والآن نستطيع أن نتحدث عن «المقال» الجدير بأن يسمى «طريق العقل إلى الحقيقة»، ولكن الوقت يضيق اليوم دون ذلك، فموعدنا الدرس الآتي نسلك معا الطريق الذي رسمه لنا ديكارت.
الدرس الثاني
في محاضرتي الأولى رسمت لحضراتكم الصورة الروحية لعصر ديكارت، أي البيئة التي يجب أن نضع فيها «المقال في المنهج» لكي نستطيع فهمه، أما اليوم فسنعنى بدراسة المقال نفسه.
كم كنت أود لو استطعت أن أتلوه عليكم بأكمله، وأن أشرحه صفحة صفحة، بل جملة جملة، ولم يكن ذلك ليعد إسرافا؛ بالنظر لما فيه من الثراء والرصانة، ولكنه قد يستغرق سنة، فلا محيص من العدول عن مثل هذا الشرح.
لنمر مرا سريعا على الصفحات الأولى حيث يقص علينا ديكارت تاريخ أولى أزماته الروحية، أزمة الشباب غداة مغادرة المدرسة، وكانت أزمة شك وخيبة.
وهاكم بالتقريب ما يقول لنا، يقول إنه غذي بالآداب منذ حداثته، درس في مدرسة «لافليش» لليسوعيين، وكانت من خير مدارس العالم المسيحي، تلقى العلم فيها على خير المعلمين، وكان تلميذا نجيبا فتعلم كل شيء، تعلم كل ما كان مألوفا أن يتعلمه من يريد «الانتظام في سلك الألباء»، قرأ كل ما وقع له من الكتب، ونال درجة الماجستير في الآداب، والليسانس في الحقوق، فما بلغ العشرين حتى لاحظ أن كل هذا عديم القيمة، أو على الأقل لا يساوي شيئا كثيرا.
فأحس الخيبة، وأحس أنه قد خدع، فقد قيل له: تعلم الآداب والفنون تصب بها معرفة واضحة محققة بكل ما هو نافع للحياة. فصدق القول، وها هو ذا مرتبك بالشكوك والأخطاء ومرغم على الإقرار بأن «ليس في العالم مذهب هو على ما كانوا قد عللوه به»، أجل لم يكن كل ما علموه عديم القيمة بالمرة؛ «فاللغات مثلا ضرورية لفهم الكتب القديمة، والقصص اللطيفة توقظ الفكر، والأفعال المجيدة التي ترويها التواريخ ترفعه، ومتى قرئت باعتدال عاونت على تكوين أصالة الرأي، وللبلاغة قوة وجمال لا نظير لهما، وللشعر لطائف رائعة، وللرياضيات مكتشفات هي في غاية الدقة، واللاهوت يعلم كيف تكتسب الجنة، والفلسفة تؤهل صاحبها لأن يتحدث حديثا مقبولا في كل شيء، وأن ينال إعجاب من هم أقل علما منه، والفقه والطب يعودان بالثروة والكرامة على أصحابهما»، ولكل هذا قيمته من غير شك، ولكن المعلمين كانوا قد منوه شيئا آخر، كانوا قد منوه معارف واضحة محققة، وعلما لا غنى عنه لإصابة الحكم وحسن التدبير في الحياة، وبالجملة كانوا قد منوه علما وحكمة، ولم يعطوه هذه ولا ذاك.
فإن شيئا مما علموه لم يكن ضروريا كل الضرورة، بل لم يكن نافعا ولا محققا، ما خلا الرياضيات، أجل إن قراءة الكتب القديمة والقصص والتواريخ تزين الفكر، ولكنها قد تفسده؛ «فإن القصص تحمل على الاعتقاد بإمكان حوادث هي في الواقع مستحيلة»، وأصدق التواريخ «لا يروي الحوادث كما وقعت»، فليس باستطاعتها أن تعاوننا على تكوين أصالة الرأي، بل بالعكس إنها تحملنا على الخلط بين الحق والباطل، والبلاغة والشعر شيئان جميلان ولكنهما لا يتعلمان، إنهما موهبتان، ولا يكتسبان بالدرس، ولإقناع الناس ينبغي أن نكلمهم كلاما واضحا ليستطيعوا فهمنا، لا أن نرهقهم بمحسنات البديع والبيان.
أما اللاهوت «الذي يعلم كيف تكتسب الجنة» أفليس هو «علما» عديم الفائدة أصلا من حيث إن طريق الجنة «مفتوح للجهلاء والعلماء على السواء؟» بل أليس هو علما كاذبا ممتنعا كل الامتناع «من حيث إن حقائق الوحي تفوق العقل»، وإن من الواضح «أنه يلزمنا للشروع في الفحص عنها والتوفيق في هذا الفحص معونة سماوية خارقة ترفعنا فوق مرتبة الإنسان؟»
الرياضيات وحدها تنجو من نقد ديكارت «لما لبراهينها من اليقين والوضوح»، ولكنه لا يرضى عنها إلا بعض الرضى؛ لأن الذين تقدموه لم يفهموا ماهيتها ومنفعتها الحقة، وهي تغذية النفس بالحقيقة وتمكينها من معرفة العالم، وظنوا أن منفعتها قاصرة على الفنون الآلية، فلم يوفقوا إلى بناء شيء على هذه الأسس المكينة.
صفحة غير معروفة