ولم تكن محاسن تبادل محمودا حبا بحب، بل لعلها لم تكن تباليه أو تعبأ شيئا بإقباله أو إدباره، إذا صح ما كانت تفضي به إلى الأستاذ حليم حين يخلو لها وجهه، ولو كان محمود حصيفا لكان الأرجح أن يسلس في يده قيادها، ولكنه أثقل عليها ونفرها بأن كان عيابة لا يزال يقع فيها ويذكرها بما يشنع به عليها أهل الحي وعارفوها من غيره، ولا ينفك يسمعها من الكلام كل سوار يأخذ بالرأس كلما رآها طاشت أو نبت في العنان، فتثور به وتكايله وتقول له أوجع مما قال لها؛ فتقع الجفوة وتحل النبوة، ويفسد الحال، ويعجز عياد أفندي عن إصلاحه، فيستجير بصاحبه الأستاذ حليم، فيشكره محمود وهو كاره وفي قلبه غيرة تضطرم؛ لما يراه من سلطانه عليها وطاعتها له.
2
وكان أمر الأستاذ حليم عجبا، وهو رجل يتمثل فيه «نقص القادرين على التمام» كما يقول أبو الطيب؛ فقد كان محيط علم، وكان إلى علمه فهما نجيبا و«لوذعيا يرى بأول ظن آخر الأمر من وراء المغيب»، ومع ذلك أبى أن يكون أستاذا في الجامعة وآثر الإخلاد إلى الراحة؛ ولو شاء مع الراحة وخلو الذرع وانفساح الوقت لجاء الناس بجناة طيبة وثمار يانعة من شجرة علمه المحلال، ولكنه ترك الخلفة واللحق من ثمرها يهمد في موضعه ولا يدرى أو ينتفع به الناس، وكان ماله كافيا للسعة والخفض ونعيم البال، ولكنه كان يعيش عيشة الشظف والضيق كأنه مخفق مخف من المال أو مسكين، وكان أخوف ما يخاف الفقر والحاجة، فهو يضيق على نفسه وأهله خشية الضيق، وكان معافى في بدنه، ولكن طول إكبابه على التحصيل ومواظبته على الدرس والمطالعة مع قلة الطعام وسوئه، أورثاه ضعفا في جسمه وفسادا في معدته وحشاه وتلفا في أعصابه، ومع ذلك لا يستشير طبيبا ضنا بأجرته وثمن الدواء، واكتفاء بما يصفه له إخوانه من العقاقير «البلدية» مثل المصطكا والحلتيت وما يجري هذا المجرى، فلم يصح قط مما به.
ووقع له في عنفوان شبابه ما زاد تلف أعصابه؛ فقد أحب جارة له معلمة مثله، وكانت ذات حسن وشورة، طيبة النفس ضحوكا، وأريبة موثوقا بفضلها وعقلها، ولكنها كانت أيضا ذات فلسفة وعناد، وأحبته سميحة كما أحبها، غير أنها لما عرض عليها الزواج ترددت، وسوفت، وكانت تقول لأختها كلما جادلتها ونهتها عن هذه المماطلة التي لا خير فيها ولا حكمة: إني أحب الأستاذ حليما؛ أحب مظهره ومخبره؛ فإنه سمح واسع الأفق رحيب النفس، وأحب مشيته التي لا تكلف فيها ولا جهد، وأحب صوته ونبرته المرتعشة، وأحب فوق ذلك لمعة عينيه وذلك الإدراك التام الذي لا أخطئه فيهما حين أنظر إليه، ولكن هناك شيئا يخيفني، لا أدري ماذا، وإن في نفسي لشكا عجيبا؛ فأنا أحبه، ما في هذا شك، ولكن أشك في قدرتي على مبادلته حبه لي، فإنه عميق مستغرق، ويفزعني شكي هذا، فأحس كأني أتحسس في الظلام باحثة عما لا أدري.
وأخيرا تم الزواج.
وقالت لها أختها ليلة الجلوة - وكانت أحكم طبعا: إن في حليم كل مشتهى المرأة؛ وأعتقد أنك ستكونين معه سعيدة، ولكني أرجو أن تذكري دائما أن عليك أنت بذل أقصى ما يدخل في طاقتك لإسعاده؛ فإن على المرأة أن تمنح بعلها فوق ما ترجو وتتوقع أن يمنحها.
وكان هذا أشبه بالإنذار، أو التحذير. وكانت سميحة تريد إسعاد حليم، وقد أسعدته؛ ولكنها كانت تبدو شاردة ساهمة كأن بها شيئا، ولم يفت صواحبها هذا، ولكنهن حسبنه من نشوة السعادة، فرحن يركبنها بالفكاهة، وهي لا يسعها إلا أن تبتسم متكلفة، فما كانت تستطيع أن تصارحهن بأنها دهشة فزعة، وأنها تخاف شيئا مجهولا خفيا لا تدري ما يهجم عليها منه.
وقال لها حليم لما انفض الجمع وخلا بها: إنك ما زلت طفلة، وسيكون عليك أن تعرفي الحياة، وتفهمي معناها، وإنه ليسرني أني سأكون معلمك.
فأحست أن هذا تأنيب؛ فكأنه قال لها إنه وجدها دون ما كان يتمثل، ومن أجل هذا يتكلف هذا التعليل لما تبينه من النقص، ولعل الأرجح أنه لم يكن يدرك - ولا هي أيضا - أنها كانت غير ناضجة من الوجهة الجنسية، وكان شعورها بنقص ما فيها يرتسم على وجهها، حتى لقد قال لها بعد يومين من زواجهما: ألا تستطيعين أن تبتسمي لزوجك؟ أتذكرينني؟ إنني الرجل الذي شرفته بأن تكوني امرأته.
فأكرهت وجهها على الابتسام لتستر ما يخالجها.
صفحة غير معروفة