وهذه القصيدة تحوي أسماء الأماكن الشهيرة بمكة مثل واسط والمنحنى وذي الأراكة والحجون والصفا. وترديدها على لسان الزعيم المنفي يشعر بصدق حسرته على وطنه، كما يذكر في معناه شاعر مصري في وقتنا هذا ضفاف النيل والجزيرة وعين شمس ومنيل الروضة وقصور الزمالك، أو كما يذكر البغدادي الرصافة والجسر وضفاف دجلة والكرخ، وكما يذكر شاعر باريس المحروم من الدخول فيها غاب بولون وفرساي وسان كلو وبولفار سان ميشل وشانزليزيه.
فالإنسان لا يتغير، والأدب والتاريخ على فطرته وصبغته في كل زمان ومكان (راجع سيرة آخر بني سراج الأمير الأندلسي، لشاتوبريان).
ويظهر أن مضاض بن عمرو خرج إلى اليمن بعد أن يئس من دخول مكة وتأكد من زوال ملكهم. وقد عللت هجرته بضياع الإبل.
ولما استتب الأمر لخزاعة وصاروا حجاب الكعبة وولاة مكة تزوج لحي - وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو - من فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عمرو بن لحي الذي صار له أكبر شأن في الوثنية الجاهلية.
ويظهر من هذا النص أن بعض الأميرات من نسل مضاض الجرهمي - وهو الملك المنفي الذي هاجر إلى اليمن بعد فقد ملكه في مكة - بقين بها وتمت مصاهرة بين الفاتح والمغلوب فتزوج أمير من خزاعة بأميرة من جرهم، فولد لهما عمرو بن لحي الذي صار ملك مكة وبلغ بها من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية غير قصي أحد أجداد النبي - عليه الصلاة والسلام - ومؤسس مكة وبانيها ومشترعها.
إن ما ورد من الأخبار عن عمرو بن لحي في كتب التاريخ العربية قريب من الصدق؛ فهو ثمرة لزواج بيتين من بيوت الملك في مكة؛ فأمه حفيدة مضاض، وأبوه حفيد ماء السماء؛ فلا عجب أن جاء جامعا لصفات العقل والحكمة وحسن السياسة، وقد ذهب شرفه في العرب كل مذهب - على حسب معقولية الجاهلية المنحطة.
وهو الذي سن سنة إطعام الحاج بمكة، وعم جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من برود اليمن؛ فهو أول من أطعمهم وكساهم؛ أي قام لهم بواجب الضيافة والرفادة، وقد قسم بين العرب في حطمة حطموها عشرة آلاف ناقة. وقالوا في وصفه غير ما تقدم: إنه «بحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحام وسيب السائبة.»
وكان أمره بمكة مطاعا لا يعصى في العرب، ولما استفحل أمر عمرو بن لحي - وكانت العرب بمكة ومن حولها قد تهاونوا في دينهم؛ وهو دين إبراهيم وإسماعيل وتساهلوا فيه - رأى عمرو بن لحي أن يتم سلطته عليهم بأن يشترع لهم شريعة ويبتدع لهم دينا، ولعله رأى أن الدين القديم قد خلق، وتباعدت المسافة بين مصدره الأول وبين حالة أهل مكة وما حواليها! وكان عمرو بن لحي صاحب أسفار وجواب آفاق، مطلعا على أحوال الأمم المجاورة كالشام ومصر والعراق. ورأى أن الذي يجذب العرب الأقدمين إلى مكة حرمة البيت، ودين إبراهيم لم يبق منه إلا القليل وعدد من الحنفاء، وأن العرب إذا لم يروا شيئا ماديا غير الكعبة فلن يعيروها من الاحترام والاكتراث ما كانوا يعيرونها من قبل.
كيف فكر عمرو بن لحي في عبادة الأوثان للتجارة
كان عمرو بن لحي - وهو ربيعة بن حارثة كما قدمنا - شريفا سيدا مطاعا، بل كان ملك مكة؛ لأنه كان يطعم الطعام ويحمل المغرم، وما يقوله لأهل بلده هو الدين المتبع الذي لا يعصى، وكان ما يستحسنه ويعمل به يعمله أهل الجاهلية، وهو الذي غض عن دين الحنيفية دين إبراهيم وجاء بهبل من أرض الجزيرة فجعله في الكعبة وجعل عنده سبعة قداح، في كل قدح منها كتاب يعملون بما يخرج فيه! ومنها ما فيه: «أمرني ربي، أو نهاني.» لنية السفر، أو الرغبة في أمر، فإذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا أيما أو يدفنوا ميتا ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور، ثم قالوا لغاضرة بن حبشية بن سلول بن كعب - وهو صاحب القداح: هذه مائة درهم والجزور، فاضرب لنا على فلان وقد أردنا كذا وكذا! فيفعل ما كان يفعله الكهنة في طيبة بمصر ودلف باليونان بعد أن يقبض ضريبة الإنباء بالغيب . ومما فعله عمرو بن لحي أنه غير التلبية التي أوحي بها إلى إبراهيم وصرفها فجعلها:
صفحة غير معروفة