وقبل النبي بألف وأربعمائة سنة غزا بختنصر بلاد العرب، فحاربه عدنان في «ذات عرق» وتعادلت القوتان وانسحب الفاتح الأجنبي لما عاناه من جدب الأرض ووعورة المسالك، وبعد أن أيقن أن ثمرات المغازي في بلاد العرب لا توازي ما يبذل في سبيلها، فارتد على عقبيه راضيا من الغنيمة بالإياب، ومؤثرا العافية على الأسلاب، ومنقذا جنوده من الهلاك المحقق (ليون كايتاني، آثار الإسلام، ج1).
وعدنان بطل حجازي لا شك في تاريخه، ويظهر أنه كان النسل كله، وطنية وفروسية وبطولة وزعامة؛ فلم يشاركه أحد في المجد.
قال القلقشندي: «واعلم أن الموجودين من العرب من ولد إسماعيل كلهم من بني عدنان بن أدد» (ج1، ص17).
وقال ابن خلدون: «ومن عدا عدنان من ولد إسماعيل قد انقرضوا ولم يبق لهم عقب؛ ولذلك عرفت بالعدنانية.»
فإذن كان إسماعيل جدا عاليا لعرب الحجاز، وكان ذبيحا، وفي حكم اليتيم، وكان مؤسس أمة ومنشئ لغة قومية ووطنية جديدة. وكان ابن نبي بنص التوراة والقرآن، ونبيا ورسولا وبارا بوالديه؛ ولذا قال الله - تعالى - في حقه:
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (سورة مريم).
وكانت رسالته إلى جرهم، وهم العرب الذين صاهرهم وعاش بينهم طول حياته؛ فهو نبي محلي لا تعميم لرسالته، وقد بعث الله مثله هودا إلى عاد، وصالحا إلى ثمود، وعيسى إلى يهود فلسطين (إلى هؤلاء الخراف من بني إسرائيل) كنص العهد القديم.
وكل هذه الطوائف والقبائل كانت غارقة في أوحال الجهالة. ولا يعترض بضياع أخبارهم؛ فقد حفظوا أخبار عاد وثمود وصالح وهود، فلو نبغ منهم في القرون الأخيرة عالم أو أديب أو شاعر أو خطيب لما ضاع ذكره ضياعا تاما؛ فإن الأمثال وجوامع الكلم قد رويت بحذافيرها منسوبة إلى ذويها. ولو كان عند العرب أي علم أو فن أدبي أو غيره لنقله عنهم رواة اللغة الذين اختلطوا بهم وبغيرهم من القبائل، ولبثوا بين ظهرانيهم سنين، فهل كان هؤلاء الرواة يحرصون على الألفاظ والأساطير هذا الحرص كله ولا ينوهون بكلمة عن أدب العرب وعلومهم - وهم رواة الأدب العربي - فلم يجدوا غير ألفاظ اللغة فحفظوها عنهم ونقلوها إلينا، وقد شغلهم تطلب الأرباح والكدح للمعاش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة؟!
ليس المقصود من كل ما تقدم أن بعثة محمد كانت مقصورة على الأميين، وإن كانوا أول من تلقى الرسالة وعاندها وقاومها. فلو كانوا على علم وأدب وفن لعرفوا قدرها، وإن كانوا عجبوا منها وأعجبوا بأسلوب القرآن وإعجاز آياته لأنهم لم يكونوا كلهم خشبا مسندة ولم تقد قلوبهم جميعها من صخر بلا استثناء؛ فقد وجد الباحثون آثار مدرسة لتعليم الأطفال فيها حجارة عليها دروس للأطفال من حساب ولغة وخط. وكان بعض الصحابة وغيرهم ملمين بالكتابة؛ والدليل على ذلك كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر. وفي الأغاني أن حماد بن زيد جد عدي بن زيد الشاعر المشهور علمته أمه الكتابة في دار أبيه فخرج من أكتب الناس وصار كاتبا للنعمان الأكبر.
ولكن النبي هو الذي بدأ برفع وصمة الأمية عن الأمة العربية بعمل لم يسجل مثله لمصلح في الأرض؛ وذلك أنه جعل فداء الأسير الذي كان يعرف القراءة والكتابة في وقعة بدر - وهي أول الوقائع الإسلامية - أن يعلمهما نفرا من المسلمين، ففعلوا.
صفحة غير معروفة