وفي الحق أن الترجي أو النصيحة والوعد أو الوعيد لم تكن كافية لحماية هذا الشاب ضد إجماع قريش إن لم تكن كلمة أبي طالب مسموعة في قومه، فإذن كان هو «بطريركهم» على فقره وضعف حوله وطوله، فلم يخرجوا عن طاعته، ولم يفضلوا مصلحة الجماعة التي كانت تقضي بتسليم محمد
صلى الله عليه وسلم
لقريش على مصلحة أبي طالب وابن أخيه.
وكان لأهل مكة ميزانية ودخل وخرج؛ فدخلهم من رسوم الحج وضرائب شبه جمركية، أو مكوس تفرض على الواردات. وكانت تلك الدولة البدائية تجمع بعض المال من السكان لتنفقه في ضيافة الحجيج أو في شراء كسوة الكعبة من الحرير والخز والديباج من صنع اليمن والشام والعراق ومصر، وكانت زعامة البلد تقتضي شيئا من المال، وكثيرا من الشجاعة في الحرب والفصاحة في الخطب.
وإلى جانب الزعيم والرئيس توجد وظيفة سادن أو خادم الكعبة وحامل مفتاحها، وهي وظيفة وراثية بلغ احترامها في النفوس مكانة عظمى، وكانت ضيافة الحجيج وظيفة كبرى، وهي التي قام بها عبد المطلب، وفيها إطعامهم وسقايتهم.
وكانوا في الحروب يخضعون لقائد، وفي السلم يخضعون للشورى وينظرون في أمورهم في دار الندوة؛ وهي جمعية شبه تشريعية مؤلفة من زعماء القبائل وأكابر البلد، والرأي فيها للكثرة من الشرفاء والأغنياء، وهي التي أسسها قصي، ولعلها أقرب إلى المجالس البلدية.
وقد سجل لنا التاريخ بعض مشاهد هذه الحياة النيابية في مناقشة قريش قبل وقعتي أحد والخندق. وكانت هذه الجمعية التشريعية المكية تجتمع أحيانا بصفة سرية؛ للتداول في أمر يقتضي الكتمان؛ كما اجتمعوا للتآمر على حياة محمد
صلى الله عليه وسلم
بعد أن استفحل أمره.
وإذا قام نزاع بين القبائل أو الأفراد يطرح للتحكيم أولا ثم على الكاهن أو الكاهنة ثم يطرح على الأوثان لتفصل فيه، فكان هبل هو الذي يحكم بقوله: «نعم»، أو «لا»، وكان المتخاصمان إذا وقع اختيارهما على رجل حكماه في الطريق كما يحدث الآن في بلاد الحبشة، فيعقد جلسة علنية وينظر في النزاع فورا ويسعى لحله. وكان يختار للتحكيم كل من اشتهر بالعدل والعلم والرحمة، وقد قضى بعضهم في الجاهلية بأحكام اجتهادية، وكان أهل مكة يرحلون أحيانا إلى اليمن - ليفضوا نزاعهم - إذا اشتهر في اليمن رجل بالعدل. وكان اختصاص هؤلاء القضاة المتطوعين يشمل المدني والجنائي، وكانت أحكامهم الجنائية نافذة إذا حكموا بالإعدام، أو بقطع اليد؛ ينفذ الحكم إذا كان المحكوم عليه صعلوكا أو فقيرا أو قليل الأنصار والعزوة! وإذا كان من قوم أقوياء يذودون عنه فقد يعطلون التنفيذ! إلا إذا كانت جريمته تتناول الأعراض وترى قبيلة المحكوم عليه أن بقاءه على قيد الحياة يسيء إلى مركزها بين القبائل ويورث الأحقاد والسخائم.
صفحة غير معروفة