وجاءته يوما تقول إنها لم تقر في شهرها وأنه لو لم يمسسها لما أوجست خيفة، فذعر المسكين ولم يعد يدري ماذا يقول أو يصنع، وأنحى على حظه، ولعن نحس طالعه، على أن خوفه كان عليها وجزعه من أجلها، ومن العجب أنها - على قلقها - كانت هي التي تطمئنه وتحاول أن تذهب عنه الروع.
وذهبت إلى طبيب تعرفه، ولم تزد على أن قالت إنها لم تقر، فوصف لها حقنا وعقاقير؛ منها ما يفيد القوة، ومنها ما هو للتنظيم، فلم يفد ذلك.
وكان هو لا يستقر، ولا يدري بمن يعوذ، ومن يشاور؛ فإن المشاورة تقتضي البث والمصارحة، وذلك ما لا يقوى عليه، ومن سخر القضاء أن عيادا كان هو الذي أنقذه؛ ذلك أنه لاحظ عليه الاضطراب والوجوم والكمد، فسأله عن خطبه، فتلجلج، وماذا تراه يستطيع أن يقول لأبي محاسن؟! ولم يفته ما في الموقف من تهكم الأقدار، فضحك - وشر البلية ما يضحك - وألهمه الله أن يلفق قصة طويلة عريضة اخترع كل ما فيها إلا ما يقيمه ويقعده، فطيب عياد خاطره، ودله على طبيبة نظارة مدققة، وعرض أن يرافقه إليها، ولم يكن عياد خالص النية فيما عرض، فقد نازعته نفسه أن يرى هذه الفتاة ويعرفها، وطمع أن تتصل أسبابه بأسبابها، غير أن الأستاذ حليما أبى المرافقة، وهل كان يسعه غير ذلك؟ وقصد إلى الطبيبة وحده أول الأمر ليستوثق من أنها لا تعرف محاسن، لما اطمأن مضى بها إليها، فعالجتها علاجا حكيما فيه بعد نظر واحتياط لكل ما هو محتمل، حتى لا تسيء إلى الفتاة من حيث تريد أن تحسن، وكانت تطلب حقنا وتصف وصفات بلدية تعرف من خبرتها أنها نافعة شافية، وكان الأستاذ حليم يدور على الصيادلة والعطارين ينشد عندهم ما يؤمر أن يجيء به، وقد أنساه الجزع بخله وكزازته فانبسطت يده بعد طول الانقباض، وقضى أسابيع ثلاثة لا يذوق النوم إلا غرارا، وإن كان ثقيل النوم كأنما يشرب مرقدا، وكان يصحب محاسن كل يوم إلى الطبيبة، وينتظر في مقهى قريب، وفي ظنه أن كل جالس أو عابر ينظر إليه ويتعجب، وربما كبر في وهمه أنهم يتهامسون أو يتغامزون عليه بلحظ العين وإيماءة الأصبع، ويتساءلون فيما بينهم عمن يكون؟ وماذا قذف به على هذا الحي؟ فكان يلهج في سره بالابتهال إلى الله أن يتوب عليه ويعفيه من الحاجة إلى غشيان هذا المقهى.
ودعته الطبيبة إليها يوما وأنبأته أنه لم تبق لها حيلة، وأن عليه أن يقصد إلى طبيب أخصائي، فما يسعها هي فوق ما صنعت، وأنها تخشى على نفسها، وعلى محاسن أيضا، إذا هي حاولت شيئا آخر، فتوسل إليها، والدمع يجول في عينيه، أن ترشده إلى هذا الأخصائي، فهزت رأسها وقالت بلهجة الأسف والإشفاق، إنها لو كانت تعرف أحدا لما اجترأت أن تتوسط له في مثل هذا الأمر، ولكنها دلته على طبيبة أجنبية قد يهديها الله فتسدي إليه هذه اليد.
فمضى بمحاسن إليها، ودفعه اليأس وخوف الإخفاق إلى مصارحتها بالأمر كله، فما بقي من هذا بد، عسى أن ينفعه عندها الصدق ويعطفها على الفتاة في محنتها، وكانت تصغي إليه وهي مطرقة تزوم، وهو يتفرس في وجهها لعله يلمح فيه ما يستبشر به، ولما انتهى قال: هذه هي الحكاية، واضطجع وفوض أمره إلى الله.
فقالت له: اسمع يا بك، أنا طبيبة، نعم، ولكني لا أستطيع أن أتكلف مثل هذا الأمر، لا جهلا بل خوفا. غير أن الفتاة جديرة بالرحمة، فإذا شئت استشرت في أمرها طبيبا، وسنرى ما يكون، فعودا غدا في مثل هذه الساعة.
وخرج لا يدري أيطمئن أم يقلق، وثقلت وطأة هذه الجرة عليه، حتى لتمنى أن يقنط؛ فإنه أرحم، وكانت محاسن تضحك منه، فيزجرها ويروح يهول عليها بما يقدر أنه سيكون ويسهب في الوصف ويتوسع في البيان كأنما يجد لذة في تعذيب نفسه، حتى يكاد يخلع قلب المسكينة.
ولكن الله لطف بعبديه، والله يضع رحمته حيث يشاء، وتشهد أستاذنا حليم، ولكن ما عانى من الكرب جاوز طاقته، فآلى ألا يعود.
وصارت محاسن بعد ذلك أهدأ، وأكثر اتزانا، وأقل خفة، فلو رآها الذين كانوا يقولون إنها طامحة الطرف لا تبالي أن تدنو من الرجال لتعجبوا، وأنى لهم أن يعلموا أنها امتحنت أقسى امتحان، وأن عزمها كان مستقرا على الانتحار، وأن تكلفها أن تظل ضاحكة السن قد كلف أعصابها شططا؟
وأنى لمحمود أن يعرف السر فيما صارت تتعمد أن تبديه من التبرم به والإعراض عنه؟
صفحة غير معروفة