النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح
الناشر
دار سحنون للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
مكان النشر
دار السلام للطباعة والنشر
تصانيف
النظرُ الفسيح
عنْدَ مضَائقِ الأَنْظَارِ
في الجامع الصحيح
تَأليفُ
فضِيْلَةِ الشيَّخِ محَّمد الَّطاهرِ ابْنِ عاشوُرِ
1 / 1
كيف كان الوحي إلى رسول الله ﷺ -
وقع في الحديث الثاني قول النبي ﷺ للحارث بن هشام حين سأله [١: ٢، ١١]:
(كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل أي الملك رجلًا، فيكلمني فأعي ما يقول».
الضمير المستتر في قوله: «يأتيني» عائد إلى «الوحي» بتأويله بالملَك المرسل بالوحي، وهو جبريل، كما يقتضيه قوله: «وقد وعَيْت عنه ما قال» فضمير «عنه» والضمير المستتر في «ما قال» لا يصلحان إلا للعود إلى «الملك»، وقد صرح باسم «الملك» في قوله: «وأحيانًا يتمثَّل لي الملك»، وإنما لم يقل: وأحيانًا يتمثَّل لي، بإضمار ضمير «الملك» كما قال قبله: «يأتيني»، وقال: «وقد وعيت عنه» للتصريح بأن الذي يتمثل هو الملك وليس رجلًا من الرجال يتمثَّل فيه الوحي.
ولم أر من عرَّج على بيان موقع اختلاف حَاليْ الوحي؛ بين حال شدة وأهون منه وقد ثبت في حديث: أولُ ما نَزَلَ من الوحي أن الملك جاءه في غار حراء وأنه أقرأه وغطَّه ثلاثًا، ثم قال: اقرأ فقرأ. وكان حال الابتداء أنسب بأن يكون الأشدُّ عليه من الوحي؛ فليست الحالة الشديدة إذن لأجل قلَّة تعوَّد؛ ولذلك تعين أن أشدَّ الحالين يكون عند نزول قرآن طويل بأن تنزل سورة كاملة، مثل سورة الأنعام، أو ينزل معظم سورة، فجعل الله لذلك حالة شديدة؛ للاتصال الملكي بقلب النبي ﷺ، فإنَّ القرآن لا ينزل إلا بواسطة الملَك، قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٣، ١٩٤]، وبذلك يظهر وجه الاختلاف في التعبير بين قوله: «فيصم عني وقد وعيت عنه ما قال» وبين قوله: «فيكلمني فأعي ما يقول»؛ إذ جاء في العبارة الأولى بجملة حالية مقترفة بحرف (قد) وهي تؤذن بغرابة ذلك الوعي وصعوبته بخلاف العبارة الثانية.
وأما قوله: «وهو أشد علي» فإنما كان أشدُّ لعَرائه عن تمثل ملك الوحي في صورة رجل؛ لأن ذلك التمثل وإلقاء الوحي في صورة التكليم آنسُ للاتصال الروحاني بعالم الوحي؛ لأنه كيفية قريبة من معتاد النفوس كما ذكر علماء المعاني في فائدة تشبيه المعقول بالمحسوس.
* * *
1 / 5
ووقع في حديث عائشة في بَدْء الوحي قول خديجة [١: ٣، ١٦]:
(وتعين على نوائب الحق).
لم أر شرحًا لهذه الجملة شافيًا في شروح الصحيحين وكتب غريب الحديث واللغة، ولا يزيدون على بيان معنى النوائب، دون تعرض إلى معنى إضافة النوائب إلى الحق، ولا إلى المراد من الحق ما هو؛ فإن الحق له معان كثيرة.
ويظهر أن هذه الكلمة مع التراكيب المذكورة مما جرى مجرى الأمثال في كلام العرب؛ ولذلك كان نظمه على إيجاز بالغ، شأن الأمثال، فقد وقع نظير هذا الكلام في كلام ابن الدَّغُنَّة سيد أهل القارة مع أبي بكر الصِّدِّيق في الحديث الذي أخرجه البخاري في «باب جو ابن الدغنة لأبي بكر» [٣: ١٢٧، ٣] في كتاب الحوالة عن عائشة.
والذي يظهر أن «الحق» هنا ما قابل الباطل، وأن «نوائب» مراد به المعنى الاسمي دون الوصفي؛ فإضافة «نوائب» إلى «الحق» إضافة محضة وليست إضافة لفظية؛ لأن (نائبة) عوملت معاملة الأسماء وتنوسي منها أصل الوصفية فلم تكن إضافتها من إضافة اسم الفاعل؛ ولذلك فإضافتها هنا على نية معنى اللام التي تقدر في الإضافة غالبًا؛ وهي لام الملك، أي هي نوائب يملكها الحقُّ، أي يَمْلِكُ الحقُّ حالةً تشتمل عليها تلك النوائب، فشُبِّه الحق بمالك شيء وكانت النَّائبة، أي النازلة لأجله.
وحرف «على» مؤذن بأن الإعانة في أمر عسير شاق؛ لأن معنى «على» الاستعلاء، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن.
وفعل الإعانة يُعدَّى بحرف «على» إما إلى المطلوب بحقِّ، نحو: أعانت بنو أسد ذبيان على عبس، وإما إلى تحصيل الشيء المطلوب، كقوله تعالى: ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤]؛ أي أعانوه على تأليف القرآن.
واسم «نوائب» يشعر بحوادث انتابت وجّدَّت.
وإضافتها إلى «الحق» يشعر بمعنى أوجدها لحق وقام بها، أي أن حقًّا اعتدي عليه فقام لاسترجاعه، وهذه النوائب مثل مساعي الديات والصلح عن التراب في
1 / 6
القتل خطأً وعمدًا ومساعي الصلح بين المتحاربين.
فالتقدير: وتُعين صاحب الحق على تحصيل حقه لمن عليه في نوازل الحق وتحصيله عند نوائبه؛ فوقع في الكلام حذف متكرر يدل عليه السياق. وهذا شأن الأمثال.
* * *
1 / 7
كتاب الإيمان
باب الصلاة من الإيمان
وقع فيه قول البراء ﵃[١: ١٦، ١٨]:
(وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر).
فلم يفصح الشراح عن مراده، وأنه أراد بـ «أول صلاة»: الأول منها، أي جزؤها الأول، أي أنه صلى أول العصر متوجهًا إلى الشام، واستدار في أثناء الصلاة إلى جهة الكعبة، فإضافة «أول» إلى «صلاة» من إضافة الجزء إلى الكلِّ لا من إضافة الصفة إلى الموصوف.
ويتعين أن يكون قوله: «صلاة العصر» مجرورًا على البدلية من «صلاةِ»، والتقدير: صلى أولى صلاة العصر.
ووقع في الحديث اختصار، وسيجيئ في كتاب التفسير أن أبا نعيم روى حديث البراء [٦: ١٣، ٢٥] بلفظ «وأنَّه صلَّى أو صَلَّاها صَلاَة العَصْر» بـ «أو» التي للشك وسنذكره هنالك.
* * *
باب أداء الخُمُسِ من الإيمان
قوله في حديث وفد عبد القيس [١: ٢١، ٥]:
(فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع؛ أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تغطوا من المغنم الخمس». ونهاهم عن أربع؛ عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت ... إلخ).
1 / 9
فيه إشكالان:
أحدهما: أنه ذكر أنه أمرهم بأربع فلما عدَّ المأمورات عدَّ خَمْسَا.
وثانيهما: وجه الاقتصار في المنهيات عن الأواني المنتبذ فيها.
والذي يبدو لي في وجه دفع الإشكال الأول أن القوم كانوا قد آمنوا، فالإيمان حاصل لهم، فليسوا بمأمورين به، وإنما المأمور به مَن وراءهم الذين لم يؤمنوا بعدُ، فالأشياء المأمور بها هي ما عدا الإيمان؛ لأنها التي يشترك في الائتمار بها المخاطبون وغيرهم، وهي الأعمال التي قد يتهاون الناس في إقامتها، وهي: الصلاة، والصيام، والزكاة، وإعطاء خمس المغنم؛ فالابتداء بذكر الإيمان للاهتمام بأمره، إذ الأعمال فرع عنه، فهو كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [البلد: ١٧]، بعد قوله: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: ١٣] الآية.
وفي دفع الإشكال الثاني أنَّه جواب عن سؤالهم المحكي في الرواية بقوله: «وسَألوه عن الأشربة». ولعل من لطائف انحصار المنهيات منها في الأربع مقابلتها بالأربع المأمورات ليحصل في الكلام من التنظير ما يؤثر وعي الحفظ له.
واعلم أن الوجه أن يكون قوله: «وأقام الصلاة» مجرورًا عطفًا على قوله: «أمَرهم بالإيمانِ بالله» وليس مرفوعًا على قوله: «شهادةُ أن لا إله إلا الله».
وهذا يخالف رأي البخاري إذ ترجم بقوله: «أداء الخُمُس من الإيمان». وإنما عدلت عنه إتباعًا لاستقامة نظم الحديث. على أننا لا نوافق البخاري في اعتبار الأعمال من الإيمان. وليس على ذلك رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري ﵀.
* * *
باب قول النبي ﷺ -
«الدين النصيحة لله ولرسوله ....» إلخ [١: ٢٢، ٤]
نسب البخاري هذا القول إلى النبي ﷺ، ولمن يثبته حديثًا؛ لأنه على غير شرطه، فكان الظاهر أن لا يجزم بنسبته إلى النبي؛ فلعلَّ البخاري ترجمه وبقي يتطلب الظفر بسند فيه على شرطه فلم يعثر عليه فبقي كذلك في الجامع.
* * *
1 / 10
كتاب العلم
باب القراءة والعرض على المُحَدث
وقع فيه قول البخاري [١: ٢٤، ت (٤)]:
(قال أبُو عَبْد الله): سَمِعْتُ أَبَا عاصمٍ يَقولُ عَنْ سُفْيَانَ الثّورِيِّ ومَالكٍ: أنهما كانا يريان القراءة والسماع جائزًا).
أي قراءة الراوي على المحدث وسماع الراوي من المحدث. والمذكور عن مالك أنه كان يرجع العَرْض، أي قراءة الراوي والمحدث يسمع على سماع الراوي من المحدث، ذكر ذلك عياض في باب صفة مجلس مالك من كتاب المدارك: «أن رجلًا خراسانيًا جاء إلى المدينة لسماع الحديث من مالك فوجد الناس يعرضون عليه ولا يقرأ هو عليهم، فسأل مالكًا أن يقرأ عليه فأبى، فاستعدى قاضيَ المدينة، وقال: جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا، فحكم القاضي على مالك أن يقرأ له. فقيل لمالك: أأصاب القاضي؟ قال: نعم».
باب فضل العلم
وقع فيه قول النبي ﷺ[١: ٣١، ٥]:
(«بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب» قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم»).
قوله: «حَتَّى إِنِّي لأرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ في أظْفَارِي» هو نظر في رؤيا المنام، حيث تتمثل للمرء أشياء غير معتادة في عالم اليقظة، وهذه رؤيا وحي رمزية تمثل فيها أمر معنوي وهو الريُّ بالأمر الحسي، أي أنظر إلى الري يسري تحت جلدي أو في جسدي حتى ملأه فخرج من الأظفار، وهي أطراف البدن. فليس قوله: «يَخْرُجُ
1 / 11
في أظْفَارِي جاريًا على استعارة مألوفة في كلام العرب؛ إذ ليس الري بالذي يخرج من الجسد ولا بالذي يشاهد سريانه في الجلد أو الأصابع، فخروج الري من الأظفار رمز معنوي لامتلاء الجسد، بحيث لم يبق موضع فيه محتاج لزيادة الري. وهذا رمز لعموم تعلق العلم بذات النبي ﷺ.
ومن دقائق هذه الرؤيا أن كان تمثيل العلم فيها باللبن؛ لأنه غذاء للجسم لطيف، وكذلك العلم غذاء للعقل لطيف؛ ولأن اللبن هو غذاء الإنسان في الفطرة، والعلم الذي أتيه النبي ﷺ هو علم الدين وآدابه الذي هو ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠].
وفيه أن عمر بن الخطاب اكتسب من صحبة النبي ﷺ علم الشريعة وآدابها كما يكتسب شارب اللبن تغذية. وقد قصر شراح الصحيحين في إعطاء هذا الحديث حقه من البيان.
* * *
باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟
وقع في حديث سؤال سعيد بن جبير ابنَ عباس [١: ٤١، ١١]:
(إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى (صاحب الخضر) ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر).
فوقع في بعض الروايات ضبط قوله: «موسى آخر» منونًا، وهو خطأ، توهَّم أنه صار نكرة، فلم يمتنع من الصرف، والصواب أنه بدون تنوين؛ لأنه علم أعجمي، وإنما معنى أنه «موسى آخر» أنه مسمى آخر بهذا العلَم.
* * *
ووقع فيه [١: ٤١، ٩]:
(فصال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر».
1 / 12
ورد عليه أنه يقضي نقصًا؛ وإن كان نزرًا، فما هو إلا نقص ولم يدفعوه بما ترتاح له النفس.
ووجه دفعه عندي: أن الكلام لا محالة تشبيه معقول بمحسوس، فالعمدة في المشبه به على الحسَّ لا على ما في نفس الأمر والواقع. والحسُّ لا يظهر له في نقر العصفور نقرة من البحر نقص شيء من البحر، فلا يرد الإشكال جريًا على معروف الاستعمال.
* * *
1 / 13
كتاب الوضوء
باب التخفيف في الوضوء
فيه حديث عمرو بن دينار عن ابن عباس [١: ٤٧، ٣]:
(فنام النبي فلما كان بعض الليل قام رسول الله ﷺ فتوضأ وضوءًا خفيفًا، يخففه عمرو ويقلله جدًا).
لا شك أن وصف الخفيف من كلام ابن عباس، وأن قوله: «يخففه عمر ويقلله» أن عمرًا يحكي هيئة ابن عباس حين وصف الوضوء بالخفة، فقرن وصفه بإشارة باليد أو الوجه إلى أنه خفيف بدون إطلاق الخفة على وجه المبالغة.
ومعنى كونه خفيفًا يحتمل أنه تجديد لوضوء لم ينتقض؛ لأن نوم الرسول ﷺ لا ينقض وضوؤه؛ فيكون التجديد لأجل النوم، كما قال مالك في الذي تمرُّ يده على ذكره عند تدلُّك الغسل: إنه يمرُّ بيديه على مواضع الوضوء بالماء. ويؤيد هذا قول عمرو بن دينار عقبه [١: ٤٧، ٨]: «إن النبي ﷺ تنام عيناه ولا ينام قلبه وأن رؤيا الأنبياء وحي».
ويحتمل أن ابن عباس أراد أن وضوء رسول الله ﷺ لم يكن مبالغًا فيه، كما يفعل الناس من كثرة تعمُّقهم، كما جاء في حديث جابر في كتاب الغسل لمَّا استفتاه رجل في مقدار ماء الغسل؛ فقال جابر [١: ٧٢، ١٩]: «يكفيك صاغ، فقال رجل: ما يكفيني، إني رجل كثير الشعر، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرًا وخير منك». فكانوا يسرفون في الماء وكثرة الدلك. فيكون ابن عباس أو عمرو بن دينار أراد التعريض بهم.
ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قولُ ابن عباس في رواية كريب عنه هذا الحديث الآتي في باب قراءة القرآن بعد الحديث: أن ابن عباس قال [١: ٥٧، ٨]: فتوضأ رسول الله ﷺ فأحسن الوضوء. وهذا الاحتمال الثاني هو الأظهر عندي.
* * *
1 / 14
باب وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة [١: ٢١٨، ١١]
وباب خروج النساء إلى المساجد [١: ٢١٩، ٢]
وقع فيهما حديث عائشة ﵃:
(أعتم رسول الله ﷺ بالعتمة حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان، فخرج النبي ﷺ، فقال: «ما ينتظرها أحدغيركم من أهل الأرض». وفي رواية: «ليس أحد يصلي هذه الصلاة غيركم ولم يكن أحد يومئذ يصلي غير أهل المدينة»).
أقول: زيادة «ولم يكن أحد يومئذ يصلي غير أهل المدينة» أو «ولا يصلي يومئذ إلا بالمدينة»، وفي رواية: «قبل أن يفشوَ الإسلام». هذه العبارة مدرجة في الحديث، ولم يتعرض لشرحها أحد من شارحي صحيح البخاري سوى كلمات للكوراني ولا من شارحي صحيح مسلم. وليست من كلام النبي ﷺ. والأظهر أنها ليست من كلام عائشة؛ فإن البخاري خرَّج هذا الحديث في «باب النوم قبل العشاء لمن غُلب» عن أيوب بن سليمان عن أبي بكر عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب فجاء فيه [١: ١٤٩، ١١]: «قال: ولا يُصّلى يومئذ إلا بالمدينة» بتذكير فعل (قال)، وذلك يمنع من أن يكون القائل عائشة. ولا التفات إلى ما تأوَّله القسطلاني بأن المراد: قال الراوي: أي عائشة؛ وإن كان ظاهر رواية البخاري عن يحي بن بُكَير في باب فضل العشاء [١: ١٤٨، ١٤] أنه من كلام عائشة إذا وقع فيه: «وذلك قبل أن يفشو الإسلام» في أثناء الحديث المروي عن عائشة، لكن الإدراج قد يكون في وسط الكلام.
المقصود من كلامنا هذا استبعاد أن يكون هذا الإدراج من قول عائشة؛ فإن فهمها معروف بالإصابة، إذ ليس في قول النبي ﷺ إيهام يقتضي هذا الإدراج إلا أن يكون في رواية «ليس أحد من أهل الأرض يصلَّي هذه الصلاة غيركم»؛ إذا فهم الراوي أن المراد بالصلاة الصلاة من حيث هي صلاة، أو المراد صلاة العشاء من حيث هي عشاء؛ فقصد الراوي دفع هذا الإبهام، فإن أهل الصلاة، أعني المسلمين يومئذ، لا يوجدون في غير المدينة، ولكن ليس هذا مرادَ النبي ﷺ وإنما أراد أنه ليس يصلي العشاء في تلك الساعة غير الذين معه في المسجد النبوي؛
1 / 15
لأن جميع المسلمين صلوا العشاء في وقتها المعتاد وناموا، كما يفسره قوله ﷺ في حديث أنس عند مسلم: «أِنَّ النَّاسَ قّدْ صَلَّوْا ونَامُوا .... إلخ».
ومعنى الحديث: أنكم انفردتم بصلاة العشاء في تلك الساعة بعد انتظارها زمنًا طويلًا، فكنتم في عبادة لله مستطيلة لا يشارككم فيها غيركم ثم أعقبها أداء صلاة العشاء، وكان تأخيرها لانتظارهم النبي ﷺ. فهم في انتظارهم كانوا في عبادة، ومترقبين عبادة؛ وذلك لأجل عبادة، وهي فضيلة الجماعة، وكونها مع النبي ﷺ. فقد انفردوا بتلك الخصَّيصية، وكانت لهم أجور كثيرة لم ينلها غيرهم.
وما كان تأخير النبي ﷺ العشاء إلا لفائدة دينية؛ وهي: إما لتلقي وحي، أو تدبير أمر، أو لقصد إعلامهم بفضيلة ذلك الوقت لولا أنه يشق على الناس. وهذه بشارة لهم وجبر لما لحقهم من المشقة في الانتظار على عمل خاص بهم؛ فلا حاجة إلى قول الراوي: «ولم يكن أحد يصلَّي غير أهل المدينة». والخطاب للحاضرين بالمسجد النبوي، وبذلك يندفع ما عرض من إشكال من أن في مكة المستضعفين من المسلمين، وكانوا يصلون بمكة. ومعلوم أن هذه البشارة لا تشمل جميع أهل المدينة ممن كانوا صلوا في مسجد قباء وفي بيوتهم.
على أن أبا موسى الأشعري روى هذه القصة، وذلك بعد رجوعه من الحبشة، هو وأهل سفينته. وقد وافق رجوعه فتح خيبر، وقد انتشر الإسلام يومئذ في المدينة وما حولها من قبائل الأعراب، وفي المهاجرين بالحبشة. وذلك يبطل قول الراوي في حديث عائشة: «ولم يكن أحدٌ يومئذ يصلَّي غير أهل المدينة» فهذا إدراج لا داعي إليه.
* * *
1 / 16
كتاب الصلاة
باب الصلاة في القميص
وقع في حديث عمر بن الخطاب قوله [١: ١٠٢، ٩]:
(جمع رحل عليه صيابه).
وقد لها الشارحون عن تفسيرذلك. والمعنى: ليلبس المصلّى ثوبين: ثوبًا لنصفه الأعلى، وثوبًا لنصفه الأسفل، وعمامة. يقال: جمع ثيابه، إذا لبس ما شأنه أن يلبسه عند الخروج. وقد جاء في حديث الإيلاء قول عمر [٧: ٣٧، ١]: «ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ». وقد جاء به مجملًا. ثم بينه بقوله: «صلى رجل في إزار ورداء» إلى آخره.
والخبر هنا مستعمل في إنشاء الاستحسان؛ لأن الذي يستحسن شيئًا يخبر عنه، ويحدث الناس به، فاستعمل الخبر هنا في ذلك، ولا إخبار، فهو مجاز مرسل تمثيلي، وقرينته أنه ليس في الكلام مخبر عنه، فإن الفاعل نكرة مجهولة، ونظيره قوله ﷺ: أحسن من جعل الخير للأمر. ونظيره قول ابن العميد:
قامت تظَلَّلني من الشمس ... نفس أعزَّ عليَّ من نفسي
ويقال: جمعت المرأة عليها ثيابها، إذا لبست الإزار والدرع والخمار والملحفة.
* * *
باب الصلاة في الثوب الأحمر [١: ١٠٥، ١٠]
الظاهر أن البخاري أراد بهذه الترجمة، والحديث الذي أخرجه فيها، أن يشير إلى أن ما ورد في الحديث من النهي عن لبس الأرجوان قد نُسخ، وسنبين ذلك في موضعه من كتاب اللباس، فهو هنا من فعل النبي ﷺ، فيدخل في التأسي.
* * *
1 / 17
باب الصلاة في السطوح
فيه حديث أنس بن مالك [١: ١٠٦، ١٠]:
«أن رسول الله ﷺ سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه والي من نسائه شهرًا فجلس في مشربة له درجتها من جذوع النخل ... إلخ».
لم يصف الذين وصفوا بيوت رسول الله ﷺ هذه المشربة، ولعلها كانت الحجرات تفتح إلى المسجد، إذ لم يرد أن رسول الله ﷺ انقطع عن الصلاة بالناس في مسجده، ثم أزيلت هذه المشربة وأقيم في مكانها بعض الحجرات عند الاحتياج إلى ذلك، فلعلَّها لذلك لم يرد ذكرها في غير هذا الحديث.
* * *
باب التوجه نحو القبلة
وقع في حديث البراء ﵁[١: ١١٠، ١٢]:
(وقال السفهاء من الناس (وهم اليهود) ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
لم يذكر هذا عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء، وفي رواية زهير عن أبي إسحاق في كتاب الإيمان [١: ١٧، ١]: «وكانت اليهود قد أعجبهم؛ إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولَّى وجهه قِبَل البيت أنكروا ذلك». ولا يوجد شيء من هذين في رواية غير هذين، فقد رواه سفيان وأبو زائدة وأبو بكر بن عياش وزهير في رواية أخرى، كل هؤلاء عن أبي إسحاق بدون هذه الزيادة، كما في صحيح مسلم والترمذي وابن ماجه.
* * *
باب التعاون في بناء المسجد
وقع في حديث أبي سعيد الخُدري عن بناء المسجد النبوي قول رسول الله ﷺ[١: ١٢٢، ٢]:
1 / 18
«ويح عمار .... يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»، قال: «يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن»
كلمة (ويح) للتعجب. رأى رسول الله ﷺ اشتداد عمَّار في بناء المسجد، وذكر قوة إيمانه أيام كان بمكة يعذبه المشركون، ويعذبون أمه سُمَيَّة على الإسلام حتى اضطروه إلى كتمان إسلامه، واقتنعوا منه بذلك، ونزل فيه قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦]. فكان في حالة تلك شبيهًا بحال مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه حين قال لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ [غافر: ٤١]، أي أدعوكم إلى الإيمان وتدعونني إلى البقاء على الكفر.
فشبه رسول الله ﷺ حال عمَّار تلك بحال مؤمن آل فرعون تشبيهًا تمثيليًا مَكنيا، أي مضمرًا في النفس. ورمز إليه بذكر ما عُرف عند السامعين من أحوال قصة مؤمن آل فرعون، وهو أنه يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النَّار. فاقتبسها لحال عمَّار مع المشركين، يذكِّره رسول الله ﷺ بسابق ثباته على إيمانه، ويشبهه بالمخلصين من سلف أهل الإيمان، ويذكر له مزيته في ذلك الجم الغفير، حين بناء المسجد، فلذلك يقول عمار، وقد ذكر حاله السالفة: «أعوذ الله من الفتن» أي من العود إلى الافتتان في الدين، فضمير الجمع في قوله: «يدعوهم- ويدعونه» عائد إلى المشركين المستفاد من المقام من ذكر حال عمار ومنقبته. ومن زعم أن كلام الرسول ﷺ إنذار لعمَّار بما يحصل له مع أصحاب معاوية ﵁، فقد أخطأ؛ إذ لا يستقيم شيء منه، لأن عمارًا لم يدع أهل الشام إلى دعوة، ولا دعاة أهل الشام، ولا جنة ولا نار في حال الفريقين؛ لأن ما جرى بينهم إنما هي تصاريف من الاجتهاد في التصرف في أمور الجامعة الإسلامية، وكلا الفريقين مأجور. وذلك اعتقاد سلفنا من أئمة الهدى.
وأما ما ورد «أن عمارًا تقتله الفئة الباغية» فلم يصح؛ على أنه لو صحَّ لكان أمرًا آخر غير ما نحن بصدده.
* * *
1 / 19
باب النوم قبل العشاء
فيه قول ابن عمر ﵁[١: ١٤٩، ١٤]:
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ شُغِلَ عَنهَا لَيلَةً).
أي عن العشاء، ولم يتقدم ذكرها في الحديث، فلعله رواه ابن جريج أوغيره من رجال سنده مع حديث آخر فيه ذكر العشاء، فوقع هكذا عند البخاري فأثبته على ما قيده أو على ما سمعه.
ويحتمل أن ابن عمر كان يحدث عن العشاء، أو سُئل عنها، فقال: «إن رسول الله ﷺ شُغل عنها ليلة» فحدَّث به نافع كما سمعه.
ويحتمل أن ابن عمر أضمر من دون تقدُّم معاد؛ اعتمادًا على القرينة، وهي قوله: «ليلة»، على حدِّ قوله تعالى: ﴿تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: ٣٢] أي الشمس.
* * *
باب إذا كان بين الإمام
وبين القوم حائط أو سترة
فائدة مشروعية الجماعة في الصلوات حصول بركة تجمع المسلمين على الخير؛ لأن فيه نشاطا للإقبال على العبادة وتعارفًا بين المسلمين، وتعرضًا للتعاون على ما يهمهم إن شاؤوا، وتمكنًا من التعلم من إمامهم واستفتائه. وعلى مراعاة حصول هذا الاعتبار وفواته يكون حكم الحواجز والستائر التي تحصل بين المصلين وإمامهم أو بين بعض صفوفهم.
وملاك ذلك أن ما يكون من الستائر والحوائل غير مانع من سماع القراءة والخطبة، وبلوغ العلم للسامعين، وإمكان تفاوض بعضهم مع بعض. وهذا مثل أساطين المسجد، وانتصاب المنبر والدكات، وجداول الماء، فذلك مغتفر. فإن كان من الحوائل المانعة من ذلك، كجدران الدور المجاورة المسجد، والأنهار الواسعة، كان ذلك مانعًا من انعقاد الجماعة بالنسبة للطائفة المنعزلة عن الإمام ومن معه.
* * *
1 / 20
قوله في حديث عمرة عن عائشة ﵃[١: ١٨٦، ٣]:
(كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأي الناس شخص النبي ﷺ فقام أناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام الليل الثانية فقام معه أناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثًا حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله ﷺ فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال: «إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل»).
في قوله ﷺ «إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل» إشكال شائع. وهو أنه كيف يكون فرض العبادة تبعًا للمواظبة عليها. وقد أجاب العلماء عنه وعن نظائره بأجوبة غير مطمئنة، والذي أرى في دفعه: أن الله قد ضمن لرسوله ﷺ أن لا يحمل أمته ما فيه عسر بصريح قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥].
فرسول الله آمن من أن يفرض الله على الأمة عملًا فيه عسر. فالمعنى: أنهم لو واظبوا على قيام الليل لخفَّ عليهم بالتعود فانتفى العسر عنهم فتزول الأمارة التي يطمئن لها الرسول ﷺ في انتفاء الإيجاب، وهي عسر العبادة فخشي أن يفرضها الله عليهم ثم لا يستطيعون استدامتها، أو لا يستطيعها من يأتي بعدهم.
ورواية عمرة عن عائشة قولها: «كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير».
قولها: «وجدار الحجرة قصير» يعين أن المراد بالحجرة المذكورة في هذا الحديث هي الموضع الذي احتجره رسول الله ﷺ بالمسجد لصلاة الليل لا حجرة بيته، كما يفسره حديث زيد بن ثابت الموالي لهذا [١: ١٨٦، ١٣]: «أن رسول الله ﷺ اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي ....» إلخ.
وفي حديث أبي سلمة عن عائشة [١: ١٨٦، ١١]: «أن النبي ﷺ كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجزه بالليل» فتعين أن قوله في حديث عمرة: «في حجرته» الموهم أنها حجرة بيته يفسره ما في حديثي أبي سلمة وزيد بن ثابت. والكلام الذي خاطب به رسول الله ﷺ الناس الذين صلوا بصلاته متماثل في الأحاديث الثلاثة. وذلك يؤيد أن القصة واحدة.
* * *
1 / 21
أبواب إتمام التكبير
في الركوع والسجود والقيام من السجود
احتفل البخاري بأحاديث التكبير في أركان الصلاة لأجل ما حصل من خلاف بين السلف فيما عدا تكبير الإحرام في وُجوبهٍ وسنيته، وفي إيقاع وعدم إيقاعه. وقد كان من الشائع عن السلف عدم التفرقة في المأمورات بين الوجوب والاستحباب. وقد دلَّ حديث عمران بن حصين المذكور هنا على ذلك إذ قال [١: ١٩٩، ١٣]: «قد ذكرني هذا (يعني عليا صلاة محمد عليه الصلاة والسلم»، فدلَّ على أنَّ بعض التكبير كان قد تهاون به الناس. ولم أظفر بتعيين بعض من كانوا يتركون التكبير في بعض الأركان عدا الإحرام. ولعل منهم من كان لا يرى تكبير الرفع من السجود قياسًا على تركه في الرفع من الركوع.
* * *
باب التكبير إذا قام من السجود
جاء فيه أن عكرمة صلى خلف شيخ بمكة صلاة رباعية فكبَّر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقال عكرمة لابن عباس [١: ١٩٩، ١٩]: «إِنَّهُ أَحْمَقُ»، فما ذلك إلا لأنه استنكر عليه كثرة التكبير في الصلاة وأن ابن عباس قال له: «ثكلتك أمك سنة أبي القاسم ﷺ».
ولعل عكرمة كان لا يرى التكبير في الرفع من السجود، بناءٌ على أن الرفع من السجود ليس بعبادة؛ لأنه تنبيه للسجود. وبهذا يؤذن صنيع البخاري، إذ ذكر كلام عكرمة تحت ترجمة «التكبير إذا قام من السجود».
تنبيه: قول ابن عباس لعكرمة: «ثكلتك أمك سنة أبي القاسم» زجرٌ له عن جعله التكبير من الحماقة؛ لأنه جهل أنه سنة متروكة، ولم يؤاخذ ابن عباس بأكثر من ذلك؛ لأنه حين أنكر ما أنكر لم يكن يعلم أن ذلك سُنَّة.
وفيه: أن من أنكر عن جهل، وكان من أهل العلم، لا يؤاخذ بلازم قوله من جعل مماثل فعل النبي حُمقًا، فيستتاب، ولكنه يُعَلَّم ويوقف لظهور حسن المقصد.
* * *
1 / 22
كتاب العيدين
باب الدعاء في العيد
وقع في حديث عائشة ﵂ [٢: ٢١، ٣]:
(قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله ﷺ وذلك في يوم عيد- فقال رسول الله ﷺ «يا أبا بكر إن لكل قوم عيد وهذا عيدنا»
كلام رسول الله ﷺ خرج على طريق الكناية؛ إذ كان أبو بكر يعلم أنه يوم عيد، فالمقصود لازم ذلك في العرف، وهو أن لكل قوم في عيدهم فرحًا ومسرة وشيئًا من اللَّهو. فقوله: «وَهَذَا عِيدُنَا» إعلام بالرخصة في غناء الجاريتين، لأجل كون اليوم يوم عيد.
وفيه إيماء إلى علة الترخيص، وهو أن من جملة المقاصد في جعل العيد إِجْمَامَ النفوس وارتياحها.
* * *
باب فضل العمل في أيام التشريق
[٢: ٢٤، ٢٠]: (عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر»، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وما له فلم يرجع بشيء»).
قوله: «فلم يرجع بشيء»، أي بشيء من نفسه وماله، أي قتل وأخذ سَلَبُه. وهو إيماء إلى فضل الشهادة.
أثبت صدر الكلام أن جميع الأعمال في أيام العشر من ذي الحجة تقع أفضل منها لو وقعت في غير تلك الأيام، وأن الأعمال في غير تلك الأيام ما بلغت لا تكون أفضل من نوعها في هذا العشر.
1 / 23
فالمقصود تفاضل أنواع الأعمال، وليس المقصود أن أنواع الأعمال لا تتفاوت إذا وقعت في أيام العشر، وقول السائل نشأ عن اعتقاد أن فضل الجهاد لعظمة قدره لا يقبل التفاوت، فلا يكون الجهاد الواقع في الأيام العشر أفضل من الجهاد في غيرها، فبيَّن له رسول الله ﷺ أن الجهاد كغيره من الأعمال إذا وقع في هذه الأيام كان أفضل منه إذا وقع في غيرها.
فقول السائل: «ولا الجهاد؟» عطف تلقين على قوله ﷺ: «ما العمل؟» فيكون التقدير: ما الأعمال ولا الجهاد في أيام بأفضل من أنواعه في هذه الأيام، ولو بلغ ما بلغ من صفات الكمال غير الزمان.
ثم استثنى رسول الله ﷺ جهادًا يقع على صفة عظيمة فيكون بذلك أفضل من نوعه إذا وقع في الأيام العشر على غير تلك الصفة، وهو الجهاد الذي تعقبه الشهادة في غير أيام العشر، فهو أفضل من جهاد لا تعقبه الشهادة في أيام العشر. فهذا نوع واحد من العمل تفاضل بصفته ولم يتفاضل بوقوعه في أيام العشر.
ثم من المعلوم أن الجهاد المعقب بالشهادة في أيام العشر هو أفضل من مثله الواقع في غير أيام العشر. فقد استوعب هذا الكلام النبوي الأقسام كلها بمنطوقه ومفهومه وفحواه.
* * *
باب العلم الذي بالمصلى
وقع فيه قول ابن عباس [٢: ٢٦، ١٧]:
(شهِدتُ الْعِيدَ مَعَ رسول الله ﷺ وَلَوْلا مكانِي مِنَ الصَّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ).
فالمكان فيه بمعنى القرب. يقول العرب: لفلان مكان عند فلان، ويقولون: مكانه أيضًا، كما يقال: دار ودارة، فهو مجاز مرسل عن الملازمة والقرب. والمراد: مكاني من النبي ﷺ كما ثبت في رواية أخرى: «ولولا مَكَانِي منه».
وقوله: «مِنَ الصِّغَر» متعلق بـ «شهدتُه»، و(من) فيه تعليلية للفعل المنفي، أي ما شهدتُ العيد، إذ لا يشهده الصغار. والمعنى: أنه شهده لما له من التقرب إلى رسول الله ﷺ.
* * *
1 / 24