36

تهافت العلمانية في الصحافة العربية

الناشر

دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م.

مكان النشر

المنصورة - مصر.

تصانيف

هَذِهِ الخُصُومَةُ قَدْ أَصْبَحَتْ سِمَةً ظاهِرَةً لِفِئَاتٍ مِمَّنْ يَحْمِلُونَ لِوَاءَ الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلاَمِ حَتَّى أَنْسَتْ هَؤُلاَءِ السِّمَةَ الحَقِيقِيَّةَ لِلْمُسْلِمِ هِيَ رَبُّنَا ﴿وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًاّ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ (١). كَمَا أَنْسَتْ هَذِهِ الفِئَاتِ أَنَّ اخْتِلاَفَ وَسَائِلِهَا لاَ يَسْتَتْبِعُ أبدًا غَايَاتَهَا، وَلاَ يَجْعَلَ كُلَّ فِئَةٍ تَظُنُّ أَنَّهَا وَحْدَهَا الفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ وَأَنَّهَا وَحْدَهَا جَمَاعَةَ الحَقِّ وَمَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ. فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي وَسَائِلِ تَحْقِيقِ الغَايَةِ التِي يَنْشُدُهَا كُلُّ مُسْلِمٍ وَهِيَ مَرْضَاةُ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ. لَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: " لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ». وَهَكَذَا بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ اجْتِهَادَ الطَّائِفَتَيْنِ، لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا، فَدَلَّ سُكُوتُهُ عَلَى إِقْرَارِ الاِجْتِهَادِ فِي تَنْفِيذِ الأَمْرِ، وَلَكِنَّ الفِئَاتَ المُخْتَلِفَةَ فِي الوَسَائِلِ تَهْدُرُ هَذَا المَنْهَجَ القَوِيمَ بِأُسْلُوبِهَا العَمَلِيِّ وَهُوَ الخِصَامُ. كَمَا تَجَلَّى هَذَا المَنْهَجُ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدُ، وْابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالحَاكِمُ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ العَاصِ قَالَ: اِحْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةَ البُرُودَةِ فَأَشْفَقْتُ إنْ اغْتَسَلْتُ أنْ أَهْلَكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ذَكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ ﷺ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ ﷿ ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: ٢٩]، فَتَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. بِهَذَا السُّكُوتِ أَقَرَّ النَّبِيُّ ﷺ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الخَوْفِ مِنْ حُصُولِ ضَرَرٍ مِنَ المَاءِ إِمَّا لِمَرَضٍ بِالجِلْدِ، أَوْ لِبَرْدٍ يَضُرُّ الإِنْسَانَ إِذَا اسْتَحَمَّ بِهَذَا المَاءِ. كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ اخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ فِي فَهْمِ قَوْلِ النَّبِيِّ " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُصَلِّيَنَّ العَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " وَمِنْ اخْتِلاَفِهِمْ فِي فَهْمِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣]، [المائدة: ٦]. أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أقَرَّ كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى اجْتِهَادِهَا فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ؛ وَبِالتَّالِي فَلاَ تَفْتَرِضُ طَائِفَةٌ أَنَّهَا وَحْدَهَا النَّاجِيَةَ وَأَنَّ غَيْرَهَا خَصْمٌ لَهَا. إِنَّ هَذَا الاِجْتِهَادَ لَيْسَ

(١) [الحشر: ١٠].

1 / 37