وقال فهد الَمْارك ﵀: يقول الأستاذ أدهم الجندي: كنت ذات يوم في نادي الَمْرحوم مشل باشا الجرباء، في دمشق فَسُئِل الشيخ مشل عن أعظم شيء سمعه ورآه من مواقف الشجعان النادرة، فأجاب بقوله: إن أروع وأهم مشهد رآه في حياته هو شجاعة فارس من فرسان قبيلة عَنَزَة.. ويمضي الشيخ مشل في حديثه حسب رواية الراوي إلى أن قال: كنا غزاة من قبيلتنا " أي قبيلة شمر " بقيادة الَمْرحوم عبد الكريم الجرباء، قاصدين غزو قبيلة عَنَزَة، فوجدنا إبلا ترعاها فتاة، فاغتنمناها، اعتقادًا منا أنها لقمة سائغة، وقد لفت انتباهنا نظرة الفتاة الَمْختصة برعاية الإبل، فقد كانت تنظر إلينا نظرة الساخر، أو الَمْستهتر، ومَا كنا نظن أن وراء نظرتها هذه مَا ورائها من سرِّ دَفِيْنٍ. ومَا أن قطعنا مسافة ليست بالبعيدة حتى لحقنا فارس بمفرده وعندمَا دنا منَّا طلب منا " الْحَذِيَّة " أي الهبة كمَا هي العادة الَمْتبعة بحالة كهذه، فالَمْغتنم حسب العرف الَمْتبع يتحتم عليه أن يهب من غنيمته. فيقول مشل: لَمْ نتردد من هبته ناقتين، ظانين أن ذلك كاف له، ولكنه عاد فطلب " الْحَذِيَّة " مرة ثانية فوهبناه ناقتين أيضًا، ثم عاد ثالثة فطلب، فوهبناه عددًا ممَاثلًا، ثم عاد رابعًا يطلب " الْحَذِيَّة " ولكن بلهجة توحي أنه لَمْ يكن مُسْتَجْدِيًا، كمَا بدا لنا من الَوْهلة الأولى في طلبه السابق، وإنمَا كان هذه الَمْرة متحديًا، ولذلك برز لَمْنازلته ستة من فرساننا بينمَا نحن نسوق الإبل التي اغتنمناها، فظل برهة يتصارع مع الفرسان بين كرٍّ وفرٍّ، وبعد ذلك لحقتنا أفراس رفاقنا خالية سروجها من فرسانها الذين أبادهم هذا الفارس. فلَمْ يسعنا إلا أن أبرزنا فرسانًا أكثر عددًا من السابقين بينمَا ظل البقية منا يسوقون الإبل، ومَا أن أخذنا فترة حتى لحقنا أفراس قومنا الذين كان مصيرهم كمصير سابقيهم. فكانت النتيجة أن أرهبنا الفارس وأدخل في قلب كل منا الرعب، فهربنا تاركين له إبله، مغتنمين السلامة بعد أن قتل منا فتيانًا من خيرة فرساننا. وبعد، فقد وجدت السيد الجندي راوي القصة مُندهشًا ل من البطولة التي قان بها الفارس، وبالرغم من أنها بطولة خارقة حقًا، ولكنه مندهش ومعجب في آن واحد من اعتراف الَمْرحوم مشل الجرباء بشجاعة عدوه. ولكنني شخصيًا لَمْ استغرب ذلك بحكم معرفتي الراسخة لأخلاق العرب. وستأتي أخبار لعبد الكريم وفرحان في آخر هذا الفصل. وقد مَات عبد الكريم مشنوقًا، شنقه الأتراك في حدود عام ١٢٦٥هـ. وممن عني بمدح عبد الكريم فجحان الفراوي فمن ذلك قصيدته الَمْيمية. حدثني بها محمد بن يحيان ﵀ ولا أضبط نص لفظه وأملاها علىَّ رضيمَان بن حسين الشمري، ونشر منها ابن بليهد بيتين، وأوردها الشيخ منديل في كتابه قالها عند انتجاعه لعبد الكريم الجرباء، بعد تردده بين أبي بندر طلال بن عبد الله بن رشيد وابن الإمَام عبد الله الفيصل: قال فجحان الفراوي:
أَخَذْتِ ليْ من بَيْنَ الاثِنَيْن سَجَّهْ ... مَا بَيْنَ " ابو بَنْدَر " و" ولْدَ الاِمَام "
منْ عُقْبُهُمْ نَاخِذْ على الْهجْن هَجَّهْ ... لِدْيَار سَمحِينَ الْوجيهَ الْكرَام
لَمْشَاهَدَ " الْجرْبَان " فَرضٍ وحِجَّه ... منْ بدِّ بَنَّايَ الشَّعَرْ والْخِيَام
امَا الْكَرَم صَجهْ وَلَجَّهْ ... مَا احْد مْنَاحِيْهُمْ جنُوبٍ وْشَام
مَنصَايْ هُوْ مَلفَايْ يَومَ اتوَجَّهْ ... عَبْد الكريم اللَّيْثِ غَايَة مَرَامِي
كَمْ وَاحِد جَا مِنْ بِعْيد يسِجِّهْ ... يَبي يشُوْفِكْ يَا بِعْيدَ الْعَلاَم
وَكَمْ مَرِةَّ خَلَّى عَلى الضَّدِّ عَجَّهْ ... بْنمْرًا يجرَّة مِثْل وَسْط الكِتِام
تَلْقَى بْقَلْبَ الِّلي يْعَادِيْهِ رَجَّهْ ... منْ خَوْفِتِهْ يحْرَمْ عَلَيْهَ الَمْنَام
وَشِلْف تْوَسِّعْ بَالاَبضاهِرْ مفَجَّهْ ... وْحِدْبَ الظهور اللَّيْ تِقِصَّ العِظَام
عَلَى مهار يَرْعَبَ الْقَلْب عَجَّهْ ... فِرسان يكْدُوْنَ الْعَدُو بَالزِّحَام
1 / 37