المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد
الناشر
مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
مكان النشر
بيروت - لبنان
تصانيف
المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد
تأليف
أبي يوسف مدحت بن الحسن آل فراج
مؤسسة الريان
تقديم (*) [عبد الله بن عبد الرحمن السعد] الحمد لله رب العالمين وأصلى وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين .. أما بعد: فقط اطلعت على كتاب: (المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد) جمع وتأليف أبى يوسف مدحت بن الحسن آل فراج، وهو كتاب قيم ومفيد جدًا وذلك لأمور: أولًا: هذا الكتاب يتحدث عن أصول الدين وقواعد الملة، ففي هذا الكتاب بيان لحقيقة الإسلام والإيمان وأركانه، كما أنه فيه توضيح لأصل الأصول وهو التوحيد، ونواقض ومفسدات هذا الأصل من الشرك وأقسامه، والكفر وأنواعه، وما يتبع ذلك من الموالاة والمعاداة في ذلك، والبراءة من الشرك وأهله، وصفة الطاغوت والكفر به، وإفراد الله بالطاعة، وتحكيم شريعته، والجهاد لتحقيق ذلك، وما يتبع ذلك من الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وبيان الفرق بين الدارين - دار الإسلام ودار الكفرـ، وغير ذلك من القضايا الكلية والمسائل المصيرية، ولا يخفى أهمية ذلك كله؛ لأن الإسلام لا يتحقق إلا بمعرفة ذلك والعمل به. قال تعالى مذكرًا نبيه ﷺ بالأصل الذي بعثه من أجله ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد: ١٩]، وهذه الآية الكريمة نزلت بعد البعثة بمدة طويلة لأنها في سورة مدنية وهى سورة محمد. فمع كونه مبعوثًا بهذه الكلمة وبقي مدة طويلة وهو يدعو الناس إليها ويجاهد من أجلها وهاجر ﷺ من بلده لتحقيقها، ومع ذلك فإن الله تعالى يذكره بهذا الأصل العظيم الذي هو أساس دين الإسلام. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥، ٦٦]. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه المقدمة ليست بالمطبوع
وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١ - ٤]، وفي هذه الآيات تذكير للرسول ﷺ بالأصول التي بعث من أجلها. ومن اهتمام إبراهيم الخليل ﵇ بالأصل الذي خُلق من أجله وبُعث بسببه خاف أن يقع بما ينافيه فقال كما ذكر الله تعالى عنه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ...﴾ [إبراهيم: ٣٥، ٣٦]. قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره (١٣/ ١١٨): ومعنى ذلك: أبعدني وبنيّ من عبادة الأصنام ... وقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦] يقول: يا رب إن الأصنام أضللن، يقول: أزللن كثيرًا من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن وكفروا بك. اهـ. وأخرج عن ابن حميد، ثنا جرير، عن مغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يقص ويقول في قصصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم حين يقول: ربي ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥]. وإبراهيم ﵇ هو الذي كسّر الأصنام بيده، وهو الذي أراد أن يذبح ابنه طاعة لربه تعالى، وغير ذلك من المقامات العظيمة، التي قامها تحقيقًا للتوحيد وقيامًا بواجب العبودية للرب ﷿، ومع ذلك كله دعا ربه ﷿ أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام.
وقد أرسل الله تعالى جبريل للنبي ﷺ لكي يسأله عن أصول الدين وأركانه وقواعده حتى يتعلم الناس ذلك، أخرج البخاري (٥٠) و(٤٧٧٧) ومسلم (٩، ١٠) من طريق أبى حيان، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة قال كان رسول الله ﷺ يومًا بارزًا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله: ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر». قال يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان». قال يا رسول الله: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك»». قال يا رسول الله: متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤]، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله ﷺ: «ردوا علىّ الرجل فأخذوه ليردوه فلم يروا شيئًا» فقال رسول الله ﷺ: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم». وفي رواية عند مسلم من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «سلوني فهابوه أن يسألوه فجاء رجل ...» وفي آخرها: فقال رسول الله ﷺ: «هذا جبريل أراد أن تعلّموا إذا لم تسألوا». وقد جاء هذا الحديث أيضًا من رواية عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة ﵃.
وهذه القصة وقعت بالمدينة، بل جاء في رواية وقعت في حديث عمر ﵁ أخرجها أبو عبد الله بن منده في «الإيمان» (١٢) أن هذه القصة وقعت في آخر عُمر الرسول ﷺ. ومع طول هذه المدة ما بين بعثته ﷺ وما بين وقوع هذه القصة مع أنه ﷺ لم يزل منذ بعث وهو يبين الإسلام والإيمان، ومع ذلك جاء السؤال عن هذه الأصول في آخر حياته تذكيرًا للأمة بأهمية هذه الأصول ووجوب معرفتها والعمل بها. قال عياض بن موسى رحمه الله تعالى: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداءً وحالًا ومآلًا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: هذا الحديث يصلح أن يقال له: أم السنة لما تضمنه من جمل علم السنة. اهـ من (الفتح: ١/ ١٢٥). ثانيًا: أن القضايا التى تقدم ذكرها قد بحثت في هذا الكتاب وفق الدليل من الكتاب والسنة، مع السبر والتقسيم، وذكر الشروط والمحترزات المنافية لذلك، وبيان مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم في هذه المسائل، حتى أنه في كتابه التوحيد الذي هو أنفس مصنفاته - أي الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - وأهمها، جعله أبوابًا، وفي كل باب يذكر الآيات والأحاديث والآثار، ثم يعقب كل باب بذكر أهم المسائل التي تستفاد منه، حتى أنه في بعض تبويباته يجعل عنوان الباب نفسه آية أو حديث، فمن الأول قوله: باب قول الله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [الأعراف: ١٩١] الآية.
وأيضًا باب قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ: ٢٣]، وقال أيضًا: باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦]، ومن الثاني قوله: باب (لا يقال السلام على الله)، وهذا العنوان جزء من حديث ابن مسعود ﵁ الذي أخرجه البخاري: (لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام). وأيضًا قوله: باب (لا يقل عبدي وأمتي)، وهذا جزء من حديث أخرجه الشيخان (ولا يقل عبدي وأمتي وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي)، وقال أيضًا: باب (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) وهذا حديث رواه أبو داود. وهكذا في باقي كتبه كلها مبنية على الدليل والسير على طريقة السلف الصالح. قال محمد بن على الشوكاني رحمه الله تعالى عن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «وكان حنبليًا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة فعاد إلى نجد وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيّم وأضرابهما. وهما من أشد الناس على معتقدي الأموات، وقد رأيت كتابًا من صاحب نجد - وهو عبد العزيز بن سعود - الذي هو الآن صاحب تلك الجهات أجاب به على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده فرأيت جوابه مشتملًا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنةّ فالله أعلم بحقيقة الحال.
وأما أهل مكة فصاروا يكفّرونه ويطلقون عليه اسم الكافر. وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين. وفي سنة ١٢١٥ وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور. وهى رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين وبجماعة من الصحابة، فأجاب عليهم جوابات محررة مقررة محققة تدل على أن المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة. وقد هدِم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه لأنهم مقصرون متعصبون فصارَ ما فعلوه خزيًا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة، وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه، وأرسل صاحب نجد مع الكتابين المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدي المولى الإمام فدفع حفظه الله ذلك إلىّ فأجبت عن كتابه الذي كتب إلى مولانا الإمام حفظه الله على لسانه بما معناه أن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندري من هم وكلامهم يدل على أنهم جهال» (البدر الطالع: ١/ ٣٥٧) في ترجمة: السيد غالب بن مساعد شريف مكة وأميرها. وقال محمد بن الحسن الحجوي - وهو من علماء المغرب العربي -: «وعقيدته السنة الخالصة على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة، لا يخوض التأويل والفلسفة، ولا يدخلهما في عقيدته. وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه، بل إذا وجد دليلًا أخذ به وترك أقوال المذهب، فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معًا». (الفكر السامي:/ ٢/ ٣٧٢). قلت: وهذا بحمد الله تعالى أمر واضح معروف، تدل عليه كتبه ورسائله.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة أرسلها إلى عبد الرحمن بن عبد الله السويدي من علماء العراق: (أخبرك أني ولله الحمد متبع لست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله به هو: مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، ولكنني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك، مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الذين يدعون عليًا وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه عادات نشئوا عليها ...) إلى آخره. قلت: وهذا الكتاب «المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد» كله دليل على ما تقدم وأذكر هنا مسألة واحدة من هذا الكتاب كمثال على ذلك. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عند قوله ﷺ: «لا تجعلوا قبري عيدا»، وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره ﷺ وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركًا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك. (المختصر المفيد: ص ٢٧٤). وأما ما يتعلق بالسبر والتقسيم للمسائل مع ذكر شروطها وبيان محترزاتها ولا يخفى أن هذه الطريقة في بحث المسائل وفيها من التوضيح والتسهيل الشيء الكثير.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ﵀ في بيان معنى لا إله إلا الله وشروطها: «فلا إله إلا الله هى كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له، ودلت عليه، وقبوله، والانقياد للعمل به، وهى كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة: الأول: العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا. الثاني: اليقين، وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب. الثالث: الإخلاص المنافي للشرك. الرابع: الصدق المانع من النفاق. الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك. السادس: القبول المنافي للرد، فقد يقولها من يعرفها لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها تعصبًا وتكبرًا، كما قد وقع من كثير. السابع: الانقياد بحقوقها، وهى: الأعمال الواجبة إخلاصًا وطلبًا لمرضاته». اهـ. (المختصر المفيد: ٣٧٧). وأما ما يتعلق بالاهتمام بما كان عليه الصحابة والسلف الصالح؛ فقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في بيان ما هم عليه عند الاختلاف الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله ﷺ، ثم ما جاء عن الصحابة والتابعين، في رسالته إلى عبد الله الصنعاني: (أما بعد فقد وصل جوابكم، وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم على ما نحن عليه من الدين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومتابعة الرسول الأمجد، سيد ولد آدم ﷺ، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وأن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ثم إلى أقوال الصحابة ثم التابعين لهم بإحسان، فذلك ما نحن عليه وهو ظاهر عندنا». (الدرر: ٤/ ١٦ - ١٧).
ثالثًا: أن في هذا الكتاب بيان لصور كثيرة مغلوطة مخالفة للكتاب والسنة، مع ضرب الأمثلة العملية من واقع الناس والتي تخالف الصواب، ولا شك أن مثل هذا وهو ذكر الصور المغلوطة مع ضرب الأمثلة الواقعية مما يبين الحق ويوضح الطريق المستقيم، الذي أمر الله ﷿ به عباده أن يسلكوه؛ لأن الكلام على قضايا الإيمان والتوحيد وما يضاد ذلك من الكفر والشرك لا يتبين إلا بذكر الأمثلة من واقع الناس، وعرض هذا الواقع على الكتاب والسنة. ومثال ذلك ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيان حقيقة الدين: اعلم رحمك الله: أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتدَّ. مثال عمل القلب: أن يظن أن هذا الذي عليه أكثر الناس من الاعتقاد في الأحياء والأموات حق، ويستدل بكون أكثر الناس عليه، فهو كافر مكذِّب للنبي ﷺ، ولو لم يتكلَّم بلسانه، ولم يعمل إلاَّ بالتوحيد، وكذلك إذا شك، لا يدري من الحق معه، فهذا لو لم يكذب فهو لم يصدق النبي ﷺ، فهو يقول عسى الله أن يبيِّن الحق، فهو في شك، فهو مرتد ولو لم يتكلَّم إلاَّ بالتوحيد. ومثال اللسان: أن يؤمن بالحق ويحبه، ويكفر بالباطل ويبغضه، ولكنه تكلَّم مداراة لأهل الأحساء، ولأهل مكة أو غيرهم بوجوههم، خوفًا من شرِّهم؛ وإما أن يكتب لهم كلامًا يصرِّح لهم بمدح ما هم عليه، أو بذكر أنه ترك ما هو عليه، ويظن أنه ماكر بهم، وقلبه موقن أنه لا يضره، وهذا أيضًا لغروره.
وهو معنى قول الله تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾، إلى قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ [النحل: ١٠٦، ١٠٧]، فقط لا لتغير عقائدهم. فمن عرف هذا، عرف أن الخطر، خطر عظيم شديد، وعرف شدة الحاجة للتعلم والمذاكرة، وهذا معنى قوله في الإقناع في الردة، نطقًا أو اعتقادًا أو شكًا أو فعلًا، والله أعلم». (المختصر المفيد: ٤٧، ٤٨). وما قاله الشيخ سليمان بن عبد الله من ذكر بعض الصور والأمثلة التي يقع فيها كثير من الناس من تعلقهم بالقبور والبناء عليها: واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلاَّ الله، ما يغضب من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان، كما نبَّه عليه ابن القيم وغيره. فمنها: اعتيادها للصلاة عندها، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك. ومنها: تحري الدعاء عندها. ويقولون: من دعا الله عند قبر فلان استجاب له، وقبر فلان الترياق المجرَّب، وهذا بدعة منكرة. ومنها: ظنهم أن لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء، ويقولون: إن البلاء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين، ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنَّة والإجماع. فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله بهم، سلَّط الله عليهم من انتقم منهم. وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير، جري عليهم عام الحرَّة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر. ومنها: الدخول في لعنة رسول الله ﷺ، باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد كما هو الواقع، ودين الله بضد ذلك.
ومنها: اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء بالرجال، وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات، ويزعمون أن صاحب التربة تحمَّلها عنهم، بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيارة المشايخ، كالبدوي وغيره تقربًا إلى الله بذلك، فهل بعد هذا في الكفر غاية. ومنها: كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك. ومنها: جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج إليه من ترميمها ونحو ذلك. ومنها: إهداء الأموال ونذر النذور لسدنتها العاكفين عليها، الذين هم أهل كل بلية وكفر، فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانًا دعا صاحب التربة فأجابه، واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم. ومنها: جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام. ومنها: الإقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها. ومنها: أن كثيرًا من الزوَّار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له. ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة، بل هذا هو عبادة الأوثان، لأن السجود للقبة عبادة لها، وهو من جنس عبادة النصاري للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل، فإنهم عبدوها ومن هى صورته، وكذلك عباد القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عُبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله ﷿. ومنها: النذر للمدفون فيها، وفرض نصيب من المال والولد، وهذا هو الذي قال الله فيه: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٦]، بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم.
ومنها: أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف، ولهذا لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبًا. ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد، بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين، غلَّظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها. ومنها: سؤال الميت قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والإخلاص له من دون الله في أكثر الحالات. ومنها: التضرع عند مصارع الأموات، والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، وهى المساجد، فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيه أفضل من العبادة والعكوف في المساجد، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها، وهؤلاء يرون العكوف في المشاهد أفضل من العكوف في المساجد. ومنها: أن الذي شرعه الرسول ﷺ في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، كما قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، والإحسان إلى المزور بالترحُّم عليه، والدعاء له والاستغفار، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلبَ عبَّاد القبور الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة: الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت، ولو لم يكن إلاَّ بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها، فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح ﵇ يكره ما يفعله النصاري، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء، يؤذيهم ما يفعله أشباه النصاري عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٥، ٦]. ومنها: محادَّة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير، والإثم العظيم. وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر، إنما حدثت بسبب البناء على القبور، ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحدٌ لا يعتادها لشيء مما ذكر إلاَّ ما شاء الله، وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر، فلذلك غلَّط فيه وأبدأ وأعاد، ولعن من فعله، فالخير والهدى في طاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور، ثم يظن أن النبي ﷺ إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، كما يظنه بعض متأخري الفقهاء، ولو كان ذلك لأجل النجاسة، لكان ذكر المجازر والحشوش، بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى. وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك، التي وقعت من عبَّاد القبور، لما خالفوا ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا، فبئس ما يشترون». (المختصر المفيد: ٢٦٦، ٢٧٠).
رابعًا: في هذا الكتاب بيان لكثير من الشبه التي وقع فيها من ضل عن الطريق المستقيم، وردها بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع القرون المفضلة. قال الشيخ سليمان بن عبد الله: «ولكن لعباد القبور على هذا شبهات، ذكر المصنف كثيرًا منها في «كشف الشبهات» ونحن نذكر هنا ما لم يذكره. فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في «جامعه» حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عثمان بن عمرو، ثنا شعبة عن أبى جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي ﷺ فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك» قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفِّعه فيَّ»، قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلاَّ من رواية أبى جعفر، وهو غير الخطمي، هكذا رواه الترمذي، ورواه النسائي، وابن شاهين، والبيهقي كذلك، وفي بعض الروايات «يا محمد إني أتوجه» إلى آخره. وهذه اللفظة هى التي تعلق بها المشركون، وليست عند هؤلاء الأئمة. قالوا: فلو كان دعاء غير الله شركًا لم يعلم النبي ﷺ الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير الله. والجواب من وجوه:
الأول: أن هذا الحديث من أصله، وإن صححه الترمذي، فإن في ثبوته نظرًا؛ لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم، لكن الترمذي أحسن نقدًا، كما نصّ على ذلك الأئمة، ووجه عدم ثبوته أنه قد نص: أنا أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي، وإذا كان غيره، فهو لا يعرف، ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلاَّ عن ثقة، وهذا فيه نظر، فقد قال عاصم بن علي: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلاَّ عن ثقة لم أحدثكم إلاَّ عن ثلاثة، وفي نسخة عن ثلاثين، ذكره الحافظ العراقي، وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله، ويتوقف الاحتجاج به على ثبوت صحته. الثاني: أنه في غير محل النزاع، فأين طلب الأعمىي من النبي ﷺ أن يدعو له، وتوجهه بدعائه مع حضوره، من دعاء الأموات والسجود لهم ولقبورهم، والتوكل عليهم، والالتجاء إليهم في الشدائد والنذر والذبح لهم، وخطابهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة: يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا؟! فحديث الأعمى شيء، ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر، فليس في حديث الأعمى شيء غير أنه طلب من النبي ﷺ أن يدعو له، ويشفع له، فهو توسل بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في آخره: «اللهم فشفعه فيَّ» فعلم أنه شفع له. وفي رواية أنه طلب من النبي ﷺ أن يدعو له، فدل الحديث على أنه ﷺ شفع له بدعائه، وأن النبي ﷺ أمره هو أن يدعو الله ويسأله قبول شفاعته، فهذا من أعظم الأدلة على أن دعاء غير الله شرك، لأن النبي ﷺ أمره أن يسأل قبول شفاعته، فدل على أن النبي ﷺ لا يدعى، ولأنه ﷺ لم يقدر على شفائه إلاَّ بدعاء الله له.
فأين هذا من تلك الطوام؟، والكلام إنما هو في سؤال الغائب، أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، أما أن تأتي شخصًا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك، فلا إنكار في ذلك، على ما في حديث الأعمى، فالحديث سواء كان صحيحًا أو لا، وسواء ثبت قوله فيه: (يا محمد) أو لا، لا يدل على سؤال الغائب، ولا على سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك، فهو مفتر على الله وعلى رسوله ﷺ، لأنه إن كان سأل النبي ﷺ نفسه، فهو لم يسأل منه إلاَّ ما يقدر عليه، وهو أن يدعو له، وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه، فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من الله به، سواء كان متوجهًا بدعائه، كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح، أو كان متوجهًا بذاته على قول ضعيف. (التوجه إلى الخالق بذوات المخلوقين بدعة منكرة، وأجنبية عن الشريعة وفهم حامليها). فإن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على الله بدعة منكرة، لم تأت عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ولا الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين. قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلاَّ به، وقال أبو يوسف: أكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام. وقال القدوري: المسألة بحق المخلوق لا تجوز، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، واختاره العز بن عبد السلام، إلاَّ في حق النبي ﷺ خاصة إن ثبت الحديث، يشير إلى حديث الأعمي، وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلاَّ أنه توسل بدعائه لا بذاته» (المختصر المفيد: ص ٢٧٦ - ٢٧٩). خامسًا: أن الإكثار من مدارسة هذه القضايا ومناقشتها ودعوة الناس إليها يثمر أمرين مهمين هما:
الأمر الأول: قيام مجتمع متمسك بالإسلام الصحيح على ضوء الكتاب والسنة. قال محمد كرد على رحمه الله تعالى في بيان الثمرة التي نتجت من الدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «وما ابن عبد الوهاب إلا داعية هداهم من الضلال وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدة من بعضهم فهى ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعب من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص مثل هؤلاء القوم، وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم سنين طويلة فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد غلوه». اهـ. وقال طه حسين: (قلت: إن هذا المذهب الجديد قديم، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين ولكنه قديم في حقيقة الأمر، لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصًا لله وحده ملغيًا كل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، كانوا يعظمون القبور، ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله، ويعظمون الأشجار والأحجار، ويرون أن لها من القوة ما ينفع ويضر، وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهلين، فعاشوا من الغزو والحرب ونسوا الزكاة والصلاة، وأصبح الدين اسمًا لا مسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قومًا مسلمين حقًا على نحو ما فعل النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنًا.
ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز فقد دعا صاحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، ثم أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض نفسه على القبائل ثم هاجر إلى الدرعية، وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود واشتغل هو بالعلم والدين، واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته فلما تم له هذا، أخذ يدعو الناس إلى مذهبه فمن أجاب منهم قبل منه ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشب عليه الحرب. وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب وأخلصوا له وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه. «ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جدًا أن يوحد هذا المذهب كله كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب وقد كان هذا الأثر عظيمًا خطيرًا من نواح مختلفة، فهو أيقظ النفوس العربية ووضع أمامها مثلًا أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم والسنان، وهو قد لفت المسلمين جميعًا وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب». اهـ. (ينظر كتاب: محمد بن عبد الوهاب «ص ١٣٠ - ١٣٢» لأحمد عبد الغفور عطار).
وهذا الذي نبه عليه محمد كرد على وطه حسين قد نبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: (ولكنني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الذين يدعون عليًا وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه عادات نشئوا عليها، وأيضًا ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع المنكرات ...». اهـ. (الدرر السنية: ١/ ٨٠). وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀: (فنحن أقمنا الفرائض والشرائع والحدود والتعزيرات، ونصبنا القضاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكرات ونصبنا علم الجهاد على أهل الشرك والعناد فلله الحمد والمنة. (الدرر السنية: ٤/ ١٧). والأمر الثاني: نتج من هذا المجتمع المتمسك بالدين الصحيح دولة تحكم الكتاب والسنة وتدعو إلى ذلك، كما حصل في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀.
وقال عبد العزيز بن محمد بن سعود: (ونأمر جميع رعايانا باتباع كتاب الله وسنة رسوله، وإقام الصلاة في أوقاتها والمحافظة عليها، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ونأمر بجميع ما أمر الله به ورسوله من العدل وإنصاف الضعيف من القوي، ووفاء المكاييل والموازين، وإقامة حدود الله على الشريف والوضيع وننهى عن جميع ما نهى عنه الله ورسوله من البدع والمنكرات، مثل الزنا والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا وأكل مل اليتيم وظلم الناس بعضهم بعضًا ونقاتل لقبول فرائض الله التي اجتمعت عليها الأمة. فمن فعل ما فرض الله عليه فهو أخونا المسلم وإن لم يعرفنا ونعرفه ...». اهـ. وقد قام الشيخ مدحت وفقه الله بجمع كلام أهل العلم على هذه القضايا والمسائل من الدرر السنية ومجموعة الرسائل والمسائل ومجموعة التوحيد وشروح التوحيد وفتاوى اللجنة الدائمة وغيرها من المصادر. وقد رتب كلام أهل العلم وألف بينه، وذكر أبوابًا تزيد في توضيح كلام أهل العلم على هذه القضايا، كما أنه قدم بمقدمات للقضايا التي تم عرضها في هذا الكتاب، مع ختم بعض الأبواب بملخص لما تقدم، فجزاه الله خيرًا وبارك فيه. كتبه عبد الله بن عبد الرحمن السعد
تقديم (*) [عبد الله بن عبد الرحمن السعد] الحمد لله رب العالمين وأصلى وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين .. أما بعد: فقط اطلعت على كتاب: (المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد) جمع وتأليف أبى يوسف مدحت بن الحسن آل فراج، وهو كتاب قيم ومفيد جدًا وذلك لأمور: أولًا: هذا الكتاب يتحدث عن أصول الدين وقواعد الملة، ففي هذا الكتاب بيان لحقيقة الإسلام والإيمان وأركانه، كما أنه فيه توضيح لأصل الأصول وهو التوحيد، ونواقض ومفسدات هذا الأصل من الشرك وأقسامه، والكفر وأنواعه، وما يتبع ذلك من الموالاة والمعاداة في ذلك، والبراءة من الشرك وأهله، وصفة الطاغوت والكفر به، وإفراد الله بالطاعة، وتحكيم شريعته، والجهاد لتحقيق ذلك، وما يتبع ذلك من الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وبيان الفرق بين الدارين - دار الإسلام ودار الكفرـ، وغير ذلك من القضايا الكلية والمسائل المصيرية، ولا يخفى أهمية ذلك كله؛ لأن الإسلام لا يتحقق إلا بمعرفة ذلك والعمل به. قال تعالى مذكرًا نبيه ﷺ بالأصل الذي بعثه من أجله ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد: ١٩]، وهذه الآية الكريمة نزلت بعد البعثة بمدة طويلة لأنها في سورة مدنية وهى سورة محمد. فمع كونه مبعوثًا بهذه الكلمة وبقي مدة طويلة وهو يدعو الناس إليها ويجاهد من أجلها وهاجر ﷺ من بلده لتحقيقها، ومع ذلك فإن الله تعالى يذكره بهذا الأصل العظيم الذي هو أساس دين الإسلام. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥، ٦٦]. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه المقدمة ليست بالمطبوع
وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١ - ٤]، وفي هذه الآيات تذكير للرسول ﷺ بالأصول التي بعث من أجلها. ومن اهتمام إبراهيم الخليل ﵇ بالأصل الذي خُلق من أجله وبُعث بسببه خاف أن يقع بما ينافيه فقال كما ذكر الله تعالى عنه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ...﴾ [إبراهيم: ٣٥، ٣٦]. قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره (١٣/ ١١٨): ومعنى ذلك: أبعدني وبنيّ من عبادة الأصنام ... وقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦] يقول: يا رب إن الأصنام أضللن، يقول: أزللن كثيرًا من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن وكفروا بك. اهـ. وأخرج عن ابن حميد، ثنا جرير، عن مغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يقص ويقول في قصصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم حين يقول: ربي ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥]. وإبراهيم ﵇ هو الذي كسّر الأصنام بيده، وهو الذي أراد أن يذبح ابنه طاعة لربه تعالى، وغير ذلك من المقامات العظيمة، التي قامها تحقيقًا للتوحيد وقيامًا بواجب العبودية للرب ﷿، ومع ذلك كله دعا ربه ﷿ أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام.
وقد أرسل الله تعالى جبريل للنبي ﷺ لكي يسأله عن أصول الدين وأركانه وقواعده حتى يتعلم الناس ذلك، أخرج البخاري (٥٠) و(٤٧٧٧) ومسلم (٩، ١٠) من طريق أبى حيان، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة قال كان رسول الله ﷺ يومًا بارزًا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله: ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر». قال يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان». قال يا رسول الله: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك»». قال يا رسول الله: متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤]، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله ﷺ: «ردوا علىّ الرجل فأخذوه ليردوه فلم يروا شيئًا» فقال رسول الله ﷺ: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم». وفي رواية عند مسلم من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «سلوني فهابوه أن يسألوه فجاء رجل ...» وفي آخرها: فقال رسول الله ﷺ: «هذا جبريل أراد أن تعلّموا إذا لم تسألوا». وقد جاء هذا الحديث أيضًا من رواية عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة ﵃.
وهذه القصة وقعت بالمدينة، بل جاء في رواية وقعت في حديث عمر ﵁ أخرجها أبو عبد الله بن منده في «الإيمان» (١٢) أن هذه القصة وقعت في آخر عُمر الرسول ﷺ. ومع طول هذه المدة ما بين بعثته ﷺ وما بين وقوع هذه القصة مع أنه ﷺ لم يزل منذ بعث وهو يبين الإسلام والإيمان، ومع ذلك جاء السؤال عن هذه الأصول في آخر حياته تذكيرًا للأمة بأهمية هذه الأصول ووجوب معرفتها والعمل بها. قال عياض بن موسى رحمه الله تعالى: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداءً وحالًا ومآلًا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: هذا الحديث يصلح أن يقال له: أم السنة لما تضمنه من جمل علم السنة. اهـ من (الفتح: ١/ ١٢٥). ثانيًا: أن القضايا التى تقدم ذكرها قد بحثت في هذا الكتاب وفق الدليل من الكتاب والسنة، مع السبر والتقسيم، وذكر الشروط والمحترزات المنافية لذلك، وبيان مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم في هذه المسائل، حتى أنه في كتابه التوحيد الذي هو أنفس مصنفاته - أي الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - وأهمها، جعله أبوابًا، وفي كل باب يذكر الآيات والأحاديث والآثار، ثم يعقب كل باب بذكر أهم المسائل التي تستفاد منه، حتى أنه في بعض تبويباته يجعل عنوان الباب نفسه آية أو حديث، فمن الأول قوله: باب قول الله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [الأعراف: ١٩١] الآية.
وأيضًا باب قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ: ٢٣]، وقال أيضًا: باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦]، ومن الثاني قوله: باب (لا يقال السلام على الله)، وهذا العنوان جزء من حديث ابن مسعود ﵁ الذي أخرجه البخاري: (لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام). وأيضًا قوله: باب (لا يقل عبدي وأمتي)، وهذا جزء من حديث أخرجه الشيخان (ولا يقل عبدي وأمتي وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي)، وقال أيضًا: باب (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) وهذا حديث رواه أبو داود. وهكذا في باقي كتبه كلها مبنية على الدليل والسير على طريقة السلف الصالح. قال محمد بن على الشوكاني رحمه الله تعالى عن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «وكان حنبليًا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة فعاد إلى نجد وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيّم وأضرابهما. وهما من أشد الناس على معتقدي الأموات، وقد رأيت كتابًا من صاحب نجد - وهو عبد العزيز بن سعود - الذي هو الآن صاحب تلك الجهات أجاب به على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده فرأيت جوابه مشتملًا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنةّ فالله أعلم بحقيقة الحال.
وأما أهل مكة فصاروا يكفّرونه ويطلقون عليه اسم الكافر. وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين. وفي سنة ١٢١٥ وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور. وهى رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين وبجماعة من الصحابة، فأجاب عليهم جوابات محررة مقررة محققة تدل على أن المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة. وقد هدِم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه لأنهم مقصرون متعصبون فصارَ ما فعلوه خزيًا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة، وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه، وأرسل صاحب نجد مع الكتابين المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدي المولى الإمام فدفع حفظه الله ذلك إلىّ فأجبت عن كتابه الذي كتب إلى مولانا الإمام حفظه الله على لسانه بما معناه أن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندري من هم وكلامهم يدل على أنهم جهال» (البدر الطالع: ١/ ٣٥٧) في ترجمة: السيد غالب بن مساعد شريف مكة وأميرها. وقال محمد بن الحسن الحجوي - وهو من علماء المغرب العربي -: «وعقيدته السنة الخالصة على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة، لا يخوض التأويل والفلسفة، ولا يدخلهما في عقيدته. وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه، بل إذا وجد دليلًا أخذ به وترك أقوال المذهب، فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معًا». (الفكر السامي:/ ٢/ ٣٧٢). قلت: وهذا بحمد الله تعالى أمر واضح معروف، تدل عليه كتبه ورسائله.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة أرسلها إلى عبد الرحمن بن عبد الله السويدي من علماء العراق: (أخبرك أني ولله الحمد متبع لست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله به هو: مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، ولكنني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك، مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الذين يدعون عليًا وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه عادات نشئوا عليها ...) إلى آخره. قلت: وهذا الكتاب «المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد» كله دليل على ما تقدم وأذكر هنا مسألة واحدة من هذا الكتاب كمثال على ذلك. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عند قوله ﷺ: «لا تجعلوا قبري عيدا»، وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره ﷺ وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركًا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك. (المختصر المفيد: ص ٢٧٤). وأما ما يتعلق بالسبر والتقسيم للمسائل مع ذكر شروطها وبيان محترزاتها ولا يخفى أن هذه الطريقة في بحث المسائل وفيها من التوضيح والتسهيل الشيء الكثير.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ﵀ في بيان معنى لا إله إلا الله وشروطها: «فلا إله إلا الله هى كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له، ودلت عليه، وقبوله، والانقياد للعمل به، وهى كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة: الأول: العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا. الثاني: اليقين، وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب. الثالث: الإخلاص المنافي للشرك. الرابع: الصدق المانع من النفاق. الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك. السادس: القبول المنافي للرد، فقد يقولها من يعرفها لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها تعصبًا وتكبرًا، كما قد وقع من كثير. السابع: الانقياد بحقوقها، وهى: الأعمال الواجبة إخلاصًا وطلبًا لمرضاته». اهـ. (المختصر المفيد: ٣٧٧). وأما ما يتعلق بالاهتمام بما كان عليه الصحابة والسلف الصالح؛ فقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في بيان ما هم عليه عند الاختلاف الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله ﷺ، ثم ما جاء عن الصحابة والتابعين، في رسالته إلى عبد الله الصنعاني: (أما بعد فقد وصل جوابكم، وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم على ما نحن عليه من الدين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومتابعة الرسول الأمجد، سيد ولد آدم ﷺ، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وأن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ثم إلى أقوال الصحابة ثم التابعين لهم بإحسان، فذلك ما نحن عليه وهو ظاهر عندنا». (الدرر: ٤/ ١٦ - ١٧).
ثالثًا: أن في هذا الكتاب بيان لصور كثيرة مغلوطة مخالفة للكتاب والسنة، مع ضرب الأمثلة العملية من واقع الناس والتي تخالف الصواب، ولا شك أن مثل هذا وهو ذكر الصور المغلوطة مع ضرب الأمثلة الواقعية مما يبين الحق ويوضح الطريق المستقيم، الذي أمر الله ﷿ به عباده أن يسلكوه؛ لأن الكلام على قضايا الإيمان والتوحيد وما يضاد ذلك من الكفر والشرك لا يتبين إلا بذكر الأمثلة من واقع الناس، وعرض هذا الواقع على الكتاب والسنة. ومثال ذلك ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيان حقيقة الدين: اعلم رحمك الله: أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتدَّ. مثال عمل القلب: أن يظن أن هذا الذي عليه أكثر الناس من الاعتقاد في الأحياء والأموات حق، ويستدل بكون أكثر الناس عليه، فهو كافر مكذِّب للنبي ﷺ، ولو لم يتكلَّم بلسانه، ولم يعمل إلاَّ بالتوحيد، وكذلك إذا شك، لا يدري من الحق معه، فهذا لو لم يكذب فهو لم يصدق النبي ﷺ، فهو يقول عسى الله أن يبيِّن الحق، فهو في شك، فهو مرتد ولو لم يتكلَّم إلاَّ بالتوحيد. ومثال اللسان: أن يؤمن بالحق ويحبه، ويكفر بالباطل ويبغضه، ولكنه تكلَّم مداراة لأهل الأحساء، ولأهل مكة أو غيرهم بوجوههم، خوفًا من شرِّهم؛ وإما أن يكتب لهم كلامًا يصرِّح لهم بمدح ما هم عليه، أو بذكر أنه ترك ما هو عليه، ويظن أنه ماكر بهم، وقلبه موقن أنه لا يضره، وهذا أيضًا لغروره.
وهو معنى قول الله تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾، إلى قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ [النحل: ١٠٦، ١٠٧]، فقط لا لتغير عقائدهم. فمن عرف هذا، عرف أن الخطر، خطر عظيم شديد، وعرف شدة الحاجة للتعلم والمذاكرة، وهذا معنى قوله في الإقناع في الردة، نطقًا أو اعتقادًا أو شكًا أو فعلًا، والله أعلم». (المختصر المفيد: ٤٧، ٤٨). وما قاله الشيخ سليمان بن عبد الله من ذكر بعض الصور والأمثلة التي يقع فيها كثير من الناس من تعلقهم بالقبور والبناء عليها: واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلاَّ الله، ما يغضب من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان، كما نبَّه عليه ابن القيم وغيره. فمنها: اعتيادها للصلاة عندها، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك. ومنها: تحري الدعاء عندها. ويقولون: من دعا الله عند قبر فلان استجاب له، وقبر فلان الترياق المجرَّب، وهذا بدعة منكرة. ومنها: ظنهم أن لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء، ويقولون: إن البلاء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين، ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنَّة والإجماع. فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله بهم، سلَّط الله عليهم من انتقم منهم. وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير، جري عليهم عام الحرَّة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر. ومنها: الدخول في لعنة رسول الله ﷺ، باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد كما هو الواقع، ودين الله بضد ذلك.
ومنها: اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء بالرجال، وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات، ويزعمون أن صاحب التربة تحمَّلها عنهم، بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيارة المشايخ، كالبدوي وغيره تقربًا إلى الله بذلك، فهل بعد هذا في الكفر غاية. ومنها: كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك. ومنها: جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج إليه من ترميمها ونحو ذلك. ومنها: إهداء الأموال ونذر النذور لسدنتها العاكفين عليها، الذين هم أهل كل بلية وكفر، فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانًا دعا صاحب التربة فأجابه، واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم. ومنها: جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام. ومنها: الإقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها. ومنها: أن كثيرًا من الزوَّار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له. ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة، بل هذا هو عبادة الأوثان، لأن السجود للقبة عبادة لها، وهو من جنس عبادة النصاري للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل، فإنهم عبدوها ومن هى صورته، وكذلك عباد القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عُبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله ﷿. ومنها: النذر للمدفون فيها، وفرض نصيب من المال والولد، وهذا هو الذي قال الله فيه: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٦]، بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم.
ومنها: أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف، ولهذا لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبًا. ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد، بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين، غلَّظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها. ومنها: سؤال الميت قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والإخلاص له من دون الله في أكثر الحالات. ومنها: التضرع عند مصارع الأموات، والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، وهى المساجد، فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيه أفضل من العبادة والعكوف في المساجد، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها، وهؤلاء يرون العكوف في المشاهد أفضل من العكوف في المساجد. ومنها: أن الذي شرعه الرسول ﷺ في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، كما قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، والإحسان إلى المزور بالترحُّم عليه، والدعاء له والاستغفار، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلبَ عبَّاد القبور الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة: الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت، ولو لم يكن إلاَّ بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها، فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح ﵇ يكره ما يفعله النصاري، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء، يؤذيهم ما يفعله أشباه النصاري عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٥، ٦]. ومنها: محادَّة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير، والإثم العظيم. وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر، إنما حدثت بسبب البناء على القبور، ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحدٌ لا يعتادها لشيء مما ذكر إلاَّ ما شاء الله، وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر، فلذلك غلَّط فيه وأبدأ وأعاد، ولعن من فعله، فالخير والهدى في طاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور، ثم يظن أن النبي ﷺ إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، كما يظنه بعض متأخري الفقهاء، ولو كان ذلك لأجل النجاسة، لكان ذكر المجازر والحشوش، بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى. وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك، التي وقعت من عبَّاد القبور، لما خالفوا ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا، فبئس ما يشترون». (المختصر المفيد: ٢٦٦، ٢٧٠).
رابعًا: في هذا الكتاب بيان لكثير من الشبه التي وقع فيها من ضل عن الطريق المستقيم، وردها بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع القرون المفضلة. قال الشيخ سليمان بن عبد الله: «ولكن لعباد القبور على هذا شبهات، ذكر المصنف كثيرًا منها في «كشف الشبهات» ونحن نذكر هنا ما لم يذكره. فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في «جامعه» حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عثمان بن عمرو، ثنا شعبة عن أبى جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي ﷺ فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك» قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفِّعه فيَّ»، قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلاَّ من رواية أبى جعفر، وهو غير الخطمي، هكذا رواه الترمذي، ورواه النسائي، وابن شاهين، والبيهقي كذلك، وفي بعض الروايات «يا محمد إني أتوجه» إلى آخره. وهذه اللفظة هى التي تعلق بها المشركون، وليست عند هؤلاء الأئمة. قالوا: فلو كان دعاء غير الله شركًا لم يعلم النبي ﷺ الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير الله. والجواب من وجوه:
الأول: أن هذا الحديث من أصله، وإن صححه الترمذي، فإن في ثبوته نظرًا؛ لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم، لكن الترمذي أحسن نقدًا، كما نصّ على ذلك الأئمة، ووجه عدم ثبوته أنه قد نص: أنا أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي، وإذا كان غيره، فهو لا يعرف، ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلاَّ عن ثقة، وهذا فيه نظر، فقد قال عاصم بن علي: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلاَّ عن ثقة لم أحدثكم إلاَّ عن ثلاثة، وفي نسخة عن ثلاثين، ذكره الحافظ العراقي، وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله، ويتوقف الاحتجاج به على ثبوت صحته. الثاني: أنه في غير محل النزاع، فأين طلب الأعمىي من النبي ﷺ أن يدعو له، وتوجهه بدعائه مع حضوره، من دعاء الأموات والسجود لهم ولقبورهم، والتوكل عليهم، والالتجاء إليهم في الشدائد والنذر والذبح لهم، وخطابهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة: يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا؟! فحديث الأعمى شيء، ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر، فليس في حديث الأعمى شيء غير أنه طلب من النبي ﷺ أن يدعو له، ويشفع له، فهو توسل بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في آخره: «اللهم فشفعه فيَّ» فعلم أنه شفع له. وفي رواية أنه طلب من النبي ﷺ أن يدعو له، فدل الحديث على أنه ﷺ شفع له بدعائه، وأن النبي ﷺ أمره هو أن يدعو الله ويسأله قبول شفاعته، فهذا من أعظم الأدلة على أن دعاء غير الله شرك، لأن النبي ﷺ أمره أن يسأل قبول شفاعته، فدل على أن النبي ﷺ لا يدعى، ولأنه ﷺ لم يقدر على شفائه إلاَّ بدعاء الله له.
فأين هذا من تلك الطوام؟، والكلام إنما هو في سؤال الغائب، أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، أما أن تأتي شخصًا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك، فلا إنكار في ذلك، على ما في حديث الأعمى، فالحديث سواء كان صحيحًا أو لا، وسواء ثبت قوله فيه: (يا محمد) أو لا، لا يدل على سؤال الغائب، ولا على سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك، فهو مفتر على الله وعلى رسوله ﷺ، لأنه إن كان سأل النبي ﷺ نفسه، فهو لم يسأل منه إلاَّ ما يقدر عليه، وهو أن يدعو له، وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه، فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من الله به، سواء كان متوجهًا بدعائه، كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح، أو كان متوجهًا بذاته على قول ضعيف. (التوجه إلى الخالق بذوات المخلوقين بدعة منكرة، وأجنبية عن الشريعة وفهم حامليها). فإن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على الله بدعة منكرة، لم تأت عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ولا الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين. قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلاَّ به، وقال أبو يوسف: أكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام. وقال القدوري: المسألة بحق المخلوق لا تجوز، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، واختاره العز بن عبد السلام، إلاَّ في حق النبي ﷺ خاصة إن ثبت الحديث، يشير إلى حديث الأعمي، وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلاَّ أنه توسل بدعائه لا بذاته» (المختصر المفيد: ص ٢٧٦ - ٢٧٩). خامسًا: أن الإكثار من مدارسة هذه القضايا ومناقشتها ودعوة الناس إليها يثمر أمرين مهمين هما:
الأمر الأول: قيام مجتمع متمسك بالإسلام الصحيح على ضوء الكتاب والسنة. قال محمد كرد على رحمه الله تعالى في بيان الثمرة التي نتجت من الدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «وما ابن عبد الوهاب إلا داعية هداهم من الضلال وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدة من بعضهم فهى ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعب من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص مثل هؤلاء القوم، وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم سنين طويلة فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد غلوه». اهـ. وقال طه حسين: (قلت: إن هذا المذهب الجديد قديم، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين ولكنه قديم في حقيقة الأمر، لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصًا لله وحده ملغيًا كل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، كانوا يعظمون القبور، ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله، ويعظمون الأشجار والأحجار، ويرون أن لها من القوة ما ينفع ويضر، وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهلين، فعاشوا من الغزو والحرب ونسوا الزكاة والصلاة، وأصبح الدين اسمًا لا مسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قومًا مسلمين حقًا على نحو ما فعل النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنًا.
ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز فقد دعا صاحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، ثم أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض نفسه على القبائل ثم هاجر إلى الدرعية، وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود واشتغل هو بالعلم والدين، واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته فلما تم له هذا، أخذ يدعو الناس إلى مذهبه فمن أجاب منهم قبل منه ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشب عليه الحرب. وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب وأخلصوا له وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه. «ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جدًا أن يوحد هذا المذهب كله كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب وقد كان هذا الأثر عظيمًا خطيرًا من نواح مختلفة، فهو أيقظ النفوس العربية ووضع أمامها مثلًا أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم والسنان، وهو قد لفت المسلمين جميعًا وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب». اهـ. (ينظر كتاب: محمد بن عبد الوهاب «ص ١٣٠ - ١٣٢» لأحمد عبد الغفور عطار).
وهذا الذي نبه عليه محمد كرد على وطه حسين قد نبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: (ولكنني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الذين يدعون عليًا وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه عادات نشئوا عليها، وأيضًا ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع المنكرات ...». اهـ. (الدرر السنية: ١/ ٨٠). وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀: (فنحن أقمنا الفرائض والشرائع والحدود والتعزيرات، ونصبنا القضاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكرات ونصبنا علم الجهاد على أهل الشرك والعناد فلله الحمد والمنة. (الدرر السنية: ٤/ ١٧). والأمر الثاني: نتج من هذا المجتمع المتمسك بالدين الصحيح دولة تحكم الكتاب والسنة وتدعو إلى ذلك، كما حصل في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀.
وقال عبد العزيز بن محمد بن سعود: (ونأمر جميع رعايانا باتباع كتاب الله وسنة رسوله، وإقام الصلاة في أوقاتها والمحافظة عليها، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ونأمر بجميع ما أمر الله به ورسوله من العدل وإنصاف الضعيف من القوي، ووفاء المكاييل والموازين، وإقامة حدود الله على الشريف والوضيع وننهى عن جميع ما نهى عنه الله ورسوله من البدع والمنكرات، مثل الزنا والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا وأكل مل اليتيم وظلم الناس بعضهم بعضًا ونقاتل لقبول فرائض الله التي اجتمعت عليها الأمة. فمن فعل ما فرض الله عليه فهو أخونا المسلم وإن لم يعرفنا ونعرفه ...». اهـ. وقد قام الشيخ مدحت وفقه الله بجمع كلام أهل العلم على هذه القضايا والمسائل من الدرر السنية ومجموعة الرسائل والمسائل ومجموعة التوحيد وشروح التوحيد وفتاوى اللجنة الدائمة وغيرها من المصادر. وقد رتب كلام أهل العلم وألف بينه، وذكر أبوابًا تزيد في توضيح كلام أهل العلم على هذه القضايا، كما أنه قدم بمقدمات للقضايا التي تم عرضها في هذا الكتاب، مع ختم بعض الأبواب بملخص لما تقدم، فجزاه الله خيرًا وبارك فيه. كتبه عبد الله بن عبد الرحمن السعد
صفحة غير معروفة