ولئن كان يريد غير هذا مِمَّا يستغربه «العقل»، فإن «استغراب» العقل شيئًا أمر نسبي يتبع الثقافة والبيئة وغير ذلك مِمَّا لا يضبطه ضابط ولا يحدده مقياس. وكثيرًا ما يكون الشيء مستغربًا عند إنسان، طبيعيًا عند إنسان آخر ولا يزال الذين سمعوا بالسيارة في بلادنا، واستغربوها قبل أن يروها، لأنها تسير من غير خيول تقودها، في حين كانت عند الغَرْبِيِّينَ أمرًا مألوفًا عاديًا. والبدوي في الصحراء كان «يستغرب» ما يقولونه عن المذياع «الراديو» في المدن، وَيَعُدُّهُ كذبة من أكاذيب الحَضَرِيِّينَ. فلما سمع الراديو لأول مرة ظن أن «الشيطان» هو الذي يتكلم فيه، كما يظن الطفل أن الذي يتكلم إنسان ثَاوٍ فيه.
ومن المقرر في الإسلام أنه ليس فيه «ما يرفضه» العقل ويحكم باستحالته، ولكن فيه - كما في كل دين سماوي - أمور قد «يستغربها» العقل ولا يستطيع أن يتصورها، كأمور النُبُوَّاتِ وَالحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ. وشأن المسلم إذا سمع خبرًا ما، أن يرفض ما يرفضه العقل، ويتأنى فيما «يستغربه» حتى يتيقن من صدقه أو كذبه.
وطريق التيقن (أو العلم) في الإسلام أحد أمور ثلاثة:
١ - إما الخبر الصادق الذي يتيقن السامع من صِدْقِ مُخْبِرِهِ، كأخبار الله في كتبه وأخبار الأنبياء.
٢ - وإما التجربة والمشاهدة بعد التأكد من سلامة التجربة فيما يقع تحت التجربة والاختبار.
٣ - وإما حكم العقل فيما ليس فيه خبر صحيح ولا تجربة مشاهدة.
ومن إعجاز القرآن أنه وضع هذه القواعد الثلاثة لتحقق «العلم» أو اليقين، في هذه الآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (١).
ومن تمام الإعجاز في هذه الآية أنها جاءت مرتبة هكذا: الخبر الصادق (السمع) ثم التجربة (البصر) ثم المحاكمة العقلية (الفؤاد) على أنها
_________
(١) [سورة الإسراء، الآية: ٣٦]
1 / 50