حقيقة مفاجئة‏

من هم العرب؟!‏

أسماء أخرى‏

الكتابة العربية‏

الأبجدية اليونانية‏

ومن العرب الأقدمين تعلم اليونان صناعات الحضارة‏

والفلسفة‏

تلاميذ أبديون‏

ثم الثقافة العبرية‏

العبرية والعالمية‏

الدين‏

إبراهيم وموسى وداود يتعلمون‏

اللغة والكتابة‏

الشعر‏ ... ونهاية المطاف‏

حقيقة مفاجئة‏

من هم العرب؟!‏

أسماء أخرى‏

الكتابة العربية‏

الأبجدية اليونانية‏

ومن العرب الأقدمين تعلم اليونان صناعات الحضارة‏

والفلسفة‏

تلاميذ أبديون‏

ثم الثقافة العبرية‏

العبرية والعالمية‏

الدين‏

إبراهيم وموسى وداود يتعلمون‏

اللغة والكتابة‏

الشعر‏ ... ونهاية المطاف‏

الثقافة العربية

الثقافة العربية

تأليف

عباس محمود العقاد

حقيقة مفاجئة

أقدم الثقافات الثلاث

وهذه الثقافات الثلاث هي: العربية، واليونانية، والعبرانية.

أقدمها في التاريخ هي الثقافة العربية، قبل أن تعرف أمة من هذه الأمم باسمها المشهور في العصور الحديثة.

وهذه حقيقة من حقائق التاريخ الثابت الذي لا يحتاج إلى عناء طويل في إثباته، ولكنها على ذلك حقيقة غريبة تقع عند الكثيرين من الأوروبيين والشرقيين، بل عند بعض العرب المحدثين، موقع المفاجأة التي لا تزول بغير المراجعة والبحث المستفيض.

وقد كان ينبغي أن يكون الجهل بهذه الحقيقة هو المفاجأة المستغربة؛ لأن الإيمان بهذه الحقيقة التاريخية لا يحتاج إلى أكثر من الاطلاع على الأبجدية اليونانية، وعلى السفرين الأولين من التوارة التي في أيدي الناس اليوم، وهما: سفر التكوين وسفر الخروج، ولا حاجة إلى الاسترسال بعدهما في قراءة بقية الأسفار.

فالأبجدية اليونانية عربية بحروفها وبمعاني تلك الحروف وأشكالها، منسوبة عندهم إلى قدموس الفينيقي، وهو في كتاب مؤرخهم الأكبر «هيرودوت» أول من علمهم الصناعات.

وسفر التكوين وسفر الخروج صريحان في تعليم الصالحين من العرب لكل من إبراهيم وموسى - عليهما السلام؛ فإبراهيم تعلم من ملكي صادق، وموسى تعلم من يثرون إمام مدين، وشاعت في السفرين رسالة «الآباء» قبل أن يعرفوا باسم الأنبياء؛ لأن العبرانيين عرفوا كلمة «النبي» بعد وصولهم إلى أرض كنعان واتصالهم بأئمة العرب بين جنوب فلسطين وشمال الحجاز.

فيحق العجب ممن يجهل هذه الحقيقة التاريخية المسجلة بالكتابة منذ ألوف السنين، بل بالحروف التي سبقت الكتابة والكتاب.

إلا أن الإشاعة الموهومة كثيرا ما تطغى على الحقيقة المسجلة، ولا سيما الإشاعة التي تحتمي بالصولة الحاضرة وتملأ الآفاق بالشهرة المترددة. وقد أشاع الأوروبيون في عصر ثقافتهم وسلطانهم أن أسلافهم اليونان سبقوا الأمم إلى العلم والحكمة، واختلط على الأوروبيين كما اختلط على غيرهم قدم التوراة بالنسبة إلى الإنجيل والقرآن، وقدم الإسرائيليين بالنسبة إلى المسيحيين والمسلمين، فتوهموا أن العبرانيين سبقوا العرب إلى الدين والثقافة الدينية، وكتابهم نفسه صريح في حداثة إسرائيل وحداثة إبراهيم من قبله بالنسبة إلى أبناء البلاد العربية.

وليس أعجب من الجهل بالحقيقة التي تظهر هذا الظهور.

ليس أعجب من هذا الجهل إلا أن تكون الأوهام المشاعة بهذه القوة عند أقوى الأمم وعند أشهرها بالعلم والثقافة.

فلو لم يكن في هذه الصفحات التالية إلا أنها تكشف هذه الأعجوبة في ناحية من نواحيها، لكان ذلك حسبها من سبب يوجب علينا كتابة هذه الرسالة؛ فهي تفصيل لما في هذه الأسطر القليلة من إجمال، وأيسر تفصيل كاف في مجال كهذا المجال.

من هم العرب؟!

وجد العرب في ديارهم قبل أن يعرفوا باسم العرب بين جيرانهم، وكانت لهم لغة عربية يتكلمونها وتمضي على سنة التطور عصرا بعد عصر، إلى أن تبلغ الطور الذي عرفناه منذ أيام الدعوة الإسلامية.

وهذه هي القاعدة العامة في تسمية الأمم وفي تطور اللغات؛ فليس العرب بدعا فيها بين أمم المشرق والمغرب.

فالهند - مثلا - كانت عامرة بسكانها قبل أن يسمى نهرها بنهر «الهندوس»، وقبل أن يطلق اسم هذا النهر على شبه الجزيرة كلها.

والحبشة كانت عامرة بقبائلها المتعددة قبل أن يسميها العرب بهذا الاسم، ويقصدون به بلاد الأحباش أي السكان المختلطين، وقبل أن يسميها اليونان باسم «أثيوبية» أي: بلاد الوجوه المحترقة، وقبل أن يسميها العبرانيون باسم بلاد الكوشيين لأنهم ينسبون أهلها إلى كوش بن حام بن نوح.

وكانت بلاد السكنداف معمورة قبل أن يسميها أهل الجنوب بلاد «النورديك» أي: الشماليين.

وكانت إنجلترا معمورة بطائفة من السكان بعد طائفة، يوم أطلق عليها اسم إنجلاند أو إنجلترا، أو أرض الأناجلة

angles

الذين قدموا إليها في القرن الخامس بعد الميلاد، ومن ملوكها من كان يحلو له أن يسميها بلاد الملائكة

Angellykes ؛ لأن البابا غريغوري اختاره لها بدلا من اسم بلاد الأناجلة الذي يشبهه في نطقه

Engeliscé ... فراح بعضهم يرسم صورة «ملائكية» على عملتها الذهبية، والتبس الأمر على أتباعهم فأوشك أن يخلط عليهم الحقيقة لولا قرب العهد باسم الأناجلة واسم موطنهم المعروف. •••

وكل هذه الأمم كانت لهم لغات يتكلمونها قبل ألفي سنة، ولا يتكلمها اليوم أبناؤها على النحو الذي كان يفهمه آباؤهم، ولا يشذ عن ذلك أمة من الأمم ولا لغة من اللغات. •••

وقد مضى على العرب أكثر من ألفي سنة وهم معروفون بهذا الاسم الذي يطلقونه على أنفسهم ويطلقه عليهم غيرهم، ولا يزال أصل التسمية وتاريخ إطلاقها غير معروفين على التحقيق إلى اليوم.

هل أطلق عليهم اسم العرب لأنهم كانوا يسكنون موقع الغرب من أمة أخرى يحل فيها حرف العين محل حرف الغين كما يحدث في بعض اللهجات؟

هل أطلق عليهم هذا الاسم من العرابة بمعنى الجفاف أو الصحراء في لغة بعض الساميين بشمال الجزيرة؟

هل أطلق عليهم نسبة إلى يعرب بن قحطان، أو نسبة إلى «عربة» من أرض تهامة كما يقول ياقوت؟

إن مؤرخي العرب يختلفون في ذلك كما يختلف فيه غيرهم، ويقول ياقوت في معجم البلدان بعد أن أشار إلى ذلك: «إن كل من سكن جزيرة العرب ونطق بلسان أهلها فهم العرب، سموا عربا باسم بلدهم العربات. وقال أبو تراب إسحاق بن الفرح: عربة باحة العرب، وباحة العرب دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - أما النبطي فكل من لم يكن راعيا أو جنديا عند العرب من ساكني الأرضين فهو نبطي ...»

وكما قيل: إن العرب سموا بهذا الاسم لأنهم نزلوا إلى الغرب من منازل غيرهم، يقال: إنهم سموا شرقيين

Saracena

عند قوم من أوروبة، وإن الاسم في أصله كان يطلق على قبيلة عربية تسكن إلى الشرق من جبل السراة، ولعلهم سموهم «سراتيين» نسبة إلى الجبل نفسه، وتحرف الاسم بلغات الأوروبيين إلى سراسين!

نذكر هذه الخلافات لنقول: إن وجود العرب في ديارهم سابق لها متقدم عليها، وإن الثقافة العربية ينبغي أن تنسب إلى أمتها قبل أن تسمى بهذا الاسم أو بذاك من الأسماء المختلف عليها؛ فلا اختلاف على نسبة الثقافة إلى الأمة كائنا ما كان الاسم الذي عرفت به عند جيرانها وعند سائر الأمم التي تتحدث عنها، وتختار لها اسمها على حسب مصادره ومناسباته في عرفها. •••

ولا خلاف في علاقة العرب الأقدمين بالجزيرة العربية، ولا في قدم العمران بهذه الجزيرة.

ولا خلاف كذلك في قدم اللسان العربي فيها، ولا في أنه أقدم لسان تكلم به سكانها الأقدمون، ولم يعرف لهم لسان قبله مخالف له في أصوله وخصائصه التي تميز بها بين اللغات العالمية.

أكان المتكلمون بهذا اللسان قبل ثلاثين قرنا مقيمين بالجزيرة العربية أم كانوا مقيمين في موطن آخر ثم هاجروا إليها؟

هنا تختلف الأقوال بين مواطن ثلاثة، هي: الحبشة وبادية الشام وأعالي العراق.

لكن الحبشة ليست مصدر الحاميين والساميين في جهة واحدة؛ فالساميون أحرى أن يكونوا وافدين إليها على قلة محدودة، وليس من الموافق للأوضاع التاريخية ولا للمألوف من الهجرة هناك أو في جهات أخرى أن يكون الساميون المنتقلون من الحبشة أكثر من عشرات أمثالهم في موطنهم الأصيل بالبلاد الحبشية، ولم يحدث في عصور التاريخ المعروف أن كان المهاجرون من الحبشة إلى جنوب الجزيرة يزيدون عددا على الذين يهاجرون من جنوب الجزيرة إليها.

كذلك لم يحدث في حدود التاريخ المعروف أن ترحل الجماعات الكثيرة من بلاد الهلال الخصيب أو من أعالي العراق إلى الصحراء العربية؛ فليس هذا مما حدث في الواقع ولا مما يوافق المعهود في بواعث الهجرة وحركاتها المألوفة.

فمن المألوف أن يحدث الجفاف والجدب في البلاد الصحراوية فيرحل عنها أهلها، ومن التاريخ الواقع أن هذا قد حدث فعلا غير مرة في هجرة القبائل من جنوب الجزيرة وأواسطها إلى بلاد الأنهار أو بلاد الخصب الدائم والمرعى الموفور، ولكنه لم يؤلف ولم يحدث قط أن ينعكس الأمر فترحل القبائل أفواجا أفواجا من أرض الماء والمرعى إلى أرض تتخللها الصحارى الواسعة، ويطرأ عليها الجفاف والجدب في عهود متلاحقة، تكاد أن تنتظم في مواعيدها وأدوارها.

فمن الثابت أن جنوب الجزيرة كان مأهولا قبل ثلاثة آلاف سنة، وكانت له عمارته ومبانيه التي لا تنشأ في قرون قليلة، فهل كان وفود هؤلاء إلى الجنوب بعد سكان آخرين سبقوهم ثم انقرضوا أو انهزموا وخلفهم الوافدون على بلادهم؟ فمن هم أولئك السكان الأولون؟ وما لغتهم؟ وما الداعي إلى افتراض وجودهم؟ ومن أين جاءهم الوافدون اللاحقون وتغلبوا عليهم بالقوة التي تهزمهم؟ وما هي لغتهم وعلاقتها بالعربية؟

كل ما يمكن أن يقال عن ذلك: إنه تخمين لا دليل عليه ولا موجب له، ولا موافقة بينه وبين تجارب الواقع في أماكن الهجرة المطروقة من قديم الزمن، داخل الجزيرة العربية أو من حولها.

ولا صعوبة في تصور الهجرة من الجنوب إلى الشمال على حسب التجارب الواقعة، فلا تضطرنا وقائع التاريخ إلى السؤال عن أبناء البلاد الأصلاء في العراق أو بادية الشام أين ذهبوا ومن هم في أصولهم وما هي لغاتهم وأنباؤهم؛ فإن التاريخ يدلنا عليهم وعلى بقاياهم، وآثارهم حيث أقاموا قريبة من مواطنهم سواء كانوا من السومريين أو من الآريين أو من الطورانيين على التخوم الفارسية أو تخوم الصين، بعضهم لبث في الأرض، وبعضهم جلا عنها إلى ما وراء حدودها، وكلهم ترك من مخلفاته ما يتركه المغلوب المقيم أو المغلوب الذي زال عن البلاد.

فالثقافة العربية إذن هي ثقافة الأمة التي نشأت تتكلم اللغة العربية وعاشت تتكلمها كما كانت على الألسنة في كل دور من أدوارها على سنة التطور في جميع اللغات.

وقد كان أشهر اللغات السامية وأشيعها في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ثلاثا بين جنوب الجزيرة وشرقها إلى الشمال وغربها إلى الشمال، وهي: اليمنية والآرامية والكنعانية؛ مما يدل على أنها نبتت في الجزيرة من الجنوب إلى مواطن الهجرة التي درجت عليها القبائل منذ فجر التاريخ، في طريق بحر العرب شرقا إلى وادي النهرين، أو طريق البحر الأحمر غربا إلى فلسطين.

ثم شاعت الآرامية وغلبت على سائر هذه اللهجات وتفرعت منها النبطية التي اتفقت الروايات على أنها أم لهجات الحجاز. ولم تكن الآرامية بعد شيوعها غريبة عن المتكلمين بالكنعانية أو الحميرية وعن الكاتبين بالحروف النبطية أو حروف المسند؛ فكان المقيمون والراحلون بين هذه الأرجاء يتخاطبون بها كما يتخاطب أبناء الأقاليم في القطر الواحد، أو كما يتخاطب أبناء وادي النيل اليوم من الإسكندرية إلى الخرطوم، مع اختلاف اللهجات والألفاظ في بعض المفردات.

ونحن نعلم أن مؤرخي العرب كانوا ينسبون شعوب العرب البائدة جميعا إلى «إرم» ويسمونهم بالأرمان كما جاء في تاريخ سني الملوك لحمزة الأصفهاني. ويجوز أن يكون الآراميون من سلالة هؤلاء الأرمان هاجروا إلى وادي النهرين في تاريخ مجهول، ولكن تاريخهم المعلوم يرجع إلى عهد دولتهم التي حكمت بابل، وقام منها بالأمر حمورابي صاحب التشريع المشهور (سنة 2460ق.م)؛ حيث سادت اللغة الآرامية وادي النهرين وبادية الشام وأرض كنعان وبلاد الأنباط، وظهرت لهجتها العامة - كلاما وكتابة - في كل قطر من الأقطار.

يقول صاحب كتاب «الأبجدية: مفتاح تاريخ الإنسان»: «الآرامية فرع كبير يرجع إلى الهجرة السامية الثالثة، ذكرت في مصادر التوراة وفي الكتابة المسمارية، ويطلق اسم آرام الذي ورد في التوراة على سلالة عنصرية كما يطلق على الإقليم الذي تسكنه تلك السلالة، وجاء في أسماء الأمم بسفر التكوين أن آرام جد الآراميين وقيل عنه إنه ابن سام، وجاء في موضوع آخر أنه حفيد ناحور أخي إبراهيم، ويقال عن يعقوب إنه آرامي تائه، وعن أمه وزوجاته إنهن آراميات. وباستثناء لفظة غامضة في الحفائر الأكادية في النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد، تعتبر رسائل تل العمارنة المسمارية في القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد أقدم إشارة إليهم باسم أخلام

Akhlami

أو

Akhlamn

أي: الأحلاف الذين يظن أنهم هم أحلاف آرام المذكورين في وثائق القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وهم يسمون في المصادر الآشورية (أروميو) أو (أراميو) وجمعهم آرامي.»

إلى أن يقول: «إن موطن الآراميين الأول غير معروف، وهم يوصفون في ألواح تل العمارنة - التي تقدم ذكرها - بأنهم أفواج مترحلة مغيرة، ويرجح أنهم قدموا من جهة الشرق الشمالي لبلاد العرب إلى بادية الشام من طريق، وقدموا من الطريق الآخر إلى العراق. وعند نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد انتهى سلطان الحيثيين و المتنيين

Mitanni

على تلك الأرض، وظهرت الإمارات الآرامية الصغيرة في الشمال الشرقي والشمال الغربي من وادي النهرين، ثم طرأت على توزيع السكان في سورية الشمالية بعد استقرار الموجة الآرامية بين القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد طوارئ واسعة النطاق ... واغتنمت قبائل الآراميين فرصة هذه الطوارئ؛ فأقامت بقوة السلاح ووفرة العدد سلسلة من الممالك الصغيرة في أخصب المواقع من شمال العراق وجنوبه إلى شرق البادية السورية، وأمكن - بفضل تدجين الجمل العربي حوالي نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد - تيسير طرق القوافل تيسيرا كبيرا؛ فأقيمت في جوانب البلاد مراكز للتجارة الغنية، أشهرها تدمر أو بلد النخيل».

وبعد الإشارة إلى أدوار الضعف التي انتابت الآراميين بعد ذلك، قال:

إن فقدان الحرية السياسية لم يكن معناه نهاية التاريخ الآرامي، بل كان هذا الضعف الذي أصاب الحكومة فاتحة التفوق في الثقافة الآرامية ومسائل الاقتصاد الذي عم آسيا الغربية ... فاصطبغت سورية كلها وجانب كبير من وادي النهرين بالصبغة الآرامية، وأصبحت اللغة الآرامية هي اللغة الدولية في ذلك العهد، وأصبحت على عهد الدولة الآخميدية الفارسية إحدى اللغات الرسمية في الإمبراطورية، ولسانا عاما يتكلم به التجار من مصر إلى آسيا الصغرى إلى الهند. وبلغ من قوة اللغة الحيوية أنها شاعت في الاستعمال بعد ألف سنة من ذهاب الدولة الآرامية، وعاشت اللهجات التي تفرعت عليها قرونا أخرى في بعض القرى النائية.

وتمام هذا الكلام عن غلبة الآرامية أنها كانت تنازع العبرية بين اليهود وهي لغتهم الدينية، ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التكوين «أنهم أخذوا حجارة وعملوا رجمة ودعاها لابان (يجر شهدوتا) ... وأما يعقوب فدعاها جلعيد، وقال لابان: هذه الرجمة شاهدة بيني وبينك اليوم.»

ومعنى «يجر شهدوتا» بالآرامية حجر الشهود، وهي قريبة من لفظها ومعناها باللغة العربية الحديثة، أو هي اللغة العربية كما كانت تنطق في ذلك الدور من أطوارها.

ثم غلبت الآرامية على العبرية في المعابد والكتب الدينية؛ فترجمت إليها كتب التوراة والتلمود، وكتبت بها بعض الأسفار أصلا من عهد عزرا ودنيال، فلما كان عصر الميلاد كانت الآرامية هي اللغة التي يتكلمها السيد المسيح، ويجري بها الخطاب بينه وبين تلاميذه، وبينه وبين المستمعين إليه في عظاته ووصاياه.

جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل مرقس حكاية عن السيد المسيح: «وأمسك يد الصبية وقال لها: طليثا قومي، وتفسيره ... لك أقول قومي.»

وجاء في الإصحاح الرابع عشر: «وقال يسوع: يا أبا - الأب - كل شيء مستطاع لك.»

وجاء في الإصحاح الخامس عشر منه: «وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم: إلوي، إلوي، لما شبقتني.» وتفسيره: إلهي، إلهي، لم تركتني؟ ومعنى شبقتني هنا «جاوزتني وتخليت عني» كما يمكن أن تعني اليوم بالعربية التي نتكلمها.

وعلى ذلك يصح أن نقول: إن الآرامية هي عربية تلك الأيام في مواطنها، وإنها قريبة جدا من اللغة العربية الفصحى بعد تطورها نحو ثلاثة آلاف سنة، لا يستغرب أن يحدث فيها مثل هذا الاختلاف في نطق الألفاظ، وتركيب بعض العبارات.

قال صاحب كتاب الكنز في قواعد اللغة العربية وهو يتكلم عن الآرامية ويسميها البابلية: «ثم انظر فيما يكون من التشابه الظاهر بين العربية والبابلية ولا سيما في الإعراب وحركاته، كالتنوين مثلا ... فهو في البابلية ميم وفي العربية نون، وهذان الحرفان من أحرف الإبدال، ونحن نعرف أن من العرب من يجيز إبدال أحدهما بالآخر، ومنها علامة الجمع: فهي في البابلية الواو والنون كما أنها في العربية الواو والنون أيضا، وفي السريانية الياء والنون، وفي العبرية الياء والميم، ومنها أن جميع الأفعال في البابلية أقرب إلى صيغها في العربية؛ فصيغ الأفعال التي وجدوها في هذه اللغة تبلغ اثنتي عشرة صيغة، وأكثر هذه الصيغ مشهور معروف في العربية والعبرية والسريانية ...» •••

وجملة القول: إن الثقافة الآرامية عربية في لغتها ونشأتها ونسبتها إلى عنصرها، ولا يمكن أن تعرف لها نسبة إلى أمة غير الأمة العربية في عهودها الأولى؛ فكل ما استفاده العالم من جانبها فهو من فضل هذه الأمة على الثقافة العالمية.

أسماء أخرى

بعد تحقيق المقصود باسم العرب في الزمن القديم، نستطرد إلى تحقيق أسماء الأمم والبلاد التي عاصرت العرب في تلك الحقبة كما عرفها اليونان، وانتقلت منهم إلى الأوروبيين والشرقيين بعد شيوع الثقافة اليونانية؛ فإن تحقيق هذه الأسماء لازم لمعرفة المدى الذي انتهت إليه علاقات اليونان بتلك الأمم، وتحقيق ما استفادوه منها أو استفادته منهم على اختلاف الروايات والدعاوى في الأزمنة المتأخرة.

فاليونان يتوسعون كثيرا في تسمية البلاد والأمم وإطلاق الاسم على موضعه وعلى المواضع التي تجاوره في بعض الأحوال، وقد يتفق لهم عكس ذلك في تخصيص جزء من الأرض بالاسم الذي يعمها ويشملها مع غيرها، لرابطة المشابهة والجوار.

ومن ذلك أنهم أطلقوا اسم سورية على الإقليم المشهور بين شواطئ البحر الأبيض الشرقية وبلاد الروم وتخوم العراق، ثم توسعوا بها حتى شملت «آشورية»، وأصبح اسم السريان عندهم علما على الآراميين في الرقعة الواسعة التي يسكنونها من وادي النهرين إلى سيناء وأطراف الحجاز.

وهم يطلقون اسم فينيقية على شاطئ فلسطين إلى الشمال والجنوب من مدينة صور التي اشتهر أبناؤها الملاحون عندهم باسم الفينيقيين، ولكن فينيقية - كما يدل اسمها - كانت اسما لبلاد النخل في الإقليم كله، من كلمة فينقس عندهم بمعنى النخلة

Φοὶνξ ، وتقابلها عند الرومان كلمة

التي أطلقت على مدينة «تمر» أو «تدمر» في شرق البقاع ... و«تمر» هي الكلمة السامية التي تقابل كلمة

بمعنى النخلة في بعض اللغات الأوروبية إلى اليوم ... ولا يخفى أن أرجح الأقوال عن أصل الفينيقيين الأقدمين أنهم نشئوا عند الخليج العربي في بلاد النخيل، وتحولوا منه إلى فلسطين يوم كانت وطنا مشهورا بكثرة ما فيها من النخيل ... واسم مدينتهم «قرطاجة» التي بنوها بعد ارتحالهم من فلسطين إلى شاطئ الأبيض الجنوبي قريب جدا - في أصله - من الكلمة الآرامية «قارة حداثة» أي: القرية الحديثة، وتحريفها إلى قرتاشة وقرطاجة على ألسنة الرومان قريب جدا بعد إسقاط الحاء التي لا ينطق بها الغربيون.

واليونان وضعوا اسم «أثيوبية» - ومعناه الوجوه المحترقة - وأرادوا به البلاد التي عرفها العرب قديما وحديثا باسم الحبشة، ثم شملوا بها اليمن وسموها بأثيوبية الآسيوية، وأوشكوا بعد ذلك أن يعمموا اسم الأثيوبيين على الأفريقيين السود جميعا، وهم الكوشيون في عرف اليهود والناقلين عنهم من شراح الكتب الدينية.

ومصر القديمة سماها اليونان باسم مدينة كبتوس «قفط» ثم أطلقوا اسم «جبتوس» على القطر كله، وهو الاسم المشهور الآن في اللغات الأوروبية.

والهند سميت كلها باسم نهرها المعروف في الغرب الشمالي منها، وما زالت حتى أصبح يقال عن «الأندوس»: إنه نهر في الهند، وهي منسوبة إليه.

وعلى هذا يحدث أحيانا أن يتكلم اليونان عن أثيوبي وهو يمني، أو عن فينيقي وهو سوري، وعن آشورية

assyria

وهم يقصدون سورية

Syria ، وعن هؤلاء جميعا وهم يقصدون المتكلمين بالآرامية التي كانت أوسع اللغات انتشارا بين جميع هذه البلاد.

الكتابة العربية

ثبت من الآثار المحفوظة أن المصريين الأقدمين تطوروا بالكتابة من رسم الصور إلى رسم المقاطع إلى رسم الحروف التي تسمى اليوم بالحروف الأبجدية، وتسمى عند الأوروبيين عامة بحروف «الألف باء تاء»

alphabet

نقلا عن العربية.

وقد تبينت رسوم بعض الحروف المصرية القديمة من ألواح سيناء، وهي حلقة الاتصال بين الحروف الأولى وبين الحروف على أشكالها المتقاربة التي تطورت بعد ذلك في مختلف اللغات.

إلا أن الحروف المصرية القديمة كانت مقصورة على الكتابة الدينية وكتابة الدواوين وما شابهها من المراجع الرسمية، وإنما انتشرت في المعاملات العامة بعد أن نقلت من سيناء إلى البلاد الواقعة على طرق التجارة الشرقية، بجميع مواصلاتها برا وبحرا من الهند إلى شواطئ البحر الأبيض وحدود البلاد المصرية.

وقد كانت مراكز التجارة الكبرى على هذا الطريق في بلاد العرب، من خليج العرب إلى عدن إلى خليج العقبة، إلى مدن فلسطين ومدن الحدود الشرقية في مصر القديمة.

ولم يكن من المصادفة المجهولة أن تظهر في لغة العرب خطوط الحرف المسماري وخطوط الحرف المسند وخطوط الحرف النبطي بين شمال الحجاز وجنوب فلسطين.

فإن التجارة التي تحتاج إلى المعاملة الكتابية تجري على خط المواصلات من خليج العرب إلى عدن إلى العقبة إلى ما جاورها من بلاد الأنباط والكنعانيين، وهذه هي على التوالي مواطن الخط المسماري والخط المسند النبطي وما تفرع عليه.

وتجري المواصلات على غير هذا الخط من طريق البادية بين وادي النهرين وشواطئ البحر الأبيض؛ فليس من المصادفة المجهولة أيضا أن توجد على طريق هذه المواصلات بقايا الكتابة الصفوية والكتابة اللحيائية والثمودية في حوران وتدمر والحجر من ديار ثمود؛ ففي هذا الطريق يتقابل أصحاب القوافل من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، كما يتقابلون بين الحجاز والشام وبين الشام والحجاز.

والغالب على التجارة العربية أنها تسلك طريق البر على ظهور الجمال، ولكنها لم تكن معزولة عن البحر كما يتوهم الكثيرون لاعتقادهم أن أصحاب سفينة الصحراء لا يعرفون سفينة غير الجمل، ولا يركبون مطية البحر أو يحسنون قيادتها كما يحسنون قيادة المطايا على الرمال؛ فإن العرب ركبوا البحر قديما في المحيط الهندي، وسبقوا الملاحين إلى شواطئ أفريقية الشرقية في الجنوب، ووجدت في بلادهم صناعة بناء السفن عند العقبة وعمان، ولم يكن سليمان الحكيم - بطبيعة الحال - أول من بنى سفنا بجوار العقبة، ولكنه وجد هذه الصناعة وعمل سفنه فيها كما جاء في سفر الملوك الأول: «وعمل الملك سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيله على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم».

وسميت هذه الجهة قبل الإسلام بفرج الهند كما قال الطبري؛ لأنها كانت - ولا شك - تتلقى التجارة من طريق البحر والبر، ولا تزال على اتصال بالملاحة البحرية مع اتصالها بالقوافل على ظهور الجمال.

ويقول المسعودي: إن الملاحين العرب كانوا يديرون قيادة السفن ويدونون تجاربهم في الكتب المتوارثة عن آبائهم من زمن قديم، وكان في بحر الهند كما قال: «مشائخ ولدوا ونشئوا من ربابين وأشاتمة ووكلاء وتجار، ورأيت معهم دفاتر في ذلك يتدارسونها ويعولون عليها.»

ومثل هذه الصناعة لا تنشأ في سنوات ولا في أجيال قليلة؛ فلا بد لها من أجيال بعد أجيال طوال.

على أن الأمر المهم في هذا التاريخ أن المواصلات كانت قائمة دائمة على هذه الطرق القديمة من أوائل عصورها، وليس بالمعقول أن يكون الأمر غير ذلك بحكم الموقع وحكم العلاقة بين المشرق والمغرب؛ فإذا استخدم الناس الكتابة في معاملاتهم التجارية فليس في العالم المعمور يومئذ موقع أولى باستخدامها من البلاد العربية، وليس من المصادفة - كما تقدم - أن تكون الخطوط المسمارية وخطوط المسند وخطوط الحروف النبطية أول ما تطور من حروف الأبجدية بعد مرحلتها التي بلغتها في ألواح سيناء.

ومن الواضح أن صناعة السفن لم تكن عامة في بلاد العرب وما جاورها عموم الملاحة على شواطئها في البحرين: الأبيض والأحمر، وإنما توجد صناعة السفن حيث تتيسر وسائلها من الأخشاب والمعادن ومواد اللحام والطلاء، وحيث تتيسر إلى جوارها مراسي السفن للبناء والإصلاح والمأوى؛ ولهذا كانت شواطئ البحر الأبيض الشرقية أعمر الشواطئ بمراكز هذه الصناعة ومراكز الملاحة معها؛ لأنها نهاية الطرق البرية من قبل آسيا، وبداية الطرق البحرية إلى القارتين الأوروبية والأفريقية، وإلى جوارها غابات الشجر الذي يصلح لبناء السفن وموارد المواد المنوعة التي تدخل في صناعتها؛ فكانت شواطئ فلسطين ولبنان أعمر الشواطئ الشرقية بأسباب الملاحة والملاحين ومراكز التجارة التي تصدر من البلاد أو ترد إليها من خارجها، وكانت هذه الشواطئ هي التي اشتهرت عند اليونان باسم «فينيقية»، ونسبوا إليها كل ما استوردوه من بلاد العرب على طريقها، وتواتر عندهم أنها البلاد التي تلقوا منها الحروف وعلم الكتابة - كما سيأتي في الفصول التالية.

الأبجدية اليونانية

تعلم اليونان الكتابة وأخذوا رسم الحروف من «قدموس» الفينيقي كما قالوا في تواريخهم ورووا قبل ذلك في أساطيرهم المتواترة؛ مما يدل على قدم العهد باعتمادهم في ثقافتهم على المصادر الفينيقية.

وأيا كان قول المؤرخين والرواة فهذه المسألة - مسألة الأبجدية - من المسائل التي لا حاجة بها إلى التاريخ والرواية؛ لأن أسماء الحروف وأشكالها ومعانيها شاهدة بانتقالها من المصادر العربية، سواء كانت فينيقية أو آرامية أو يمنية من الجنوب.

فالأبجدية تسمى عند اليونان بال «ألفابيتا» وتبدأ بالألف والباء والتاء، ثم تتوالى فيها حروف كثيرة بلفظها العربي في العصر الحاضر على وجه التقريب.

وليس لأسماء الحروف معان مفهومة في اللغة اليونانية، ولكنها بهذه الأسماء مفهومة المعنى في لغتنا العربية العصرية، فضلا عن اللهجات العربية الغابرة.

وأقرب هذه الحروف إلى المعاني العربية الشائعة في أيامنا حرف الباء من «بيت»، وحرف الجيم من «جمل»، وحرف العين من «عين»، وحرف الفاء من «فم»، وحرف الكاف من «كف»، وحرف الميم من «ماء»، وحرف الياء من «يد».

وأشكالها المرسومة قريبة من أسمائها الأولى كما يرى في شكل «البيت» وشكل «رقبة الجمل» وشكل «العين» وشكل «الفم»، وغيرها من الأشكال.

وإذا رجعنا إلى نطق أسماء الحروف كما شاعت أول استعمالها في البلاد العربية تبينت العلاقة بين أشكالها ومعانيها جميعا بغير استثناء حرف واحد من الحروف؛ فكلها أوائل كلمات مفهومة من بقايا الكتابة التصويرية التي ترسم الشكل كله، وتأخذ من الكلمة حرفها الأول عند الكتابة بالحروف.

وليس من اللازم أن تكون الحروف كلها قد شاعت وعمت على صورة واحدة في وقت واحد؛ إذ من المحقق أن حروف العلة تأخرت زمنا طويلا بعد الحروف الساكنة كما نرى من كتابة المبتدئين إلى اليوم، فإن الطفل الناشئ الذي يتعلم الهجاء لا يكتب حروف المد إذا سمع الكلمة ممن يمليها عليه.

كذلك يثبت من تاريخ الكتابة أن الحروف المتشابهة نشأت على التدريج؛ لتميز الأصوات المتشابهة أو التي يسهل الإبدال بينها، ك «التاء والثاء، والحاء والخاء، والدال والذال، والعين والغين»، وغيرها من المتشابهات في نطقها ورسمها، فإنها تتبدل في لفظها اليوم كما كانت تتبدل منذ مئات السنين، ويتبين من تاريخ التدرج في الكتابة أن الحروف المتشابهة وضعت حينا بعد حين للتمييز بينها بعد التباس النطق بها، ووضوح الحاجة إلى تمييزها ببعض العلامات، كعلامات النقط والتذييل.

ولهذا يرجح المؤرخون أن اليونان نقلوا حروفهم من البلاد العربية جميعا ولم يقتبسوها كلها دفعة واحدة من الفينيقيين، ويرى من كتاب خيرشوف

Kirchoff

عن الأبجدية اليونانية أن حروف الجيم واللام والسين

Γ.Λ.Σ.

أقرب إلى حروف المسند، أي الحروف اليمنية في الجنوب، منها إلى الحروف الفينيقية أو حروف النبط في الشمال.

وقد يعزى الاقتباس إلى رواد الرحلات من اليونان في بلاد «العربية السعيدة» أو بلاد اليمن كما عرفوها، ومن الباحثين من يرجع بها إلى عهد سابق لعهد الرحلات اليونانية بزمن طويل ... ويخطر لهؤلاء الباحثين أنها أثر من آثار حضارة عربية موغلة في القدم وصلت إلى بلاد اليونان، كما وصلت الحضارة العربية إلى الأندلس في الأزمنة الحديثة بعد الميلاد.

يقول مرجليوت في الصفحة الحادية عشرة من كتابه عن الصلات بين العرب وبني إسرائيل:

يرد على الخاطر سؤال عن أسماء المواقع التي تظهر على خريطة اليونان القديمة كعسكرا: أي المعسكر، وفندس: أي الجبل من الفند وهو الجبل العظيم باللغة العربية، ولاريسا: أي العريش أو الخيمة، إلى أمثال هذه الأسماء التي تشبه أسماء المواقع في الأندلس بعد الفتح الإسلامي، فيبادر إلينا السؤال: ألا تشير هذه الأسماء إلى حضارة عربية عريقة وصلت إلى اليونان ومعها حروف الأبجدية قبل أن يصل إليها الفينيقيون بحروف تخالفها؟!

وليس هذا الاحتمال ببعيد؛ لأن آثار الكتابة العربية شوهدت في جزر الأرخبيل بحروف عربية على غير رسم الحروف الفينيقية، ولأن تاريخ الاحتلال الفينيقي لبلاد اليونان - على قدمه - يدل على سبق الهجرة إليها من البلاد الشرقية، كما يدل على تتابع الهجرة قبل ذلك من الناحية الآسيوية، حيث وصلت.

وكيفما اختلفت الأقوال عن مصادر النقل والاقتباس فلا خلاف في أمرين: أحدهما أن الأبجدية اليونانية منقولة عن أبجدية سبقتها، وأن هذه الأبجدية السابقة هي الأبجدية العربية التي تدل عليها ألفاظ حروفها وأشكالها ومعانيها.

وإذا كانت هذه الحقيقة غنية عن أقوال المؤرخين والرواة فلا بد معها من حقيقة أخرى مثلها في الثبوت والوضوح بغير حاجة إلى أسناد من التاريخ أو الرواية.

تلك الحقيقة الأخرى هي: انتقال لوازم الحضارة وصناعاتها الأولية على الأقل مع انتقال الكتابة وانتقال أساليب استخدامها في المعاملات؛ فإن الأمة المتعلمة لا تأخذ الكتابة من معلميها وتترك ما عندهم من صناعة السفن والملاحة، ومن معارف الفلك والجغرافية التي يعتمدون عليها في السياحة، ولا مناص لها من الشعور بالحاجة إلى أدوات الحضارة التي يجلبها إليهم أصحاب السفن التي تدل ببنائها وبما تحمله من بضائعها على التقدم في العلم ومرافق العيش ومطالب الحياة.

فلو لم يذكر التاريخ شيئا عما استفاده اليونان من صناعات البلاد العربية ومعالم حضارتها لكانت هذه الفوائد من حقائق البداهة التي تستغني عن التاريخ، ولكن التواريخ اليونانية - بل الأساطير الشعبية - تسجل هذه الحقيقة وتذكرها كما تذكر الحقائق المسلمة التي لا داعية لتمويهها ولا للمغالطة فيها، ولعلهم كانوا يذكرونها بشيء من الفخر؛ لأنهم تعلموا حيث وجدوا العلم الضروري ولم يهملوه.

ومن العرب الأقدمين تعلم اليونان صناعات الحضارة

يقول هيرودوت في الكتاب الخامس من تاريخه:

والآن نذكر أن الفينيقيين الذين جاءوا مع قدموس وإليهم ينسب الجفيريون، قد أدخلوا معهم إلى اليونان بعد قدومهم إلى بلادهم صناعات كثيرة منوعة، منها: صناعة الكتابة التي كانوا يجهلونها - على ما أحسب - قبل ذلك، فنقلوا حروفهم - أولا - على مثال الحروف الفينيقية بغير تصرف، ثم تغيرت مع الزمن لهجاتهم؛ فتغيرت معها رسوم حروفهم، وقد كان الآيونيون أكثر الإغريق الذين كانوا يومئذ يقيمون في تلك البلاد حيث نزل الفينيقيون، فاقتبسوا الحروف الفينيقية مع تعديل قليل في رسم بعضها، وما زالوا بعد حين يسمونها بالفينيقية إنصافا لمن نقلوها إليهم، وقد كان الآيونيون يسمون الورق بالقديد؛ لأنهم كانوا يكتبون على الجلود عند ندرة صحائف الكتابة، وما برح البرابرة يكتبون عليها إلى هذه الأيام. وقد رأيت بنفسي كتابة بالحروف القدموسية محفورة على بعض القوائم المثلثة في معبد «أبولون أسمنياس» بثيبة البوطية، رسومها تحكي الرسوم الآيونية، وعلى إحداها هذه العبارة: «أقامني أمفتريون من عهد مقدم التلبوية»؛ فهي قريبة من عهد لايوس بن لا بداكوس بن بوليدورس بن قدموس ... وعلى قائمة أخرى نقشت هذه العبارة من شعر العروض السداسي: وهبني سكاوس الملاكم للشمس الساطعة بعد فوزه: هبة جميلة معجبة ... ولعله سكاوس بن هيبوكون! فإن كان هو الذي وهب القائمة ولم يكن أحد آخر يسمى بمثل اسمه، فتاريخ الهبة يرجع إلى عهد أوديب بن لايوس ...

ورأيت على القائمة الثالثة كتابة نظمت من العروض السداسي يقول كاتبها: إن الملك لاودامس وهبها للشمس النافذة عند جلوسه على عرشه هبة جميلة معجبة ...

وفي عهد لاودامس هذا - ابن أتوكليس - أخرج القدموسيون من بلادهم ولاذوا ببلاد الأنشيليين على الشاطئ الغربي من ألبانيا الحديثة ...

ونحن ندرك قول هيرودوت: إن الآيونيين - أي اليونان - نقلوا الكتابة بغير تصرف حين نعلم أنهم نقلوها بطريقتها ومادة صحفها، كما نقلوها برسوم حروفها وألفاظها؛ فقد ظلوا يكتبون السطور من اليمين إلى الشمال كما نكتب العربية اليوم، وبقيت هذه الطريقة متبعة عندهم في نقوش الآنية المزخرفة إلى ما بعد اقتباس الكتابة بعدة قرون، ولم تظهر لهم نقوش من الشمال إلى اليمين قبل أيام بسماتيك في القرن السابع قبل الميلاد.

ولا شك أن اليونان غبروا زمنا طويلا وهم يتلقون ثقافتهم وصناعتهم من القدموسيين بأوطانهم المختلفة من آسيا الصغرى إلى حدود بلاد الألبان العصرية في الجنوب، فلا بد أن يكون هذا الزمن موغلا في القدم عدة قرون كي تمتزج أخباره التاريخية بروايات الأساطير المتداولة على ألسنة الجماهير، فإن أساطيرهم تضيف إلى أخبار التاريخ التي تنسب إلى قدموس فضل تعليمهم الكتابة وبنائه لمدينة بوطية أنه كان من أصحاب المعجزات الذين تعينهم الآلهة، وتملي عليهم مكائد الحرب والخديعة، ومنها أن قدموس قتل التنين الحارس لبعض الينابيع في بوطية، ونثر أسنانه على الأرض فنبتت منها شرذمة من المردة المسلحين أحاطوا به ليقتلوه، فأوحت إليه الربة أثينا أن يلقي إليهم بجوهرة كريمة بهرتهم فتركوه واقتتلوا عليها حتى أفنى بعضهم بعضا، ولم يبق منهم غير خمسة لم يقدروا عليه؛ لأنهم خرجوا من المعمعة منهوكين مهزولين؛ ومن هنا يقال عن النصرة التي تنال بالثمن المرهق والخسارة الفادحة؛ إنها نصرة قدموسية أو قدمية، ويجري هذا في التعبيرات المجازية بين المحدثين من الأوروبيين.

ويقول المعجم الأثري إنهم كانوا يعبدون هرمز رب الحكمة والمعرفة عندهم باسم قدموس، «وإنه كان يقال عنه: إنه مخترع الزراعة والحدادة وصناعات الحضارة على التعميم، وإن الشعراء الأقدمين لم يكن لهم علم بمقدمه أكان من الشرق أم من مصر أم من فينيقية، ولما قيل أخيرا: إنه من فينيقية قرنوا اسمه باختراع حروف الأبجدية التي يعرف الإغريق جيدا أنهم أخذوها من الفينيقيين».

والثابت بعد هذا كله من الواقع - فضلا عن أخبار التاريخ - أن الحروف اليونانية القديمة كالحروف العربية، وأنهم كانوا يكتبونها من اليمين إلى الشمال كما نكتب العربية اليوم، وأنها بأشكالها وأسمائها ذات معنى في اللغات السامية، ولا معنى لها في لغة من اللغات الأوروبية، وأن انتقالها كان مقرونا بانتقال صناعات الكتابة وأدواتها وما يتصل بها من الصناعات الأخرى، وأن اليونان تعلموا الملاحة وفنونها ممن سبقوهم: أي من أمم البحر الأبيض الشرقية، وأن النقوش وأسماء المواقع في البلاد اليونانية ترجح وصول العرب بحضارتهم إلى تلك البلاد في زمن قديم سابق على الأقل لشيوع أسماء «لاريسا»: أي العريش، و«عسكرا»: أي العسكر، وفندس

أي: الجبل العظيم.

على أن اقتباس اليونان من العرب يظهر لنا من تشابه الكلمات في اللغتين، ولا سيما الألفاظ التي تدل على أصل متشعب في العربية، أو تدل على نظام المعيشة الغالب على الأمة وطول العهد به في موطنه ومستقره.

فالبرج في اليونانية برجوس

Πύργος

ومادة الباء والراء ومثليتهما أصيلة في الدلالة على الظهور والعلو: كبرز وبرض وبرع وبرق، ومعنى البروج والتبرج والأبراج شائع في المادة العربية.

ولا شك في سبق العرب إلى الفرس والسيف والقناة.

والفرس في اليونانية

ΦΟράδα

والسيف

Ξὶρος .

والقناة أخذوها وأخذوا منها القانون بمعنى المقياس، ولا تخفى علاقة القناة والقصبة بالمقاييس في كل لغة، ومنها الرول

Rule

بمعنى القاعدة، والرولر بمعنى المسطرة في اللغة الإنجليزية.

ومن الكلمات التي تلحق بالمقاييس كلمة القسطاس

δικαστὴς

وكلمة القالب

Χαλοχός .

ولا تخفى العلاقة بين كلمتي «قلم» و«قصبة» وبين المصدر العربي لكلمة كلموس

Κὰλαποδ

وكلمة كسمبة

Κὰσαμπα

اليونانيتين بمعنى قصبة، وإن يكن تاريخ استعمالها غير معلوم.

وتلحق بكلمات الكتابة الخارطة والخرطة، والأولى عربية من خراطة السائل الذي يؤخذ من أصل ورق البردي، ومن الخرط وهو قطع الجلد أو الصحاف التي يكتب عليها ... وتسمى الخارطة والخرطة في اليونانية

Χὰρτης

ومنها الكرتيس أو القرطاس.

وتلحق بكلمات الملاحة كلمة سير وهي باليونانية «سيرا»

σειρα

وكلمة غراء وهي

σύρος

وهما أشبه بصناعة السفن وبالصناعة على الإجمال ، وليس أبعد من الفرض الذي يجعل هذه الكلمات منقولة عن اليونانية إلى العربية، مع العلم بسبق العرب في الملاحة والكتابة وقياس ما ينقل في السفن ووزنه وتقديره.

ونظير ما تقدم في الدلالة على اقتباس اليونان دائما من العرب في أمثال هذه الألفاظ التي ترتبط بالمعاملات وشئون المعيشة؛ أنهم حولوا أسماء أيام الأسبوع إلى الترتيب العددي أسوة بأسمائها العربية، وغيروا منها اسم السبت والأحد بعد ظهور المسيحية، وهل كان اقتباسهم من المسيحية إلا اطرادا في هذه القاعدة وجريا على هذا القياس؟!

والفلسفة

والفلسفة ليست بالاستثناء من هذه القاعدة العامة في تاريخ الثقافة الشرقية اليونانية، خلافا لما يظنه القائلون بأن فلسفة اليونان قد نشأت في منبتها نشأة منقطعة عن ثقافة العالم في جملتها.

إن طاليس هو أبو الفلسفة اليونانية كما قال عنه أرسطو الملقب ب «المعلم الأول». وقد ذكره في كتاب ما بعد الطبيعة وقال عنه: إنه مؤسس الفلسفة، واستشهد بقوله: إن الماء مصدر جميع الأشياء. وذكره في كتاب السماء واستشهد بقوله: إن الأرض جسم يطفو على الماء. وذكره في كتاب النفس واستشهد بقوله: إن المغناطيس ذو حياة؛ لأنه يقدر على تحريك الحديد. وذكره في كتاب السياسة، وروى من أخباره أنه أدخل بعض التحسين على معاصر الزيتون وجمع ثروة حسنة بهذا الاختراع.

وفي الأخبار التي جمعها عنه كتاب «المرشد إلى من قبل سقراط من الفلاسفة» أنه عرف أسباب الكسوف والخسوف، وأنه كشف منزلة الدب الأصغر من منازل الفلك، وأنه أدخل الفلسفة من مصر إلى بلاد اليونان، واهتدى إلى قواعد تمكنه من قياس مسافة البعد بين الشاطئ والسفن في البحر، وتمكنه من قياس ارتفاع الهرم بقياس ظله، كما اهتدى إلى بعض النظريات في حساب المثلثات والدوائر، ويقول الكتاب بعد ذلك: إن المصادر المختلفة تنبئنا بأنه تعلم الهندسة من المصريين، وأنه وخلفاءه كانوا تلاميذ للمصريين والكلدانيين، وكان - ولا ريب - مدينا بالكثير مما عرفه في هذين العلمين اللذين اشتهر بهما ... وإن كان المفهوم أنه استخدم الأساليب العلمية في تنظيم هذه المعرفة.

ومما له معناه الظاهر في نسبة المعارف التي استخدمها طاليس إلى مصادرها أنه كان معدودا من «حكماء اليونان السبعة»، وأن هؤلاء الحكماء كانوا أشبه ب «هيئة مستقلة» لا تنقص عن هذا العدد، ويضاف إليها بديل ممن يخرج منها إذا ثبت أنه أقحم نفسه على الهيئة بسلطان لإمارة أو الرئاسة.

ولا يخفى أن «نحلة السبعة» في كل اقتراناتها ترجع إلى مصدرها الأول من بلاد ما بين النهرين؛ حيث يتكلمون عن السيارات السبع وعن الأيام السبعة وعن السوابيع المتعددة في أعمار الأكوان، وقد كان طاليس يعيش في ليديا من بلاد آسيا الصغرى، ويتلقى معلوماته من قبلها في مسائل الفلك ومسائل النظريات الكونية وأصول الخلق والحياة، وكان تلميذا للمصريين في العلوم الرياضية كما يقول مؤرخوه.

فإذا قيل: إن الفلسفة ليست بالاستثناء في شئون الثقافة التي نقلها اليونان عن الشرق، فهو الواقع الذي تتفق عليه مصادر التاريخ ومراجع الفلسفة، وإن كانت الفلسفة اليونانية قد تطورت كثيرا بعد طاليس ونظرائه من الحكماء، حتى أصبحت في عصر أرسطو وتلاميذه الأولين جديرة بالانتساب إلى اليونان دون غيرهم من أمم الثقافة والحضارة في الأزمنة الغابرة.

فلا نكران لفضل الفلسفة اليونانية على الفلسفة القديمة بمدارسها المختلفة، ولكن الادعاء الذي ينكره كل منصف أن اليونان قد امتازوا بفلسفتهم لأنهم أبناء القارة الأوروبية وأصحاب «الذهن» الإنساني المتفرد بين أذهان البشر بمزايا البحث الطليق وحب الاستطلاع لمحض العلم والاطلاع.

فاليونان لم ينفردوا بهذه الفلسفة في جميع عصورهم، ولم يزد عصر فلسفتهم الممتازة على ثلاثة قرون، منها مائة سنة على الأكثر تفرغت فيها فلسفتهم للبحوث الخالصة في حقائق الوجود وأصول الأشياء على قدر المستطاع من تفرغ الفكر الإنساني لهذه الأمور.

وسبب ذلك راجع إلى ظروف خاصة تتغير فيتبعها التغيير في نتائجها حيثما كانت وحيثما كان التغيير.

نشطت حركة الفلسفة اليونانية في العصر الذي شاعت فيه الكتابة على الورق، وتيسرت فيه المواصلات بين بلاد اليونان وما حولها من البلاد الآسيوية والأفريقية.

ولم تنشط - مع ذلك - إلا لأنها قد نشأت في بلاد لم تحكمها دولة عريقة، ولم تكن فيها - إلى جانب الدولة الحاكمة - دولة من دول الكهانة التي تتأصل في البلاد وتتوارث فيها أسرار المعرفة والبحث في أصول الخلق والحياة، أو في المسائل الإلهية التي يستأثر بها الكهان ورؤساء الدين.

فالبلاد التي تجري فيها الأنهار الكبيرة تقوم عليها الدول المتمكنة، وتقوم معها - إلى جانب الدولة الحاكمة - دولة دينية من الكهان ورؤساء الدين يسيطرون على شئون العقيدة ومباحث الفكر في أسرار الطبيعة وما وراءها من الغيب المجهولة. وعلى هذه السنة قامت كهانات الهند وما بين النهرين ووادي النيل؛ فانفرد الكهان بالمعرفة الغيبية ولم يأذنوا لغيرهم - خارج المعبد - في بحث هذه المعرفة ودراسة «الفلسفة» التي تقوم على تحقيق «الوجود» لذاته، وتحقيق صفات الموجودات العليا والموجودات المقدسة التي كانوا ينعتونها باسم الأرباب.

ولم تكن في اليونان دولة متمكنة ولا كهانة ذات سيطرة على دولتها الصغيرة؛ فاتسع أمامهم مجال البحث غير متحرجين فيه ولا محاسبين عليه، وعمدوا إلى العلوم التي استفادوها من الشرق فقالوا فيها ما يقوله كل باحث منطلق اللسان يتحدث بما يشاء كما يشاء.

على أنهم ما لبثوا جيلا أو جيلين حتى اصطدموا بسلطان الدين وسلطان الدولة؛ فقتل سقراط وتشرد أفلاطون وقضى أرسطو بقية حياته في عزلة وإهمال، وكان عدد الهاربين من فلاسفتهم أكثر من عدد المقيمين الآمنين.

وكذلك حدث في القارة الأوروبية بين صميم الأوروبيين بعد قيام السلطة الدينية بينهم وانفرادها بالتفكير في المسائل الإلهية، فإن القرون الوسطى لم يظهر فيها فيلسوف أوروبي واحد، ولم يظهر فيها من ظهر بعد ذلك من فلاسفتها غير تلاميذ الشراح من العرب الأندلسيين.

ونحن لا نعلم من آثار الشرقيين الأقدمين أنهم تركوا «فلسفة» تبحث في أصول الوجود بغير صبغتها الكهنوتية، ولكننا لا نستطيع من أجل ذلك أن نجزم بانقطاع تفكيرهم في هذه البحوث ولا بقصورهم عن إدراك مداها؛ لأنهم لم يتركوا لنا كذلك كتبا مفصلة عن علوم الفلك والرياضة والكيمياء التي لا شك في اشتغالهم بها، وتطبيقهم لها في بناء الهياكل ونقش الجدران وتحنيط الموتى ورصد الكواكب وسياسة الأنهار، وكل ما نستطيع أن نجزم به أنهم لا يعلنون ما عرفوه ولا يدل كتمانهم له على جهلهم إياه.

ولسنا نريد بإثبات فضل الشرق أن نبخس فضل اليونان في ترقية الفلسفة، ولكننا نقرر الواقع حين نقول: إن الذين يتخذون الفلسفة اليونانية ذريعة إلى اتهام الشرق بالقصور ينحرفون عن سنة الإنصاف، ويتورطون في ادعاء لا دليل عليه.

تلاميذ أبديون

إن الموقع الجغرافي أنفع لنا في المساعدة على تمحيص الروايات التاريخية التي لا تسلم - مع طول الزمن - من الخرافة ومن الإضافة، أو من الخلط وسوء النقل والحكاية؛ فإن للموقع الجغرافي مقتضياته التي نفهم منها ما يجوز وما يمتنع، وما يحتاج إلى السند أو يستغني عنه أو يكتفي منه باليسير.

وموقع بلاد اليونان ينبئنا بالعلاقة التي توجد بينه وبين الحضارات الشرقية، أو توجد بينه وبين حركات الأمم في أدوار هجرتها، واستقرارها منذ فجر التاريخ.

فلم تنقطع علاقتها بالشرق منذ خمسة آلاف سنة على الأقل، ولم تكن علاقتها بالشرق في هذه العصور إلا علاقة التلمذة المتتابعة على الثقافات المتتابعة فيه، ولا سيما الثقافة الروحية وثقافة النظرة الكونية العامة، وتأتي بعدها ثقافة المعيشة المستمدة من الصناعة وعروض التجارة.

ونحن اليوم نسمع كثيرا عن المناظرة بين الجنس الآري والجنس السامي، وعن مزايا كل من الجنسين في التفكير ومبادئ الأخلاق، وعن اقتدار كل منهما على إنشاء الثقافة وحفظ الحضارة وتقويم القيم الاجتماعية والنفسية. ويدور هذا البحث كله أحيانا على مزايا اليونان في طلب المعرفة؛ لأنهم آريون وأوروبيون، مكانهم من ثقافة أوروبة الحديثة مكان الرواد الأسبقين، والباكورة التي تدل على الشجرة وعلى ما تحمله من ثمارها في كل أوان.

فإذا ابتدأنا بالمسألة كلها من البداءة، فالآرية نفسها صفة لم يكسبها اليونان من غير الشرق، ولم تظهر فيهم مزية من مزاياها بغير العلاقة التي اتصلت بينهم وبينه بعد انفصالهم عنه في زمان الهجرة الآرية.

فقد يكون اليونان آريين قدموا مع السلالة الكبرى التي انتقلت من أواسط آسيا إلى أوروبة الشرقية والوسطى، وقد يكونون سكانا أصلاء في أوطانهم غلب عليهم أولئك الآريون المهاجرون وصبغوهم بصبغتهم فلم تبق لهم لغة غير اللغة الآرية، ولا عقيدة غير عقيدة الآريين الأولى في الدين والإله والخليقة.

فهم على الحالين منتسبون إلى الشرق في ثقافتهم، ونسبتهم هذه هي سر امتيازهم على إخوانهم الآريين الذين ذهبوا في الهجرة إلى أواسط أوروبة وما وراءها.

إن الآريين الذين استقروا في القارة الأوروبية وراء بلاد اليونان إلى أقصاها غربا وشمالا قد عاشوا مئات السنين على همجيتهم الأولى، فلم تنفعهم مزاياهم الآرية في ابتداع ثقافة خاصة تنتسب إليهم، ولا في اقتباس ثقافة من الشرق بعد ارتقائه وامتداد عمرانه؛ لأنهم فارقوه وانقطعت صلات العلم والتجارة بينهم وبينه.

فليست «الآرية» إذن منبع الثقافة اليونانية وسر الامتياز والتفوق الذي يخصهم به خلفاؤهم من الأوروبيين المحدثين، ولكنها الصلة بالشرق والاستفادة منه والتلمذة عليه ميزهم بها موقعهم الجغرافي فرجحهم على سكان المواقع النائية من إخوانهم الآريين.

وفي المرحلة الأولى قدم آباؤهم الأولون من القارة الآسيوية بعقائدهم الروحية كما أخذوها من منبعها، ويكفي منها ذكر اسم الإله عندهم «ذيوس» وهو من الهندية القديمة، وذكر أبي الأرباب عندهم، وهو اسم مركب من كلمتين بتلك اللغة وهما: «داوس باتر»: أي أبي الأرباب «جوبيتير»؛ وما بقي من تفصيلات ديانتهم المنسية ومعبوداتهم الأخرى فهو مركب على اعتقادهم برئيس جميع المعبودات وأبي الأرباب.

والمرحلة التالية لمرحلة الهجرة القديمة هي مرحلة الكتابة والصناعة، سواء جاءتهم من هجرة قدموس وزمرته الفينيقية، أو من هجرة تماثلها في مصدرها، فإنها من ثمرات الموقع الجغرافي الذي قربهم من أسباب التلمذة على الشرق المجاور لهم، والاستفادة من حركات شعوبه.

وتأتي المرحلة الثالثة بعد ميلاد السيد المسيح؛ فليس دخول اليونان في المسيحية إلا مرحلة في السبيل المطروق من مراحل التلمذة على الثقافة الشرقية: أدبية أو صناعية أو روحية.

ولم تكن مرحلة المسيحية خاتمة المراحل في هذه التلمذة العريقة؛ فإن الفتوح العثمانية أوشكت أن تفتتح في بلاد اليونان وما جاورها عهد ديانة جديدة، لولا اشتداد شيوخ الإسلام في فتاواهم على الدين الصريحة التي حرموا بها على السلاطين إكراه أهل الذمة.

وهذا هو حكم الموقع الجغرافي إلى جانب حكم التاريخ وحكم الآثار الباقية: حكم الموقع الجغرافي أن اليونان تلاميذ «طبيعيون» لكل ثقافة شرقية، كلما كانت للشرق ثقافة غالبة. فإذا وقف هذا المورد عند حد من الحدود أو وراء حاجز من الحواجز، فذلك هو الحاجز الذي يصد السيل عن مجراه ويتحول به إلى ينبوع سواه.

ثم الثقافة العبرية

إن سبق العرب للعبريين في ثقافتهم الدينية أوضح من سبقهم لليونان في ثقافة المعرفة وصناعات الحضارة، ووقائعه وقرائنه أقرب سندا من الوقائع والقرائن التي ألممنا بها في الصفحات السابقة؛ لأن السند القريب هنا مستمد من أسفار التوراة ومن أحوال المعيشة التي لا محل للخلاف عليها.

وقد أوجزنا القول فيما تقدم على العلاقات القديمة بين ثقافة العرب وثقافة اليونان بالقدر الذي تتسع له هذه الصفحات القليلة.

وسنجمل القول فيما يلي على بيان العلاقات القديمة بين ثقافة العرب وثقافة العبريين في الناحية الدينية، ونبدأ هذا البيان بما لا بد منه من تحقيق أصل العبريين وأطوار العلاقة بينهم وبين الأمة العربية إلى ما بعد ظهور الأنبياء والرسل في بني إسرائيل؛ فمن هم العبريون؟ وما هو أوثق الأقوال عن نشأتهم الأولى قبل أيام إبراهيم - عليه السلام؟

إن أوثق الأقوال عن نشأة العبريين منذ أربعين قرنا على وجه التقريب أنهم قبيلة بدوية صغيرة عاشت زمنا في جنوب بلاد العرب إلى الشرق، وبقيت فيه على حالة بين الإقامة والترحل إلى مسافات قريبة حتى انتقلت - مع ملازمتها الشاطئ - إلى جنوب وادي النهرين.

ويستدل على تاريخ هذه القبيلة من تاريخ الدابة التي كانت تعتمد عليها في الرحلة وحمل الأثقال، وهي الحمار

asinus Asinv ؛ فهذا الحيوان كان يوجد في حالة الوحشية على مقربة من السهول الرملية في جزيرة العرب، ويصل أحيانا في قطعانه المجفلة من السباع إلى أرض حوران.

ويظهر أن العبريين استخدموا هذا الحيوان وهو قريب من حالته الوحشية؛ لأنه كان في تلك الحالة يميل بلونه إلى الاحمرار على اقتراب من ألوان الرمال التي يعيش فيها؛ ومن هنا اسم «الحمار» واسم اليحمور الذي يطلق على الحمار الوحشي في اللغة العربية.

ويظهر أيضا أنه بقي عندهم زمنا طويلا على هذا اللون حتى تغير لونه بعض الشيء، وتولدت منه الحمر البيضاء بعد طول التدجين والعناية «المدنية»: أي بعد انتقال العبريين من البادية إلى جوار المدن، وترددهم بين معيشة البداوة ومعاهد الحضارة؛ فأصبحت الحمر البيضاء مطية لذوي الرئاسة والثروة من القوم، وفي ذلك يقول سفر القضاة من إصحاحه الخامس مخاطبا أولئك الرؤساء: «قلبي نحو قضاة إسرائيل المنتدبين في الشعب. باركوا الرب أيها الراكبون الأتن الصحر الجالسون على الطنافس.» أي إناث الحمير المبيضة اللون.

واستخدام الحمار يدل على كثير من أحوال العبريين إلى جوار القبائل التي تستخدم الجمال للسفر إلى المسافات البعيدة، ونقل الأحمال الثقيلة، ونزول المراعي المنيعة التي لا تستباح لغير ذوي القوة والكثرة من قبائل الجزيرة ... فإنما يستخدم الحمار للمسافات القصيرة والأحمال الخفيفة بالقياس إلى أحمال الجمال، ويسير الحمار في غير المفاوز الرملية التي تسلكها الإبل، ولا يبتعد وقتا طويلا عن موارد الماء الميسرة بغير عناء مجهد وبغير حاجة إلى الحماية القوية أو إلى كثرة العدد ووفرة السلاح.

فالعبريون في نشأتهم قوم ضعاف قليلون في العدد، مضطرون إلى الاكتفاء بالمعيشة التي يتركها سادة الصحراء زهدا فيها واستغناء عنها، ونكاد نعلم من ذلك مواقع نشأتهم الأولى قبل وفودهم إلى العراق وبعد مقامهم فيه إلى أيام الخليل إبراهيم.

فهذا الموقع لا بد أن يكون قريبا إلى الشاطئ قريبا إلى الحاضرة، يقيم فيه أناس لم يتفرغوا للبداوة في جوف الصحراء، ولم يتفرغوا للإقامة في الحواضر العامرة، ولكنهم عاشوا بين البادية والحاضرة يؤدون الأعمال التي تتطلبها الحاضرة من البادية وتتطلبها البادية من الحضارة، وهي في الغالب أعمال وساطة وسمسرة هادئة لا تضطرهم إلى الاقتحام والغلبة في معاملة أهل المدينة ولا في معاملة أهل الصحراء، ولا تضطرهم إلى الحوزة القوية لتحصيل القوت لهم وللدواب التي يستخدمونها؛ فإنهم يأخذون ما يحتاجون إليه من المدن جزاء أعمالهم في الوساطة بينها وبين البادية، ولا يحتاجون إلى كثرة عدد ولا وفرة سلاح لاقتحام مراعي الصحراء البعيدة؛ إذ كانت دوابهم تقنع بالقليل من العلف والمرعى، وبالقريب من موارد الشرب والسقاية، وهم في وساطتهم المتبادلة يعولون على الرضى والطلب ولا يعولون على القهر والاغتصاب.

وفي هذه المعيشة البدوية الحضرية يكمن كل سر من أسرار التاريخ العبري من فجر التاريخ إلى العصر الحاضر، وإليها يرجع تعليل المشكلات والأزمات التي تعرض العبريون أو عرضوا لها أنفسهم ولا يزالون معرضين لها حتى هذه الأيام.

فهم قبيلة لم تتطور، وقد ظلت بين البادية والحاضرة قبيلة لم تستوف أطوار البادية، ولم تتحول إلى أطوار الحضارة شعبا «مدنيا» يتمشى مع الحياة المدنية على سنة جميع الشعوب، ولازمتها عادة المعيشة على السمسرة والوساطة فلم تتقدم إلى آخر الشوط في تثمير أعمال البدو ولا في تثمير أعمال الحضر؛ فهي في حالة العزلة الاجتماعية وما يلازمها عند البدو من عزلة «العصبية» بالدم والسلالة.

ومشكلة العبريين قديما وحديثا هي هذه المشكلة: هي مشكلة «التحجر» على حالة القبيلة وحالة «العصبية» بالدم والسلالة. وعقيدتهم في جوهرها هي عقيدة عصبية منعزلة، تؤمن بإله تعبده لأنه إلهها، وهو الإله الذي يرعاها لأنها شعبه الذي يحابيه بين الشعوب لغير سبب ولغير فضيلة فيه غير أنه شعبه المختار لديه.

وهذه حالة من العزلة «المتعصبة» لا بد أن تسوق القوم إلى اصطدام عنيف بينهم وبين جيرانهم من جانب البادية ومن جانب الحاضرة، ولا بد أن يقع فيها ذلك الشعور النافر بين صاحب المال وبين الوسيط والسمسار، كلما تحركت المطامع وتعسرت المنافع، ونشبت المنازعات في البيئة، ولو كان نشوبها لسبب غير السمسرة والاستغلال.

ولا يدرى على التحقيق هل سمي العبريون بهذا الاسم لأنهم ينتسبون إلى عابر بن سام، أو لأنهم عبروا نهر الفرات بعد قدومهم إلى وادي النهرين؛ ففي سفر يشوع يقول يشوع للشعب كله: «هكذا قال الرب إله إسرائيل. آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر. تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور، وعبدوا آلهة أخرى، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر وسرت به في كل أرض كنعان.»

إلا أنهم - لضعفهم - كانوا يلوذون في كل موطن سكنوه بمن هو أقوى منهم من القبائل التي تلتقي بهم في أصولهم ويحتمون بمصاهرتها من أعدائهم؛ ففي سفر التكوين أنهم انتسبوا إلى الأصل الآرامي حين أرسل إبراهيم - عليه السلام - رسوله لخطبة رفقة بنت بتوثيل الآرامي، فقال له: «إلى أرضي وعشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني ...»

ولما نزلوا أرض كنعان جعلوا لغتهم لغة كنعانية. وقال أشعيا وهو يتنبأ بغلبة قومه على أرض مصر إنه «في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان.»

ولم يزالوا في هجرتهم من موطن بعد موطن بين العراق وحوران وكنعان يعيشون إلى جوار القبائل، ولا يتغلبون على واحدة منها في وقعة فاصلة حتى لجئوا إلى مصر وعادوا منها بعد عدة قرون إلى الأرض التي سموها بأرض الميعاد، ولم يتفقوا على حدودها حتى ملكوا أسباب القوة التي أطمعتهم في الغلبة عليها.

والعرف الشائع بين العبريين أنهم يتشاءمون تشاؤما «تقليديا» بالأيام التي قضوها في مصر ويحسبونها بلية البلايا، ومحنة المحن في تاريخهم كله من عهد الخليل إلى عهد النازية الهتلرية في القرن العشرين، وقد مرت بهم محنة السبي إلى وادي النهرين ولكنهم لا يتشاءمون بها كما تشاءموا بالمقام في مصر، ولا يجعلون الخروج من بابل عيدا باقيا متجددا كعيد الخروج من أرض وادي النيل.

أما الواقع المعروف بنتائجه الكثيرة فهو على نقيض ما قدروه وأوجبوه على أنفسهم من تقاليد «الحداد» وتقاليد الأعياد.

فإنهم لم يستفيدوا قط من هجرة في تاريخهم كله كما استفادوا من هذه الهجرة المصرية؛ لأنهم نعموا بالعيش الرغيد في جوار النيل، وتعلموا من آداب الحياة وشرائط الصحة ما زاد في عددهم، وزاد في خبرتهم بتدبير أمورهم والدفاع عن أنفسهم؛ فأصبحوا يعدون بمئات الألوف، ويحسنون حمل السلاح وتنظيم الزرع والحصاد، ويصلحون لنزال القبائل البادية التي أعياهم أمرها قبل خمسة قرون وتركوا لها الأرض اعتصاما بمصر وهم بضع مئات أو بضع عشرات.

وليس الفضل في هذه الزيادة وهذا التقدم لطول الزمن بين دخولهم إلى مصر وخروجهم منها؛ فإن القبائل التي تركوها في البادية بقيت كما كانت قبل خمسة قرون ، ولم تبلغ في زيادتها ولا في تقدمها بعض ما بلغوه وادعين قانعين بجوار النيل.

ولولا هذه الزيادة في عددهم وفي خبرتهم لما استطاعوا أن يقاتلوا قبائل البادية التي كانوا يهابونها ويهربون منها، ولا استطاعوا أن يهزموها ويطردوها من مواقعها إذا اجترءوا على قتالها، ولا تأتي لهم من دواعي الاستقرار في أرض كنعان ما يعينهم على إقامة الملك وبناء الهياكل من الحجارة بدلا من العرائش والخيام. ومهما يكن من بلاء أصابهم في مصر، فهو بلاء استحقوه واستحقوا أضعافه في بلاد العالم القديم شرقية وغربية.

ثم لازمتهم آفتهم الخالدة بعد إقامة المملكة وتعاقب العروش زهاء أربعة قرون، فلم يفارقوا نظام القبيلة بعد محاكاتهم لجيرانهم في نظام الدولة، ولبثوا في دولتهم كما لبثوا في هجرتهم قبيلة معزولة عن الأمم، بل سبطا معزولا عن سبط في داخل القبيلة، وظلت لهم شريعة «العصبية القبلية» دستورا يصلح لهم وحدهم في تقديرهم، ولكنه لا يصلح لتنظيم الدولة التي تجمعهم بغيرهم في كل تقدير.

فلم يزالوا من قيام المملكة إلى ما بعد ميلاد السيد المسيح يحرمون بينهم ما يحلونه بينهم وبين غيرهم، ويعملون بما جاء في سفر التثنية حيث يقال: «للأجنبي تقرض الربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك»؛ فهو ربه وإلهه وليس برب ولا إله للآخرين.

وظلوا يحصرون العصبية في أضيق حدودها بين الأسباط في القبيلة الواحدة، ويتشددون في حصر كل سبط بميراثه إلى أعقاب الأعقاب.

ففي الإصحاح السادس والثلايين من سفر العدد أنه «لا يتحول نصيب إسرائيل من سبط إلى سبط، بل يلازم بنو إسرائيل كل سبط نصيب سبط آبائه، وكل بنت ورثت نصيبا من أسباط بني إسرائيل تكون امرأة لواحد من عشيرة سبط أبيها لكي يرث بنو إسرائيل كل سبط نصيب آبائه، فلا يتحول نصيب من سبط إلى سبط آخر، بل يلازم كل واحد نصيبه كما أمر الرب موسى.» •••

ولا ضرورة للبحث الطويل في سبب الفشل الذي يلحق بدولة من الدول تقوم على مثل هذا النظام، وتقوم من ورائه على مثل هذا الشعور ، فإنه نظام يقف عند حدود القبيلة ويقصر عن التقدم وراء ذلك خطوة في طريق الحياة القومية، فضلا عن الحياة العالمية.

ومن فضول القول أن يتحدث نقاد التاريخ والمعقبون على أطوار الاجتماع عن «رسالة عالمية» يستفيدها العامل من هذه «العصبية القبلية» بعد تطور الأمم والشعوب وتطور العلاقات العالمية وتطور العقائد والآداب، فإن «الفكرة العالمية» لا تتولد في طور من أطوارها من مثل هذه الدعوة الدينية أو العنصرية، بل يكون تقويض أساس هذه الدعوة شرطا لازما لمجرد تصحيح النية وتوجيه الرغبة إلى الفكرة الإنسانية العامة والثقافة التي تستفاد لجميع الشعوب ولا تكون وقفا على شعب واحد دون سواه.

العبرية والعالمية

نعم، إنه لمن فضول القول أن يقال عن ثقافة دينية محصورة في هذا الحيز المحدود: إنها رسالة عالمية، أو إنها يمكن أن تسفر قبل زوالها عن رسالة عالمية.

لكن الأمر يتجاوز فضول القول إلى فقدان الحياء حين يقال: إن العبرية هي التي نهضت بأمانة الرسالة العالمية في تاريخ بني الإنسان، وأن تنعقد المقارنة بينها وبين حضارات الشرق في وادي النيل وفي وادي النهرين وفي شبه الجزيرة العربية، فيقال: إن تلك الحضارات جميعا لم تحفل بمبادئ الأخلاق ولم تقرر قواعد العدل والفضيلة، وإن أربابها لا تغضب للواجب والحق كما غضب لهما رب العبريين: رب الصواعق والجنود.

ولا موجب - فيما نرى - لتفصيل الكلام على آداب الحضارات قبل ظهور العبريين، وقبل شيوع تلك الحضارات بين الشعوب والأقوام الذين تقدموا وراء آداب العصبية المحدودة أشواطا لا يتسع لها هذا المجال؛ فربما كان استقصاء المدى المعروف الذي بلغته الدعوة العبرية من أيام الخليل إلى أيام السيد المسيح تصحيحا كافيا لتلك الدعوى التي يدعيها المبشرون بما يسمونه «الرسالة العالمية» من قبل العبريين.

إن طاعة الإله في عرف العبريين ليست مسألة فضيلة وأخلاق تحمد من كل إنسان فاضل وكل آدمي ذي خلق كريم، بل هي مسألة علاقة بين رب «عبري» يختص نفسه بشعب يختاره ويغار عليه، وبين شعب يدين لذلك الإله بين آلهة الأمم لأنه يخافه ويشعر بقوته وانتقامه ، ويرى أنه أقدر على الانتقام من جميع الأرباب.

ويقول هذا الإله كما جاء في سفر التثنية: «أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»

ويقول كما جاء في سفر الخروج: «رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة.»

ويقول أنبياؤهم تارة: إنه شعب ثقيل الإثم، وتارة: إنه شعب لا يفهم. ويعيد كل نبي ما سبقه إليه الأنبياء من وصفه بالضلالة والنفاق والقسوة وقلة الوفاء ... ولكن هذا الشعب يعلم - مع كل ذلك - أن الله يختاره لأنه شعبه وعصبته ... وأنه كما جاء في سفر التثنية: «ليس لأجل بركة يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها لأنك شعب صلب الرقبة.»

أما هذا الشعب فإنه يدين لهذا الإله ويختاره من بين الأرباب لأنه: «إلهكم وهو إله الآلهة ورب الأرباب، الإله العظيم الجبار المهيب.»

ويناديه الإله فيقول له كما جاء في سفر الخروج: «لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء، في الجيل الثالث والرابع من مبغضي ...»

نعم، كما تسري شريعة الثأر في الجاهلية من الآباء إلى الأبناء، ومن الإخوة إلى الإخوة، ومن الجار إلى الجار.

ويتكرر النذير من الإله الغضوب غير مرة: «لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور»، «فلا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم؛ لأن الرب إلهكم إله غيور». ويجري هذا النذير من الأسفار المنسوبة إلى موسى - عليه السلام - إلى الأسفار التي كتبها آخر الأنبياء من بني إسرائيل.

ولم تنفرج حلقات هذه العصبية بعد توالي الضربات على القوم من جراء تعنتهم بالأثرة وإنكار الحقوق الإنسانية على الأمم، أو على «الجوييم» كما يسمونها بمعنى الغرباء أو الدخلاء، بل كانت هذه العصبية تنحصر من دائرة إلى دائرة أضيق منها وأشد في التمييز والاستئثار من سوابقها؛ فكانت صفوتهم المختارة أبناء إبراهيم إلى أبناء أبنائه وحفدته، فإذا هي تنحصر بعد ذلك في أبناء إسحق بني إسرائيل، ويدعو القوم أنفسهم من أجل ذلك بأبناء إسرائيل، ثم انحصرت صفوتهم المختارة في بني هرون آل موسى الأقربين - عليه السلام - ثم انحصرت في أبناء داود - عليه السلام - بعد قيام المملكة، وقيل من أجل ذلك: إن المسيح المنتظر لا يكون من غير ذريته وورثة عرشه، وكانت الوعود السماوية المزعومة تنتقل على هذا المثال جيلا بعد جيل تبعا للتنقل في مراكز الرئاسة والقدرة على مرضاة كهان الهيكل ودعاة النبوة.

وكان بعض أنبيائهم من حين إلى حين يفطنون لوبال هذه العصبية ويعترفون للأمم بشيء من الحق في النعمة الإلهية، إنذارا لقومهم بعاقبة التمادي في مساوئهم ونزواتهم واتكالهم على اختيار الإله لهم دون سواهم بغير فضيلة فيهم ولا اجتهاد من جانبهم، ولكنها فلتات تعرض لأولئك الأنبياء كلما أزعجهم مصير قومهم وصدمتهم فوارق المقابلة بينهم وبين الأمم التي تفضلهم وترجح عليهم، ثم تذهب الصيحة بغير صدى وتعقبها نوبة من نوبات العصبية أشد وأعنف من نوباتها الغابرة، وانتهت رسالات أنبيائهم وتلتها الدعوة المسيحية وهم على أشد ما كانوا تعصبا للدم والسلالة وإنكارا للحقوق الإنسانية على كل من عداهم من «الجوييم» المنبوذين في اعتقادهم.

وقد استهل السيد المسيح رسالته بتوجيه الدعوة إلى «خراف إسرائيل الضالة» وإيثار «البنين» بالخبز على الغرباء، فأعرضوا عنه ورفضوه، وكادوا له المكايد واتهموه، فاتجه آخر الأمر بالدعوة العامة إلى المستمعين إليها من سائر الأمم، وضرب المثل بصاحب الدار الذي دعا الأقرباء وأبناء الأسرة إلى وليمة عرسه فتعللوا له بالمعاذير وقاطعوه في داره، فأرسل غلمانه يدعون إلى الموائد المهجورة كل عابر سبيل.

وظلوا إلى عهد الرسولين بطرس وبولس ينكرون على العبري أن يتناول الطعام مع غير العبريين، ويحتدمون غيظا إذا قيل لهم: إن دعوة الهداية تتجه إلى الأمم كما تتجه إلى بني إسرائيل، فجاء في الإصحاح الحادي عشر من أعمال الرسل أنهم خاصموا بطرس يوم صعد إلى أورشليم؛ لأنه دخل بيوتا لغير المختونين وأكل مع أهلها.

وجاء في الإصحاح الثاني والعشرين من أعمال الرسل أن بولس الرسول كان يصلي في الهيكل فقال لمن فيه: إن الله أمره أن يذهب إلى الأمم؛ لأنه سيرسله إلى الأمم بعيدا ... «فسمعوا له حتى هذه الكلمة ثم رفعوا أصواتهم قائلين : خذ مثل هذا من الأرض لأنه كان لا يجوز أن يعيش، وإذ كانوا يصرخون ويطرحون ثيابهم ويرمون غبارا إلى الجو أمر الأمير أن يذهب به إلى المعسكر»، وأن يضرب ليعلم لأي سبب كانوا يصيحون به هذا الصياح ويشقون الثياب ويثيرون الغبار سخطا عليه. •••

والثقافة الدينية التي من هذا القبيل ليس من شأنها أن توحي إلى أصحابها برسالة عالمية، وإنما شأنها عندهم كشأن حقوق الميراث في أقرباء الدم والعصبية، لا ترى أحدا من أصحابها يدعو الناس إلى مقاسمته فيها، بل كل همه - إذا استطاع - أن يحتجزها لنفسه ويقصي الناس عنها، وهذه شيمة نعهدها في سلالة العبريين إلى وقتنا هذا؛ فلا نرى أحدا منهم يعنيه تبشير الناس بمذهبه وهداية «الأجنبيين» إلى ملته، كما يعنيه أن يتألب ويتعصب مع أبناء عصبته على تباعد الديار.

وإذا تركنا جانب الثقافة الدينية والتفتنا إلى جانب الثقافات الأدبية والفنية أو الثقافات الفلسفية والأخلاقية، لم نجد عند القوم منذ كانوا نصيبا من هذه الثقافات يفيدون به العالم باختيارهم أو يفيده العالم على الرغم منهم.

ففي أدوار حياتهم الثلاثة - دور البداوة ودور المملكة ودور الشتات في أنحاء البلاد - لم يصدروا من عندهم ثمرة نافعة من ثمرات الآداب والفنون أو ثمرات العلم والفلسفة، فلم يخرجوا للعالم من أيام الخليل إلى أيام المسيح عالما ولا أديبا ولا فيلسوفا ولا رحالة مشتغلا باستطلاع التواريخ أو بحاثة مشتغلا بدراسة الأحياء والنباتات ومسائل التاريخ الطبيعي كما عرفت من قبل وكما عرفت اليوم، وكل محصولهم من الكتب المقروءة فإنما هو تلك المواعظ والترانيم التي وقفوها على أنفسهم، ولم ينبغ منهم مشتغل بالحكمة والدراسة العلمية قبل اتصالهم بأمم الحضارة واضطرارهم إلى المعيشة بين تلك الأمم في المشرق والمغرب.

ولما قامت لهم دولة لم تنهض لهم مع الدولة ثقافة أدبية ... ثم ذهبت الدولة ولم تعقب بعدها أثرا من آثار الفكر أو الوجدان أو الذوق والخيال كتلك الآثار التي حفظها التاريخ لكل دولة من الدول القديمة والحديثة.

أما في دور الشتات بعد دور البداوة ودور الدولة، فلم يكن لهم مجتمع واحد تنسب إليه ثقافته ولا تنسب إلى غيره، ولكنهم ظلوا في دور الشتات عالة على ثقافات الأمم كلما نبغ منهم نابغ بين أبنائها؛ فليست لهم ثقافة مستقلة عن ثقافات العرب والمصريين في العصر القديم، ولا عن ثقافات الألمان والفرنسيين والإنجليز والأمريكيين وسائر الأمم المثقفة في العصر الحديث.

وإذا أحصينا نوابغهم ونوابغ الأمم الأخرى، وجب أن يكونوا أضعاف ذلك عددا وكفاية كما يكون المستفيدون من عشرين أو ثلاثين ثقافة منوعة بالقياس إلى المستفيدين من ثقافة واحدة في مكان واحد، ولكنهم على خلاف ذلك أقل مما ينبغي أن يكونوا بهذه النسبة وبنسبة أخرى غير النسبة العددية، وهي أنهم يتعاونون بالتضامن - بل بالتعصب - في جميع البلدان، ويبذلون جهدهم للتنويه بنوابغهم والإعلان عنهم وإهمال من عداهم من أقرانهم ونظرائهم، ولا يخفى ما يعمله «التضامن» في إظهار الخفي وتكبير الصغير وتفخيم الضئيل، فإن عشرة متضامنين متفاهمين على التعاون يملكون من أساليب الشهرة والتنويه ما لا يملكه ألف متفرقون.

ولنا أن نقول بالتعبير الشائع في عصرنا: إن هؤلاء العبريين منذ بداوتهم إلى هذا القرن العشرين قد كانوا مستنفدين ولم يكونوا قط منتجين، وإن محصولهم في الثقافة العالمية محصول المستغل والوسيط، وليس بمحصول المالك العامل الذي يعطي وينتج ما يعطيه.

الدين

فيما عدا احتكار النعمة الإلهية وعزلة العصبية في أضيق حدودها، لم يبدع العبريون شيئا في ثقافة الدين، وأخذوا كل ما أخذوه من حولهم «مستنفدين» غير متصرفين في عقيدة من عقائده الكبرى، إلا ما تصرفوا فيه بالخرافة والأحجية والطلسم والشعوذة والسحر على سذاجته الأولى بين القبائل البادية.

وكان أكثر ما أخذوه منقولا عن قبائل العربية الكبرى بين اليمن في الجنوب وقبائل الآراميين والكنعانيين في الشمال.

فلم يعرفوا كلمة «النبي» قبل اتصالهم بكنعان في الزمن الذي ظهرت فيه النبوءات العربية، مما ذكره القرآن الكريم ومما ذكروه هم عرضا في أسفار العهد القديم.

وعرف العبريون نبوءات السحر والكهانة والتنجيم كما عرفتها الشعوب البدائية «وابتكروا منها ما ابتكرت على سنة الشعوب كافة، واقتبسوا منها ما اقتبست بعد اتصالهم بجيرانها في المقام من أهل البادية أو أهل الحاضرة، ولكنهم على خلاف الشائع بين المقلدين من كتاب الغربيين قد تعلموا النبوة الإلهية بلفظها ومعناها من شعوب العرب، ولم تكن لهذه الكلمة عند العبريين لفظة تؤديها قبل وفودهم على أرض كنعان ومجاورتهم للعرب المقيمين في أرض «مدين»؛ فكانوا يسمون النبي بالرائي أو الناظر أو رجل الله، ولم يطلقوا عليه اسم النبي إلا بعد معرفتهم بأربعة من أنبياء العرب المذكورين في التوراة، وهم ملكي صادق وأيوب وبلعام وشعيب الذي يسمونه يثرون معلم موسى الكليم، ويرجح بعضهم أنه الخضر - عليه السلام - للمشابهة بين لفظ يثرون وخثرون وخضر في مخارج الحروف، ولما ورد من أخبار الكليم مع الخضر - عليهما السلام - في تفسير القرآن الكريم.

ومن علماء الأديان الغربيين الذين ذهبوا إلى اقتباس العبريين كلمة النبوة من العرب الأستاذ هولشر

Holscher

والأستاذ شميدت

Shmidt

اللذان يرجحان أن الكلمة دخلت في اللغة العبرية بعد وفود القوم على فلسطين، إلا أن الأمر غني عن الخبط فيه بالظنون مع المستشرقين، من يفقه منهم اللغة العربية ومن لا يفقه منها غير الأشباح والخيالات، فإن وفرة الكلمات التي لا تلتبس بمعنى النبوة في اللغة العربية كالعرافة والكهانة والعيافة والزجر والرؤية، تغنيها عن اتخاذ كلمة واحدة للرائي والنبي، وتاريخ النبوات العربية التي وردت في التوراة سابق لاتخاذ العبريين كلمة النبي بدلا من كلمة الرائي والناظر، وتلمذة موسى لنبي مدين مذكورة في التوراة قبل سائر النبوات الإسرائيلية، وإن موسى الكليم - ولا ريب - لهو رائد النبوة الكبرى بين بني إسرائيل».

والمطلع على الكتب المأثورة بين بني إسرائيل يتبين منها أنهم آمنوا بهذه النبوات جميعا، وأنهم بعد ارتقائهم إلى الإيمان بالنبوة الإلهية ما زالوا يخلطون بين مطالب السحر والتنجيم ومطالب الهداية، ويجعلون الاطلاع على المغيبات امتحانا لصدق النبي في دعواه أصدق وألزم من كل امتحان، ولم يرتفع كبار أنبيائهم ورسلهم عن مطلب الاتجار بالكشف عن المغيبات والاشتغال بالتنجيم؛ ففي أخبار صموائيل أنهم كانوا يقصدونه ليدلهم على مكان الماشية الضائعة وينقدونه أجرة على ردها ... «خذ معك واحدا من الغلمان وقم اذهب فتش عن الأتن ... فقال شاول للغلام: فماذا نقدم للرجل؟ لأن الخبز قد نفد من أوعيتنا وليس من هدية نقدمها لرجل الله، ماذا معنا؟ فعاد الغلام يقول: هو ذا يوجد بيدي ربع شاقل فضة»، ويؤخذ من النبوءات التي نسبوها إلى النبي يعقوب جد بني إسرائيل أنهم كانوا يعولون عليه في صناعة التنجيم؛ فإن النبوءات المقرونة بأسماء أبناء يعقوب تشير إلى أبراج السماء وما ينسب إليها من طوالع ومن أمثلتها عن شمعون ولاوي أنهما أخوان سيوفهما آلات ظلم في مجلسهما لا تدخل نفسي؛ لأنهما في غضبهما قتلا إنسانا وفي رضائهما عرقبا ثورا ... وهذه إشارة إلى برج التوأمين، وهو برج إله الحرب زجال عند البابليين. ويصورون أحد التوأمين وفي يده خنجر، ويصورون أخاه وفي يده منجل، وتشير عرقبة الثور إلى برج الثور الذي يتعقبه التوأمان، ومن الأمثلة في هذه النبوءات المنسوبة إلى يعقوب مثل يهوذا «جرو أسد جثا وربض كأسد ولبؤة، لا يزول غضب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب»؛ وهذه إشارة إلى برج الأسد، وهو عند البابليين برجان يبدو أمام أحدهما برج يشير إلى علامة الملك الذي تخضع له الملوك إلى آخر ما شرحه الأستاذ أريك بروز

Burrows

في كتابه عن تنجيمات يعقوب

Oracles of Jacob . •••

وقد عبرت هذه الأطوار في فهم النبوة شوطا طويلا في حياة القبائل العبرية، وتتلمذوا في كل مرحلة منها لأستاذ من هداة العرب نساكا ورسلا مبعوثين بالرسالة أو أنبياء غير مبعوثين بها، كما جاء في كتب التوراة وكما جاء في القرآن الكريم مما لم تذكره كتب الإسرائيليين، وكله من شواهد التاريخ المعلوم عن سبق العرب إلى فهم النبوة وارتقائهم في الاستعداد لدرجاتها المنزهة عن شوائب الوثنية، فضلا عما يفوتنا العلم به حتى اليوم من شواهد التاريخ المجهول.

إبراهيم وموسى وداود يتعلمون

نحن نعلم أسماء بعض الأنبياء وأسماء الأمم التي بعثوا فيها، ولكننا لا نعلمهم جميعا ولا تحصيهم لنا كتب الأديان الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، وفي ذلك يقول تعالى من سورة المؤمن:

ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ...

ونعلم من سير الأنبياء في التاريخ وفي الكتب الدينية أنهم يتعلمون من عباد الله الصالحين، وفيهم من تنبأ وأرسل ومن لم يكن من الأنبياء أو المرسلين.

وفي سورة الكهف عن موسى - عليه السلام - وفتاه

فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا .

وبين أكبر الأنبياء المعلومين عندنا ثلاثة من الذين بعثوا في العبريين، وهم: إبراهيم وموسى وداود - عليهم السلام، نعلم من أخبارهم في أسفار التوراة كما نعلم من أقوالهم فيها أنهم تتلمذوا لأناس من الأمة العربية، وأن أساتذتهم سبقوهم - بداهة - إلى ثقافة الدين وإلى المعرفة الإلهية التي يطلبها الأنبياء ويبحثون عنها.

وعلى أحد القولين يسمى إبراهيم عبريا؛ لأنه من نسل عابر بن سام.

وعلى القول الآخر يسمى عبريا؛ لأنه هو وقومه عبروا النهر إلى أرض كنعان.

وعلى كلا القولين ينتمي إبراهيم إلى قبيلة سامية من الجزيرة العربية، ويتنقل بين أرض آرام في المشرق وأرض كنعان في المغرب، وكلتاهما موطن المتكلمين بالعربية على أقرب لهجاتها وأطوارها إلى اللغة العربية الحديثة؛ فالعرب العاربة - كما تقدم - تنتمي كلها إلى الأرمان، وأبناء كنعان ينسبون إلى أرضهم الواطئة على أشهر الأقوال، وهي من مادة «كنع»، تشبهها في لغتنا الحديثة مادة «قنع» ومادة «خنع» في الدلالة على الخفض والاطمئنان.

وقد تحول إبراهيم من أرض النهرين إلى أرض كنعان، فروى لنا سفر التكوين من التوراة في إصحاحه الرابع عشر أنه تلقى البركة من ملكي صادق ... «وكان كاهنا لله العلي، وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض، ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك».

وقد أعطاه إبراهيم العشر من كل شيء قربانا إلى الله.

ويقول الإنجيل في رسالة العبرانيين: إن السيد المسيح صار «على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد».

ويقول بعد ذلك في الإصحاح السابع عن ملكي صادق: «إنه لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهنا إلى الأبد، ثم انظروا ما أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء ...»

فالتوراة والإنجيل معا يصفان الكاهن الكنعاني بصفة الرئاسة الدينية وصفة الخلود الذي لا يحده الزمان، ويرفعانه إلى المنزلة التي يتلقى منها إبراهيم بركة الإله العلي: إله السماوات والأرض. ولا يكون ذلك لإنسان تعلم من إبراهيم دينا لم يكن يعرفه، وإنما يكون لأستاذ متقدم في العلم بدينه يتعلم منه إبراهيم.

وليس بين الأنبياء الذين دان لهم العبريون بعد إبراهيم من هو أكبر مقاما من موسى - عليهما السلام - ومن الناس من يقدم موسى على من عداه من أنبيائهم بفضل الشريعة والقيادة الظافرة إلى أرض الميعاد، وإنهم على مكانته هذه ليثبتون عنه في سفر الخروج أنه تعلم من نبي «مدين» العربي الذي يدعونه يثرون وجوآب، ويدعوه العرب باسم شعيب، ولا التباس في أمر نسبته العربية بجميع الأسماء.

ففي الإصحاح الرابع من سفر الخروج أن موسى - عليه السلام - استأذنه في العودة إلى مصر قبل رسالته: «فمضى موسى ورجع يثرون حموه وقال له: أنا أذهب وأرجع إلى إخوتي الذين في مصر لأرى هل هم بعد أحياء، فقال يثرون لموسى: اذهب بسلام.»

وفي الإصحاح الثاني عشر بعد رواية أخبار موسى من ذهابه إلى عودته: «أن يثرون أخذ محرقة وذبائح لله، وجاء هارون وجميع شيوخ إسرائيل ليأكلوا طعاما مع حمي موسى أمام الله».

ومعنى هذا أن شعيبا كان يقرب القرابين إلى الله ويتبعه موسى وهارون وجميع شيوخ إسرائيل.

ثم يستطرد الكتاب قائلا: «وحدث في الغد أن موسى جلس ليقضي للشعب فوقف الشعب عند موسى من الصباح إلى المساء، فلما رأى حمو موسى كل ما هو صانع للشعب، قال: ما هذا الأمر الذي أنت صانع للشعب؟ ما بالك جالسا وحدك وجميع الشعب واقف عندك من الصباح إلى المساء؟ فقال موسى لحميه: إن الشعب يأتي إلي ليسأل الله إذا كان لهم دعوى يأتون إلي، فأقضي بين الرجل وصاحبه وأعرفهم فرائض الله وشرائعه، فقال حمو موسى له: ليس جيدا هذا الأمر الذي أنت صانع، إنك تكل أنت وهذا الشعب الذي معك جميعا؛ لأن الأمر أعظم منك، لا تستطيع أن تصنعه معك، الآن اسمع لصوتي فأنصحك، فليكن الله معك، كن أنت للشعب أمام الله، وقدم أنت الدعاوى إلى الله، وعلمهم الفرائض والشرائع، وعرفهم الطريق الذي يسلكونه والعمل الذي يعملونه، وأنت تنظر من جميع الشعب ذوي قدرة خائفين الله أمناء مبغضين الرشوة، وتقيمهم عليهم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات، فيقضون للشعب كل حين، ويكون أن كل الدعاوي الكبيرة يجيئون بها إليك، وكل الدعاوي الصغيرة يقضون هم فيها، وخفف عن نفسك؛ فهم يحملون معك إن فعلت هذا الأمر وأوصاك الله تستطيع القيام، وكل هذا الشعب أيضا يأتي إلى مكانه بسلام؛ فسمع موسى لصوت حميه وفعل كل ما قال، واختار موسى ذوي قدرة من جميع إسرائيل وجعلهم رؤساء على الشعب، رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات، فكانوا يقضون للشعب كل حين ...»

ومعنى هذا أن شعيبا تقدم موسى إلى عقيدته الإلهية، وعلمه تبليغ الشريعة وتنظيم القضاء في قومه، وأن العبريين كانوا متعلمين من النبي العربي ولم يكونوا معلمين. •••

ويأتي داود، عند العبريين، بعد إبراهيم وموسى في مقام النبوة، وهو رأس البيت المالك الموعود بالملك الأبدي في هذا العالم، ورب الأسرة التي ينتظرون الخلاص على يدي ملك من ملوكها يعود إلى صهيون آخر الزمان. وقد كانت الصلة بينه وبين البلاد العربية متجددة متبادلة كما يفهم من قصة ابنه سليمان وصاحبة عرش سبأ في جنوب بلاد العالم، ولكننا لا نملك من الوثائق ما نستند إليه في تقدير آثار هذه الصلة من الناحية الدينية، وإنما نعلم من الوثائق التاريخية - التي سجلها المؤرخون الأوروبيون عن آثار إخناتون - أن المشابهة قريبة جدا بين مزاميره وصلوات ذلك الملك الذي تقدم بالدعوة إلى التوحيد في مصر القديمة ...

وقد عقد كل من هنري برستيت وآرثر ويجال

Weigall

مقارنة بين بعض الصلوات وبعض المزامير، فاتفقت المعاني بينهما اتفاقا لا ينسب إلى توارد الخواطر والمصادفات، ومن أمثلتها قول إخناتون:

إذا ما هبطت في أفق الغرب أظلمت الأرض كأنها ماتت، فتخرج الأسود من عرائنها والثعابين من جحورها.

ويقابله المزمور الرابع بعد المائة وفيه: «إنك تجعل ظلمة فيصير ليل يدب فيه حيوان الوعر وتزمجر الأشبال لتخطف ولتلتمس من الله طعامها.»

ويمضي المزمور قائلا: «تشرق الشمس فتجتمع وفي مآويها تربض، والإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله في المساء ... ما أعظم أعمالك يا رب! كلها بحكمة صنعت، والأرض ملآنة من غناك وهذا البحر الكبير الواسع الأطراف ... وهناك دبابات بلا عدد صغار مع كبار، هناك تجري السفن، ولوياثان - التمساح - خلقته ليلعب فيه ...» «ومثله في صلوات إخناتون: ما أكثر خلائقك التي نجهلها! أنت الإله الأحد الذي لا إله غيره، خلقت الأرض بمشيئتك وتفردت فعمرت الكون بالإنسان والحيوان الكبار والصغار ... تسير السفن مع التيار وفي وجهه وكل طريق يتفتح للسالك لأنك أشرقت في السماء، ويرقص السمك في النهر أمامك وينفذ ضياؤك إلى أغوار البحار، وتضيء فتزول الظلمة ... وقد أيقظتهم فيغتسلون ويسعون ويرفعون أيديهم إليك ويمضي سكان العالم يعملون».

وأيا كان مصدر هذه المزامير المتشابهة، فالواقع المقرر أن إخناتون سبق داود بأكثر من ثلاثة قرون، وأن العبريين لم ينشئوا هذا المذهب في الصلوات الدينية قبل شعوب العالم في جوارهم، ولا في غير ذلك الجوار. •••

على أن الجوار الملاصق لمساكن العبريين حيث تنقلوا بين أرض آرام وأرض كنعان لا يشير إلى غير علاقة واحدة بينهم وبين جيرانهم، وهي علاقة التابعين بالسابقين عليهم في الثقافة الدينية على التخصيص، وفي الثقافات الفكرية على الإجمال.

فمن قبل أيام موسى كان النبي العربي «أيوب» في أرض تيماء يدين بالتوحيد وينكر عبادة الكواكب والأوثان، ويدعو إلى المساواة بين الحر والعبد قائلا متسائلا: أليس صانعي في البطن صانعه وقد صورنا واحد في الرحم؟

والشراح ومؤرخو العهد القديم متفقون على سبقه إلى نزاهة التوحيد وتفضيل كتابه في هذا المعنى على كتب الأنبياء أصحاب الأسفار في العهد القديم، ومن هؤلاء الشراح إسرائيليون كالمستشرق مرجليوت الذي يقول في كتابه عن العلاقات بين العرب والإسرائيليين: «إن أسلوب المتكلمين عن التوحيد في هذا السفر أنزه من أسلوب الأنبياء الإسرائيليين الذين كانوا يضطربون في بيئة وثنية، خلافا للمتكلمين في سفر أيوب؛ فإن البديل من الوحدانية عندهم هو الإلحاد والجحود.»

ويحقق بعض المؤرخين زمان أيوب - عليه السلام - بمراصد الفلك مما ذكره في أسماء النجوم والمنازل كالنعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب وعين الثور، وقلب العقرب، فيرجحون على رأي أشهرهم هالس

Hales

أنه وجد قبل الميلاد بثلاثمائة وألفي سنة، وقد أدخله جامعو التوراة في العهد القديم؛ لأنهم حسبوه تارة من كلام موسى وتارة من كلام سليمان، وكان جامعو النسخة السريانية من التوراة يضعون كتابه بعد كتب موسى وقبل كتاب يشوع، ولكنه أقدم من ذلك ولو لم نأخذ بتقدير الفلكيين ... لأنه لم يذكر شيئا عن قصة الخروج من مصر وهي أهم القصص في تاريخ العبريين، فلا يسكت عنها من سمع بها في برية بلاد العرب، ولا بد أن يسمع بها من أقام هناك بعد خروج العبريين من مصر إن كان زمان أيوب بعد زمان موسى - عليهما السلام. •••

وفي أيام موسى - عليه السلام - كان العبريون يحتكمون إلى نبي من العرب يقيم على نهر الفرات يسمونه بلعام، ويظن بعضهم أنه مرادف لاسم لقمان، ويقول سفر العدد إنه حكم للعبريين على الموآبيين وأيد نبوءات يعقوب.

وما لم يذكره العبريون في كتبهم عن النبوءات في بلاد العرب أكثر مما ذكروه، فإنما عناهم في سجلاتهم أن يذكروا التزكية والتأييد، ولا يذهبوا مذهب الاستقصاء في تسجيل جميع النبوءات التي سمعوا بها، وقد يكون هنالك ما لم يسمعوا به ولم يكن مما يرتضونه لو أنهم سمعوه.

فليس سكوتهم عن هود وصالح وذي الكفل الذين ذكرهم القرآن الكريم بحجة على خلو البلاد العربية من الأنبياء غير من ذكروه، وما كانت قبائل عاد وثمود لتخلو من رسل الدين. وقد قام هؤلاء الرسل بالدعوة في مدين وتيماء قبل الدعوة الموسوية، وإنما أعرض العبريون عن ذكرهم؛ لأنهم جعلوا مصيرهم بعد قيام مملكتهم مرتهنا بمصير بيت المقدس، وسكتوا قصدا عن «الجنوب» بعد أن كانت قبلتهم كلها إليه.

فهم قد درجوا من أرض الجنوب في الجزيرة العربية، وظلوا بعد ذلك زهاء ألف سنة يلتفتون إلى مواطنهم الأولى ويترقبون الحكمة منها.

فإبراهيم توجه إلى جيرار، وموسى توجه إلى مدين، وكان أرميا يهتف في مراثيه سائلا: «ألا حكمة بعد في تيمان؟ هل بادت المشورة من الفهماء؟» وتيمان تقابل في لغتنا الحديثة كلمة يمن بجميع معانيها.

بل بقيت عادة التوجه إلى الجنوب عند رسل القوم إلى ما بعد قيام المسيحية؛ فكان بولس الرسول يقول في كتاب غلاطية إنه ذهب إلى بلاد العرب قبل مسيره إلى دمشق.

أما تركيز القداسة في أورشليم، فهو شيء جديد طارئ بعد أيام موسى بزمن طويل، فبقيت أورشليم في أيدي اليبوسيين بعد موسى بقرون عدة، ولم يطردهم منها أبناء بنيامين بعد نزولهم بجوارها، وبعد أيام داود جاء ملك من ذرية إبراهيم - يسمى يهواش - فهدم سورها وأخذ ودائع الذهب والفضة من خزائنها، وقال سفر الملوك عنه: إنه مات فاضطجع مع آبائه، أي: مات مرضيا عنه في اصطلاحهم المألوف.

إنما تحول القوم باتجاههم من الجنوب إلى بيت المقدس بعد ارتباط الهيكل بمصير بيت داود، وتعليق أملهم في الخلاص بعودة الملك إلى ذلك البيت في آخر الزمان.

وأما قبل ذلك، فقد كانوا يستقبلون الجنوب ويلوذون به ويتعلمون منه، ولم يأخذ منهم الجنوب شيئا من ثقافته الدينية في أيام دولتهم ولا بعد أيامها. ولن تكون الدعوة المحمدية التي ارتفعت من بلاد العرب فرعا من هذا الأصل الذي لم يتأصل قط في الوحدانية؛ فإن الدعوة إلى عبادة رب العالمين دين لا يلتقي بدين العصبية المنعزلة في طريق واحد، وإن نبوة الداعي الذي لا يعرف من النبوة غير الهداية لطراز من النبوة لا يختلط بالتنجيم.

اللغة والكتابة

وفد العبريون من جنوب الجزيرة - على القول الراجح - إلى وادي النهرين، ثم هاجروا من جنوبه إلى شماله، وانحدروا - من ثم - إلى أرض كنعان، وكانت لهم لهجة من لهجات اللغة السامية الكبرى قريبة من سائر هذه اللهجات التي كان يجري الخطاب بها بين قبائل آرام وكنعان، ويسهل التفاهم بها في جملتها مع اختلاف يسير كاختلاف المتكلمين في القطر الواحد بين إقليم وإقليم.

ومن الواضح أنهم كانوا يبتعدون عن مصدرهم الأول في اللغة كلما ابتعدوا عن موطنهم القديم في الجنوب، فأصبحوا بعد هجرتهم الطويلة يتداولون من الأسماء والأعلام ما لا يفهمون معناه ولا وجوه تصريفه، وهو في لغة «سبأ» من جنوب الجزيرة مفهوم المعنى والمصدر الذي تصرف منه بلفظه واشتقاقه، ويقول مرجليوت في كتابه المتقدم ذكره عن العلاقة بين العرب وبني إسرائيل: «ومن المحقق أن هذه الكلمات لم تأت من فلسطين إلى سبأ، ولعلها قد جاءت من سبأ إلى فلسطين.»

ولم تزل لهجة العبريين تنعزل عمن حولها كلما أمعنوا في اعتزال الأمم بعبادتهم واعتقادهم التفرد بينها بنعمة الله ورجائه، بل باعتقادهم أن «يهوا» إنما يحقق لهم ذلك الرجاء بتدمير جيرانهم وتمكينهم من رقابهم، فلا سبيل إلى المشاركة باللغة مع هذا الحاجز القائم بين الفريقين، وأصعب ما يكون التفاهم باللغة حين تستخدم هذه اللغة في العبادة والشعائر المقدسة حين تكون العبادة والشعائر حكرا لمن يدينون بها ولا يقبلون من غيرهم أن يشاركهم فيها.

وقد تحجرت اللغة العبرية في هذه العزلة، واستطاعت مع هذا التحجر أن تعيش في عصر المملكة وفي إبان الشوكة والسيادة برعاية الملوك والكهان، ولكنها كانت تعيش في الهيكل وتوابعه من «الكنيسات» التي يشرف عليها الأحبار المتعلمون المزودون بالثقافة، وكان أصحابها يتكلمون مع غيرهم خارج المعابد فيضطرون إلى مخاطبتهم تارة باللهجات السامية الأخرى وتارة باليونانية العامية، وقد يتعلمها بعضهم ويتعلم الكتابة بها على خلاف هوى المتعصبين من الهيكليين والغلاة.

وكانت هذه العبرية - حين تحجرت ووقفت عن التطور - لهجة ساذجة قليلة العدة ناقصة التصريف، ويقول فولتير في المعجم الفلسفي تحت كلمة آدم: «إنه من المحقق أن اليهود كتبوا قليلا جدا وقرءوا قليلا جدا، وكانوا على جهل شديد بعلوم الفلسفة والهندسة والجغرافية والطبيعيات؛ فلم يعرفوا شيئا من تواريخ الأمم ولم يأخذوا في التعلم إلا بعد اتصالهم بالإسكندرية حيث شرعوا في اقتباس المعرفة، وكانت لغتهم البربرية مزيجا من الفينيقية القديمة والكلدانية المشوهة، وبلغ من فقرها أنها لا تحتوي كثيرا من الأزمنة في أفعالها.»

ومن المسلمات المفهومة بين العارفين بالعبرية والعارفين بتاريخها أنها أخذت من اللهجات السامية ولم تعطها شيئا جديدا من فنون التطور في قواعدها أو آدابها؛ فوقفت حيث بدأت وتركتها اللهجات السامية واقفة في مكانها وهي تتطور وتترقى إلى الشأو الذي بلغته في الأزمنة الحديثة، ولم يكد عصر المملكة اليهودية أن ينقضي حتى كانت اللغة العبرية منقضية بين أهلها في الخطاب وفي الكتابة ما خلا الصلوات والعبادات، ثم انهزمت بين جدران المعابد وعلى ألسنة الأنبياء والكهان، وخلفتها اللغة الآرامية في معاملات الدين ومعاملات المعيشة اليومية، ثم مضى العصر بعد العصر إلى زماننا هذا فأصبح قراء التوراة بالعبرية أقل عددا من قرائها بأصغر اللغات.

ولا يعزى هذا إلى مجرد سقوط الدولة اليهودية ولا إلى نقص في عدد العبريين الذين يدينون بكتبهم المقدسة؛ فإن الدولة الآرامية في وادي النهرين سقطت وسقطت بعدها دول الآراميين المتفرقين بين أنحاء البادية، ولم تزل لغتهم الآرامية تنتشر وتتغلب على نظائرها من اللهجات السامية واللهجات الأجنبية التي تسربت إلى مواطنها من سائر الأقطار، وإنما يعزى سقوط العبرية إلى عجزها عن «الإنتاج» الذي ينفع الناس، فلم يكن عندها ما تعطيه ولم تكن وعاء صالحا يستودعه خدام الفكر والمعرفة ما يعطون. •••

أما الكتابة فهي أبرز المسائل التي تمتحن بها قدرة العبريين في تاريخهم القديم على الإنتاج والتصرف في شئون الفكر والثقافة، وهي كذلك من أبرز المسائل التي تمتحن بها بواعثهم الفكرية التي تدعو الأمة المنتجة إلى اختراع الوسيلة للإفضاء بما عندها لسائر الأمم من رسالات الإنسانية وأماناتها.

أقام العبريون في مصر عدة قرون وأقاموا في سيناء عدة سنين.

وفي مصر - كما هو معلوم - كانت نشأة الكتابة بالصور، وفيها تطورت من الكتابة التصويرية إلى الكتابة المقطعية، ثم تطورت من الكتابة بالمقاطع إلى الكتابة بالحروف التي يستقل كل حرف منها بصوت يدل عليه في كل كلمة مكتوبة.

ولقد كان ينبغي أن يسبق العبريون غيرهم من القبائل السامية إلى اقتباس الكتابة على أنواعها، سواء أكانت بالصور أم بالمقاطع والحروف، بل كان ينبغي أن تكون ألواح الشريعة التي تلقوها في سيناء باعثا لهم على استكشاف الألواح المكتوبة في مناجمها بما عليها من الخطوط والحروف.

ولكن الواقع الذي يسجله تاريخ الكتابة أنهم لم يبتدئوا قط عملا من أعمال اقتباس الكتابة، ولا من أعمال ترقيتها ونشرها، ولا من أعمال التوفيق بينها وبين مخارج النطق في كلماتهم الملفوظة، وإنما كانوا في كل مرحلة من هذه المراحل مستنفدين يأخذون مما سبقهم ويتحجرون عليه، حتى تقسرهم على تغييره ضرورات المعاملة فيسري التغيير قهرا - مع الزمن - إلى كتابة الشعائر والعبادات.

فالكلمات العبرية التي وجدت في رسائل أمراء فلسطين إلى فرعون مصر منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد كانت تكتب بالحرف المسماري، كما حقق ذلك الأستاذ جمن

Gimmun

من أساتذة دار الفنون بليبزج.

ثم وجدت حروف عبرية تشبه الحروف التي وجدت على ضريح ميشاع ملك موآب.

وظل العبريون يكتبون بهذا الحرف إلى أيام سبي بابل، فنقلوا الحروف المربعة عن الحروف البابلية، وزادوا عليها حروف الحلق التي كانت شائعة على ألسنة الساميين بين بابل وكنعان - وكلها من مصدر عربي كما لا يخفى - لاختصاص النطق العربي بأكثر هذه الحروف.

وقد حفظ لنا المزمور التاسع عشر بعد المائة أسماء الحروف التي احتوتها الأبجدية العربية على عهد المملكة؛ لأنه جرى على طريقة التطريز في ابتداء كل مقطوعة بحرف من الحروف الأبجدية، وهي في هذا المزمور على ترتيب «أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت»؛ اثنان وعشرون حرفا، منها خمسة يتغير نطقها بإغفالها من الإعجام أو ينقلها من اليمين إلى اليسار، وهي: الجيم والواو والكاف والشين.

ومن آثار الاقتباس من النطق العربي أن حرف الغين لم يكن موجودا بين حروف المزمور، فلما وجد بعد اختلاطهم بمن ينطقون العربية أضافوه وسموه غيمل أي: على وزن جيمل. ويلاحظ أن «جيمل» بمعنى جمل عندهم، أما غيمل فلا معنى لها غير المحاكاة اللفظية ، وإنما قاسوها إلى أقرب المخارج فكتبوها كما تكتب الجيم وحذفوا نقطة الإعجام للتمييز بينهما.

ولم يكن في نطقهم تمييز واضح بين الخاء والكاف، فلما كثر التمييز بينهما على أسماعهم أيام تعلموا الكتابة، جعلوا للخاء حرفا سموه الخاف على وزن الكاف، وكتبوه كما تكتب الكاف بعد حذف نقطة الإعجام.

ولما اتصلوا بأعاجم الشمال الذين ينطقون الواو «فاء» كما يقول بعض الطورانيين «فلا الضالين» بدلا من «ولا الضالين»، نطقوها مثلهم وجعلوا لها حرفا كالواو في رسمه بعد حذف نقطة الإعجام.

كذلك أخذوا السين الآرامية المسماة بالآرامية سمخ حين كتبوا بهذه اللغة؛ لورودها في كلمات كثيرة من أسفار التوراة، وهذا مع احتفاظهم بالسين، لاختلاف النطق قليلا بين اللهجتين في أحرف الذلق وأحرف الصفير.

وليس في العبرية ثاء ولا ذال ولا ضاد ولا ظاء، ولكنهم يقربون حروفهم منها بالتفخيم أو يكتفون بما يشابهها من حروفهم فيحدث الالتباس أحيانا في نقلها إلى العربية؛ ويشتبه الأمر في البحث عن مصدر الكلمة من جراء هذا الالتباس، كما يحدث في كلمة الناصرة هل هي من النصر أو من النذر أو من النظر ...؟ وكلها مميزة المعاني والمخارج في العربية ملتبسة كما نرى في العبرية، ويزيد الالتباس أن البلدة كانت قريبة من موقع نصر وكانت مسكنا للكثيرين من المنذورين للعبادة، وكانت مرقبا يسهل النظر منه إلى ما حواليه.

وقد نقحت الكتابة العبرية مرة أخرى حوالي عصر الميلاد على هدى الكتابة الآرامية، فلم تنجع الحيل في إحياء هذه اللغة التي قضي عليها بالموت لعزلتها وفراغها من مادة البقاء التي تكفل الحياة للغات بما تؤديه للعالم من رسالة إنسانية وعقيدة عامة، ثم هدم الرومان هيكل بيت المقدس فتفرق الكهان في الأرض واتخذوا اليونانية لغة لهم في مصر وأوروبة، واعتمدوا على ترجمة التوراة إليها أو إلى الآرامية للذين تخلفوا عن الهجرة إلى بلادهم، وقد شاعت يومئذ تسمية الآرامية بالسريانية للتفرقة بين المتكلمين بها من المسيحيين، والمتكلمين بها من أبنائها الذين لم يدخلوا في المسيحية، ثم اندمجت السريانية المتطورة بعد ذلك في العربية القرشية على أثر ظهور الإسلام. •••

ولما كان القرن العاشر للميلاد أيقن أحبار إسرائيل ورؤساؤهم بضياع العبرية وقلة صلاحها للبقاء بالتعليم والتلقين في نطاق المعابد المحدودة، فإنها لم تكن صالحة على حالتها في ذلك العهد للتعليم؛ لخلوها من القواعد والأصول التي تحفظ اللغة من جيل إلى جيل ... فرجع الأحبار إلى النحو العربي يقيسون عليه ويستعيرون منه: وكتبوا «آجروميتهم» الأولى باللغة العربية مقرونة في بعض الأحيان بالترجمة العبرية، وكان أول من اجتهد منهم في تحرير كلماتها وجمعها سعيد بن يوسف الفيومي - أو سعديا - صاحب معجم الأجارون وكتاب الفصاحة (892م)، وتلاه الرباني بن تميم البابلي، والرباني يهودا بن قريش، والرباني مناحم بن سروت الأندلسي، والرباني سكوم بن جبيرول، وغيرهم وغيرهم من تلاميذ العرب في المغرب ومصر والعراق. •••

وتتلمذ القوم على العرب في علم الكلام الإسرائيلي أو فلسفة اللاهوت، فكان كل من فيلسوفهم ابن جبيرول (1021-1058) الملقب بأفلاطون اليهود، وابن عزرا الغرناطي (1070-1138) صاحب الغزل الصوفي، وابن ميمون أرسطو اليهود (1135-1204)؛ تلاميذ للمدرسة الرشدية بالأندلس. وكان ابن ميمون يرى - كما قال - أن وصايا الناصري ورجل إسماعيل - يعني محمدا عليه السلام - تهدي الإنسان إلى الكمال؛ ولهذا ثار عليه المتعصبون من قومه وسموا كتابه دلالة الحائرين بضلالة الحائرين، وأول هؤلاء - ابن جبيرول - وضع منظومة في النحو العبري على مثال النحو العربي فيما عدا قواعد الإعراب؛ لأن الكلمات العبرية إما ساكنة أو مبنية، لا تجري في تحريك أواخرها على قواعد الآرامية ولا على قواعد العربية الحديثة.

وأهم كتبه في اللاهوت «ينبوع الحياة» منظور فيه إلى التصوف الإسلامي في كثير من التفصيلات. •••

ولم ينبغ بين اليهود من الفلاسفة العالميين من هو أشهر من باروخ سبنوزا (1632-1677) الذي نشأت أسرته في البلاد الألمانية، وتوفر في صباه على دراسة كل من ابن ميمون وابن عزرا، ثم خلفه المشتغلون بالفلسفة من اليهود بعد ظهور الفلاسفة الكبار من الألمان، فكان القوم كعادتهم مستفيدين في هذا الفرع الواسع من فروع الثقافة الإنسانية، كشأنهم في كل ثقافة تلقوها بين الأقدمين والمحدثين.

وكانوا حيثما اشتركوا مع العرب في ناحية من نواحي المعرفة والعقيدة تابعين مسبوقين، ولم يكونوا قط سابقين لهم أو مرشدين.

الشعر

إذا كان في نشأة الشعر العربي من الحداء بعض الشك، فليس هنالك أقل شك في الصلة الوثيقة بين الحداء والشعر في تطور تركيبه وتوفيق أوزانه وتقسيم أعاريضه؛ لأن أوزان الشعر التي نظم فيها شعراء الجاهلية تنتظم فيها الأعاريض جميعا مع حركة من حركات الإبل في السرعة والأناة، فلا خفاء بهذه الحركة السريعة في هذا البيت:

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

ولا خفاء بالحركة المتمهلة في هذا البيت:

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلا يحملن أم حديدا

ولا خفاء بحركة الإبل على اختلافها وما يناسبها من أوزان الحداء في كل بيت ينتظم من أمثال هذه التفاعيل.

والحداء نفسه مناسبة شعرية تستوحي الغناء في ليالي البادية القمراء، بين الحنين إلى الموطن الذي بارحه الركب، والأمل في المنتجع الذي يتنقل إليه، وليس لترديد الغناء - بمعانيه الشعرية - مجال أقرب إلى الحياة البدوية وألصق بها من مجال الحداء.

فلا نزاع في الصلة الوثيقة بين الحداء ووزن الشعر العربي، فإن لم يكن كل ما نظمه العرب حداء يتغنى به الحداة فعلا، فهو وزن لا يخالفه ولا ينفصل عن نغماته وأعاريضه.

والمرجح إلى جانب هذا أن حداء الإبل كان له عمله المحسوس في التزام القافية، سواء بدأت القافية في سجع الكهان كما يرى الكثيرون، أو كان ابتداؤها في غناء الحداة.

فالمشاهد من أشعار الأمم في لغات متعددة أن القافية تلتزم في الشعر المنفرد، أي: الشعر الذي يتغنى به ناظمه وراويه، ويصغي إليه المستمعون دون أن يشتركوا في الغناء، ويلاحظ هذا في أغاني المنشدين الحماسيين أو المتغزلين التي يسمونها

Ballads «بللاد» في بعض اللغات الأوروبية، كما يلاحظ في الموشحة

Sonnet

التي يتغنى بها العاشق لمعشوقته في البلاد اللاتينية حيث كان منشؤها الأول، وقيل: إنهم استعاروها من الموشحة العربية.

وتهمل القافية غالبا في أناشيد الجماعات، سواء كانت مسرحية أو دينية كما يرى في أناشيد اليونان والعبريين، وسر ذلك ظاهر لمن يريد أن يختبره في حالة الإصغاء ، أو حالة الاشتراك في الغناء ...

فإن السامع المصغي إلى ترتيل غيره يحتاج إلى تنبيه السمع وانتظار مواضع الوقوف والترديد، فيعرفها من القافية المتتابعة في مواضعها.

أما المنشد المشترك في الغناء، فهو يعلم مواضع الإيقاع ومواضع الابتداء والانتهاء، فيغنيه الاشتراك في الإيقاع عن انتظار مواضع الوقوف، وعن تنبيه غيره له بالقافية إلى تلك المواضع، وقد نتبين هذا الفارق فيما ننشده بأنفسنا ولو كان من الكلام المنثور؛ فإننا نتبع الوزن في هذه الحالة ولا يعنينا أن نترقب القافية، بل لا يعنينا أن نترقب شيئا غير الاسترسال في النغم إلى نهاية الكلام، كيفما كان منتهاه مقفى أو بغير قافية، شأنه في ذلك شأن اللحن الموسيقي الذي خلا من الكلمات، فلا يلتفت فيه إلى غير امتداد النغمة حسب أوزان الإيقاع.

وكثيرا ما خطر لنقاد الغرب أن هذه القوافي والبحور في وزن الشعر خاصة من خواص الأمزجة السامية، خالف الساميون بها الأوروبيين لمخالفتهم إياهم في تكوين الفطرة وخصائص العناصر البشرية.

لكنهم فهموا بعد تواتر البحث في أشعار اللغات السامية أن القافية غير ملتزمة في جميع تلك اللغات، وأن كثيرا من الشعر المنظوم فيها خال من البحور والأعاريض ذات التفعيلات المتكررة، كأنه فواصل النثر التي تنقسم إلى جمل متقاربة، ولا تنقسم إلى شطور متساوية في حركات الأسباب والأوتاد على اصطلاح العروضيين.

فلا بد إذن من البحث عن سبب غير الأمزجة العنصرية، ولا بد أن يكون اختلاف الإنشاد هو سبب هذا الاختلاف بين العرب وسائر الشعوب السامية؛ فإن شعوب وادي النهرين ألفت أناشيد الكهان في الهياكل فترخصت في القافية كما ترخصت فيها الشعوب الآرية التي يتغنى فيها الناس مجتمعين، وقد ألف العبريون العبادة معا منذ كانوا قبيلة واحدة تنتقل بحذافيرها، وتبتهل بحذافيرها إلى معبودها في حظيرة واحدة، ولم تألف قبائل البادية العربية نوعا من أنواع الأناشيد المجتمعة؛ فغلبت على شعرها أوزان القصيد المفرد وقوافيه.

ويرى بعض علماء اللغات السامية أن الكلمة التي تفيد معنى الشعر فيها واحدة مأخوذة من أصلها العربي مع قليل من التحريف طرأ عليها بعد انتشار الساميين في وادي النهرين وبادية الشام وأرض كنعان. ويقول العالم القس الأب مرمرمجي في كتابه المعجميات: «إن لفظة الشعر كانت تدل قديما على الغناء وإن لم ترد بهذا المفهوم في المعاجم التي بين أيدينا، ويمكن الاستدلال على ذلك بوسيلة المقارنة الألسنية السامية؛ إذ إننا نجده في أقدم اللغات السامية من حيث الآثار المكتوبة - أي اللغة الأكدية - كلمة (شيرو) الدالة على هتاف الكهان في الهياكل، ومن الأكدية انتقلت اللفظة إلى العبرية بصورة (شير، وشيره) ومعناها النشيد، ومنها صيغ الفعل المرتجل (شير) بمعنى أنشد وغنى، ثم إلى الآرامية بصورة (شور) بمعنى أنشد، رنم، غنى؛ ومن ذلك جاء اسم سفر من أسفار العهد القديم وهو (شير هشيريم) أي: نشيد الأناشيد، وقد ورد الفعل العبري (شير) في أقدم أثر للغة العبرية وهو نشيد النبية دبورت، يليه مرادفه (زامر) وكلاهما بصيغة الحاضر (اشيره) أي: أنشد وأزمر. والجدير بالملاحظة كما أشار إلى ذلك لانجدون

Langdon

أن العبارة الأكدية (زامار شيري) تطابق كل المطابقة العبارة العبرية (مزمورشير) ومفرداههما في العبرية (مزمور، نشيد، أو شعر) ... هذا ومعلوم أن أغلب الأحرف الحلقية - ومنها العين - قد سقطت في الأكدية، أو أنها كانت تلفظ دون أن تمثلها علامة في الكتابة؛ لأن الرسم المسماري المستعار للأكدية السامية من الشمرية غير السامية كان خاليا من العلامات للحلقيات، لخلو الشمرية منها؛ ولهذا جاز لنا افتراض أن كلمة (شيرو) كان أصلها أو لفظها (شعرو) إلا أنها ولجت العبرية والآرامية وهي خلو من العين كما كانت مصورة في الرسم المسماري، أما العربية فقد ظهرت أو بقيت فيها العين الأصلية ... على أن العربية والعبرية قد احتفظتا بالكسرة المحركة بها الشين في الأكدية (شيرو)، فجاء في العبرية (شير) وفي العربية (شعر)، والكلمة (شيرو) مشتقة حسب معناها في الأكدية والعبرية، أي: معنى الهتاف ثم الغناء ...»

ولا غرابة في أن تكون كلمة (الشعر) في لغة الجزيرة سابقة لمرادفاتها في وادي النهرين وأرض كنعان؛ لأن الجزيرة كانت مصدر الهجرات المتوالية إلى تلك المواطن كما تواتر في أشهر الأقوال.

على أن المعلوم لنا الآن من أطوار الشعر في اللغات السامية أنه تحول في الآرامية والعبرية من الفقرات المسجوعة على نحو أسجاع الكهان إلى السطور المتوازية على نسق قابل للترنم والإنشاد، ثم توقف به التطور عند هذه المحاولة لارتباطه بالشعائر الدينية. وهذا بينما تطور النظم في بلاد الجزيرة العربية حتى أصبح (فنا) مميزا بأوزانه وأقسامه التي تعرف بأسمائها دون أن تنسب إلى ناظم معلوم، على حين أن القصائد العبرية لا تعرف باسم فني يدل عليها، وإنما تعرف بأنها قصيدة كالتي نظمها هذا الشاعر أو ذاك من شعرائهم المشهورين، وتميز بعلامات خاصة ولا تميز على قاعدة عامة تغني عن الإشارة إلى ناظميها.

وبعض اللهجات السامية توقفت عند السطور المتوازية، ولم تتطور بها إلى تقسيم الأوزان والتفاعيل الواضحة؛ فكان كثير من شعرها يخلو من التفاعيل والقوافي اعتمادا على مضاهاة السطر بالسطر والترنيم بالترنيم.

يقول الأستاذ جلبرت موري في بحثه عن الأوزان والأعاريض: «إن إحدى نتائج هذا الاختلاف وزيادة الاعتماد على القافية في اللغات الحديثة؛ ففي اللغتين اليونانية واللاتينية ينظمون بغير قافية لأن الأوزان فيهما واضحة، وإنما تدعو الحاجة إلى القافية لتقرير نهاية السطر وتزويد الأذن بعلامة ثابتة للوقوف، وبغير هذه العلامة تثقل الأوزان وتغمض، ولا تستبين للسامع مواضع الانتقال والانفصال، بل لا يستبين له هل هو مستمع لكلام منظوم أو كلام منثور، وقد اختلف الطابعون هذا الاختلاف في بعض المناظر المرسلة من كلام شكسبير، فحسبها بعضهم من المنثور وحسبها الآخرون من المنظوم. ومما يلاحظ أن اللاتين اعتمدوا على القافية حين فقدوا الانتباه إلى النسبة العددية ... وأن الصينيين يحرصون على القافية لأنهم لا يلتزمون الأوزان، وأن انتشار القافية في أغاني الريف الإنجليزية يقترن بالترخص في التزام الأعاريض.»

ويستطرد العلامة الناقد الأديب إلى الشعر الفرنسي فيقول: «إن اللغة الفرنسية حين رجع فيها الوزن إلى مجرد إحصاء المقاطع وأصبحت المقاطع بين مطولة وصامتة ... نشأت فيها من أجل ذلك حاجة ماسة إلى القافية؛ فصارت في شعرها ضرورة لا محيص عنها، ودعا الأمر إلى تقطيع البيت أجزاء صغيرة ليفهم معناه.»

ومن أسباب الاكتفاء بالوزن دون القافية في أشعار الغربيين ذلك السبب الذي ذكرناه آنفا ولم يذكره العلامة جلبرت موري: وهو غناء الجماعة للشعر المحفوظ الذي يحفظه المغنون جميعا بفواصله ولوازمه ومواضع النبر والترديد في كلماته وفقراته؛ فإنهم في هذه الحالة ينساقون مع الإيقاع بغير حاجة إلى القوافي عند نهاية السطور؛ ولهذا نرى أن شعراء هذه اللغات بعينها يلتزمون القافية في أناشيد الأفراد ويكثرون من القافية في المقطوعات التي يرتلها المنشدون المعروفون باسم

Bards

أو اسم

Minstrals

وكلهم يرتلون أو يترنمون بما ينشدون ... فلا شعر في لغة من اللغات بغير إيقاع، وقد يجتمع كله من وزن وقافية وترتيل في القصيدة الواحدة، ولكنه اجتماع نادر في لغات العالم ميسور في لغة واحدة على أكمل الوجوه؛ لامتيازها بالخصائص الشعرية الوافرة في ألفاظها وتراكيبها وهي اللغة العربية.

فالكلمات نفسها موزونة في اللغة العربية، والمشتقات كلها تجري على صيغ محدودة بالأوزان المرسومة كأنها قوالب البناء المعدة لكل تركيب، وأفعال اللغة مقسومة إلى أوزان مميزة في الماضي والمضارع والأمر، وفي الأسماء والصفات التي تشتق منها على حسب تلك الأوزان، ولا نظير لهذا التركيب الموسيقي في لغة من اللغات الهندية الجرمانية ولا في كثير من اللغات السامية؛ فالذي يميز اسم الفاعل وزن متفق عليه في الأفعال الثلاثية والأفعال الرباعية أو الخماسية، ولكنه في اللغات الأوروبية يأتي بإضافة حروف لا يعرف لها وزن مقرر قبل الإضافة ولا بعدها.

ويجب أن لا نتعجل فنحسب أن هذا الفرق في الخصائص الموسيقية يرجع إلى الاختلاف بين الأمم الآرية والأمم السامية - كما توهم بعض المستشرقين وبعض المتعجلين من كتابنا الشرقيين.

فاللغة العبرانية - كما أسلفنا - لغة سامية في أصولها، ولكنها - على ما رأينا - خالية من الوزن والقافية، وتستعيض منهما بالأسطر المتوازية والكلمات المترددة بين السطر الأول وما يليه. وقد كان العبريون يجهلون فنون العروض عندهم حتى انكشفت للباحثين اللاهوتيين بعد ترجمة التوراة والإنجيل واطلاع علماء اللاهوت على أصول اللغات التي كتبت بها أسفار العهدين القديم والحديث، فانكشف للأسقف لوث

Lowth

في القرن الثاني عشر أن أشعار الكتابين لا تجري على وزن محدود، وأن قوام الشعر عند العبرانيين سطر يرددونه لأغراض ستة، وهي: المجاز والاستطراد والتفسير والمبالغة والمقابلة والمقارنة.

ومن أمثلة الترديد لمقابلة المعنى الحقيقي بالمعنى المجازي قول المزامير: «من السيف أنقذ نفسي، ومن يد الكلب أنقذ وحيدتي.»

ومن أمثلة الترديد للاستطراد قول أيوب: «هناك يكف المنافقون عن الفتنة، وهناك يكف المتعبون فيستريحون.»

ومن أمثلة الترديد للتفسير قول المزامير: «من هو الإنسان الخائف من ربه؟ هو الإنسان الذي يهديه الرب إلى طريق يرتضيه.»

وهكذا سائر الأمثلة في الأسطر المتوازية وإن زادت على سطرين، وقد تزيد بعدد الحروف الأبجدية على طريقة التطريز في اللغة العربية، كما يلاحظ في وزن المزمور التاسع عشر بعد المائة فإنه يتألف من اثنين وعشرين حرفا - عدد أحرف الأبجدية - كل حرف منها يقترن بسطر من المزمور.

وعلى هذه القاعدة بني النظم في العبارات الموقعة التي ترددت في العهد الجديد، وقد أتينا بأمثلة منها في كتابنا «عبقرية المسيح» نكتفي منها بهذا المثل من وصايا السيد المسيح:

اسألوا تعطوا.

اطلبوا تجدوا.

اقرعوا يفتح لكم.

لأن من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له الباب.

من منكم يسأله ابنه خبزا فيعطيه حجرا؟

ومن منكم يسأله سمكة فيعطيه حية؟

أو يسأله بيضة فيعطيه عقربا؟

فإذا كنتم وأنتم أشرار تحسنون العطاء للأبناء، فكيف بالأب الذي في السماء؟ •••

فالخواص الشعرية التي امتازت بها لغتنا العربية ليست من خواص اللغات السامية، وليس لها نظير في العبرية ولا في الكلدانية ولا في معظم اللهجات التي تفرعت على أصول الكلام عند الساميين، ولكنها خواص ممتازة تنفرد بها هذه اللغة لأسباب كثيرة لا داعي لإحصائها في هذا المقام، ولا نحب أن نعرض منها للأمور التي يطول فيها الجدل وتضطرب فيها منازع الآراء والأهواء؛ إذ كان امتياز الحروف العربية بالدلالة على الحساسية الموسيقية حقيقة ملموسة لا محل فيها للمحال؛ فالأذن العربية تميز بين الظاء والضاد، وبين الذال والدال، وبين الحاء والخاء والهاء، وبين الصاد والسين والشين، وبين الجيم والغين والعين، وبين القاف والكاف والخاء ، وقلما يميز الناطقون باللغات الأخرى بين هذه الحروف، وإذا وجدت في تلك اللغات حروف لا تنطق بالعربية كالفاء والباء الثقيلتين، فهما في الواقع حرف يصدر من مخرج واحد بين التخفيف والتثقيل، وليست ذات قيمة موسيقية مستقلة كالحروف التي ذكرناها في اللغة العربية.

ومن العلامات الموسيقية المركبة في بنية الكلمة أننا نميز بين الحركة وحرف العلة على خلاف اللغات غير السامية، فعندنا الواو والضمة، وعندنا الياء والكسرة، وعندنا الألف والفتحة، وعندنا السكون وما يشبهه من التنوين ... وأدل من ذلك على الموسيقية الطبيعية بناء المشتقات على الأوزان واختلاف معنى الكلمة باختلاف الصيغة التي تبنى عليها.

ويماثل هذا من الدلائل البدائية التي تحسب من حروف الأبجدية في علم الموسيقى أن الغربيين يسقطون (الكوما) من الأصوات المحسوسة، وأن الموسيقى الشرقية تحسب الصوت الذي يسمع من ربع (الكوما) وهو همزة تأتي من نصف مليمتر في الوتر الذي يبلغ طوله مترا كاملا؛ وتسمى لهذا في اصطلاحهم بالذرة الموسيقية. •••

ونستخلص مما تقدم أن فن الصياغة الشعرية سلك في تطوره ثلاثة مسالك متفاوتة في أمم شرقية وغربية لا تنتمي إلى سلالة واحدة، وبينها من الاختلاف كما بين الصين وأوروبة الحديثة، أو كما بين الشعوب السامية واليونان في العصور الغابرة.

ففي بعض الأمم يتوقف هذا الفن عند السجع الذي يتردد في الفقرات القصيرة كسجع الكهان، فإذا طالت القصيدة روعي فيها تنسيق الأسطر المتوازية يترنم بها الجماعة في أناشيد العبادة أو التمثيل ولا تراعى فيها القافية.

وفي أمم أخرى تراعى القافية ولا يراعى الوزن إلا بالمقدار الذي يسمح بمساوقة الغناء والترتيل، ويلاحظ أن شعوب الصين التي غلب عليها هذا التطور وظهرت القافية في صياغة شعرها قد عرفت الجمل والخيمة، ولا يزال مسكنها المعروف ب «الباجودا» مبنيا على أشكال الخيم البدوية وأوضاعها.

وفي الأمة العربية وحدها تم التطور فانتظم الوزن بتفعيلاته وأسبابه وأوتاده وروعيت فيها القافية، وقامت صياغة الشعر فنا خالصا مستقلا عن الغناء، يعرف بأسماء بحوره وقواعد أوزانه، ولا يلحق بشخص هذا الناظم أو ذاك في تعريف أساليبه وتمييز أقسامه .

ولا يعزى هذا الفارق النادر إلى الحداء وحده أو إلى انفراد الحادي بالغناء، بل يعزى إليهما معا مقترنين بتلك الحساسية السمعية التي تفرق بين مخارج الحروف ودقائق النغم، وهي مشتركة غير مميزة في لغات كثيرة.

ولسنا هنا بصدد البحث في موضوعات الشعر ولا في مذاهب الشعر؛ فإنه معرض من البحث لا سبيل فيه إلى ترتيب السابق والمسبوق، إنما يعنينا السبق المحقق بشواهد الحس والواقع، وهو السبق إلى فن الصياغة الشعرية، فلا نزاع هنا في تطور هذا الفن بين عرب الجزيرة قبل تطوره بين العبريين من القبائل السامية، وبين اليونان من الشعوب الهندية الجرمانية.

... ونهاية المطاف

ولعلنا في نهاية المطاف قد اتضح لنا المقصد الذي توخيناه وأجملنا بيانه في كلمة التمهيد لهذه الرسالة؛ فهو تصحيح الأوهام الشائعة بين الغربيين عن تخلف الأمة العربية في ميادين الثقافة والحكم عليها أبدا - وفي جميع الأحوال - بأنها تبع مسبوق يقتدي باليونان في ثقافة الفكر، وبالعبريين في ثقافة العقيدة، وليس للأمة العربية سابقة من سوابق الفضل يدين لها أولئك اليونان وأولئك العبريون.

وقد لج الأوروبيون في هذه الدعوى لجاجة بغيضة تتكشف عن سوء نية، ويبدو عليها كأنها تتعسف في البحث عن أسباب التجني والإنكار فتخلقها خلقا وتحيد عن الطريق السوي حيدا؛ لكي تنتهي من ذلك إلى قدح في الطبيعة العربية وتمجيد لطبيعة من طبائع الأمم سواها حيثما تكون.

فقد يترخصون أحيانا في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى سلالة هندية؛ لأن الأوروبيين يدخلون في الجامعة الهندية الجرمانية، إذا دعت الضرورة.

وقد يترخصون في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى سلالة صفراء أو طورانية؛ لأنهم قد يعادونها اليوم ولكنهم لم يرثوا من أجدادهم عداوة لها من عصبيات القرون الوسطى.

وقد يترخصون في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى العبريين ولو كان المترخصون ممن يعادي اليهود في المنافسات الاقتصادية أو العملية؛ لأنهم لا يعدمون بينهم وبين هؤلاء اليهود صلة قديمة حين كانوا يوما من الأيام شعب التوراة!

أما الأمة العربية فلا رخصة معها من هذه الرخص التي يصطنعها أعداؤها المتعصبون عليها، بل تختفي كلها ويحل محلها عداء الميراث التاريخي، وعداء الاستعمار، وعداء الجهل، وعداء الأنانية التي تغري الجماعات أحيانا بالتحزب والأثرة كما تغري الآحاد من الناس؛ فليس أيسر من تصديقهم لكل فرية تفترى عليها، وليس أسرع من إنكارهم لكل محمدة أو سابقة من سوابق الفضل تنسب إليها.

هذه اللجاجة البغيضة هي التي نريد أن نقضي عليها ونقضي على آثارها في أذهان المتأثرين بها من صرعى المذاهب الأجنبية بيننا نحن الشرقيين، وهم - للأسف الشديد - غير قليلين.

ولكننا لا نريد أن نقضي عليها ونضع في مكان الخطأ المنكر خطأ آخر من قبيله.

لا نريد أن نمحو فضلا لصاحب فضل، ولا أن نبخس حقا لصاحب حق، ولا أن نبطل احتكار المزايا الإنسانية على أناس لكي ننقل هذا الاحتكار إلى أناس آخرين.

كل ما نريده أن ندفع شبهات القصور الأبدي المفترى على أمة عريقة حية، كان لها فضلها العميم على الإنسانية، ويرجى أن يكون لها فضل مثله أو يفوقه على أجيالها المقبلة، وهي في مقامها الأوسط بين القارات، وبين العقائد والثقافات.

ولقد كان نصيب الأمة العربية من تلك الشبهات «نصيب الأسد» إن صح هذا التعبير، فأصابها منها أكبر نصيب تصاب به الأمم، منذ أيام الشعوبية إلى أيام الاستعمار والتبشير والآرية والشيوعية!

كان يقال عن العرب: إنهم بعثوا بالدين ولم يبعثوا بالدنيا.

وكان يقال: «إنه لا يفلح عربي إلا ومعه نبي».

وكان يقال: إنهم لا يصلحون في دولتهم وفي غير دولتهم إلا محكومين.

وقالوا: إن العرب لا يحسنون صناعة الحكم، ولولا ذلك لما خرجوا من الأندلس بعد الغلبة عليها عدة قرون.

وقالوا: إنهم لا يحسنون فنون الحضارة، ولولا ذلك لكان لهم فن جميل غير نظم القصيد.

وقالوا: إنهم لا يحسنون من أعمال المعاش غير ما تعودوه في البادية من رعي الإبل والماشية، ولولا ذلك لما غلبهم طراق بلادهم من الغرباء على أسباب المعيشة.

وكل أولئك الدعاوى الكبار أضعف من أن تثبت على النظر المتأمل لحظات، فضلا عن الثبات في مجرى التاريخ .

فمن هم أصحاب الدولة الذين داموا في مستعمراتهم أطول من دوام العرب؟ أو تركوا بعدهم أثرا أبقى على الزمن من آثارهم؟

أهم الرومان سادة الاستعمار القديم؟ أم هم البريطان سادة الاستعمار الحديث؟

إن الرومان خرجوا من كل وطن دخلوه، ولم يستطيعوا أن ينشروا ديانتهم في أمة حكموها، بل كانوا هم الذين انقادوا آخر الأمر لديانة المحكومين.

أما الإنجليز فقد خرجوا من الولايات الأمريكية بعد أن سكنها منهم معظم المهاجرين إليها، وقد خرجوا من الهند بعد أن استقروا في كل بقعة من بقاعها أكثر من قرنين، ولم يمكث سادة الاستعمار القديم ولا سادة الاستعمار الحديث في مستعمراتهم كما مكث العرب في الأندلس.

والإنجليز ما تركوا من آثار الحضارة والثقافة أثرا يقارب الأثر الذي أبقاه العرب في الأندلس وفي القارة الأوروبية على الإجمال، ومنه أثرهم في عصر النهضة وعصر الإصلاح.

وقصور الحمراء والزهراء وما يماثلهما من القصور التي قامت في الشرق على نماذج الفن البيزنطي جواب ماثل للعيان لمن ينكر على الذوق العربي فنا جميلا غير فن القصيد؛ فكل هذه القصور مميزة بذوقها العربي على القلاع القوطية والأواوين الفارسية والعمائر الرومانية أو اليونانية، منذ نشأتها الأولى إلى قيام الدعوة الإسلامية.

وطابع الذوق العربي هو طابع النخلة العربية بقامتها الهيفاء، وفروعها التي تتلاقى في عقود المربعات كما تتلاقى الأركان والأعمدة في هندسة البناء، حيثما طبعته بطابعها على الرغم من قيام البنائين أو المهندسين عليها من أبناء الأمم الأخرى.

وليس أبعد من البعد بين البحر والصحراء، ولكن العرب ركبوا البحر فقبضوا بأيديهم على زمام الملاحة بين الهند وفارس وسواحل أفريقية الشرقية؛ فسمي البحر كله باسم بحر العرب، وسمي الشاطئ الشرقي من سواحل أفريقية باسم السواحل حيث يتكلم الأفريقيون الآن باللغة السواحلية كما يسميها الأوروبيون.

والتجارة من أسباب المعيشة؛ فمن الذي بلغ بها ما بلغه العرب في الهند وإندونيسية وأفريقية الوسطى؟

إنها بلغت على أيديهم أن تكون فتحا في عالم الروح، ولم تكن فتحا في عالم المال وكفى؛ إذ أصبح في تلك البقاع قرابة مائتين من الملايين من المسلمين لم يعرفوا دينهم من غير أولئك التجار الناجحين.

هذه الوقائع تصحيح بين لدعوى العصبيات الجنسية يرشد العقل البشري إلى الصواب في مسألة من أخطر المسائل العالمية، ذات الأثر المتشعب إلى كل زاوية من زوايا العالم، وكل علاقة من علاقات بني الإنسان.

نعم، هي تصحيح للعقل البشري يأتي في أوانه وليس قصارى الأمر فيها أنها دفاع عن العرب أو تبرئة لهم من أقاويل دعاة العصبية المستعمرين والشعوبيين والمرددين لأصداء الغابر المهجور.

والرأي الجلي في هذه الدعاوى العصبية إذن أنها من قبيل «الإشاعات» التي تروجها المصالح إلى حين، ولكن هل هي إشاعات تبتدئ وتنتهي حول النزاع على المصالح ومفاخر الأنساب؟ وهل نفهم من بطلان الدعاوى العنصرية أن عناصر السلالات تتساوى في ملكات العقول ومزايا الأخلاق؟

إن من يقول بذلك ينقض الواقع الشاهد في الحاضر كما ينقض الواقع الذي حفظته التواريخ، فلا نكران لاختلاف الأمم في التفكير والسلوك، وإنما ينكر الباحث المنصف أن يعزى هذا الاختلاف إلى أسباب أصيلة ينفرد بها عنصر من عناصر البشر دون سائرها، وينصف الأجناس جميعا حين يعزو كل مزية إلى أسبابها الطبيعية التي تتأثر بها كل أمة تعرضت لمؤثراتها، ولا يقصر مزية من المزايا على قوم يحتكرونها في جميع الأحوال.

والمثلان البارزان اللذان يذكران في معرض التمييز بين الخصائص الجنسية كفيلان بإبراز هذه الحقيقة في نصابها الذي يستقر عليه البحث عن مزايا العقول والأخلاق بين جميع الشعوب.

هذان المثلان هما مثل اليونان واليهود: أولهما يضربونه بطلب بالعلم، وثانيهما يضربونه بطلب المال.

فعندهم أن اليونان قد امتازوا بحب المعرفة حبا للمعرفة؛ لأنهم نموذج العقل الأوروبي المطبوع على الفهم وحب الاستطلاع، وأن اليهود قد امتازوا بالمهارة الاقتصادية فلا يضارعهم فيها شعب من شعوب العالم منذ عهد بعيد.

والواقع أن شعوب العالم العريقة قد طلبت المعرفة كما طلبها اليونان، ولكن الشعوب التي عاشت في أودية الأنهار الكبار - كما تقدم - قامت فيها الكهانة القوية إلى جانب الدولة القوية؛ فتحولت المعرفة إلى الكهانة، وأحاط بمعارفها ما لا بد أن يحيط بها من أسرار الكهانة وقيود التقاليد، وهكذا حدث في القارة الأوروبية نفسها يوم قامت فيها السلطة الدينية القوية، وحجرت على المفكرين أن يتعرضوا لمباحث المعرفة في أصول الأشياء وحقائق الوجود.

والواقع أن اليهود لا يفوقون غيرهم في القدرة على تحصيل المال، وقد تسابقوا بميدان واحد في وادي النيل مع الأرمن واليونان والجاليات الشرقية فلم يسبقوها في تحصيل الثروة، ولا في تنويع مواردها، ولعلهم - لولا تضامنهم في بلاد العالم التي ينتشرون فيها - يرجعون إلى ما وراء الصفوف الأولى في المهارة الاقتصادية وفي تدبير المال على الإجمال؛ فلا احتكار لمزية قومية بغير سبب، ولا فرق بين الأمم إذا تشابهت الأسباب.

وأمة العرب بين هذه الأمم لم تقصر ولن تقصر عن أمة سابقة في مضمارها حيث تتهيأ لها أسباب العلم وتتمهد لها السبل إلى الغاية، ولن تقف هذه الغاية دون أمد من الآماد. •••

وإذا كان من حقنا - نحن الشرقيين - جميعا أن نؤمن بهذه الفكرة الصالحة، فمن واجبنا أن نحترس من مغبة الاغترار بها ومن سوء الفهم الذي يخشى أن تسوقنا إليه.

فمن سوء فهمها أن نفهم أننا مبرءون من العيوب معصومون من الخطأ، أو نفهم أن عيوبنا هينة لا تكلفنا المشقة في إصلاحها، وأن أخطاءنا قليلة لا تعاودنا في كل آونة من حياتنا مع أنفسنا أو حياتنا مع أقوامنا.

كلا، بل لنا عيوب غير هينة، ولنا أخطاء غير قليلة، غاية ما يعزينا فيها أن نؤمن بأننا قادرون على تصحيحها وعلى اجتنابها، وأنها ليست بالأبدية التي لا تفارقنا كما زعم المفترون عليها.

أما تلك العيوب التي تفترى علينا، فهي التي تفرض علينا القصور كارهين وطائعين كما يزعمون، وهي التي نعرفها أو نجهلها على حد سواء؛ لأن الحيلة فيها عبث، والأمل في الخلاص منها مفقود.

تلك العيوب ننكرها ونشتد في إنكارها، وليس قصارانا في تبرئة أنفسنا منها أننا نحب أنفسنا، وأننا نشتهي أن نحمدها بحقها أو بغير حقها، وإنما ننكرها ونشتد في إنكارها؛ لأننا نستند إلى خير سند من الواقع الذي لا ريب فيه ، ولأننا نعلم من هذا الواقع أننا سبقنا السابقين إلى ثقافة المعرفة وثقافة العقيدة قبل أربعين قرنا، وأننا أعطينا العالم حظا منهما لا يزول منذ أربعة عشر قرنا، وأن ما كان في ماضي الزمن غير مرة ليكونن غير مرة في الزمن القريب، وفي الزمن البعيد.

صفحة غير معروفة