وضع ماو مهمة الترويج للفن الاشتراكي بين يدي زوجته، الممثلة السابقة جيانج تشينج، التي قامت بتنظيم سلسلة من الأعمال المسرحية النموذجية. ولعل النظر إلى جيانج تشينج كمنتجة تعمل مع مجموعة من المطربين، والراقصين، والملحنين المحترفين، من ضمنهم وزير الثقافة يو هوي يونج، هو أفضل منظور يمكن النظر منه إليها. وقد انضمت تلك الأعمال إلى تيار قديم لتحديث الفن من خلال دمج عناصر غربية بشكل انتقائي، مثل الأوركسترا والباليه، ولكنها هنا من أجل خدمة الثورة وليس للترفيه. وكانت جيانج تشينج فخورة بأعمالها الإنتاجية الجديدة، ولكنها لم تكن تحتمل المنافسة. وعلى الرغم من أنها قد بدأت نشاطها قبل الثورة الثقافية، فإنه لم يهيمن حتى وقوع حركة تطهير اليسار المدني وانتهاء التعبئة الجماهيرية. وقد قدمت جيانج تشينج مجموعة من ثمانية أعمال نموذجية للأمة في مايو من عام 1967، حين كانت الثورة الثقافية تعمل على تفكيك حرسها الأحمر بالقوة.
كانت هناك مسرحيات أخرى، عرض بعضها كمسرح شارع، ولكن عرضت مسرحيات أخرى بطموحات أكبر، مثل مسرحية غنائية عرضت في ووهان بعنوان «اقصفوا وانج كوانج، أحد أهل السلطة يتخذ الطريق الرأسمالي». ثمة عمل آخر أكثر شهرة بعنوان «مجنون العصر الحديث»، وهي مسرحية عرضت في تانجين. كان بطل المسرحية هو تشين لينينج، الذي أودع أحد مستشفيات الأمراض العصبية قبل الثورة الثقافية لاحتفاظه بمذكرات نقدية عن كتابات ليو شاوشي. وعندما أطيح بليو من السلطة، أفرج عن تشين واحتفي به كأسير سياسي محرر. وقد دعم المسرحية وانج لي وتشي بنيو من مجموعة الثورة الثقافية. ولكن تشين لينينج كان يحتفظ بمذكرات نقدية لماو، والتي اكتشفت، بينما كانت حركة التطهير ضد يساريي الثورة الثقافية تكتسب زخما. وقد أعلنت جيانج تشينج أن تشين لينينج ليس بطلا، ولا حتى مجنونا، ولكنه معاد للثورة. وقد وصمت هذه المسرحية بصلات مزعومة لها بمؤامرة 16 مايو، وهي مؤامرة ضد الماويين لم يكن لها وجود، ولكنها اختلقت للإطاحة بالسياسيين اليساريين الصاعدين أمثال وانج وتشي.
كانت جيانج تشينج تغار من أية منافسة لمشروعاتها الفنية ذات التخطيط الدقيق، وكانت شديدة الحساسية تجاه ابتكارات الحرس الأحمر التلقائية. واستغلت انتهاء حركة الحرس الأحمر لإيقاف تمسكهم البالغ التطرف بالهوية الثقافية. ومن ثم تدخلت جيانج تشينج لحماية شكلين مستوردين من الفن، هاجمهما الحرس الأحمر باعتبارهما من الفنون البرجوازية، وهما: الرسم بالزيت وموسيقى البيانو. فقد رأت جيانج تشينج كلا الفنين كفرص لتغيير الفن الصيني. وعلى الرغم من سعادتها برؤية فن الفنانين الفرديين والمتعصبين يعاني، فلم تكن راغبة في السماح لأعضاء الحرس الأحمر السذج بحرمانها من الألوان العميقة والبراقة للرسم الزيتي، أو من لوحة الألوان الصوتية الغنية للموسيقى الغربية. وقد أشادت حملتان مزدوجتان دشنتا في عام 1968 بلوحة «الزعيم ماو في أنيوان»، ونسخة البيانو من الأوبرا النموذجية «المصباح الأحمر» بوصفهما إنجازات ثورية جديدة؛ إذ أبرز كلاهما فنانا شابا جديدا. فقد صور الرسام ليو جون هوا الشاب ماو بملامح القديسين وهو في طريقه إلى إضراب لعمال التعدين وقع في عام 1924؛ وقد تم توزيع تسعمائة مليون نسخة من هذه اللوحة في جميع أنحاء البلاد. أما عازف البيانو يين تشينج تسونج، الحائز على جائزة في مسابقة تشايكوفسكي بموسكو، فقد صنع مقطوعة مصاحبة بالبيانو لواحد من أشهر أعمال جيانج تشينج النموذجية. وظل الرسم والموسيقى الفعليان المستوردان من الغرب محل جدل على مدار حقبة الثورة الثقافية، غير أنه لا أحد كان سيتساءل عن تعديل وسائلهما وموادهما الأساسية، والتي كانت تنقى في ذلك الوقت من أجل الثورة.
كانت أوبرا «المصباح الأحمر» واحدة من المجموعة المبدئية من «الأعمال المسرحية النموذجية» الثمانية، التي كان خمسة منها عبارة عن عروض أوبرالية بأوبرا بكين تناولت موضوعات ثورية، تم تحديثها ليس فقط في القصة، وإنما أيضا في التوزيع الموسيقي وطريقة العرض، فيما كان اثنان منها عبارة عن عروض باليه وواحد عبارة عن مقطوعة سيمفونية، وكلاهما كان شكلا ورد حديثا للصين، على الرغم من أن جيانج تشينج قد قللت من أهمية أصولهما الأجنبية.
كانت لهذه الأعمال المسرحية النموذجية شعبية بالغة، وتم عرضها في جميع أنحاء البلاد. على سبيل المثال، يدور باليه «الفتاة ذات الشعر الأبيض» عن فلاحة شابة أجبرت على الاختباء في الجبال بسبب إقطاعي حاقد حتى اشتعل رأسها شيبا، وظنها الفلاحون شبحا. ولكنها تعود إلى موطنها بعد أن قضت الثورة على الإقطاعي. فكرة العرض ثورية، ولكنها أيضا تتعلق بالمرأة والمساواة (على الرغم من أن الثورة الثقافية لم توظف هذا المصطلح). وعلى الرغم من أن الموسيقى صينية بشكل واضح، فإن النوتة الموسيقية مؤلفة لتناسب آلات أوركسترا سيمفونية غربية.
وعلى عكس الأوبرا الصينية التقليدية، أصبحت الموسيقى أعلى، لتنفصل بذلك عن المجموعات الصغيرة من الآلات الوترية التقليدية. ولكن ثمة اختلاف أكبر تمثل في محتوى الأعمال الجديدة؛ فبينما كانت الأوبرا التقليدية تركز على قصص الوعظ الأخلاقي المستقاة من أساطير الأسر المالكة القديمة، كانت الأعمال المسرحية النموذجية تجسد في الحاضر، مشتقة دروسا من الحقبة الثورية.
وقع اختيار الراديكاليين على الفنون الأدائية لما تحويه من تجديدات؛ لأن الأدب، ذلك الفن الذي كان الأقرب تاريخيا للسلطة في الصين، كان يخضع لسيطرة صارمة من قبل خصومهم. ولم يكن الاستيلاء على السلطة في المسرح أسهل فحسب، ولكن خلفية جيانج تشينج كممثلة منحتها ثقة بالنفس إزاء المسرح، افتقدتها مع الفنون الأخرى. كذلك تتسم الأوبرا الصينية كشكل فني بشعبية أوسع من الأدب، مما جعلها أكثر ملاءمة للإصلاحات الشعبية. وأخيرا، كانت الأوبرا ملائمة للعروض النموذجية، بما في ذلك عروض الهواة والنسخ الفيلمية، بطريقة لم تتح للروايات أو القصائد. وهذه الاختيارات منحت فنون الثورة الثقافية حيوية فورية واتجاها سياسيا.
بعض اختيارات جيانج الفنية الأخرى كانت شخصية إلى حد كبير؛ فقد كانت تكره الأغاني الفولكلورية، ورفضت فرصة لدمج ألحان لها شعبية مثبتة في أعمالها. كذلك كانت تراجع الآلات المستخدمة في اللحن السيمفوني بشكل منتظم، وقررت أن آلة التوبا قبيحة ومن ثم لم تجد مكانا لها في برنامجها. لقد مزج الفن المركب الذي أنتجته بين الفن غير الراقي والفن الرفيع، وهو يناسب نهج حركة الرابع من مايو في تحديث الصين من خلال ثقافتها. (3) جماليات الثورة الثقافية
الأهم من نزعات جيانج تشينج الشخصية أن الثورة الثقافية قد استفادت من بعض التقاليد القديمة على الرغم من أنها كانت تنادي بفن راديكالي جديد. لم يسبق لمصطلح الفن لأجل الفن أن ساد في الصين مطلقا، فغالبا ما يعتقد الغرب أن الفن لا بد أن يسمو بالروح، وأن قراءة رواية «الحرب والسلام» لتولستوي، أو التحديق في تمثال فينوس دي ميلو يساعد في تكوين إنسان أكثر تحضرا ورهافة. وتلك أمنية إنسانية بحتة: أن تمكننا الفنون من فهم الحقائق الأساسية عن الطبيعة البشرية. كذلك يقل لدى الغرب التقاليد الفنية الموجهة للإقناع، مثل لوحات فرانسيسكو جويا المريعة عن الحروب النابليونية، أو أفلام سيرجي أيزنشتاين عن الثورة الروسية. والفن ذو الرسالة في الصين تقليد أساسي؛ فالفنانون الصينيون على اختلاف قناعاتهم السياسية يسلمون بديهيا بأن فنهم لا بد أن يكون بمثابة تعليق على الحياة العامة، إما كموظفي دعاية مدفوعي الأجر أو كنقاد منشقين عن النظام. إن الفن ليس بحاجة لامتلاك قناعة سياسية، ولكن معظم الفنانين يتفقون في الرأي على أن الفن لا بد أن يثقف ويوعي. والحق أن البعض يعتبرونه عملا سياسيا حين يتجه الفنانون إلى الداخل لأفكار شخصية تأملية.
ويتوافق هجوم الثورة الثقافية على التجارة تماما مع فكرة أن النشاط التجاري قد لوث الفن. والواقع أن جزءا كبيرا من عالم فنون ما قبل الحداثة في الصين ارتبط بالتجارة. ولكن الأنشطة التجارية غالبا ما كانت تتخفى في شكل هدايا أو لا تسجل، حتى يتسنى للجميع الإبقاء على ذلك الوهم الأرستقراطي الأنيق بأن الفن يسمو فوق المال. وقد شجعت الثورة الثقافية تقديس الهواة، للتحقير من نخبوية الفنانين المحترفين. فقد خيل للراديكاليين أن العمال، والفلاحين، والجنود يمكنهم أن يصبحوا فنانين ومؤدين من شأن مشاركتهم أن تحدث ثورة ثقافية جديدة. والحقيقة أن إصرار جيانج تشينج على المعايير العالية قد أدى إلى الاستغلال غير المعلن للمحترفين كمعلمين للفنانين الهواة، وهو الأمر الذي تم إخفاؤه بحرص عن أنظار الرأي العام.
صفحة غير معروفة