الجامع الصحيح للسيرة النبوية
الناشر
مكتبة ابن كثير
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
مكان النشر
الكويت
تصانيف
الجامع الصحيح للسيرة النبوية [١]
«خصائص السيرة ودورها في تكوين الشخصية الإسلامية»
تأليف
الدكتور سعد المرصفي
صفحة غير معروفة
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة
الطَّبعة الأولى
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
مكتبة ابْن كثير
ص. ب: ١١٠٦ حَولي ٣٢٠١٢ الكويت
تليفون: ٢٢٦٣١٢٩٨ - فاكس: ٢٢٦٥٧٠٤٦
1 / 2
الْجَامِع الصَّحِيح للسيرةِ النَّبَوِيَّة
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾
1 / 5
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)﴾ [الأعراف: ١٥٨]
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾ [الأنبياء: ١٠٧]
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)﴾ [الأحزاب: ٢١]
1 / 6
(في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)!
الزهري
(كنا نعلّم مغازي رسول الله ﷺ، كما نعلم السورة من القرآن الكريم)!
زين العابدين علي بن الحسين
(كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول:
يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها)!
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص
1 / 7
إهداء
إلى المهاجرين في سبيل الله:
﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الحشر: ٨]
إلى أنصار الحق ودعاته، وجنده وحُماته .. الذين يرجون الشهادة في سبيل الله!
إلى أصحاب البصائر والأبصار .. الذين يتطلعون إلى آفاق النور والإخاء، والإيثار والفداء، والبذل والعطاء، والحب والنقاء، والود والصفاء، ليعيشوا في أجواء الروح الرفافة الندى والظلال!
إلى أهل القرآن .. أهل الله وخاصته .. الذين قال فيهم الرسول ﷺ فيما
رواه أحمد وغيره بسند حسن عن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إِنَّ لله أَهلينَ من الناسِ". فقيل: منْ أَهلُ الله منهم؟ قال: "أهلُ القرآنِ
هُم أهلُ الله وخَاصّتُه" (١)!
_________
(١) أحمد: ٣: ١٢٧ - ١٢٨، ٢٤٢، (١٢٢٧٩، ١٢٢٩٢، ١٣٥٤٢) مؤسسة الرسالة، والدارمي: ٢: ٤٣٣، (٣٥٩٠) فتح المنان، والنسائي: الكبرى: ٥: ١٧ (٨٠٣١)، وابن ماجه: المقدمة (٢١٥)، وأبو عبيد: فضائل القرآن: ٨٨، وابن الضريس: فضائل القرآن (٧٥)، والحاكم: ١: ٥٥٦، (٢٠٩٠) الدرك بتخريج المستدرك، وأبو نعيم: الحلية: ٣: ٦٣، ٩: ٤٠، والبيهقي: شعب الإيمان (٢٩٨٨، ٢٩٨٩)، والذهبي: ميزان الاعتدال: ٢: ٥٤٩، والخطيب: تاريخ بغداد: ٢: ٣١١، والموضح ٢: ٣٧٣، وابن الجوزي: الحدائق: ١: ٤٩٨، وأبو جعفر النحاس: القطع والائتلاف: ٨٠ - ٨١. =
1 / 9
إلى الإخوة الأحبّة جُند الحق .. الذين صبروا وصابروا ورابطوا .. وزادتهم المِحنُ منحًا وثَبَاتًا: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)﴾ [الأحزاب: ٢٣]!
أصدق الناس قولًا، وأجمعهم لُبًّا، وأقواهم عزمًا، الجهاد شعارهم، واليقن دثارهم، لا تتغيّر بهم في خشية الله عادة، ولا تملكهم في مخافته هوادة: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)﴾ [آل عمران: ١٧٣]!
إلى البراعم المؤمنة، والأجيال القادمة، الذين يأتي الله بهم، على امتداد آباد الزمان، وأبعاد المكان: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)﴾ [المائدة: ٥٤]!
إلى الأخُوَّة الزّكيّة، الصافية النقيّة، والمحبّة النديّة، والمودّة الرضيّة، والنفحة العلويَّة، والألفة القدسيّة، التي تنشئ في القلب إدراكًا كاملًا، ونورًا شاملًا، ونبضًا متصلًا، وحياة مباركة، هي سراج ما بطن، وملاك ما علن، تنطف نورًا كأنها قناع رحمة الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]!
_________
= وقوله: "إنَّ لِلَّه أهْلين"، قال السندي: بكسر اللام، جمع (أهل) جمع السلامة، والأهل يجمع جمع السلامة، ومنه قوله تعالى: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ [الفتح: ١١]. وإنما جمع تنبيهًا على كثرتهم.
"أهل القرآن" أي: حفظة القرآن الذين يقرؤونه آناء الليل وأطراف النهار، العاملون به. "أهل اللهِ" أَي: أولياؤه المختصون به.
1 / 10
﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: ١٠٣]!
وهنا يقف الفكر سابحًا مستبحًا، والحسّ مشدوهًا، أمام وقع التصوير والتعبير، والإدراك والتَّقدير، في لمسات وجدانيّة عقليّة، روحيّة فكريّة، فطريّة، نفسيّة، لا يؤثّر فيها إلا الضمير، ولا يطلع عليها إلا اللطيف الخبير .. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يجمعنا الحق جل شأنه في مستقر رحمته: ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧)﴾ [الحجر: ٤٧]!
آمين.
إلى هؤلاء وهؤلاء أهدي هذا الكتاب ..
1 / 11
مقدمة
1 / 13
مقدمة
١ - السيرة ومكانتها
٢ - في حياة الرسول ﷺ
٣ - مكانة النبوة والأنبياء
٤ - النبوَّة وبناء الحضارة
٥ - أعظم دوافع التطوّر
٦ - الطفولة الفكريّة
٧ - أعظم تراث إنساني
٨ - أعظم شهادة
٩ - فتح فكري جديد
١٠ - شمس الوجود الروحي
١١ - في علم المغازي خير الدنيا والآخرة
١٢ - الله أكبر
1 / 14
مقدمة
ما أحوجنا أن نبصر مكانة السيرة النبويّة .. وأنها تسع الحياة كلها، وأعظم تراث إنساني فريد، وفتح فكري جديد، على مدى التاريخ .. وما يجب أن ندرسه .. ونفقه في معالمها خيَريْ الدنيا والآخرة!
وما أحوجنا أن نبصر خصائص الرسالة والرسول ﷺ .. ومصادر تلك الخصائص، ومناهج المؤلفين قديمًا وحديثًا .. والمنهج الأمثل في الدراسة .. وأنه واسع الآفاق، متنوّع المعالم، غزير العوالم .. تسابقت الأقلام في حلبته، تنافست الأفكار في ديباجته!
وقد عشت أكثر من نصف قرن في تلك الرحاب .. وقمت بتدريس السيرة في الجامعة سنين؛ مما جعلني بعون الله وتوفيقه أكتب بعد طول مراجعة للمصادر الأصليّة، وفق أصول التحديث روايةً ودرايةً!
وسجل التاريخ منذ فجر الرسالة صيحات من هنا وهناك، تشكّل في إطارها سيل منهمر من الحقد الأعمى على خاتم النبين محمد ﷺ، تحيطه جهالة جهلاء، وفوضى عمياء، وأصبحت تلك المفتريات غريزة موروثة، وخاصّة طبيعية، تقوم على المؤثرات التي خلفتها تلك الحرب الضروس في القديم والحديث سواء!
١ - السيرة ومكانتها:
وإذا كانت السيرة في اللغة بمعنى الطريقة والسنة، فإنها يراد بها التعرّف على حياة الرسول ﷺ، منذ ظهور الإرهاصات التي مهّدت
1 / 15
لرسالته (١)، وما سبق مولده من سمات تلقي أضواء رحمانية على طريقة الدعوة المحمديّة، ومولد الرسول ﷺ، ونشأته، حتى مبعثه .. وما جاء بعد ذلك من دعوة الناس إلى (الدّين القيّم) .. وما لقي في سبيل نشر هذا الذين من معارضة، وما جرى بينه ﷺ وبين من عارضوه من صراع بالبيان والسنان، وذكر من استجاب له ﷺ، حتى علت راية الحق، وأضاءت شعلة الإيمان!
إنها نور وهّاج، أفضى إلى ظلمات الجهل والوثنيّة، فانجابت كما ينجاب الغمام، وهدى من الله ﷿ أرسله إلى الإنسانيّة الضالّة، فانتشلها من ضياع، وانتاشها من هلاك، وأنقذها مما كانت تتخبّط فيه من دياجير الظلام، وعقابيل الضلال!
إن الله ﷿ خلق محمدًا ﷺ بشرًا سويًّا، ولكنه فوق سائر البشر، وآثاره التي حملتها الأجيال من بعده فوق القُدَر، ونحن معشر المتبعين كان فينا شرف هذا الاتباع إنما ندرك بالتصوير أمثالنا، ومن خواطرنا ومنازع نفوسنا نتعرف نفوس غيرنا، ونحكم على أحوالهم، وإن حاولنا أن ندرك من هو أعلى منا فإنه يجب أن يكون علوه على مَرأى أنظارنا، وفي مطالع آفاقنا، وعندئذ نحاول، وقد نصل .. ولكن الحديث عن حياة الرسول ﷺ، في علو لا نصل إليه، وفي سماك لا نراه، وليس منّا من يقاربه حتى نتمثّله ونتخيّله، فأنّى لأمثالنا أن يكتب في شأنه، وأن يعلو إلى قدره؟!
إن ذلك لأمر فوق المنال، ويعلو على مدارك الخيال!
_________
(١) انظر مقدمة كتابنا: الجامع الصحيح للسيرة النبوّية: ٨ وما بعدها، مكتبة المنار الإسلاميّة، ومؤسسة الريّان، ط أولى ١٤١٥ هـ - ١٩٩٤ م.
1 / 16
من أجل هذا نضرع إلى الله -جلّ شأنه- أن يشملنا بغفرانه، إن تسامينا محاولين الوصول إلى الحديث عن حياة الرسول ﷺ، فالمعذرة قائمة، والقصور ثابت، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها!
وهنا نحسّ النور يغمر حياتنا، ونشعر بالضوء المنير يكفّ أبصارنا، فأنّى ندرك، وأنّى نرى، وقد صرنا كذي رمد غمره ضوء الشمس، أو ما هو أعلى، فأصابته الحيرة، ولا هادي له يخرجه منها، إلا أن يكون الهُدى من الله، والعون والرشاد، والتوفيق والسداد!
ومن ثم نسأل الله ﷿ أن يهدينا لتصوير حياة الرسول ﷺ، أو لتقريبها ما دام التصوير فوق الطاقة، والقاصر معذور، والله ﵎ عفوّ غفور!
ومعلوم أن وجوه عظمة الرسول ﷺ قد تعدّدت، بحيث يعجز المحصي عن الإحصاء، والمستقري عن الاستقراء!
وإذا نفدت الطاقة كان الإقرار بالعجز، وبأن الله ﷿ قد صانه وحفظه، وتولاه بعنايته، ورعاه برعايته، حتى كان وحيدًا بين الغلمان بما كلأه الله به وحماه، وصبيًّا فريدًا بين الصبيان، والشابّ الأمين البعيد عن رجس الجاهليّة بين الشباب، فكل شيء في حياته الأولى كان من الخوارق التي علت عن الأسباب والمسبّبات، فلم تكن أثر تربية موجهة، ولا أثر بيئة حاملة، ولا أثر شرف رفيع وإن كان محقّقًا؛ ولكنه كان صنع الله، تمثّلت فيه المعجزة بشخصه وكونه ووجوده، ففيه البشريّة، وفيه المعجزة الإلهيّة!
وصدق الله العظيم: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]!
1 / 17
والرسالة أمر هائل خطير (١)، أمر كونيّ تتّصل فيه الإرادة الأزليّة الأبديّة بحركة عبد مصطفى، ويتّصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود، وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثّل فيه الحق الكليّ في قلب بشر، وفي واقع حياة، وفي حركة تاريخ، وتتجرّد فيه كينونة بشريّة من حظ ذاتها لتخلص لله، لا خلوص النيّة والعمل وكفى؛ ولكن خلوص المحلّ الذي يملؤه هذا الأمر الخطير، فذات الرسول ﷺ تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة، وهي لا تتّصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقّي المباشر بلا عوائق ولا سدود، ولا قيود ولا حدود!
وهنا نبصر النبوة أمرًا عظيمًا حقًّا، ونتصوّر مجرّد تصوّر لحظة التلقّي عظيمة حقًّا (٢)!
هذا الوحي .. هذا الاتصال العجيب .. هذا الاتصال المعجز الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعًا يتحقق .. ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقّق؟!
تُرى، أيّة طبيعة هذه التي تتلقّى ذلك الاتصال العلويّ الكريم؟!
أيّ جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتّصل بهذا الوحي، ويختلط بذلك العنصر ويتّسق مع طبيعته وفحواه؟!
إنه إنسان ذو حدود وقيود، وتلك حقيقة .. ولكنها تتراءى هنالك بعيدًا بعيدًا على أفق عال، ومرتقى صاعد، لا تكاد المدارك تتملاّه!
روح هذا النبيّ .. روح هذا الإنسان الكريم .. تُرى، كيف كانت تحسّ بهذه الصلة؟! وهذا التلقّي؟! كيف كانت تتفتّح؟!
_________
(١) في ظلال القرآن: ٣: ١٢٠٢ بتصرف.
(٢) المرجع السابق: ٥: ٣١٧١ بتصرف.
1 / 18
كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟!
كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلّى فيها الحق على الوجود، وتتجاوب جنباته كلها بكلمات الحق؟!
أيّة رعاية؟!
وأيّة رحمة؟!
وأيّة مكرمة؟!
والله العليّ الكبير يتلطّف فيكرم هذه الخليقة فيوحي إليها لإصلاح أمرها، وإنارة طريقها، وردّ شاردها، والله هو الغنيّ الحميد!
٢ - حياة الرسول ﷺ -:
وحياة الرسول ﷺ صفحة عريضة فريدة وحيدة، من صفحات الجهاد لإنقاذ البشريّة، ومثلًا صادقًا فريدًا وحيدًا لمُثُلِ البرّ والمرحمة، وسيرة عالية، رفيعة الشأن، جليلة القدر، عظيمة النفع، كبيرة الفائدة، تلمع أضواؤها في الكتاب والسنّة وفق قواعد التحديث روايةً ودرايةً، متضمنة نفحات هذا الهُدى، وومضات ذلك الإشراق!
وما كان لباحث منصف يسعى إلى إيفاء حياة الرسول ﷺ حقها من البحث والتحليل، إلا أن يدرك أنها غنيّة بأحداثها، من حيث كونها:
- واقعيّة مثاليّة!
- حركيّة أخلاقيّة!
- قياديّة روحيّة!
1 / 19
- فقهيّة حضاريّة (١)!
وقد شهد الرسول ﷺ في هذا العالم تعليم الله وهدايته (٢)، وبشّر الصالحين بالفوز والنجاح، والنجاة والفلاح، فهو (مبشّر)!
ونادى الغافلين، وأسمع الصمّ، وحذّر المذنبين عاقبة ذنوبهم، وأنذر المشرفين على الهلاك، وأيقظ النائمن، فهو (منذر)!
ودعا إلى الله من ضلّ عن سبيل الحق والهُدى والفوز، فهو (داع)!
وإن هو إلا نور يستضاء به إلى يوم القيامة، ونبراس يستنار بأشعّته في شعاب الحياة الملتوية، فتنكشف به الظلمات المتراكمة، فهو (السراج المنير) إلى الأبد!
وصدق الله العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥)﴾ [الأحزاب: ٤٥]!
نعم، إن جميع الأنبياء كانوا شهداء ودعاة ومبشّرين ومنذرين، بيد أن هذه الصفات لم تكن هكذا في جميع الرسل .. بل كان بعضها في بعضهم أظهر من أخواتها!
فقد غلبت على يعقوب وإسحاق وإسماعيل ﵇ صفة الشهادة، فكانوا شهداء الحق!
_________
(١) انظر كتابنا: الهجرة النبويّة ودورها في بناء المجتمع الإسلامي: ٢٠ وما بعدها، مكتبة الفلاح، ط ثانية ١٤٠٩ هـ - ١٩٨٨ م.
(٢) الرسالة المحمديّة: ٤٢ وما بعدها: السيد سليمان الندوي، دار الفتح، دمشق ط ثالثة ١٣٩٣ هـ - ١٩٧٣ م.
1 / 20
وغلبت على إبراهيم وعيسى ﵉ صفة التبشير، فكانا مبشّريْن!
ومن الأنبياء من غلب عليه وصف الإنذار لمن خالف الحق وجحده، فكانوا منذرين، كنوح، وموسى، وهود، وشعيب ﵈!
ومنهم من غلبت عليه صفة الدعوة إلى الحق، وامتاز بها أكثر مما امتاز بسائر النعوت الأخرى، كيوسف ويونس ﵉!
وأما من كان جامعًا لهذه الصفات كلها، واتصف بها جميعًا، وكان مبشّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، وكانت حياته ملأى بهذه النعوت والشؤون، وسيرته ممتازة بهذه الخصال وتلك الخلال، فهو محمد خاتم النبيين ﷺ، المبعوث ليختم الله به النبوات؛ فأُعطي الرسالة الأخيرة ليبلغها إلى البشر كافة، وجاء بالشريعة الكاملة التي لا يحتاج البشر معها إلى غيرها، ولن تنزل من السماء إلى الأرض شريعة على قلب بشر بعد هذه الشريعة!
لقد حظيت الرسالة المحمديّة بالخلود، واختصّت بالبقاء والدوام إلى يوم القيامة، فكانت نفس محمد ﷺ جامعةً لجميع الأخلاق العالية، والعادات السنيّة!
٣ - مكانة النبوة والأنبياء:
والذين يقرؤون كتاب الرسالة المحمديّة: (القرآن العظيم) (١) الذي هو أول مصدر من مصادر السيرة النبويّة، قراءة فهم وتدبّر، وبحث متعمّق في معانيه وحقائقه الكونيّة، وعقائده وتشريعاته، ونظمه الاجتماعيّة وأخلاقيّاته،
_________
(١) محمد رسول الله ﷺ: ١: ٢٢٩ بتصرف: محمد الصادق عرجون، دار القلم، دمشق ط أولى ١٤٠٥ هـ - ١٩٨٥ م.
1 / 21
ويقرؤون السيرة النبويّة في مصادرها الوثيقة -كما سيأتي- قراءة إمعان وإنصاف، يعلمون أن هذا الكتاب الحكيم، وهذه السيرة الكريمة عُنيا أكثر ما عُنيا في نصوصهما بالنبوّة والرسالات الإلهية، فأشادا بهما، وأعظما شأنهما، وجعلا معرفتهما والإيمان بهما شطر الإيمان الصحيح، فلا تكمل حقيقة إيمان مؤمن - في شرعة هذا الكتاب الكريم، وفي هدي سنة نبيّه الأمين ﷺ إلا بصدق الرسالات الإلهية والإيمان بها، إيمانًا لا يفرق بين أحد من رسل الله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)﴾ [البقرة: ٢٨٥]!
وإيمان الرسول ﷺ هو إيمان التلقّي المباشر (٢) .. تلقّي القلب النقي للوحي العلي، واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة .. الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كدّ ولا محاولة، وبلا أداة أو واسطة، وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها، فلا يصفها إلا من ذاقها، ولا يدركها من الوصف -على حقيقتها- إلا من ذاقها كذلك!
فهذا الإيمان -إيمان الرسول ﷺ هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم، على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول ﷺ بطبيعة الحال وكيان أي سواه، ممن لم يتلقّ الحقيقة من مولاه!
ترى، ما حقيقة هذا الإيمان وحدوده؟
﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)﴾ [البقرة: ٢٨٥]!
_________
(٢) في ظلال القرآن: ١: ٣٤٠ بتصرف.
1 / 22