انحسر تأليه ماو في السبعينيات تزامنا مع انحسار الاستخدام الفعال للدراما من قبل ماو. فمع تدهور صحة ماو، أصبحت كلماته مبهمة وغامضة أكثر منها ملهمة . وركزت إحدى الحملات التي انطلقت في عام 1975 على رواية «حافة الماء»، وهي رواية كلاسيكية عمرها خمسمائة عام تدور حول قطاع الطرق الفلاحين. وفي تعليق مرتجل، قال ماو تسي تونج إن هذه الرواية المحببة إليه أبرزت مثالا سلبيا ل «أنصار الاستسلام». واستشهد بكلمات ماو في افتتاحيات الصحف، وبدأ مثقفو الأمة، الذين لم يزالوا يترنحون من صدمة السنوات الأولى للثورة الثقافية، في إجراء تحليلات موجعة للرواية، باحثين عن أدلة أو إشارات لتحديد السياسي الذي تمثله كل شخصية من شخصيات الثوار من الفلاحين. لم يكن ماو يتجه لمرحلة الخرف، ولكنه كان مصابا بمياه بيضاء على العين، مما جعل القراءة مهمة صعبة، فأدلى بملحوظته لأكاديمي شاب مكلف بالقراءة له بصوت عال. غير أن التعليق نقل واستخدم بشكل أخرق من قبل راديكاليي الثورة الثقافية.
وجاء زلزال تانجشان الكبير الذي وقع في عام 1976 ليقتل أكثر من ربع مليون نسمة، وكان شكلا آخر من أشكال الدراما غير المخطط لها. ورآه البعض فألا حسنا، فيما رآه البعض كارثة بدت نذير شؤم. وفي كلتا الحالتين، لم يكن بالإمكان السيطرة على المشهد أو إخفاؤه بدعوات «تعميق النقد لدنج شياو بينج بشأن أعمال الإغاثة». (3) التمرد
بغض النظر عن مدى التكلف في إيماءات قادة الصين، لا يجب أن يتخيل أحد أن ماو قد استحضر الثورة الثقافية من العدم بإشارة من إصبعه. لقد أطلقت الثورة الثقافية المرارة المتراكمة منذ عام 1949، وساهمت التوترات الممتدة في انقسام النخبة السياسية بشأن الكيفية التي يجب أن تتعامل بها الصين مع إرثها الثوري وأعباء التنمية الاقتصادية. وقد كانت هذه التوترات ملموسة من قبل المواطنين الآخرين، إن لم تكن تبدو واضحة أحيانا. وتسارعت وتيرة هذه التوترات مع تفاعلها مع العوامل الديموغرافية. فقد كان للسلام والرخاء أثرهما في زيادة أعداد الشباب الصيني، والانتشار السريع للمدارس كان يعني أن أعدادا كبيرة من الشباب متعلمون ويطمحون لوظائف جيدة في مجالات بعيدة عن الزراعة. ولكن ثورة 1949 نصبت مجموعة من القادة الشبان نسبيا. ومع ذلك ظل أغلب القادة في أماكنهم يعترضون سبيل فرص الترقي الوظيفي للجيل الأصغر. في الوقت نفسه، كانت المدارس والجامعات تعج بالمواطنين المحبطين والتعساء بشكل عام، على أثر حملة عام 1957 المناهضة لليمينيين التي استهدفت المعلمين باعتبارهم «عناصر يمينية».
وهكذا كان من السهل على الماويين تعبئة الشباب في بداية الثورة الثقافية؛ فشارك معظم شباب الحضر الصينيين. وكانت الغالبية العظمى من الحرس الأحمر من طلاب المرحلة الثانوية. ويوجد فئة عمرية معينة من سكان الحضر الصينيين اليوم كانوا من الحرس الأحمر بشكل شبه مؤكد؛ فعضو الحرس الأحمر ذو الستة عشر عاما ولد في عام 1950. لم يكن تنظيمهم من قبل الدولة، ولكنهم وجدوا بشكل عفوي، ليقوم الماويون بعد ذلك بتوسيع نطاق دعمهم السياسي، مما مكن الحركة من الانتشار بشكل أسرع.
كان من أحد أدوات الدعاية لدى الحرس الأحمر «الملصقات ذات الأحرف الكبيرة»، وهي مقالات سياسية في حجم الملصق كان يتم تعليقها على أحد الحوائط العامة. كان من الممكن أن تكون الملصقات ذات الأحرف الكبيرة عبارة عن مجادلات، أو إعلانات، أو مكاشفات عن السلوك السياسي السابق للمسئولين قيد الهجوم. وغالبا ما كان الحرس الأحمر يلجئون للحلفاء الراديكاليين في الحزب من أجل تسريب الوثائق والمعلومات حسبما كتبوا. وقد كتب ماو تسي تونج معلقته ذات الأحرف الكبيرة - «اقصفوا المقار الرئيسية» - للتشديد على دعمه لحركة الحرس الأحمر الوليدة. وقبل ذلك بفترة طويلة، كانت المعلقات تدعم بصحف ومجلات الحرس الأحمر، المليئة بالبيانات الصحفية، والتي كانت خارج سيطرة الإعلام الذي يديره الحزب الذي كان لا يزال تحت سطوة المحافظين. كانت المعلومات التي يتم إفشاؤها دقيقة بشكل عام، يصاحبها تسجيلات لاجتماعات على مستوى رفيع واقتباسات غزيرة من الخطب التي تم إطلاق سراحها من ملفات الحزب. وكانت هذه المواد غالبا ما تقطع من سياقها أو تعطى أسوأ تأويل ممكن، ولكن لم تكن تزيف هكذا ببساطة.
كانت مشاركة الحرس الأحمر عملا سياسيا، ولكنها أيضا كانت شكلا من أشكال تمرد المراهقين، مما أتاح فرصا لخبرات وتجارب كانت ستصبح ممنوعة. ولتيسير عملية «تبادل الخبرات الثورية»، قامت شبكة السكك الحديدية الصينية بتوفير وسائل انتقال مجانية للحرس الأحمر في خريف عام 1966. وقد مكنت «السياحة الثورية» الشباب من السفر لأول مرة، وزيارة مدن بعيدة باسم الثورة. كانت نشوة الشباب هي الحالة المبدئية المسيطرة، دعمتها لغة صارمة ذات طابع عسكري؛ إذ كان الأعضاء السابقين لاتحاد الشباب المنحل في ذلك الوقت يعيدون تصور أنفسهم في تنظيمات على غرار «مجموعات مقاومة الراية الحمراء» و«محاربي 16 مايو الثوريين». وأحيانا ما كانت مثل هذه المسميات المهيبة قناعا يخفي تحته مجرد مجموعات صغيرة من الأصدقاء يجمعهم اهتمام مشترك بالرياضة أو الراديو. وكانوا يقوون عزيمتهم بواحد من الاقتباسات المفضلة لدى ماو من رواية «حلم الغرفة الحمراء»: «من لا يخشى الموت من ألف جرح، لديه الجرأة على طرح الإمبراطور من على صهوة جواده.»
انبثق قدر من العنف الأحمق للثورة الثقافية في بداياتها من حقيقة أن البلاد قد سلمت فيما يبدو لعصابات من طلاب المرحلة الثانوية، دون أن يجرؤ أحد على كبح جماحهم خوفا من شبهة معاداة الثورة. وقد شهد شهرا أغسطس وسبتمبر من عام 1966 حالة هياج من قبل الحرس الأحمر، تخللها بحث عاصف عن أعداء خياليين. ففي بكين، أغارت فرق من الحرس الأحمر على أكثر من 100 ألف منزل بحثا عن مواد رجعية معادية، وأجبروا المثقفين وبعضا ممن كانت لهم مصادمات سابقة مع النظام على إصدار انتقادات ذاتية. وقام بعض أفراد الحرس الأحمر بضرب الناس بأبازيم الأحزمة، وتعذيبهم بالماء المغلي. وقد مات 1700 شخص في بكين، فيما قضي سكرتير حزب تيانجين، وقائد أسطول بحر الصين الشرقي، ووزير صناعة الفحم نحبهم بعد اجتماعات النقد. وكان هناك حالات انتحار مشهورة بعد اعتداءات الضرب التي قام بها الحرس الأحمر، كان من ضمنها حادث انتحار الروائي المعروف لاو شه. وكان المسئولون المحنكون المعروفون من أشد المطلوبين لحضور طقوس اجتماعات النقد، حيث كانت الحشود الثورية تعبر عن كراهيتها للقادة الذين تعرضوا للتطهير. وقد اقتيد نائب رئيس الوزراء، بو ييبو، رئيس المفوضية الاقتصادية الحكومية، لمائة جلسة من جلسات النضال. ولعدم قدرة زوجته على تحمل التوتر والإجهاد، قتلت نفسها. غير أن الغالبية العظمى من الحرس الأحمر الذي يقدر أفراده بالملايين لم يتسموا بالعنف، والكثير منهم كانوا يجهرون بمعارضتهم للعنف، وإن كان بتأثير مختلط.
ومع اعتبار المشاركة شبه الشمولية للحرس الأحمر، فليس من المستغرب أن يحدث بينهم انقسامات داخلية خطيرة؛ فقد كان الجميع يدعون «الثورية»، بما في ذلك أبناء المسئولين الذين استهدفتهم الهجمة الماوية. واعتمدت إحدى الوحدات سيئة السمعة التابعة للحرس الأحمر، وهي وحدة «المقار الرئيسية للحراك الموحد» نظرية «وراثية» في هذا الصدد، فقد زعم أن أبناء العمال، والفلاحين الفقراء، والكوادر الثورية، ثوريون بالفطرة، بينما لا يمكن أبدا لأبناء الرأسماليين وملاك الأراضي التغلب على أصلهم الملوث. وقد تجنبت نظرية الوراثة بإتقان وعناية دعوات ماو للتركيز على «أتباع الطريق الرأسمالي» داخل الحزب بصرف الأنظار إلى أعداء الثورة الذين دحروا بالفعل. تم قمع نظرية الوراثة، لكن ظلت النزعة للتضحية بمن هم في موضع هجوم أو نقد. وقد كان هذا يعني لبعض الشباب الصيني «رسم حد فاصل واضح» بينهم وبين أفراد عائلاتهم ممن لديهم خلفية طبقية سيئة، أو تاريخ سياسي معقد (كابن عم في تايوان أو مجند في جيش الكومنتانج). وكان هذا يعني للجميع تقريبا أن أعضاء «الفئات الخمس السوداء» (ملاك الأراضي، والفلاحين الأثرياء، والمعادين للثورة، والعناصر الفاسدة، واليمينيين) قد عزلوا، حتى وإن لم يتعرضوا فعليا للإذلال والإساءة.
لمع نجم الحرس الأحمر خلال فترة قصيرة. وكان «أغسطس الأحمر» من عام 1966 هو أوج تألقهم، حينما وقع معظم أعمال العنف ضد المعلمين والمسئولين. وقد اقتصر تدمير المنشآت الثقافية والغارات على منازل الأثرياء على الأيام الأولى للثورة الثقافية. وبقدر شناعة أعمال العنف، فقد خبت جذوة هذه الهجمة الاستهلالية العنيفة للثورة الثقافية سريعا؛ إذ جاهدت السلطات الماوية بقوة لتحجيم هذه الهجمات العلنية. ومن ثم لا يجب أن نتخيل أن هذا العقد كان عقد اغتيالات واعتداءات بالضرب. وعلى الرغم من أن معظم الحرس الأحمر لم يكن يعتدي على الناس بالضرب، فإن هؤلاء الذين اتسموا بالعنف وجهوا غضبهم بعد ذلك ضد فصائل الحرس الأحمر المعادية. فكان الحرس الأحمر يصنع الأسلحة، أو يستولي على البنادق من الجيش ، بما في ذلك الأسلحة الروسية أثناء عبورها إلى فيتنام. وبحلول عام 1968، انتهت هذه المرحلة من الثورة الثقافية. وتم إرسال سكان المدن من الشباب إلى الريف «للتعلم من الفقراء وفلاحي الطبقة الدنيا».
لم يكن التمرد قاصرا على الحرس الأحمر؛ فقد انضم صغار المسئولين إلى ركب المتمردين بأعداد كبيرة، إلى جانب الكثير ممن كان لهم عداوات مع سياسات السنوات السبع عشرة. واستخدم ناشطون من طبقات العاملين المؤقتين، الذين حرموا من الامتيازات الكاملة للعاملين الدائمين، الثورة الثقافية للمطالبة بتعويضهم. وعلى الرغم من إخفاقهم، فقد انزعجت السلطات من إمكانية حدوث اضطرابات على مستوى المصانع. وفيما بعد، عندما يئس القادة الماويون من حلفائهم من الطلاب، قاموا بزرع مجموعة من المتمردين من الطبقة العاملة الذين سيكونون متزنين سياسيا.
صفحة غير معروفة