ثمة نوع آخر من التفسير يركز على عوامل اجتماعية أو ثقافية أعم. تفترض هذه المناهج أن السياسة الصينية تشترك في أمور كثيرة مع السياسة في أي مكان آخر: إذ يصبح الأشخاص على وعي بالمعاناة والظلم، ويبحثون عن فرص للتنفيس عن غضبهم، ويعقدون صفقات سياسية جديدة بمساعدة الوسطاء السياسيين في الغالب. كذلك يتأمل بعض المحللين في مسألة المستفيدين من الدعوة للثورة الثقافية. على سبيل المثال، عند حشد الشباب للانضمام لحركة الحرس الأحمر، استندت دعوات المثاليين إلى اعتراف غير معلن بأن المجتمع الصيني به عدد ضخم من الشباب يتعذر معه تحقيق الأحلام المهنية لكل شخص. فقد كانت الزيادة الهائلة في عدد السكان التي تولدت من حالة السلام والرخاء التي سادت المجتمع تحمل بين طياتها عواقب سياسية. ونظر بعض الباحثين إلى تأثير الاختيارات السياسية السابقة، مثل اعتماد الحزب على الحملات السياسية والرقابة المحكمة على أعدائه الخياليين، فيما ركز آخرون على التأثير المتواصل للأوتوقراطية التقليدية، وغالبا ما يكتنف ذلك نزعة لينينية. فمن السهل أن ترى في طقوس وسلوكيات الثورة الثقافية تأثير التقاليد الصينية الهرمية. ومثل هذه الاعتبارات الثقافية تسلط الضوء على الشكل الذي تكشفت به الأحداث، ولكنها لا تفيد كثيرا في تفسير سبب وقوعها.
ثمة نوع مختلف من المجادلات يبحث في القوى العالمية. على سبيل المثال، عندما بدأت الثورة الثقافية، قام الكثير من المحللين الغربيين بتفسيرها كرد فعل على تصاعد الهجوم الأمريكي على فيتنام، وإن كان عمق الحركة سرعان ما جعل ذلك يبدو تفسيرا خاطئا. غير أنه فيما يبدو أن السياق الأوسع للحرب الباردة، مقترنا بالعزلة الدولية التي فرضت على الصين، قد أضاف عبئا على النظام السياسي للصين. وقد ساهم الشقاق مع الاتحاد السوفييتي في هذه العزلة. ورأى البعض أن دراسة ماو للطرائق البيروقراطية السلبية للاتحاد السوفييتي كانت عاملا مساهما في ذلك. غير أن المرآة السوفييتية ربما عكست ما أراد ماو أن يراه، ومن الصعب أن نتخيل أنه قد أطلق الثورة الثقافية بسبب تطورات حدثت في دولة أجنبية. فالثورة الثقافية عززت عزلة الصين في البداية، ثم بدأت في هدمها.
إن معظم الباحثين في مجال الثورة الثقافية كانوا سيتفقون على عدم وجود منهج واحد كاف. فالأزمة السياسية الكبرى التي حدثت في بداية الستينيات عملت على تأجيج صراع النخبة، وتفاقم التوترات الاجتماعية، وفصل الدولة عن بقية المجتمع الدولي. ويبدو من غير الملائم أن نحصر تركيزنا في بيان مبسط لتوضيح من فعل ماذا ولمن، متجاهلين القضية الأعم، والمتعلقة بالكيفية التي يمكن أن يرتبط بها عقد الاضطرابات الذي شهدته الصين بموقعها في السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
الفصل الثاني
السياسة تتولى زمام السيطرة
كانت عبارة «السياسة تتولى زمام السيطرة» شعارا ماويا معروفا لتذكير الثوار الثقافيين بأن الاختيار السياسي الصحيح وقوة الإرادة لتطبيقه من شأنه أن يقيم حركتهم أو يهدمها. وهناك ثلاث سمات في الأدوات القياسية للسياسة الصينية ساهمت في عزلها عن الممارسات الغربية.
السمة الأولى أن الحزب الشيوعي كان يحكم بدون أي تحديات جادة، ليستمتعوا بذلك بتفوق لوث التمييز المنهجي الذي وضعه الغرب بين الحزب والدولة. لقد كانت الصين تفتقر لرئيس دولة يقف في صف الثورة الثقافية، ولم يبد ذلك مهما. فعلى الرغم من الخطاب البلاغي للثورة الثقافية والفوضى المصدق عليها من قبل الدولة، استمر الحزب الشيوعي في التوسع والانتشار، ليزداد عدد أعضائه من 18 مليونا في عام 1966 إلى 34 مليونا في عام 1976. غير أن الخوف من تأثير البرجوازية أغلق المنظمات التابعة للحزب المخصصة للشباب والمرأة، وأغلقت الأحزاب الديمقراطية الثمانية المزعومة التي كانت تشارك الشيوعيين الحكم ظاهريا.
السمة الثانية أن الحزب كثيرا ما كان يتجه لأساليب بيروقراطية من الطراز الأول، لا سيما الحملات الجماهيرية التي كانت تنظم خارج الهيئات الحكومية الطبيعية، والتي كانت تحشد المسئولين والناشطين والمواطنين العاديين لتحقيق هدف بعينه. وقد شملت هذه الحملات أهدافا متباينة مثل محو أمية المرأة، أو الإصلاح الزراعي، أو القضاء على البلهارسيا (وهو مرض كبدي معد ينتشر في جنوب الصين)، أو كتابة الشعر، أو بناء مصاهر الأفنية الخلفية للصلب خلال مشروع القفزة الكبرى إلى الأمام. كانت الحملات تجيد تسخير الموارد، ولكنها لم تكن بارعة للدرجة في توزيعها، كما قد توحي المصطلحات العسكرية. لقد كانت أكثر ملاءمة لبعض المهام عن غيرها، ولكنها تركت البيروقراطية - عمدا - في حالة من التحفز والدفاعية. وفي بعض النواحي كانت الثورة الثقافية نفسها حملة ممتدة تألفت من حركات أصغر لها بؤرة تركيز أضيق.
أما السمة الثالثة، فتتمثل في قيام الحزب بوضع نظام لتصنيف المواطنين الصينيين وفقا لمكانتهم السياسية. ويرجع أصل نشأة هذا النظام إلى حملات الإصلاح الزراعي الكبرى التي صاحبت الثورة، عندما كان الحزب بحاجة إلى معرفة ملاك الأراضي من الفلاحين الذين لا يملكون أية أراض حتى يتسنى مصادرة الموارد من مجموعة لمنحها للأخرى. أصبحت التصنيفات رسمية وبيروقراطية، ولكن بتداعيات مهمة بشكل واضح. وبعد الإصلاح الزراعي، تم تجميد التصنيفات الطبقية، ثم ورثت للأبناء بعد ذلك. وجاءت حملات سياسية لاحقة عززت هذه التصنيفات؛ إذ اتجه الحزب «للفلاحين المعدمين» أو أبنائهم لدعمهم ومساعدتهم ، فيما نظروا شزرا لمن كانوا يوما ما ملاك أراض وأبنائهم. وأضيفت تصنيفات أخرى بناء على المكانة السياسية وليس على أساس الموقف الاقتصادي السابق. وعندما بدأت الثورة الثقافية، تألفت «العناصر الخمسة السوداء» من أصحاب الأراضي، والفلاحين الأثرياء، ومعارضي الثورة (الذين قاوموا الحكم الشيوعي)، والعناصر الفاسدة (الذين ارتكبوا جرائم)، واليمينيين (الذين راحوا ضحية لحملة عام 1957 ضد منتقدي الحزب).
تقدم الثورة الثقافية موسوعة لمعالم السياسة الصينية، بما في ذلك المثالية، والشغب، والمؤامرات، والشبكات الاجتماعية، والروتين البيروقراطي، والسجن السياسي، والعرائض، والرشاوى، والمال الانتخابي، والدراما، وصفقات الغرف الخلفية، والانقلابات العسكرية. وكان لهذه الممارسات أثرها في تضخيم وتشويه النظم السياسية الروتينية العادية في الصين. ولعل من الموضوعات التي توضح مدى التعقيد السياسي الذي اتسمت به الحقبة: التصنع، وتأليه ماو، والتمرد، والنظام، والحزبية. (1) التصنع
صفحة غير معروفة