ولكنه كان امرأ فيه أناة، وميل إلى أخذ الأمور مأخذ التهوين، فكان يقول لها مفاكها على عادته: ممم! يظهر أن مستشارتنا تعبت، وبرح بها فرط اجتهادها لنا، أما والله إن آل نسيم لأنانيون، كيف يتركون مستشارتهم المخلصة ترهق نفسها هذا الإرهاق؟! كلا، هذا لا يجوز، فيجب يا آل نسيم أن تعطوها قسطا من الراحة، وإني بلسانهم - أو ألسنتهم جميعا - أسألك: ما قولك في إجازة؟ إجازة لا تطول حتى تعطل الأعمال، ولا تقصر فيقل بها الانتفاع؟
فتفيق، وترتد إليه، وتبتسم له، وتسأله: ماذا كنت تقول؟ معذرة؛ فقد كنت كأني في عالم آخر.
فيقول: تالله، ما أذكاك يا نسيم وأحد فؤادك! ولا عجب؛ فإن آل نسيم كلهم لوذعيون، إي نعم يا صديقتي المستشارة، فإن الذي كنت أقوله - وفاتتك البراعة فيه لسوء حظك - ليس إلا شاهدا واحدا من آلاف من الشواهد على هذه اللوذعية التي شاعت في آل نسيم علوا وسفلا كالوباء، وتمثلت خاصة في المتشرف بخطابك. كنت أقول - ولا بأس من أن أعيد؛ فإن أمثال هذه البراعات تحلو على التكرار - إن بك حاجة إلى أن تجدي نفسك في عالم آخر، كما قلت تماما، وبعبارة أخرى يجب أن نتعطف فنمنحك إجازة من هذه الواجبات التي تضنيك، تعودين بعدها أنضر وأنشط، وأقدر على الاضطلاع بأعبائك الجسام، فما قولك؟
قالت وهي تضحك: إجازة؟ من قال إني محتاجة إلى إجازة؟! ومن أي شيء وأنا في إجازة دائمة؟!
قال: شكرا لك على هذا اللطف، فإنه دليل الإخلاص في العمل، ولكن فراستنا الصادقة تقول لنا غير ذلك، ومن أجل هذا قررنا أن نمنحك إجازة بمرتب مضاعف، أو غير محدود، للاستجمام والراحة من عناء الأعمال، وقد وقع اختيارنا لك على الإسكندرية، تعرفينها؟ سمعت بها؟
قالت: وهي لا تزال تضحك: ما رأيتها قط.
قال: هي ثغر صغير، صغير جدا، ولكنه على صغره، يقف سدا منيعا في وجه البحر، فلا يزال البحر يكر عليه بأمواج كالجبال، ولا يزال هذا الثغر الصغير الباسل يدفعه ويرده ويترك لججه المتعاقبة متكسرة على صخورها، والمعركة لا تنتهي، ولا تفتر في ليل أو نهار؟ ولكن الثقة وطيدة بهذا الثغر الباسل، وبقدرته على صد كل كرة، وتمزيق كل حملة، فما قولك في أن تقلدي المراسلين الحربيين، وتذهبي إلى هذه الساحة الأبدية لتوافينا بأحدث أنباء هذا النضال؟
فسألته: هل مللتني؟
قال: إنها المرأة لا تكون أبدا إلا كما خلقها الله، لا كما يريد نسيم أن تكون، على أن هذا لا يسوءنا؛ لأنا ندرك بفطرتنا الذكية أن المرأة المخلصة لطبيعتها هي التي تستحق أن يعنى بها الرجل، ولهذا نعنى بك؛ لأنا نراك مخلصة لأنثويتك. كلا، لم نملك يا مستشارتنا العزيزة، وإنما نؤثر لك الراحة، أو نرجو أن تعودي إلينا من معركة ساحل بحر الروم وأنت أشوق إلى مجلسنا الظريف، وأطلب لحديثنا اللذيذ، وأحرص على الاستماع إلى آرائنا النفيسة، وأنشط في أداء واجباتك الكثيرة الأخرى.
فأطرقت شيئا ثم رفعت رأسها ونظرت إليه جادة وقالت: ألا تمهلني؟
صفحة غير معروفة