ذي السم الزعاف المسمى ستركنين أو كثمرة الأفيون مثلا؟
فتبسمت فينوموس ابتسامة استهزاء وقالت: لا بدع أن يغرب عن بال فيلسوفنا جستوس ما غرب عن بال الفيلسوف أرخميدس، حين طلب إلى العمار أن يبني كنا لكلبه وهرته المؤتلفين، فلما أنجز العمار بناء الكن انتقده أرخميدس بقوله: هذا كن بباب واحد فقط لدخول الكلب، فأين الباب لدخول الهرة؟ ... فأجاب العمار مستغربا: ألا تستطيع الهرة يا سيدي الفيلسوف أن تدخل من حيث يدخل الكلب؟ فضحك الفيلسوف من غفلة نفسه، فهل غفل فيلسوفنا جستوس عن أن ثمرة الجوز المقيء مرة المذاق دميمة النظر ومثلها ثمرة الأفيون، فكيف يمكن إغراء زميلتي أم البشر أن تأكل الجوز المقيء أو جوزة الأفيون؟! وهل غفل فيلسوفنا أيضا عن أن هاتين الثمرتين لا تخلوان من الخير؟! فتلك تقوي الفؤاد وهذه تسكن ثورة الأعصاب الأليمة، فلا أفضل من التفاحة للإغراء؛ لأنها جميلة للنظر شهية للنفس.
فقال جستوس مداعبا: ولكن للتفاحة تاريخا غلب فيه الخير على الشر؛ فالتفاحة فتقت ذهن نيوتن لاكتشاف ناموس الجاذبية، ذلك الناموس الذي وسع دائرة المعرفة وجعل قطرها ألف ضعف، فانبثق منه ألوف صنوف المعارف والاختراعات التي أغدقت الخير على الجنس البشري، فكأنك بإغرائك أم البشر بالتفاحة قد أتيت لنا بالخير خصما عنيدا وعدوا لدودا للشر.
فقهقهت فينوموس بالرغم من رزانتها وقالت: إني أحيل نظريتك هذه إلى الوزيرين فيرومارس وزير الحرب، وأرجنتوس وزير المال؛ فهما يفندانها لك، ويريانك كيف أن المعرفة التي يتبجح بها خلفاء نيوتن كانت خادمة الشر، وكيف أن مستحدثات العلم والاختراعات التي يفخر بها بنو الإنسان تحولت إلى أدوات قتال ودمار.
فقال جستوس: بالرغم مما تعنين فإن إله الخير شرع يطارد إله الشر منذ أكل أبو البشر التفاحة الأولى؛ لأنهما حالما تفتحت عيناهما وعرفا الخير والشر جعلا يخيطان من ورق التين مئزرا لهما؛ لكي يسترا عورتيهما احتشاما. فليتهما لم يأكلا التفاحة ولا احتشما؛ لأن احتشامهما كان أول طلائع الخير، ومنذ ذلك الحين أصبحنا منهمكين بمقاتلة الخير.
فقال فينوموس بقليل من الحدة: زه، زه، ما هذا المنطق المحذلق يا معلم، عذرا، أتريد أن يبقى آدم وحواء ساذجين يسرحان ويمرحان في الفردوس إلى الأبد؟! كيف تستطيع إذن أن تحارب ملكوت الإنسان وهو في الفردوس، وباب الفردوس يحرسه ملاكان مسلحان بسلاح لا يتقى، فإذا لم يخرجا من الفردوس فكيف نحاربهما، أليس من خداع الحرب أن تستدرج الخصم ليخرج من حصته، ثم تجاربه في ساحة الوغى! من طرد آدم وحواء من الفردوس؟ - خالقهما لأنهما عصيا وصيته. - لا، بل أنا طردتهما منه حيث سولت لهما هذه المعصية. - وما فرية طردهما وقد خرجا مؤتزرين مستتري العورة، وهل ستر العورة إلا حشمة، وهل الحشمة إلا فضيلة؟ وهل الفضيلة إلا ضرب من الخير؟ فكأنهما خرجا وفي قلبيهما حصن للخير لا يستطيع سلاح الشر فتحه. - بخ، بخ ... كيف تفسر ستر عورتهما بالحشمة يا معلم؟ - إذا لم تكن هي الحشمة فماذا تكون؟! - لم يكن مئزرهما إلا مولدا للفن، فمنذ طفق الإنسان يكتسي ولد الفن وجعل يترعرع، وهل أناقة الأزياء والحلي والحلل والرياش إلا شعاب من الفن؟ وهل الغزل الشعري والغناء والرقص إلا فروع من الفن؟ وهل التمثيل والتصوير والنقش والنحت إلا غصون من دوحة الفن؟ - إنها لكذلك.
وهل الفن إلا ثمرة الحكمة، وهل الحكمة إلا فضيلة؟ وهل خير أعظم من خير الفضيلة؛ إذن الفن خير أعظم الخير.
فقهقهت فينوموس، ثم قالت: وهل عري الترائب في الرقص ولف السواعد على الخصور، وإطباق النهود على الصدور حشمة ففضيلة فخير؟ وهل نحت تمثال فينوس عاريا حشمة؟ وهل التغزل بأعضاء البدن حشمة؟ أو هل ... إلى آخر ما تعلم من بدائع الفنون؛ هل في كل ذلك قصد الحشمة أم قصد إثارة الشهوة؟! فما في ضروب الفن إلا التفنن في إثارة الشهوات، فلله در التينة التي انبثق من خياطة أوراقها الفن، ولله در التفاحة التي انبثقت منها الحكمة، ورقة التين أم الفن وثمرة التفاح أم الحكمة، غذتا الفن، وكلتاهما تجندتا تحت راية الشهوة. فالحشمة التي حسبتها خيرا يا معلم ليست إلا ذئب الشر في جلد خروف الخير، كذلك كلما تقدم الفن خطوة نشطت الشهوات خطوات في ميدان الخلاعة والتهتك، أليس الإنسان أشد غلمة وشبقا من جده الحيوان ألف مرة وكرة؟! فكيف تريد أن تشب الحروب في ملكوت الإنسان إذا لم يكن في قلبه الخصمان الخير والشر؟!
أيد واحدة تصفق؟! أبشطر واحد من الكهرباء يحدث تيار؟! إذا كان أحد غيري يستطيع أن يبتدع شرا بلا خير فليتفضل، وأنا أتنازل له عن عرشي. - عفوا ومعذرة يا مولاتي، لا تستائي من اعتراضي، فما هو إلا قبس ضئيل من بارع دهائك وبالغ حكمتك. - أجل لا يمكن أن يبتدع شر محض لا يمازجه خير، ولقد ابتدعت الشر، فعليكم أن تتجندوا له لكي تقاتلوا الخير. تفضلوا أنبئونا ماذا فعلتم في حروب الشر والخير؟!
عند ذلك دوى المكان بالهتاف لملكة الدهاء.
صفحة غير معروفة