الفرقان في بيان إعجاز القرآن
الناشر
بدون ناشر فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
مكان النشر
الرياض
تصانيف
الفرقان
في بيان
إعجاز القرآن
تأليف الشيخ
عبد الكريم بن صالح الحميد
حفظه الله تعالى
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد ...
فإن إعجاز القرآن مُسَلَّم في اعتقاد المسلمين لا يتطرّق إليه الشك.
وقد ظهر هذا الإعجاز وقت نزوله بأخباره الغيبية الماضية والحاضرة والمستقبلة، وبالتحدّي بالإتيان ولوْ بسورة واحدة من مثله إلى غير ذلك من إعجازه الباهر، القاهر لكل مبطل خاسر.
وليس موضوعنا التفصيل في ذلك فقد كُفيناه حيث كَتَبَ السلف في هذا ما بعضه يكفي.
وإنما المراد هنا الكلام فيما جَدّ وحَدَث في زماننا من الكلام في إعجاز القرآن الذي معناه متابعة ومجاراة الكفار الملاحدة فيما يزعمون أنهم اكتشفوه وعرفوه.
فالمقصود النظر في هذا الإعجاز المزعوم وَوَزنه بميزان الشرع لِتَسْتبين سبيل الحق من الباطل ولأنه صار فتنة عظيمة تهوّك بها من تهوّك على غير هدى بل بضلال مبين لا يرتقي ولا إلى درجة الظن والتخمين.
1 / 3
بل حصل بسببه من جحود الخالق وإنكار وجوده ما لا يُحاط به، يعلم الكثير من ذلك من اسْتقرأ الأمر من بدايته وأصله وتابع تفرّعاته ونتائجه، ولم يغرّه نفخ في صُوَرٍ مَيّتة ممن يُرَوِّجون فاسد البضاعة وكاسدها، بل والله مسمومها، وأعني الذين تَوَلَّوْا ترجمة هذه العلوم. كذلك الذين وجدوها مترجمة ففُتِنوا فيها فضلوا بها وأضلوا من تبعهم بما يكتبون ويؤلفونه تقليدًا وتبعية.
وكل هؤلاء أقحموا آيات القرآن قسْرًا وقهرًا رغم عدم طَوَاعِيّتها والبَوْن البعيد الفارق بينها وبين هذه العلوم الدخيلة، أقحموها بها لِتَساير الركب الضال وهذا يستحيل تحقيقًا وإنْ وُجِدَ تَلْفيقًا.
وإن ترويج هذه العلوم المضلّة بمزجها بعلم الهدى لَنَذير شر وموجب رَدَى.
إن الحق والباطل لا يتفقان على الملائمة ولا يجتمعان إلى على مضادة ومُنافرة وإنما اللبس إذا وقع أظلمت الطريق، فقد الْتبس الحق بالباطل بهذه الأسباب فحصل الضلال.
والمراد من هذا الكتاب النظر في هذا الطوفان الغامر المسمى: (إعجاز القرآن العلمي) بِزَعْم تصديق كلام الله وتصحيحه وتأييده هذه النظريات التي يُطلق عليها اسم العلم التي وَفَدَتْ من ملاحدة أصّلوا علومهم ونظرياتهم على جحود الخالق سبحانه وبحمده، فهل القرآن
1 / 4
حقيقة يُوَافق ذلك أم يخالفه فلننظر (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).
أما من أقرّ بالخالق منهم فقد أقَرَّ به على مقتضى هذا النظر المحدَث للكون، وهو ضلال من أوله إلى آخره، فكثير منهم غايتهم الربوبية، والإقرار بالخالق لوْ كان على مقتضى الفطرة والنظر الصحيح لما دخل صاحبه في الإسلام فكيف بنظرِ مَنْ سار على نهج هذا العلم الحديث وكشوفاته؟ إنها تبدأ بالضلال وتنتهي إليه، أما من يُرَوِّج هذه البضائع فإما جاهل أو ماكر، وأهل الإسلام في غنى ونعمة من الله حَسَدهم عليها أعداؤهم فأرادوا أن يزاحموها بضلالهم ويفسدوها لتحصل المشاركة، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ).
وقدس الله روح ابن القيم فهو يقول: فلا تُتعب ذهنك بهذيانات الملحدين فإنها عند من عرفها من هَوَس الشياطين وخيالات المبطلين.
وإذا طلع فجر الهدى وأشرقت النبوّة فعساكر تلك الخيالات والوساوس في أول المنهزمين، (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) انتهى (١).
(١) من مفتاح دار السعادة ١/ ٢١٥
1 / 5
اعلم أن الشأن كل الشأن في طلوع هذا الفجر وإشراق هذا النور حتى يكون الأمر في زماننا كما وصف قدس الله روحه.
كتبها
عبد الكريم بن صالح الحميد
1 / 6
نيوتن والجاذبية وقانونها
إسحاق نيوتن هذا كافر إنجليزي غلا فيه الملاحدة ومن قلّدهم وأخذوا كلامه في الجاذبية من غير معرفة ولا دراية وكأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مع أن كلامه في ذلك ينقسم إلى قسمين:
قسم غايته فيه أنه عَرَفَه بالبديهية وهذا يشاركه فيها كل أحد وهو انحطاط الأثقال من أعلى إلى أسفل الذي سَمّوْه الجاذبية وأي ميزة تَمَيّز بها هذا الضال؟.
الثاني: الضلال المبين الذي فتح بابه لأمثاله مما تصوّره في خياله مع أنه لا حقيقة له في الواقع وذلك زعمه أن حجم الجسم كلما ازْداد ازْدادت قوّته في جذب الأجسام الأخرى إليه.
ومن هنا تَبَنَتْ النظريات الخيالة الباطلة من الكلام بما سَمّوْه المجموعة الشمسية وانفصال الكواكب بزعمهم من الشمس ودورانها حولها، وتجاذبها، ولقد قَبِل العالَم كلامه بلا برهان فمن أين له أن حجم الجسم كلما ازداد زادت قوّته في جذب الأجسام الأخرى إليه؟.
1 / 7
إن خاصية انحطاط الأثقال إلى أسفل أو الجاذبية خاصِّيّة أوْدعها الله الأرض التي هي المهاد والفراش الموضوع في أسفل العالم للأنام لأجل استقرارهم.
أما أن يُجعل ذلك قاعدة مُطّرِدة تنطبق على كل جسم كبير فهذا من أبطل الباطل وهو خيال مجرّد عن الحقيقة ولا يقدر أحد أن يُبرهن عليه بل الأدلّة الشرعية على خلافه حيث أنه تكرر في كلام الله عن الأرض أنها لِعَيش الخلائق واستقرارهم على ظهرها ولأجل ذلك خلقها الله على هذه الكيفية مستقرة ثابتة تنجذب الأثقال إلى مركزها السفلي وهو نهاية السُّفِل.
ومما يبين بطلان نظريته أن السماء المبنية المحيطة بالأرض إحاطة الكرة بما في وسطها لا تجذب الأرض مع أنها أكبر منها بشيء عظيم كما هو مُشاهد، لكن هم لا يعرفون هذه السماء الدنيا المبنية ولا يُقِرّون بوجودها لذلك ليس لها ذكر في علومهم ولا يعرفون ما فوقها ولا يُقرّون به، وأي ضلال أعظم من هذا؟.
إذًا خاصيّة انحطاط الأثقال إلى أسفل صادرة عن خالق حكيم قال تعالى: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) فهي في سُفِل العالم ومركزه وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) وهي إنما صارت قرارًا بهذه الخاصية وهي انحطاط الأثقال إلى مركزها الأسفل وهناك الأرض
1 / 8
السابعة السفلى التي يتّجه انحطاط الأثقال إليها ويقف عندها من كل جانب، إذْ أن انحدار الأثقال ليس إلى ما لا نهاية، بل له نهاية معلومة وهي نهاية سفل العالم كله الأرض السابعة السفلى، ولأجل ذلك صارت الأرض قرارًا.
والمراد أن هذه المجموعة الشمسية خيال لا حقيقية له ولم يرد لها ذكر في كلام الله وكلام رسوله، وقد قال صاحب كتاب (الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان) ص ٨٢ قال: لقد طلب العالم الشهير نيوتن من ميكانيكي ماهر أن يصنع له مُجَسَّمًا معدنيًا جميلًا للمجموعة الشمسية، فَتَمَّ لنيوتن ما أراد، لقد أظهر المجسَّم الشمس والكواكب السيارة على شكل كرات تحرّكها يّدٌ معدنية ويُسّيِّرها نظام معقّد يعتمد على العديد من المسنّنات والاسطوانات والأربطة. انتهى.
فالمسألة لا تعدو النظريات الخيالية وأبعد ما تصل إليه الرسم على الورق والمجسَّمات ونحوها، والويل لمن خُدِع.
ومن جنس هذه المجسّمات الكرة التي يوضع أمامها ضوء فيُديّرُون الكرة تجاه الضوء ويزعمون أن اختلاف الليل والنهار يحصل بهذه الكيفية، مع أن اختلاف الليل والنهار يحصل بعكس ما زعموا وذلك بدوران الضوء نفسه الذي هو بمنزلة الشمس حول الكرة، وبذلك يتعاقب الليل والنهار، وقد بينت ذلك ولله الحمد في (هداية الحيران).
1 / 9
والمراد أن نيوتن هذا بنى نظرية الجذب التي هي بزعمه تُنَظم سير الكواكب على خيال مظلم حيث لا يستطيع أن يبرهن على ذلك، بل البرهان بخلافه فالسماء أكبر من الأرض ولا تجذبها، فإذا كان يقول: إن الجاذبية بين الأجسام المختلفة تبعًا لكثافتها وطول المسافة الفاصلة بين كل جسم وآخر فيقال: هذا مجرد خيال، وإنما ألْجأه إليه اعتقاد السديم وكواكبه التي انفصلت منه ودورانها ومن ضمنها الأرض فهو يُعَلّل تنظيم دوران هذه الكواكب ولزومها مواضعها في خطوط دورانها يُعلله بالجاذبية، وإذا كان الأصل فاسدًا فالفروع أيضًا تكون فاسدة، وسوف يتبين إن شاء الله فساد هذه النظريات من الأصل.
وكيف يُسَلَّم له هذا الخرص؟ ثم إن جاذبية الأرض مُتجهة إلى مركزها الأسفل، ولو كان الأمر كما يزعم نيوتن لصار الجذب بعكس ذلك تمامًا حيث يكون تَوَجّه الجذب إلى الجاذب وهو الشمس بزعمهم، كذلك فإنهم يزعمون أن جاذبية الأرض تنقطع حين يرتفع الإنسان بعيدًا عنها، وهذا يُبين الحكمة الربانية من إيداع مركز الأرض الأسفل هذه الخاصِّية وأن ذلك لاستقرار ما على الأرض فيها، فلولا أن الله خلق هذه القوة الجاذبة في الأرض لما استقر عليها شيء بل يبقى سطحها وحَيّز الهواء، سواء بحيث يقف الإنسان في الهواء ويخطو في الهواء ولا يُشعر بما يجذبه أسفل منه ولا فوقه ولا من جميع جهاته.
1 / 10
ولذلك فالأرض موضوعه هكذا في الفضاء مثل الإنسان الذي تقدم وصْفه في حال عدم ما يجذبه، وإنما يمسكها بقدرته الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا.
وإذا كانت الجاذبيّة تنقطع بعد ارتفاع معيّن من الأرض مع أنها جاذبية إلى أسفل لا إلى أعلى فما الذي ربط الأرض بالشمس وأي جذب بينهما؟ إن كلام هؤلاء يؤخذ بلا نظر ولا تمحيص لموقع الانبهار في القلوب، ولأن فتنتهم عمياء أراد الله أن يضل بها من يشاء لحِكم باهرة هو المحيط بها علمًا.
ثم يقال: من قال لكم أن في جرم الشمس قوة جاذبية وكذلك بقية الكواكب؟ إنه الهذيان وإفراز خيالات أهل الضلال والطغيان، فليس في الشمس ولا القمر ولا سائر الكواكب قوة جذب، والسبب أن هذه المخلوقات خُلِقَتْ لحكمة غير الحكمة التي خلقت لها الأرض فإن الرب سَخّرها لأهل الأرض من الإنسان والحيوان والنبات، وقد قال تعالى: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وقال تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وقال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ) وقال تعالى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ولذلك قال قتادة: خلق الله هذه
1 / 11
النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأوْل فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به (١) انتهى.
أما الأرض فقد قال تعالى في الحكمة من خَلْقها: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا).
فقد ظهر أن خاصية الجذب إنما أوْدعها الرب سبحانه الأرض لتستقر عليها المخلوقات، أما الشمس والقمر والكواكب فخالية من ذلك، لأنها لم تُخلق ليستقر عليها أحد، فالحكمة من خلقها تنافي ذلك كما أن الحكمة من خلق الأرض تنافي عدم وجود الخاصيّة المُودعة فيها.
(١) أخرجه البخاري معلقًا وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.
1 / 12
المجموعة الشمسية
هذا الاسم لا يوجد في كلام الله ولا كلام رسوله ﷺ ولا كلام السلف، ولا حقيقة لمعناه أيضًا، وإنما هو خيال منحوت في أذهان أرباب الهذيان أحْدثوه في هذا الزمان.
لقد ربطوا هذه المجموعة المزعومة بعضها ببعض على مقتضى خيال إسحاق نيوتن في الجاذبية، وقد تقدم بيان بطلانه، والعجب دَعْواهم أن علومهم هذه تقوم على التجارب والحِسّيات أما الغيبيات فلا تدخل في علومهم وهي عندهم موضع سخرية ومع هذا أكثر نظرياتهم التي ملئوا الدنيا منها أصلها وفرعها وبدايتها ونهايتها الخيال.
والمراد أن المجموعة الشمسية المزعومة خيال متفرّع من خيال نيوتن حيث بَنَوْا هذه النظرية على ذلك.
فكواكب هذه النظرية منفصلة من الشمس وتدور حول نفسها وحوْل الشمس بفعل الجاذبية بسرعة عظيمة، فالشمس كبيرة وتجذب هذه الكواكب إليها كما تقدم بيانه من نظرية نيوتن.
يقال: أين البرهان على هذا، أوْ يكفينا من البرهان أنه قاله إنجليزي أو أمريكي وهؤلاء لا يُعترض عليهم؟.
1 / 13
الجاذبية تخصّ الأرض، وأما الأجرام العلوية من الشمس والقمر والكواكب فتختلف عن الأرض من كل وجه بخلاف نظرياتهم التي يزعمون فيها أن التركيب واحد لأجل أنها كلها منفصلة من جرم واحد سواء قيل هو الشمس أو السديم.
إن العالم العلوي لطيف خفيف مُسْتنير ليس كالعالم السفلي المظلم الكثيف فكيف يُجعل كالعالم السفلي؟ فالفرق ظاهر.
والأرض خلقها الله وحدها، وخلق السماء والشمس والقمر والنجوم بعد ذلك، وقد خلقها الله لحكمة وأوْدعها خصائص لا تشاركها فيها مخلوقات العالم العلوي.
كما أن السماء خُلقت لحكمة وأودعها فاطرها خصائص لا تُشارك فيها، وكذلك الشمس والقمر والنجوم، وانظر اسم الحيوان والطير والنبات في الأرض، ماذا يشمل مع الفروق الكبيرة بين كل مخلوق وآخر فكذلك العالَم العلوي يجتمع مع العالَم السفلي بأنه مخلوق لله وأنه كَوْن مع وجود الفروق العظيمة بينهما، وإنما جاء الخلْط مِن قِبَل أرباب هذه العلوم التجريبية لانتحالهم في علومهم طريق المحسوس مع عدم الإيمان بالغيب مع تناقضهم وذلك باعتمادهم على نظريات خيالية ليس لها وجود في عالَم الواقع ولذلك جعلوا مادة الكون كله واحدة متشابهة في التركيب.
1 / 14
العلوم التجريبية والاعتماد على المحسوس
يأبى الله ﷿ إلا أن يُظهر كذب الكاذبين المكذبين فلمّا لم يؤمنوا بكتب الله ورسله واعتمدوا على نفوسهم المظلمة تناقضوا في أصل علومهم تناقضًا بيّنًا وذلك أن كل ما يتكلمون به ويزعمون أنهم اكتشفوه من العالَم العلوي كله باطل وضلال إلا نزر يسير مسْبوقين إليه، وهم إنما اعتمدوا فيه على غير المحسوس بل على الخيال المحض والكذب الصِّرْف، فأين عدم إيمانهم بغير محسوس؟ وكذلك كلامهم في العالَم السفلي أكبره وأعظمه القول بدوران الأرض وأنها كوكب، وهو من أبطل الباطل وقد بيّنت ذلك ولله الحمد في (هداية الحيران في مسألة الدوران) والمقصود أنهم في ذلك ما اعتمدوا على المحسوس بل على خيالات نظرياتهم الضالّة المضلة.
كما أن كلامهم في الذرة أيضًا ليس اعتمادًا على المحسوس ولذلك يصرّحون بأنها لا تُرى ولا بأكبر المجاهر، فأين المحسوس؟ إنه الآثار فقط، ولسنا ننكر الآثار وإنما الشأن هل هي آثار ناتجة عن الذرة المزعومة أم عن غيرها مما لا يعلمون؟ ويأتي الكلام على الذرة إن شاء الله.
1 / 15
وليُعلم أن سلف هؤلاء المعطلة في عدم الإيمان بغير المحسوس هم السّمنية الذين ناظروا الجهم بن صفوان فأضلّوه.
قال شيخ الإسلام في نقض التأسيس ٢/ ٥٥ فهؤلاء (السمنية) يكون قولهم أن ما لا يُدْرك بالحواس لا يكون له حقيقة. انتهى.
وقد أنكر هؤلاء أرواحهم والجن والملائكة بعد إنكارهم خالقهم فأي علم يُطلب من هؤلاء.
1 / 16
هل صِدْق الرسول ﷺ متوقفًا على هذيان أرباب العلوم التجريبية؟
اطلعت على بعض ما كتبه رُوّاد ما سَمّوْه (الإعجاز العلمي للقرآن) مثل عبد المجيد الزنداني صاحب كتاب توحيد الخالق وغيره كثير، وهو في الحقيقة خطأ في فهم القرآن حيث سلكوا مسالك مُحْدَثة مُبْتدَعة تخالف طريقة السلف ونهجهم في الكلام في القرآن وبيان معانيه.
ولقد حذّر السلف غاية التحذير من المتكلمين لإحداثهم طريقًا يزعمون أنهم بها يُثْبتون وجود الخالق والعلم بالنبوات لأن هذه الطريق لم يسلكها السلف من الصحابة ومن بعدهم ممن اقتفى آثارهم، ولقد كانت نهايات المتكلمين الحيرة والضلال كما قال الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحْشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نسْتفد من بحثنا طول عمرنا ... سِوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكذلك الشهرستاني أخبر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم وكان يُنشد:
1 / 17
لعمري لقد طُفت المعاهد كلها ... وسيّرت طرفي بين تلك المعالِمِ
فلم أَرَ إلا واضعًا كفّ حائرٍ ... على ذقنٍ أو قارعًا سِنَّ نادمِ
أما ابن الفارض فلما حضرته الوفاة أنشد:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أُمنية ظَفِرتْ نفسي بها زمنًا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلامِ
ومن خالف طريق الرسول ﷺ والصحابة لا يفلح.
كذلك فقد حَذّروا من علم المنطق وبينوا ضلاله، وهم بهذا عاملون بوصايا نبيهم ﷺ حيث أمر أُمته باتباعه واتباع خلفائه الراشدين ونهى أمته عن الإحداث بعده، وهذا سواء في العلم والعمل، وفي كل شيء بل إن أهم ذلك في العلم إذ هو أصل العمل، والعلم عند أهل الإسلام ليس عند الكفرة الملاحدة المعطلة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى فيا الصواعق المرسلة عن الجهمية والمعطلة: (ولهذا كان أكمل الأمم علمًا أتْباع الرسول وإن كان غيرهم أحذق منهم في علم النجوم والهندسة وعلم الكم المتصل والمنفصل وعلم النبض والقارورة والأبوال ومعرفة قَوَامها، ونحوها من العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم بها وآثروها على علوم
1 / 18
الرسل، وهي كما قال الواقف على نهاياتها ظنون كاذبة وإن بعض الظن إثم، وهي علوم غير نافعة فنعوذ بالله من علم لا ينفع. انتهى.
وقال ﵀: (فليس العلم في الحقيقة إلا ما أخبرت به الرسل عن الله ﷿ طَلَبًا وخبرًا فهو العلم المزكي للنفوس، المكمِّل للفِطر، المصحح للعقول، الذي خصّه الله باسم العلم، وسَمَّى ما عارَضه ظنًا لا يغني من الحق شيئًا وخرْصًا وكذبًا فقال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وشهد لأهله أنهم أولوا العلم فقال ﷾: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ) وقال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
والمراد بهم أولوا العلم بما أنزله على رسله ليس المراد بهم أولي العلم بالمنطق والفلسفة وفروعهما. انتهى، تأمل هذا الضابط للعلم والعلماء بخلاف تخليط أهل الوقت.
ثم قال ﵀: (وقال تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) فالعلم الذي أمره باسْتزادته هو علم الوحي لا علم الكلام والفلسفة). إذا كان العلم الذي أمر الله رسوله بالاسْتزادة منه هو علم الوحي وقد فارق الدنيا ﷺ وما تعلم غير هذا ولا عَلّم أصحابه غيره وقد أمرنا باتباعه واتباع أصحابه ونهانا عن
1 / 19
الإحداث، فبهذا الميزان يعرف الموفق انحرافات الأمة بالعلم الذي هو الأصل لا سيما في العلم الشرعي وكيف سُمِّي باسمه ما يضادّه.
ثم قال: (وقال تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي أنزله وفيه علمه الذي لا يعلمه البشر فالباء للمصاحبة مثل قوله: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ) أي أُنزل وفيه علم الله وذلك من أعظم البراهين على صدق نبوّة من جاء به).
ثم رَدّ ﵀ قول من قال: إن المعنى أنزله وهو يعلمه، وبيّن أن هذا ليس هو المراد وإن كان يعلم سبحانه ما أنزله وإنما المعنى: أنزله متضمنًا لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلا من أطلعه الله وأعلمه به، فإن هذا من أعظم أعلام النبوّة والرسالة. انتهى.
وانظر قوله ﵀: (إلا من أطلعه الله وأعْلمه به) وإذا كان الرب سبحانه ذكر علم المخلوقات في كتابه العزيز فهل يُغلق باب العلم بذلك عن الصحابة والسلف من علماء المسلمين وأئمتهم ويفتح هذا الباب بعد القرون الطوال وفي نهاية الأمة وختام الدنيا على أعدائه الذين لا يُقرون بوجوده؟ (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى).
إن العلم بالله ﷿ الذي هو أشرف العلوم عند أهل الإسلام ليس عند الكفرة، كذلك العلم بمخلوقاته عندهم لأنهم يأخذون علمها من خالقها وَوَصْفها من فاطرها، بخلاف أهل الظن والخرص والدّجل.
1 / 20
وفي هذا الكتاب سوف أذكر بعض ما كتبه أرباب الإعجاز المزعوم وأبيّن إن شاء الله بطلان ما ذهبوا إليه وأبيّن أنهم خاضوا بحارًا لُجيّة وأساؤا غاية الإساءة بكلامهم هذا إلى القرآن والسنة وأنهم لا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا بل فتحوا أبواب ضلالة لمن اقتدى بهم، وأن فعلهم هذا تَشْويه للإسلام حيث ألْبَسوه غير لباسه وسَيّروه قَسْرًا في غير طريقه، فكيف يُتلاعب هكذا بكلام الله الذي هو صفة من صفاته؟.
1 / 21