة لنصوص الصفات، وهو الذي سميناه - فيما تقدم - التفويض المطلق، فنسبة هذا التفويض إلى السلف خطأ، ومنشأ هذا الخطأ أن هذه العقيدة ليست محل عناية ودراسة - كما قلت - وإنما يتحدث الناس عنها حديثًا عابرًا وعاديًا لا مصدر له، فيقول القائل: إن السلف الصالح لا يفهمون معاني آيات الصفات وأحاديث الصفات، ثم تتناقل الناس هذا النوع من الثناء (الفريد) ومعنى ذلك أن عقيدة السلف لا يتصورها كثير من الناس في الوقت الحاضر، وهذا مما يشغل بال المصلحين المهتمين بشئون المسلمين، ويحزنهم كثيرًا، لأن جهل المرء ما يعتقده نحو ربه وخالقه ومعبوده ليس بالأمر الهين، بل هو من الخطورة بمكان.
أما النوع الثاني من التفويض: فهو تفويض الحقيقة والكيفية مع فهم معاني النصوص وتدبرها وتعقلها، وهذا ما يدين الله به السلف قديمًا وحديثًا، فَلْيُفْهَم جيدًا، لنفرق بين التفويضين، ولبيان هذه الحقيقة لا بد من عرض العقيدة السلفية كما فهمها السلف الذين نزل فيهم القرآن بلغتهم، ويجانب ذلك لا بد من عرض ما يقابلها من الآراء المحدثة المخالفة لأن الأشياء تعرف بأضدادها، كما تعرف بنظائرها - كما يقولون - هذه هي الغاية التي نسعى إليها ونريد -تحقيقها من وراء هذا البحث بإذن الله، وهي تتلخص في نقطتين اثنتين:
1 / 12
١- عرض العقيدة السلفية على حقيقتها كما فهمها السلف، لذا استخدمنا هذا المنهج التاريخي الاصطلاحي.
٢- عرض الآراء المخالفة لها لأجل المقارنة من باب معرفة محاسن الأشياء بأضدادها، فكان المنهج المقارن هو وسيلتي في هذا المعنى.
ثم إنني حاولت في عرضها أن أجعل الصفات الخبرية وصفات الأفعال التي اختلف فيها السلف والخلف كثيرًا نقطة ارتكاز للبحث في موضوعات الرسالة مع عدم إهمال بقية الصفات.
وقد حرصت هذا الحرص للأمور الآتية مستعينًا بالله وحده:
الأمر الأول: هو رجاء أن ينفع الله بما سجلت في هذه الرسالة من المسائل والمناقشات لتصحيح تلك المفاهيم الخاطئة لدى طلبة العلم الذين قد يحتاجون إلى مثل هذه البضاعة المتواضعة، وهم الذين نخاف عليهم من التأثر بذلك الخلط بين منهج السلف ومنهج أهل التفويض والوقوف والحيرة.
الأمر الثاني: الرغبة الشديدة في المساهمة في تخفيف حدة الخلاف بين الفريقين: السلف والخلف المعاصرين ببيان منهج السلف على حقيقته في باب الأسماء والصفات عامة، وفي الصفات المختلف فيها خاصة، لأن منهج السلف أصبح مجهولًا لدى كثير من شبابنا كما قلت، ولأن القضاء على الخلاف أو تخفيفه إنما يكون بعد توفيق الله وعونه ببيان الحقائق بأسلوب صريح وواضح، وذكر المحاسن والمثالب للطرفين، وتنوير الناس في أمرهم في ضوء الواقع، ولقصد النصح والإصلاح والتصحيح.
الأمر الثالث: المساهمة – بالمستطاع - في نشر التراث السلفي الذي خلفه لنا أولئك الرجال الذين صدقت عزائمهم، وخلصت نياتهم في خدمة هذا الدين، فخلفوا لنا تراثًا عظيمًا تجب المحافظة عليه، ونشره بين الناس، وردّ الشبه عنه بكل ما نملك من أساليب ووسائل، هنا يحس المرء بالتقصير
1 / 13
ثم انتهيت إلى الخاتمة بتوفيق الله تعالى فسجلت فيها النتائج التي أسفر عنها البحث بتفصيل وإسهاب، هذا ما اشتملت عليه الرسالة من المباحث في أبوابها وفصولها.
فأرجو أن أكون قد وفقت في عرض محتوياتها كما وردت فيها.
وبعد، فلا يسلم - في الغالب الكثير- أي بحث من صعوبات تواجهه، ولكن من فضل الله عليّ وتوفيقه لم يصادف بحثي أي صعوبة عرقلت سيره، أو أثرت في نتائجه، وكل الذي يمكن اعتباره صعوبة هو ما صادف الباحث أحيانًا من صعوبة العثور على بعض المراجع والمصادر لبعض النقاط والمسائل فشغل وقته بالتفكير والبحث عنها، في مظانها في المكتبات، ولا سيما بعض المصادر المخطوطة، ولكنني لم أضطر إلى شد الرحل من المدينة المنورة بحثًا عنها خارج المدينة، بل استطعت -بتوفيق من الله- التغلب على ذلك النوع من الصعوبة بتعاون من مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تلك المكتبة الحافلة بالمصادر المطبوعة والمخطوطة، وبعض المكتبات الأخرى في المدينة.
هكذا انتهيت من هذا العمل الذي أسأل الله تعالى أن يجعله مباركًا ومقبولًا لديه سبحانه، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأسأله المزيد من فضله، إنه خير مسئول وأكرم معط.
هذا ... وإن كنت قد أصبت وقدمت ما يحقق الغرض المنشود من بحثي هذا فذلك من فضل الله وتوفيقه سبحانه - وله الحمد والمنة - وإن كانت الأخرى فمن زلات قلمي وتقصيري - وما أكثر تقصيري- فأستغفر الله الغفور الرحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على أفضل رسله، وصفوة أنبيائه محمد وآله وصحبه ...
1 / 14
تمهيد
...
المدخل
المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحًا
السنة لغة:
السنة، والسنن بمعنى واحد، يقال: استقام فلان على سنن واحد، ويقال: امض على (سننك) أي على وجهك، وتنح عن (سنن) الطريق، و(سننه) ثلاث لغات (السنة) السيرة١.
(السنة): الطريقة قبيحة كانت أو حسنة، ومن ذلك قوله ﷺ: " من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ٢.
وسن الطريق سنها سنا سار عليها، وقال خالد بن عتبة:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وقال الأزهري: "السنة الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة أي من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة"اهـ٣.
والسنة من النبي ﷺ: إذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها (حكمه، وأمره، ونهيه) مما أمر به النبي ﷺ، أو نهى عنه، أو ندب إليه قولًا وفعلًا، مما لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال: أدلة الشرع: الكتاب والسنة، أي القرآن والحديث.
_________
١ مختار الصحاح.
٢ رواه مسلم في ٤/٢٠٥٩ رقم ١٠١٧، وأحمد ٤/٣٥٧، ٣٥٨ من حديث جرير بن عبد الله.
٣ تاج العروس.
1 / 17
ومن ذلك حديث في الموطأ: " إني لأَنْسى أو أنسَّى لأَسنَّ" ١، أي إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى الطريق المستقيم، وأبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوه إذا عرض لهم النسيان، ويجوز أن يكون من سننت الإبل إذا أحسنت رِعْيَتَها، والقيام عليها.
ومنه نزل المحصب، "ولم يسنَّه" أي نزول المحصب، أي لم يجعله سنة يعمل بها، وقد يفعل الشيء لسبب خاص فلا يعم غيره، وقد يفعل لمعنى، فيزول ذلك المعنى، ويبقى الفعل على حاله متبعًا، كقصر الصلاة في السفر للخوف، ثم استمر القصر مع عدم الخوف، صدقة من الله على عباده، كما ورد في السنة.
ومن حديث ابن عباس: " رمل رسول الله ﷺ ولم يسنه " أي لم يسنَّ فعله لكافة الأمة، ولكن لسبب خاص، وهو أن يُرى المشركين قوة الصحابة، وهو مذهب ابن عباس، وأما غيره فيرى أن الرمل في طواف القدوم سنة باقية، وعليه العمل بين المسلمين.
ومن ذلك: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب "٢، يعني المجوس في أخذ الجزية منهم، وقد ساق أبو السعادات (ابن الأثير) طائفة كبيرة من أمثلة هذا النوع، وقال الراغب: سنة النبي ﷺ طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله ﷿ طريقة حكمه وطريقة طاعته، نحو قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ﴾ ٣، ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ ٤، وقوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾ ٥.
_________
١ رواه مالك في الموطأ بلاغا ١/١٢١.
٢ أخرجه مالك في الموطأ ١/٢٠٧.
٣ سورة الفتح آية: ٢٣.
٤ سورة فاطر آية: ٤٣.
٥ سورة الكهف آية: ٥٥.
1 / 18
وقال الزجاج: أي معاينة العذاب، وقال شَمَّر: (السنة في الأصل) سنة الطريق، وهي طريقة سنها أوائل الناس، فصارت مسلكًا لمن بعدهم١.
ورجل مسنون الوجه ملمسه، وقيل: حسنه وسهله، وقيل: الذي في وجهه وأنفه طول، (والسنين) كأمير ما يسقط من الحجر إن حككته٢اهـ.
المعنى الاصطلاحي:
يطلق جمهور علماء الحديث (السنة) على ما يقابل البدعة، فيقولون: فلان على السنة إذا كان عمله وتصرفاته الدينية وفق ما جاء به النبي ﷺ كما يقال: فلان على خلاف السنة، أو فلان مخالف للسنة إذا كان مبتدعًا، وعاملًا على خلاف هديه ﵊.
يقول الإمام النووي ﵀: " (السنة) سنة النبي ﵊ وأصلها الطريقة، وتطلق سنته ﵊ على الأحاديث المروية عنه ﷺ"٣ اهـ.
هذا إطلاق من إطلاقات السنة عند المحدثين، وتطلق السنة على المندوب، وهو خلاف الواجب. قال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات: "قال جماعة من أصحابنا في أصول الفقه: السنة، والمندوب والتطوع والنفل، والمرغب فيه والمستحب، كلها بمعنى واحد، وهو ما كان فعله راجحًا على تركه، ولا إثم في تركه يقال: سن رسول الله ﷺ كذا أي: شرعه، وجعله شرعًا٤"اهـ.
_________
١ تاج العروس.
٢ المصدر السابق.
٣ تهذيب الأسماء واللغات ٢/١٥٦.
٤ المصدر نفسه ٢/١٥٦.
1 / 19
هذا اصطلاح جمهور الفقهاء على اختلاف مذاهبهم غالبًا، وقد يتوسع في استعمال السنة حتى تشمل فعل الخلفاء الراشدين المهديين، ويشهد لهذا قوله ﷺ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"١، إلا أنها إذا أطلقت عند المحدثين تنصرف - غالبًا- إلى أقوال النبي ﵊، وأفعاله وتقريراته.
والسنة بهذا المعنى أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد ﷺ، وهي القسم الثاني.
فالسنة إذًا صنو القرآن، ومنزلة من عند الله (معنى)، ويشهد لما ذكرنا القرآن الكريم نفسه إذ يقول الله تعالى في حق نبيه ﵊: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ ٢، والآية كما ترى صريحة في أن كلام الرسول وحديثه فيما يبلغ عن الله من التشريع ليس حديثًاَ عاديًا ينطق به ﵊ كما يشاء، ولكنه كلام ينطق به بوحي من الله، فأمره ﵊ من أمر الله سبحانه، ونهيه من نهيه، وما أحله مثل ما أحل الله، وما حرَّمَه مثل ما حرَّمه الله وهكذا.
وأما القسم الأول من قسمي الوحي فهو القرآن الكريم، وهو من عند الله لفظًا ومعنًا، لأنه كلامه الذي خاطب به نبيه محمدًا ﵊، وهو المصدر الأول للعقيدة والشريعة والحجة القاطعة.
الفرق بينهما:
الفرق بين القرآن والسنة واضح كما يظهر مما ذكرنا آنفًا من حيثية
_________
١ أخرجه أحمد ٤/١٢٦، والدارمي ١/٤٤، وأبو داود ٥/١٤، والترمذي ٥/٤٤، وابن ماجه ١/١٥، ١٦، وابن أبي عاصم في السنة ١/٣١، والحاكم ١/٩٥-٩٧ في حديث طويل من حديث العرباض بن سارية، وصححه الترمذي والحاكم والذهبي والألباني.
٢ سورة النجم آية: ٣، ٤.
1 / 20
واحدة، وهي أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، متعبد بتلاوته، ولا تصح الصلاة إلاّ به، وهو من المعجزات الخالدة لرسول الله ﵊، وقد أعجز بلغاء العرب وأقعدهم.
وأما السنة فهي من عند الله من حيث المعنى، وأما ألفاظها فمن عند رسول الله ﷺ، ولا يتعبد بتلاوتها، ولا تصح الصلاة بها، وليست بمعجزة ويجوز روايتها بالمعنى بشروطها.
وأما من حيث ثبوت الأحكام بها، والاستدلال بها في فروع الشريعة وأصولها فلا فرق بين القرآن والسنة من هذه الحيثية، إذا ثبتت السنة عند أهلها بالطريقة المعروفة عندهم.
وأما الأحاديث القدسية - وإن كانت من عند الله لفظًا ومعنى - على خلاف في ذلك لأنهم مختلفون في تعريف الحديث القدسي- إلا أنها مثل الأحاديث النبوية في عدم التعبد بتلاوتها، وعدم صحة الصلاة بها، وأما من حيث ثبوت الأحكام والعقائد بها فهي مثل القرآن والسنة الصحيحة على ما تقدم١.
هذا ما سنتناوله بالبحث إن شاء الله.
_________
١ راجع المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن القيم ص٤٠ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار السلام - القاهرة.
1 / 21
المبحث الثاني: حجية القرآن والسنة في باب العقيدة
إنه لموقف يثير تساؤلا؟!!
هل من الجائز أن يبحث مسلم استسلم لربه، وتعاليم نبيه عن حجية القرآن والسنة، أو عدم حجيتهما وهو لا يزال مسلما؟!!
هل من الجائز أن يتوقف كاتب مسلم في صلاحية القرآن والسنة للاستدلال بهما في باب العقيدة، بينما هو يستدل بما يظن أنه معقول العقليين دون أدنى توقف؟!!
الجواب: لا.
إن هذه النهاية التي انتهى إليها أمر العقيدة الإسلامية هي التي تجعلنا نكتب تحت هذا العنوان حيث أصيب كثير من المثقفين من أبناء المسلمين باضطراب في عقائدهم. ذلك الاضطراب الذي أساسه إعراضهم عن كتاب ربهم، وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام١، إذ صار حظهما عندهم تقديس ألفاظهما تقديسًا شكليًا مع هجرانها في العمل والتحكيم وعدم الرجوع إليها لأخذ أسس العقيدة منهما.
_________
١ وربما يعود أيضًا إلى أثر الثقافة الغربية والمناهج التعليمية التي خططها ونفذها دعاة التغريب في العالم الإسلامي. ولعل أول أهدافهم توهين الصلة بالكتاب والسنة وإبعادهما عن الزاد العلمي والثقافي الذي ينبغي أن يصبح في المكانة الأولى من اهتمام المسلم.
1 / 23
هما اتجاهان متناقضان: العناية التامة بألفاظ القرآن والسنة يحفظهما عن ظهر قلب، وطبعهما أحسن طباعة، ونشرهما بين القراء، وتخصيص مدارس ومعاهد وكليات لهما، وتخصيص إذاعة خاصة تعرف بـ (إذاعة القرآن الكريم) في بعض العواصم العربية والإسلامية، وهو أمر لم يسبق له نظير في التاريخ، وهو اتجاه كريم يستحق التقدير والإعجاب، ويقابل ذلك إعراض تام عنهما، وعزلهما عن حياة الأمة العامة والخاصة، مع الانحلال التام والبعد عن تعاليمهما ومبادئهما إلا من شاء الله، وقليل ما هم، وإذا أردنا أن نعرف تاريخ بدء هذا الانقسام، فلا بد من الرجوع إلى الوراء.
وبعد نشأة (علم الكلام) في العصر العباسي، في أواخر عصر بني أمية انقسم الناس ثلاث فرق في هذا الباب:
١- أتباع السلف الصالح التابعون لصحابة رسول الله ﷺ، ومن سلك مسلكهم، واقتفى أثرهم من أهل الحديث في كل عصر ومصر، الذين نرجو أن يكونوا هم الفرقة الناجية. وطريقتهم الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسنة من شريعة وعقيدة، وإثبات صفات الله الواردة فيهما على ظاهرها اللائق بالله دون التورط في التأويل ظنًا وتخمينًا، ودون تشبيه وتمثيل جرأة على الله إذ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ١، وهم أيضًا يقولون بالآيات الكونية الدالة على وجود الله العليم الحكيم، وأفعاله الصادرة عن حكمة بالغة كما لا يهملون الأدلة العقلية، إذ لا يجوز تعطيل العقل في مجال العقيدة وغيرها، لأن العقل أساس التكليف، ومناط الأهلية، إلا أنه لا يجوز أن يتجاوز حدوده ويتجاهل وظيفته، ويجمح في مجال الخيال الفاسد، والأوهام الكاذبة بعيدًا عن نور الوحي.
والخيال والوهم لا يصلحان أساسًا للعقيدة والمعرفة الصحيحة
_________
١ سورة الشورى آية: ١١.
1 / 24
حتمًا١، علمًا بأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح٢.
٢- فريق يؤمن بالجملة بالله وبكلامه (القرآن)، وبسنة نبيه إيمانًا فاترًا خاليًا عن الحرارة والحلاوة. وهذا الفريق يستدل على ما آمن به من كمالات الله - في حدود تصوره- بالأدلة العقلية التي يسميها بالبراهين القطعية، ولا يرى الاستدلال بأدلة الكتاب والسنة، بدعوى أنها أدلة ظنية لا تفيد العلم اليقيني. وهو موقف أهل الكلام بالجملة علمًا بأنهم فرق شتى، وقد تسربت بعض عقائدهم، ودخلت على الأشاعرة المتأخرين من حيث لا يعلمون، وسيأتي تفاصيل ذلك إن شاء الله.
٣- فريق يبدأ عقيدته من ذهن خال، فيأخذ في التفكير والبحث الدقيق ليصل بتفكيره وبحثه إلى الإيمان، بعد أن يقطع أشواطًا طويلة في التأني والسير خطوة خطوة حتى يصل للإيمان بأي شيء، أدى إليه تفكيره، فيؤمن به ويسميه حقيقة. يشبه بعض الكتاب هذا الفريق بقاضٍ عدل عرضت عليه قضية ما وهو خالي الذهن، فجعل يستمع إلى أقوال الخصوم وحججهم، حتى يدرك موقع الحق من عرض حججهم، فيحكم بينهم بما أدى إليه اجتهاده، بعد ذلك العرض الطويل من أقوال الخصوم وحججهم، وهؤلاء هم الفلاسفة الذين يسمون أنفسهم (بالحكماء) في الوقت الذي يسمون فيه غيرهم بالعوام، وقد يثبتون واسطة أحيانًا، وهم علماء الكلام كما يقول أبو الوليد بن رشد: (إن علماء الكلام ليسوا بالعلماء -الحكماء- وليسوا من العوام) بل يسميهم (جدليين) .
هكذا تفرق المسلمون في موقفهم من أدلة الكتاب والسنة، وهو الذي دعانا للكتابة في هذا الموضوع (حجية القرآن والسنة في مبحث العقيدة) .
_________
١ أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام ص: ٦٧.
٢ وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه القاعدة كتابًا، وهو مطبوع على هامش منهاج السنة باسم (موافقة العقل للنقل، وهو كتاب درء تعارض العقل والنقل الذي حققه الدكتور محمد رشاد سالم، وتم طبعه ونشره بواسطة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) .
1 / 25
وبعد: فالقرآن والسنة هما المصدران الأساسيان لكل بحث في العقيدة، لأنهما وحيان من الله، ويمثلان الرسالة التي كلف الله بها رسله المختارين من البشر، لتكون رابطة بين السماء والأرض، وتحمل إلى سكانها أخبار السماء، أحكامًا ربانية وتعليمات وتوجيهات إلهية.
وقد كانت تلك الرسالات متحدة في أصول الدين والإلهيان، إذ كانت كلها تنادي أول ما تنادي: ﴿اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ١.
إذ كانت كلها تخرج من مشكاة واحد أي (من عند الله)، ولو كانت من مصادر متعددة لاختلفت وتضاربت، ولكنها كانت متنوعة ومختلفة في الشريعة والمناهج. حيث جعل الله لكل نبي ورسول شرعةً ومنهاجًا، يناسب أحوال وظروف أمته رحمة منه سبحانه ولطفًا، إنه لطيف بعباده.
ولقد كان كل نبي يبعث إلى قومه وبلسان قومه في ضوء منهج معين، وتشريع محدود ومؤقت. ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ ٢ واستمرت هذه السنة هكذا مدة من الزمن طويلة لحكمة يعلمها العليم الحكيم ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ ٣.
ولما حان الوقت الذي أراد الله أن يختم فيه رسالاته إلى أهل الأرض اختار من بين عباده نبيه المصطفى محمدًا من أمة أمية (العرب)، وقد كانت على فطرتها السليمة دون أن تتأثر بأي حضارة من الحضارات القائمة في ذلك الوقت، الحضارة الفارسية، والرومانية، والهندية، وغيرها، اختاره ليرسله إلى الناس كافة، وليختم به الرسالات، وبعد تمهيدات وإرهاصات مرّت عليه في صباه بعثه إلى الناس كافة، وأنزل عليه كتابه الأخير الذي ختم به الكتب السماوية (القرآن الكريم) .
_________
١ سورة الأعراف آية: ٥٩.
٢ سورة فاطر آية: ٢٤.
٣ سورة الفتح آية: ٢٣.
1 / 26
وقد وصفه بأنه كتاب مبارك١، وأنه ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ ٢. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ٣، ولقد تكفل الله حفظ هذا الكتاب، إذ يقول عز من قائل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ٤، ووكل تبيانه إلى رسوله، وخاتم أنبيائه محمد ﷺ، إذ يقول جل وعلا: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ ٥، وشهد له سبحانه أنه ﵊ لا ينطق عن الهوى في بيانه هذا وأداء أمانة الرسالة: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ ٦، ولما كانت هذه مكانته وهذا شأنه أوجب الله طاعته، وحرم معصيته، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، إذ يقول عز من قائل: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ ٧، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ٨، فأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ﷺ.
يقول بعض أهل العلم عند تفسير هذه الآية: "أعاد الفعل مع طاعة الرسول إعلانًا بأن طاعته ﵊ تجب استقلالًا، من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقًا سواء كان ما
_________
١ انظر: سورة الآنعام آية: ٦، وسورة الأنبياء آية: ٢١، وسورة ص آية: ٢٩.
٢ سورة فصلت آية: ٤٢.
٣ سورة المائدة آية: ١٦.
٤ سورة الحجر آية: ٩.
٥ سورة النحل آية: ٤٤.
٦ سورة النجم آية: ٤، ٥.
٧ سورة محمد آية: ٣٣.
٨ سور النساء آية: ٥٩.
1 / 27
أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه ﷺ أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالًا، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول ﷺ، إلى أن قال: ثم أمر الله تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله، إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك الرد خير لهم في العاجل وأحسن تأويلًا في العاقبة".
و(شيء) في قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾، نكرة في سياق الشرط، تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دُقِّه وجُلِّه، ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافيًا لم يأمر بالرد إليه، فإنه من الممنوع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، وهو إجماع بين أهل العلم، وهذا يدل على أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانًا، ولكنهم بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة١اهـ.
هذا.. ولا يشك مسلم مهما انحطت منزلته العلمية، وضعفت ثقافته، وضحلت معرفته أن الرسول ﷺ بلغ ما أنزل الله عليه من القرآن، ذلك لأن الإيمان بأن الله أنزل القرآن على محمد ﵊، وأنه بلغه كما نزل، وأنه بيّن للناس، وأوضح ما يحتاج إلى البيان والإيضاح، وأنه دعا الناس إلى معرفة الله بصفات الكمال، ولم يفتر عن الدعوة إلى الله وإلى تعريف العباد بربهم حتى التحق بالرفيق الأعلى ﷺ.
_________
١ إعلام الموقعين للحافظ ابن القيم بتصرف ١/٤٨.
1 / 28
إن هذا المقدار من الإيمان من أصول هذا الدين وأساسه الذي ينبني عليه ما بعده من واجبات الدين وفروضه، إذا كنا نؤمن هذا الإيمان - ويجب أن نؤمن- فأين نجد بيانه ﵊، الذي به يتحقق امتثاله لتلك الأوامر؟
﴿بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ ١، ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ ٢، ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ ٣.
الجواب: نجد ذلك في سنته المطهرة التي هي خير تفسير للقرآن بعد القرآن، والتي قيض الله لها من شاء من عباده فصانوها، وحفظوها من كل قول مختلق، وكل معنى مزيف، ودونوها منقحة مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ٤ كما تقدم.
والذكر المنزل المحفوظ هو القرآن الكريم في الدرجة الأولى، والسنة تدخل في عموم الذكر عند التحقيق، وإنعام النظر وبيان ذلك:
إذا كان القرآن الكريم محفوظًا بنص الآية السابقة، فإن السنة المطهرة محفوظة أيضًا بدلالتها نفسها، وتوضيحه كالآتي:
١- إنها داخلة في عموم الذكر، لأنها تذكّر، كما أن القرآن يُذَكّر.
٢- حفظ الله للقرآن الكريم يتضمن حفظ السنة لأنها بيان وتفسير له فحفظها من حفظه، وعلى كل حال فإن السنة المطهرة محفوظة ولا شك، وهو أمر يكاد أن يكون ملموسًا لمس اليد، إذ قيض الله لها رجالًا أمناء ونقادًا أذكياء يدركون من العلل الخفية ما يعجز عن إدراكها غيرهم، منهم من قاموا بدراستها وحفظها سندًا ومتنًا، وجمعها، ومنهم من عمدوا إلى غربلتها وتصفيتها حتى يتبين المقبول من المردود. ومنهم من دققوا في أحوال الرواة
_________
١ سورة المائدة آية: ٦٧.
٢ سورة النحل آية: ٤٤.
٣ سورة النحل آية: ١٢٥.
٤ سورة الحجر آية: ٩.
1 / 29