كانت سياسات الصين الثورية أيضا قومية بقدر ما كانت مجددة، وكان مما يميزها الإضرابات، والمظاهرات، وحملات مقاطعة الشركات الأجنبية، وقد سحقتها شناعة الغزو الياباني في النهاية. وعلى الرغم من اتهام النقاد لحركة الرابع من مايو بالسعي نحو تغريب الصين واقتلاعها من جذورها، فإن السخط من الإمبريالية حال دون حدوث ذلك. وقد قام حزب الكومنتانج تحت زعامة شيانج كاي شيك بتأسيس «حركة حياة جديدة» لمحاربة الخرافات، وإغلاق المعابد، وتحطيم تماثيل آلهة الإقطاع، والحث على فلسفة أخلاقية جديدة للصين، ولكنها تراجعت بعد ذلك عن هذه الراديكالية المتطرفة.
شدد الحزب الشيوعي الجديد، الذي تأثر بشكل عميق بحركة الرابع من مايو، في مرحلة مبكرة على التغيير الثقافي. ولكن بعد صعود ماو تسي تونج كزعيم للحزب في عام 1935، صار للثقافة دور استراتيجي جديد ومحوري. كان ماو، الذي يعد أحد مؤسسي الحزب الشيوعي في عام 1921، قد أصبح زعيما للحزب من خلال قيادة الثوار الشيوعيين من قواعدهم في جنوب الصين، والتي حاصرتها قوات الكومنتانج، إلى مدينة يونان الواقعة في أقصى الشمال الشرقي وذلك بين عامي 1934-1935. كان لهذا الانسحاب الذي استمر لمدة عام، والمعروف باسم المسيرة الطويلة، دوره في الحفاظ على نواة للقوات الشيوعية، ولكنه أجبر الحزب على إعادة النظر في علاقته بمضيفيهم من الفلاحين المحليين.
مع اشتداد الحرب مع اليابان، أدرك ماو أن الحزب بحاجة إلى كسب تأييد وثقة فلاحي الصين، فأطلق الحزب برنامجا لإعادة تدريب المثقفين الحضريين والعمال السابقين لتحقيق ذلك. وقد شملت هذه الحركة التصحيحية التي انطلقت عام 1942 الرفض الواعي لطرق وأساليب النخبة، وفي بعض الأحيان احتفالا ضخما بالفضائل الريفية، إلى جانب سلسلة من الأعمال الفنية الرامية لنشر القيم الثورية من خلال التودد للجماهير الريفية ومخاطبتهم. أدت حركة التصحيح الماوية إلى شحذ قدرة الحزب على محاربة كل من الغزاة اليابانيين والكومنتانج. وفي الوقت نفسه، أحبطت النزعات الكوزموبوليتانية لحركة الرابع من مايو بتفضيل الفن الريفي على الموسيقى والدراما المستوردين من الخارج. وفي عام 1945 استوحى الشيوعيون عرضا أوبراليا صينيا (بعنوان «الفتاة ذات الشعر الأبيض») ورقصة باليه من رقصة ريفية مشهورة («يانج جي»)، وشجعوا مثقفي الحزب على الكتابة بطرق سهلة وغير أدبية.
كانت الفنون موجهة لخدمة السياسة، غير أن ماو ذهب أيضا إلى أن رفع المعايير الفنية من شأنه أن يصنع دعاية أكثر إقناعا. وقد سار معظم المثقفين في يونان مع هذا النهج القومي المتمسك بالهوية بسعادة غامرة. واستطاعوا أن يروا مدى فاعليته حين أرادت جماهير الفلاحين الذين كانوا يشاهدون أوبرا «الفتاة ذات الشعر الأبيض» قتل الممثل الذي كان يقوم بدور الإقطاعي الشرير. ولكن بعد هزيمة اليابانيين، وبعد هروب الكومنتانج، نبذ العديد من الطرق اليونانية مع تقدم الجيش الأحمر المنتصر نحو مدن الصين، وتولى الحزب الشيوعي زمام حكم أمة ذات ثقافة رفيعة، وليس قاعدة لحرب عصابات في منطقة نائية. واتسعت الأجندة الثقافية للحزب، ليعيد إدخال بعض من الميول الكوزموبوليتانية التي نبذت في يونان، حتى إن رساما شيوعيا صاح في سرور وإثارة قبل أيام من تحرير بكين قائلا: أخيرا سوف نستطيع رسم لوحات بالزيت! (2) السبعة عشر عاما الأولى
كان العقد الأول من عمر الصين الثورية ناجحا إلى حد كبير؛ فقد استعادت الجمهورية الشعبية الجديدة النظام الاجتماعي بعد حرب أهلية مدمرة، وساهم الإصلاح الزراعي والبرامج الاقتصادية الجديدة في تحقيق نمو اقتصادي مذهل، وشجع النجاح العسكري في مواجهة الولايات المتحدة على خلق نظرة احترام جديدة لبكين، وأسعد انتشار التعليم العالي المثقفين المتلهفين لبناء صين أفضل، وانفتح الفن على كل من الإلهام الأجنبي والمحلي التقليدي.
جاءت أولى الدلالات المهمة لحالة التخبط بين قادة الحزب الشيوعي مع حملة المائة زهرة التي انطلقت بين عامي 1956-1957. فمع الثقة المفرطة التي انتابت ماو تسي تونج في أعقاب «تحول اشتراكي» سلس للحياة الاقتصادية في عام 1956، تواصل مع المثقفين خارج الحزب، مشجعا إياهم على التحدث دون خوف عن الشئون العامة، بل وانتقاد الحزب الشيوعي. تردد العديد من المثقفين في البداية، وفي النهاية استجابوا لنداء «دع ألف زهرة تزهر»، ليكشفوا عن كم من الاستياء والمرارة تجاوز توقعات الحزب. وفي تغيير سريع ومفاجئ للمسار، تخلى القادة عن ليبرالية المائة زهرة واتجهوا إلى حملة شرسة مضادة لليمينيين في عام 1957 صنف على أثرها مليون مثقف ك «عناصر يمينية»، وفقد كثيرون وظائفهم، وأرسل بعضهم إلى معسكرات الإصلاح الزراعي على مدى العقدين التاليين.
شجع إخماد أصوات الناقدين على ظهور «القفزة الكبرى إلى الأمام»، وهي محاولة ضخمة لكسر القيود على النمو الاقتصادي عن طريق تعبئة أعظم موارد الصين: قوتها العاملة. كانت القفزة الكبرى حالمة، ومثيرة، ومغلوطة؛ فقد دمجت الجمعيات التعاونية الزراعية المنشأة حديثا في كوميونات أكبر بهدف اكتساب قوة إنتاجية من خلال إعادة التنظيم والهيكلة، بما في ذلك التشارك في رعاية الأطفال والطهي. وبينما أحدثت القفزة الكبرى تغييرات مهمة في البنية التحتية في صورة مصانع زراعية، وطرق، وجسور جديدة، إلا أن غياب المردود الإداري أدى إلى زيادة أهداف الإنتاج غير الواقعية. فبسبب خوفهم من تصنيفهم ك «يمينيين»، كان صغار المسئولين يتسرعون في طمأنة رؤسائهم على النجاح في كل مجال. وكان الحزب يؤكد على الإسهامات التي يمكن أن يقدمها الهواة الملهمون سياسيا، مما شوه القيود التي عادة ما كان الخبراء المحترفون يفرضونها. كان هناك مشروعات ضخمة للأشغال العامة، بعضها كان ناجحا، والبعض الآخر كان عبارة عن حملات هوجاء في الأساس، مثل مصاهر «الأفنية الخلفية» للصلب رديئة التخطيط، أو حملة تدمير العصافير.
أسفرت القفزة الكبرى عن مجاعة هائلة بسبب انهيار الإنتاج الزراعي في العديد من الأقاليم. وبسبب العمل بأرقام متفائلة للإنتاج بلا أي سند لهذا التفاؤل، قامت الدولة بزيادة مخزونها من الحبوب، فيما قللت من الموارد المتاحة للإنتاج الزراعي. وقد أسفرت الأمراض وسوء التغذية عن ما يقرب من 20 إلى 30 مليون حالة وفاة فيما بين 1960-1961، ومن ثم اعتبرت تلك هي المجاعة الكبرى في القرن العشرين.
كان الحزب بطيئا في إدراك هذه الكارثة، وعندما أدرك ماو أن القفزة الكبرى لا تسير على نحو جيد، تنحى في ربيع 1959 عن رئاسة البلاد لصالح ليو شاوشي، أحد القادة المحنكين للتنظيم السري الشيوعي إبان الثورة. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عاب العديد من كبار قادة الحزب على القفزة الكبرى سوء إدارتها، وطموحها المبالغ، وعدم تواصلها مع الناس. وكان قائد النقد المارشال بنج ديهواي وزير الدفاع وأحد الثوريين المخضرمين. وكان رد فعل ماو عنيفا وقاسيا. وكان في تطهير المارشال بنج تذكرة للجميع بمدى قوة القدسية التي صنعها الحزب حول ماو تسي تونج، ومدى صعوبة التضييق عليه.
تفاقمت حالة الطوارئ الاقتصادية بانهيار علاقات الصين مع الاتحاد السوفييتي؛ فبعد أن كانت يوما ما «الأخ الأكبر في الاشتراكية»، صار القادة السوفييت يتشككون في تأكيدات الصين بالتزامها مسارا تنمويا مستقلا. وتلاشى التعاون العسكري السابق في كوريا حين سعت الصين لطلب المساعدة لصنع قنبلة ذرية. وبالفعل أعدت قنبلة سوفييتية لشحنها إلى الصين، ولكنهم تراجعوا عن إرسالها لتخوف القادة السوفييت من صنع عدو محتمل. ومع تأزم الصراع، قام السوفييت في عام 1960 باستعادة ستمائة مستشار فني ليرحلوا ومعهم مخططات لمئات المشروعات الصناعية التي لم تكتمل بعد، تاركين الرفاق الصينيين في موقف عصيب.
صفحة غير معروفة