تسبيح الله ذاته العلية في آيات كتابه السنية
الناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
رقم الإصدار
العدد ١١٩-٣٥
سنة النشر
١٤٢٣هـ/٢٠٠٣م
تصانيف
المقدَّمة
الحمد لله الذي سبّح ذاته العليّة؛ قبل أن يسبّحه المسبّحون، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ شهدت بعظمته السموات والأرضون، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله الصادق المأمون، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه عدد ما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون.
وبعد؛ فلقد يسّر الله - تعالى - بفضله وكرمه أن أطالع كتابه الكريم متأملًا آياته، فلفتت انتباهي ونظري مواضع يُسَبّحُ الله ﷿ فيها ذاته المقدسة، فعزمت - متوكلًا على الله - في تتبُّع هذه المواضع وحصرها؛ لِما أنّ تسبيح الله ذاته يدلّ على أهمية ماينزّه الله ذاته عنه فيها، كما أنّ في ذلك إشارة إلى أنه تنزّه خاصٌ به مبالغٌ فيه لائق بجلاله وعظمته. ومن ثمّ جمعتُ هذه المواضع فوجدتها خمسة وعشرين موضعًا. ثمّ صنّفتها؛ حسب موضوعاتها؛ التي جاءت فيها، فكان عشرة مواضع منها في تسبيح الله ذاته عن الإشراك به، وأحد عشر موضعًا في تسبيح الله ذاته عن اتخاذه الولد، والأربعة الباقية كانت في موضوعات مختلفة: (أحدها) عند الحديث عن معجزة الإسراء و(ثانيها) إثر الوعد والوعيد و(ثالثها) في معرض ذكر نعمه وآياته و(رابعها) في معرض بيان عظمته وقدرته.
- ولقد بينت كلّ موضع منها عبر مبحث خاصٍ به.
- وعلى ما سبق فقد قسمت البحث إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تسبيح الله ذاته عن الإشراك به.
الفصل الثاني: تسبيح الله ذاته عن اتخاذه الولد.
الفصل الثالث: تسبيح الله ذاته في شؤون مختلفة أخرى.
1 / 13
- هذا وقد مهدّت لهذا البحث بتمهيد في معنى التسبيح وأصله اللغوي واشتقاقاته. ومن بعدُ ختمتُه بخاتمة بيّنت فيها أهم النتائج والمقترحات.
أمّا منهجي في بيان هذه المواضع: فإني أذكر وجه الحكمة في مجيء التسبيح في موضعه بين الآيات وغاية إيراده، وهذا يُلزمني أن أبيّن ما قبل الموضع وما بعده في أغلب الأحيان؛ لكشف وجه الصلة والمناسبة، وأذكر من كلام المفسرين في ذلك ما أراه مناسبًا وراجحًا وقريبًا من المعنى الظاهر؛ دون اللجوء إلى مناسبات بعيدة في التأويل ومتكلّفة.
كما أني أعمد إلى ذكر بعض اللطائف - حول الآيات التي أتناولها بالبيان - أرى من المناسب ذكرها لما فيها من زيادة إيضاح أو تأكيد لمعنى أو كشف لسرّ بلاغي أو لغوي يبين جمال النصّ القرآني الكريم.
- ثمّ إني أذكر في الهامش القراءات المتواترة؛ والتي من شأنها إضافة معنى إلى الآية المطلوب بيانها.
- وقد أذكر في الهامش -أيضًا- بعض الاستطرادات التي أرى أنه ليس من المناسب إدخالها في متن الفقرات الأصلية للبحث؛ ولكن إيرادي لها بسبب ما أخشاه من لبس عند القارئ أو وهم؛ يزول بها.
وأخيرًا أسأل الله تعالى أن يتقبل بحثي هذا في ميزان حسناتي يوم ألقاه وأن يغفر لي ما كان فيه من خطأ أو نسيان. آمين.
1 / 14
التمهيد
في معنى التّسبيح وأصله اللغوي واشتقاقاته
يحسن بي وأنا أتعرّض للحديث عن تسبيح الله ﵎ أن أمهِّد له ببيان معنى التسبيح استنادًا إلى أصله اللغوي، ومن ثمّ أذكر مااشتُقّ منه من كلمات أصبحت منتسبة إلى حقيقته الشرعية. فأقول والله المستعان سبحانه:
التسبيح: مصدر سَبَح، وأصل معنى سَبَح في اللغة: إذا أَبْعَدَ وذهب - على وجه السرعة والخفّة- في الماء أو الهواء أو الأرض. والسَبْحُ: التباعد١.
وتُوسِّع في استعماله فجيء به في معنى مرّ النجوم في الفلك. ومثاله قوله تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ٢ واستعمل أيضًا لمعنى جري الفرس، ومثاله قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا﴾ ٣ ومنه: فرس سبُوح أي واسع الجري. وجاء أيضًا بمعنى التصرّف في المعاش والإبعاد في العمل ومثاله قوله ﷿: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ ٤.ومن تلكم الاستعمالات ما أنا بصدد بيانه وهو التسبيح لله تعالى على أنّه يراد به -على ما سبق من بيان الأصل اللغوي إبعاده عمّا لا يليق به٥.
_________
١ انظر: لسان العرب لابن منظور ج٢ ص٤٧٢؛ تفسير أبي السعود ج٥ ص١٥٤؛ تفسير الخازن ج٤ ص١٢٧؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج١ ص٤٠٥.
٢ سورة يس: الآية (٤٠) .
٣ سورة النازعات: الآية (٣) .
٤ سورة المزمل: الآية (٧) .
٥ انظر: لسان العرب لابن منظور ج٢ ص٤٧١_٤٧٢؛ ترتيب القاموس المحيط للطاهر الزاوي ج٢ ص ٥٠٦_ ٥٠٧.
1 / 15
وفيه قال الراغب١ في مفرداته:"وأصله المرّ السريع في عبادة الله تعالى، وجُعل ذلك في فعل الخير كما جُعل الإبعاد في الشر فقيل: أبعده الله. وجُعل التسبيح عامًا في العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نيّة "٢.وبمثله في لسان العرب قوله:"وجماع معناه بُعده ﵎ عن أن يكون له مِثْل أو شريك أو ندّ أو ضدّ "٣.
- وتبعًا لهذا التوسُع في استعمال معنى التسبيح كما ذكر الراغب في عبارته السابقة "وجُعل التسبيح عامًا في العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نيّة"؛ فإنّه قد أطلقت كلمات عدّة اشتقت من هذا المصدر وأصبحت معلومة مشهورة، منها: أنّه يطلق التسبيح ويراد به الدعاء والذكر والصلاة. وفيه يقول القائل: قضيت سُبْحتي. والسُبْحة: الدعاء والذكر وصلاة التطوع والنافلة٤.
وعليه فسّر البعض قول الله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ ٥على أنّه يأمرهم الله بالصلاة في هذين الوقتين٦.
_________
١ هو الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني أو الأصبهاني المعروف بالراغب: أديب، من الحكماء العلماء، من أهل «أصبهان» سكن بغداد واشتهر حتى كان يقرن بالإمام الغزالي، توفي ٥٠٢هـ، من أشهر مؤلفاته: المفردات في غريب القرآن، محاضرات الأدباء، الذريعة إلى مكارم الشريعة. (انظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي ص ٣٩٦؛ كشف الظنون لحاجي خليفة ج١ ص٣٦؛ الأعلام للزركلي: ج٢ ص٢٥٥) .
٢ المفردات للراغب الأصفهاني: ص٢٢١.
٣ انظر: لسان العرب لابن منظور ج٢ ص٤٧١.
٤ المرجع السابق: ج٢ ص٤٧٣.
٥ سورة الروم: الآية ١٧.
٦ انظر: تفسير أبي السعود ج٧ ص٥٥؛ والآية في سورة الروم رقم (١٧) .
1 / 16
أقول: ولا ريب إنما سميت الصلاة والذكر كذلك لكونهما يتضمّنان تنزيهًا لله وتعظيمًا له من كل سوء ونقيصة.
- ومنها يُقال: السُبُحات ويراد بها مواضع السجود. ويقال أيضًا: سُبُحات وجه الله أي أنواره وجلاله وعظمته. وسُبحة الله: جلاله. والسُبْحة: خرزات للتسبيح تعدّ١.
واستنادًا إلى ما سبق ذكره من أصل كلمة التسبيح في اللغة واستعمالاتها اللغوية والشرعية يمكن أن يُعرَّف التسبيح لله تعالى بأنّه: قول أو مجموع قول مع عمل يدلّ على تعظيم الله تعالى وتنزيهه وبراءته من كل سوء ونقيصة وممّا لا ينبغي أن يوصف به فيما لا يليق بجلاله وكماله٢.والله أعلم.
- وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ هذا اللفظ (التسبيح) بمعناه الشرعي لا يصلح إلا لله تعالى ولا يصحّ إطلاقه على غيره؛ إذ إنّ من صفاته ﷿"سُبُّوحٌ قُدُّوس" كما جاءت به السنة المطهرة٣.
_________
١ انظر: لسان العرب لابن منظور ج٢ ص٤٧٣؛ترتيب القاموس المحيط للطاهر الزاوي ج٢ ص٥٠٧.
٢ انظر: تفسير البغوي ج٣ ص٩٢؛التفسير الكبير للفخر الرازي ج٢٠ ص١٤٦؛ تفسير القرطبي ج١٠ ص٢٠٤؛فتح القدير للشوكاني ج٣ ص٢١١؛أضواء البيان للشنقيطي ج٣ ص٣٩٧؛ التحرير والتنوير لابن عاشورج١٥ ص٩_١٠.
٣ انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج١٠ ص٢٠٤. وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة ﵂ أنّ رسول الله ﷺ كان يقول في ركوعه وسجوده «سُبُوح قُدُوس ربُّ الملائكة والرُّوح» وقال النووي في شرحه له: معنى (سبوح) المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لايليق بالإلهية. (كتاب الصلاة: باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث ١٩٥ج٣ ص١٢٤) صحيح مسلم بشرح النووي.
1 / 17
أمّا كلمة (سُبحان) على وزن فُعلان فهي عند أكثر النحويين اسم عَلَم للتسبيح يقوم مقام المصدر مع الفعل. قال الفخر الرازي١. في تفسيره الكبير:"قال النحويون: سبحان اسم علم للتسبيح يقال: سبحت الله تسبيحًا وسبحانًا. فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم علم للتسبيح، وتفسيره تنزيه الله من كل سوء"٢.
-كما أنّ هذه اللفظة (سبحان) تدلّ على المبالغة في تنزيه الله ﷿ من عدّة وجوه ذكرها أبو السعود٣ إذ قال: "وفيه ما لا يخفي من الدلالة على التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من السَبْح الذي هو الذهاب والإبعاد في
_________
١ هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرازي، الإمام المفسر، قرشي النسب، أصله من طبرستان ومولده في الريّ وإليها نسبته ويقال له (ابن خطيب الري)،رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان، وتوفي في هراة، من المتكلمين، وكان واعظًا بارعًا، أشهر مؤلفاته مفاتيح الغيب في التفسير، والمحصول في علم الأصول، ولد عام ٥٤٤هـ وتوفي عام ٦٠٦هـ (انظر: لسان الميزان لابن حجر ج٤ص٤٢٦؛طبقات الشافعية للسبكي ج٥ ص٣٣؛ البداية والنهاية لابن كثير ج١٣ص٦٠؛ الأعلام للزركلي ج٦ ص٣١٣) .
٢ التفسير الكبير للفخر الرازي: ج٢٠ ص١٤٥.وفي لسان العرب قال ابن جنّي "سبحان اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه بمنزلة عثمان وعمران، اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون وكلاهما علّة تمنع من الصرف" لسان العرب ج٢ ص٤٧١.
٣ هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي، المولى، أبو السعود: مفسر وشاعر، من علماء الترك المستعربين. ولد بقرب القسطنطينية، ودرس ودرّس وتولى القضاء في بلاد متعددة وأضيف إليه الإفتاء عام ٩٥٢؟، من أهم مؤلفاته تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم. ولد عام ٨٩٨؟ وتوفي عام ٩٨٢؟. (انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي ج٨ص٣٩٨؛ الأعلام للزركلي ج٧ ص٥٩) .
1 / 18
الأرض، ومن جهة النقل إلى التفعيل، ومن جهة العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصَّة، وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن، ومن جهة قيامه مقام المصدر مع الفعل"١.
- هذا وقد تطلق العرب هذه الكلمة لما يُتعَّجبُ منه، فيقولون: سبحان من كذا، يريدون التعجّب من ذلك الشيء ٢.
- وأختم كلامي حول هذه الكلمة بما ذكره الفيروز آبادي٣ في بصائره من أنّها جاءت في القرآن الكريم في خمسة وعشرين موضعًا في ضمن كل واحد منها إثبات صفة من صفات المدح ونفي صفة من صفات الذمّ٤ وهي ما سأفصل فيها القول - بإذن الله تعالى - في الصفحات القادمة وأسأل الله التوفيق والسداد.
_________
١ تفسير أبي السعود: ج٥ ص١٥٤.
٢ انظر: لسان العرب لابن منظور ج٢ ص٤٧١؛ترتيب القاموس المحيط ج٢ ص٥٠٦.
٣ هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر، أبو طاهر، مجد الدين الشيرازي الفيروزآبادي: من أئمة اللغة والأدب، ولد بكارِزين من أعمال شيراز، وانتقل إلى العراق، وجال في مصر والشام، ودخل بلاد الروم والهند، ورحل إلى زبيد عام ٧٩٦هـ فسكن بها وولي قضاءها وتوفي بها، من أشهر مؤلفاته: القاموس المحيط بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. وكان شافعيًا، وكان قوي الحافظة يحفظ مائة سطر كل يوم قبل أن ينام، ولد عام ٧٢٩هـ وتوفي عام ٨١٧هـ (انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني ج٢ ص٢٨٠؛ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي ج١٠ص٧٩؛ بغية الوعاة ص١١٧؛ مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبرى زاده ج١ص١٠٣؛ الأعلام للزركلي ج٧ ص١٤٦_١٤٧) .
٤ انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ج٣ ص١٧٦.
1 / 19
الفصل الأول: تسبيح الله ذاته العلية عن الإشراك به
المبحث الأول: في آية سورة التوبة
...
المبحث الأول
في آية سورة التوبة:
قال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ١.
مطلب: في بيان ما قبل التسبيح.
- الكلام في هذه الآية الكريمة عن اليهود والنّصارى حيث إنّهم اتخذوا أحبارهم - وهم علماء اليهود - ورهبانهم -٢ وهم عبّاد النصارى - أربابًا من دون الله ﷿، والمراد أنّهم يحلّون لهم ما حرّم الله فيحلّونه؛ ويحرّمون لهم ما أحلّ الله فيحرِّمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الله فيتبعونهم عليها٣ أي جعلوهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كلِّ شيء؛ ومنه قوله تعالى: ﴿قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾ ٤أي كالنار٥.
_________
١ سورة التوبة: الآية (٣١) .
٢ قال القرطبي: الأحبار جمع حَبر، وهو الذي يحسِّن القول وينظِّمه ويتقنه بحسن البيان عنه. ومنه ثوب محبَّر أي جمع الزينة. وقد قيل في واحد الأحبار حِبر بكسر الحاء، والمفسرون على فتحها، وأهل اللغة على كسرها. قال الفرّاء: الفتح والكسر لغتان. والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهو الذي حمله خوف الله تعالى على أن يخلص له النية دون الناس ويجعل زمانه له وعمله معه وأنسه به. (انظر: تفسير القرطبي ج٨ ص١١٩_١٢٠) .
٣ انظر: تفسير الطبري ج١٠ ص٨٠_٨١؛تفسير ابن كثير ج٢ ص٣٤٩؛ تفسير محاسن التأويل للقاسمي ج٨ ص١٨٤_١٨٥؛تفسير السعدي ج٣ ص٢٢٣.
٤ سورة الكهف، الآية:٩٦.
٥ تفسير القرطبي: ج٨ ص١٢٠.ومستند المفسرين في هذا تفسير رسول الله ﷺ فقد روى الترمذي وغيره عن عَدِيّ بن حاتم ﵁ قال: "أتيت النبي ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عَدِيّ اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئًا استحلّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئًا حرّموه" [كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ حديث ٥٠٩٣ (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي ج٨ ص٤٩٢_٤٩٣) وقد حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ج٣ص٥٦] .
1 / 23
- وأما قوله تعالى: ﴿وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ فتخصيص المسيح بالذكر لأنّ تأليه النصارى إيّاه أشنع وأشهر١.
- وجملة ﴿مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾ في موضع الحال من ضمير ﴿اتَّخَذُوا﴾ وهي محطّ زيادة التشنيع عليهم وإنكار صنيعهم بأنهم لا عذر لهم فيما زعموا، لأنّ وصايا كتب الملّتين مليئة بالتحذير من عبادة المخلوقات ومن إشراكها في خصائص الإلهية ٢.
- وقوله ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ صفة ثانية لـ ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ وهو توكيد لاستحقاقه تعالى للعبودية والطاعة دون سواه. فلا يعبد إلاّ هو، وإذا حرّم شيئًا فهو الحرام؛ وما حلله فهو الحلال؛ وما شرعه فهو المتبع؛ وما حكم به هو النافذ٣.
مطلب: في بيان موضع التسبيح وغايته وصلته بما بعده:
- لمّا بيّن الله تعالى اتخاذ اليهود والنصارى لأحبارهم ورهبانهم أربابًا من دونه، واتخاذهم المسيح ابن مريم إلهًا مع الله وافترائهم عليه في ذلك كلّه نزه الله ذاته العليّة عن شركهم وافتراءاتهم. قال ابن جرير الطبري:"تنزيهًا وتطهيرًا لله عما
_________
١ التحرير والتنوير لابن عاشور: ج١٠ ص١٧٠.
٢ المرجع السابق: ج١٠ ص١٧٠.
٣ انظر: تفسير ابن كثير ج٢ ص٣٤٩؛التحرير والتنوير ج١٠ ص١٧١؛ تفسير السعدي ج٣ ص٢٢٣_٢٢٤.
1 / 24
يشرك هؤلاء في طاعته وربوبيته القائلون عزير ابن الله والمسيح ابن الله المتخذون أحبارهم أربابًا من دون الله"١.
وبما يشابه كلام الطبري قال السعدي:"أي تنزه وتقدّس وتعالت عظمته عن شركهم وافتراءاتهم فإنهم ينتقصونه في ذلك ويصفونه بما لا يليق بجلاله. والله تعالى في أوصافه وأفعاله عن كل ما نُسب إليه ممّا ينافي كماله المقدّس"٢.
- ولمّا تبين أنّه لا حجة لهم على ما قالوه ولا برهان لما أصّلوه، وإنّما هو مجرد قول قالوه وافتراء افتروه أخبر ﷾ بعد أن نزه نفسه الكريمة - بما يزيد ويؤكِّد تنزيهه وتعظيمه وتبرئته عمّا لا يليق به مبينًا حقيقة حالهم ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ٣.
_________
١ تفسير الطبري: ج١٠ ص٨٢.
٢ تفسير السعدي: ج٣ ص ٢٢٤.
٣ انظر: تفسير السعدي: ج٣ ص٢٢٤،والآية في سورة التوبة رقم (٣٢) .
1 / 25
المبحث الثاني
في آية سورة يونس ﵇:
قال الله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ١.
مطلب: في بيان ما قبل التسبيح:
- في هذه الآية الكريمة يبيّن الله ﷿ حال المشركين في عبادة غيره وافترائهم عليه، وينكر من بعد عليهم ذلك؛ ويبطل دعواهم بالحجة والبرهان، فتفنيد الدعاوى الباطلة والردّ عليها هو أسلوب قرآني فريد غايته بيان الحق وردّ الناس إليه وتثبيت القائمين عليه؛ ودحض الباطل ونقض عراه وصدّ الناس عنه.
- وتبتدئ هذه الآية الكريمة التي ينزه الله تعالى ذاته العلية في خاتمتها بمقدِّمة وتمهيد معطوفة بالواو على ما قبلها من قوله ﷿ عن المشركين: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾ الآية٢ وذلك لما فيها من حكاية جناية أخرى من جناياتهم نشأت عنها جنايتهم الأولى٣.
_________
١ سورة يونس ﵇: الآية (١٨) . وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالخطاب في (عما يشركون) . وقرأ الباقون بالغيبة (عما يشركون. انظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج٢ص٢٨٢.
٢ سورة يونس: الآية (١٥) .
٣ انظر: تفسير أبي السعود ج٤ ص١٣١؛ فتح القدير للشوكاني: ج٢ ص٤٤٩؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج١١ ص١٢٥.
1 / 26
ويجوز أن تكون معطوفة على الآية قبلها مباشرة ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ...﴾ الآية١.
إذ إنّ عبادتهم ما لا ينفع ولا يضر وادّعاءهم أنهم شفعاء لهم عند الله هو من ضمن افترائهم على الله سبحانه٢.
- قال الله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ﴾ أي عبدوا متجاوزين الله ﵎ إلى عبادة غيره ما ليس من شأنه الضرر ولا النفع، فإنّ من حق المعبود أن يكون مثيبًا لمن أطاعه معاقبًا لمن عصاه٣.
وإنّما قدّم نفي الضرر لأنّ أدنى أحكام العبادة دفع الضرر الذي هو أوّل المنافع، كما أنّ العبادة أمر حادث مسبوق بالعدم الذي هو مظنة الضرر، فحيث لم تقدر الأصنام على الضرر لم يوجد لإحداث العبادة سبب٤.
وهذه أوّل حجة في الآية على نقض وإبطال دعوى شركهم بالله تعالى؛ فإنّ الذي لا يملك ضرًا ولا نفعًا لا يستحق أن يُعبد؛ بل الذي يملكهما هو الذي ينبغي أن تصرف العبادة إليه، وما ذاك إلاّ الله ﷿ وهي حجة جدّ قوية في بابها. ألا نسمع لقول إبراهيم ﵇ محاجًا قومه في عبادتهم للأوثان من دون الله ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ٥.
_________
١ سورة يونس: الآية (١٧) .
٢ انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج١١ ص١٢٥.
٣ انظر فتح القدير للشوكاني ج٢ ص٤٤٩.
٤ تفسير أبي السعود: ج٤ ص١٣١.
٥ سورة الأنبياء: الآيتان (٦٦،٦٧) .
1 / 27
- وحكاية لفرط ضلالهم وجهلهم بالله مع عبادتهم غيره، وتسفيهًا وتحقيرًا لرأيهم قال الله عنهم: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ زعموا أنهم يشفعون لهم عند الله فلا يعذبهم بذنوبهم إنْ كان هناك يوم آخر يرجعون فيه إليه فيحاسبهم بما قدّموا. وهذا غاية - بلا شك - في الجهالة والافتراء حيث إنّهم ينتظرون الشفاعة في المآل ممّن لا يوجد منه نفع ولا ضرّ في الحال١ هذا مع اعترافهم في مقالتهم - هذه - بأنّ المتصرّف هو الله تعالى وحده؛ حيث جعلوا لهم شفعاء عنده٢.فدعواهم تحمل في طيّاتها ماينقضها بسبب تناقضها واعتمادها على أساس غير صحيح ولا مقبول عقلًا ولا واقعًا.. ولذلك جاء التعبير بالمضارع في قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ﴾ و﴿يَقُولُونَ﴾ لاستحضار حالتهم العجيبة في استمرارهم على عبادتهم غير الله وافترائهم عليه تعجيبًا من تصميمهم وعنادهم على ضلالهم الذي لا يقوم على دليل ولا حجة بل هو ينقض بعضه بعضًا٣.
- وبعد تلك المقدمة المفيدة للتدرّج في نقض شركهم ودعواهم يأتي الأمر من الله تعالى لنبيه محمد ﷺ بالردّ عليهم ومحاجّتهم. ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾ أي أتخبرونه أنّ له شركاء في ملكه يُعبدون كما يُعبد، أو أتخبرونه أنّ لكم شفعاء عنده بغير إذنه؛ والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكًا ولا شفيعًا بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في أرضه وسمائه.
فلمّا كان كلامهم الباطل شيئًا اخترعوه وهو غير واقع جعل الله اختراعه بمنزلة أنهم أعلموه به.
_________
١ انظر: فتح القدير للشوكاني ج٢ ص٤٤٩.
٢ انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج١١ ص١٢٥.
٣ انظر: المرجع السابق ج١١ ص١٢٥.
1 / 28
وهذا الردّ حاصله وغايته عدم وجود من هو كذلك أصلًا، إذ لو كان لعلمه الله- تعالى - وهو علام الغيوب.
ولا ريب أنّ في الردّ والإنكار عليهم بهذه الصورة تقريعًا لهم وتهكمًا بهم وبما يدعونه من المحال الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان١.
لطيفة: أعيد حرف النفي بعد العاطف في قوله ﴿وَلا فِي الأَرْضِ﴾ وذلك لزيادة التنصيص على النفي وتأكيده٢.
مطلب: في بيان موضع التسبيح وغايته:
ومن بعد الردّ على المشركين بما يبطل شركهم وينقض دعواهم وافتراءاتهم وبما يثبت إلاهيته سبحانه ووحدانيته ينزّه الله تعالى ذاته العليّة عمّا يفعله هؤلاء المشركون في عبادتهم مالا يضر ولا ينفع، أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاءهم عند الله٣.وتنزيهه تعالى ذاته بعد إثبات حجته وبرهانه على لسان رسوله ﷺ لهو دليل على شناعة مقالتهم من جهة وعلى عظيم الإنكار عليهم من جهة أخرى. وكما يدلّ على أنّ قضية التوحيد له هي أسّ
_________
١ انظر: تفسير البغوي ج٢ ص٣٤٨؛ تفسير ابن كثير ج٢ ص٤١١؛ تفسير أبي السعود ج٤ ص١٣١؛ تفسير زاد المسير لابن الجوزي ج٤ ص١٦؛ فتح القدير للشوكاني ج٢ ص٤٤٩؛ تفسير النسفي ج٢ ص١٥٧؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج١١ ص١٢٦.
٢ انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج١١ ص١٢٦.
٣ انظر: تفسير الطبري ج١١ ص٦٩؛ تفسير أبي السعود ج٤ ص١٣٢؛ فتح القدير للشوكاني ج٢ ص٤٤٩.
1 / 29
القضايا وعمادها، وهو - سبحانه - الذي يتولىّ تنزيه ذاته بذاته من كل ما لايليق بها، ومع تنزيه رسله وأوليائه وملائكته؛ والكون كلّه في أرضه وسمائه.
مطلب: في تأكيد ما بعد التسبيح لموضوعه وغايته:
يُتبع الله ﵎ الآية السابقة التي ختمها بتنزيه ذاته بما يؤكِّد موضوع التنزيه وغايته أي أَمْرَ توحيد الله إذ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ١ فأخبر الله ﷿ ههنا - أنّ التوحيد والإسلام لله ملّة قديمة أجمعت عليها الناس قاطبة فطرةً وتشريعًا؛ وأنّ الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة الضالون٢ وفي هذا تثبيت للمؤمنين ودعوة للمشركين للخروج من ربقة العبودية لغير الله تعالى وترك سبيل الغواة الضالين المنحرفين فطرة وشرعًا.
_________
١ سورة يونس: الآية (١٩) .
٢ تفسير أبي السعود: ج٤ ص١٣٢.
1 / 30
المبحث الثالث
في آية سورة الإسراء:
قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ ١.
مطلب: في معنى الآية الأولى وصلتها بآية التسبيح:
- قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾ متصّل بقوله تعالى قبله ﴿وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ ٢.
ووجه الصلة أنّه عَوْدٌ وتتمّة في الردّ على المشركين عبّاد الأصنام وإبطال تعدّد آلهتهم طلبًا لاستئصال عقائدهم من جذورها٣.
- والمخاطب -في الآية - بالأمر بالقول هو النبي ﷺ وذلك لدمغهم بالحجة المقنعة والبرهان الجليّ بفساد قولهم. وافتتاحها به اهتمامًا بها وتحضيضًا لهذا الأمر بالتبليغ؛ وإن كان جميع القرآن مأمورًا ﷺ بتبليغه٤.
_________
١ سورة الإسراء: الآيتان (٤٢-٤٣) وقرأ ابن كثير وحفص على الغيبة (كما يقولون)، وقرأ الباقون بالخطاب (كما تقولون) . وقرأ حمزة والكسائي وخلف على الخطاب في (عما تقولون) . وقرأ الباقون على الغيبة أي (عما يقولون) . (انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج٢ ص٣٠٧) .
٢ سورة الإسراء: الآية (٣٩) .
٣ انظر: تفسير القرطبي ج١٠ ص٢٦٥؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج١٥ ص١١٠.
٤ انظر: تفسير القرطبي ج١٠ ص٢٦٥؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج١٥ ص١١٠.
1 / 31
- ثمّ إنّ قوله تعالى: ﴿كَمَا يَقُولُونَ﴾ جملة معترضة، ويراد منها التنبيه والإشارة إلى أنّ تعدّد الآلهة لا تحقّق له وإنّما هو مجرد قول لا أساس له من الصّحة والواقع١.
- ويأتي من بعدُ الجوابُ على ما افترض وجوده بقوله: ﴿إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾، فـ (إذًا) تدلّ على الجواب والجزاء وتؤكّد معناهما الذي دلّت عليه اللام المقترنة بجواب (لو) الامتناعية الدالّة على امتناع حصول جوابها لأجل امتناع وقوع شرطها. وبهذه الإجابة يكون الاستدلال على انتفاء إلهية الأصنام والملائكة الذين جعلوهم آلهةمع الله تعالى٢.
وهذا الاستدلال يحتمل معنيين ذكرهما المفسرون، وما دام أنّ كليهما يؤديان إلى غاية الاستدلال، فلا مانع من إبانتهما زيادة في الحجة والبرهان وهما على ما يلي:
المعنى الأول: وهو الذي ذهب إليه عمدة المفسرين ابن جرير الطبري٣ وتبعه فيه ابن كثير٤ (رحمهما الله) وحاصله أنّه لو كان الأمر كما يزعمون من
_________
١ انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج١٥ ص١١٠.
٢ انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ج١٥ ص١١٠_١١١.
٣ هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر: المؤرخ المفسر الإمام، ولد في آمل طبرستان عام ٢٢٤هـ واستوطن بغداد وتوفي بها عام ٣١٠هـ، عرض عليه القضاء فامتنع والمظالم فأبى، من أشهر مؤلفاته: أخبار الرسل والملوك، جامع البيان في تفسير القرآن، اختلاف الفقهاء (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ج٢ ص٣٥١؛ البداية والنهاية لابن كثير ج١١ص١٥٦-١٥٨؛ لسان الميزان لابن حجر ج٥ ص١٠٠-١٠٣؛ سير أعلام النبلاء للذهبي ج١٤ ص٢٦٧ –٢٨٢؛ الأعلام للزركلي ج٦ ص٦٩) .
٤ هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوّ بن درع القرشي البصروي ثمّ الدمشقي، أبو الفداء، عماد الدين: حافظ مؤرخ ومفسر وفقيه. ولد في قرية من أعمال بصرى الشام عام ٧٠١هـ، وانتقل مع أخ له إلى دمشق عام ٧٠٦ هـ، ورحل في طلب العلم وتوفي في دمشق عام ٧٧٤هـ. من أشهر مؤلفاته: البداية والنهاية، تفسير القرآن العظيم، الباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث، الفصول في اختصار سيرة الرسول. (انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامن لابن حجر ج١ ص٣٧١؛ النجوم الزاهرة لابن تغري بردي ج٩ ص٢٩٢؛ طبقات الشافعية للسبكي ج٦ ص٨٤؛ الأعلام للزركلي ج١ ص٣٢٠) .
1 / 32
أنّ مع الله آلهة أخرى إذًا لابتغت تلك الآلهة سبيل القربة منه والتمست الزلفة لديه والمرتبة عنده لأنهم دونه؛ وهم قد اعتقدوا أنّها تقربهم إلى الله زلفى؛ فإذا علموا أنّ هذه الآلهة هي ذاتها محتاجة إلى الله تعالى؛ فقد بطل بذلك أنّها آلهة١ وفي هذا المعنى يقول ابن كثير: "لو كان الأمر كما يقولون وأنّ معه آلهة تُعبد لتقرب إليه وتشفع عنده لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه.."٢.
المعنى الثاني: أن يكون المراد بالسبيل طريق السعي إلى الغلبة والقهر، أي لطلبوا مغالبة الله ذي العرش. ووجه هذا المعنى أنّ من شأن أهل السلطان أن يسعوا لتوسعة ملكهم وسلطانهم؛ ويكون ذلك بمغالبة ومقاتلة ومنازعة غيرهم من السلاطين والملوك، فلو كان مع الله آلهة لسلكوا عادة أمثالهم. وتمام هذا الدليل محذوف للإيجاز، ويدلّ عليه ما تستلزمه المغالبة والمدافعة من اختلال العالم وفساده لانشغال مديريه بمقاتلة بعضهم بعضًا. وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين٣.
_________
١ انظر: تفسير الطبري ج١٥ ص٦٤؛ تفسير القرطبي ج١٠ ص٢٦٦.
٢ تفسير ابن كثير: ج٣ ص٤١.
٣ انظر: تفسير البغوي ج٣ ص١١٦؛ تفسير القرطبي ج١٠ ص٢٦٥؛ تفسير أبو السعود ج٥ ص١٧٤؛ تفسير الخازن ج٤ ص١٦١؛ تفسير الألوسي ج٥ ص٨٢_٨٣؛ تفسير زاد المسير ج٥ ص٣٨؛ تفسير محاسن التأويل للقاسمي ج١٠ ص٢٣١؛ تفسير فتح القدير للشوكاني ج ٣ ص٢٣٦؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج١٥ ص١١١؛ أضواء البيان للشنقيطي ج٣ ص٥٩٤.
1 / 33
لطيفة: إنّ في استحضار الذات العليّة بوصف ﴿ذِي الْعَرْشِ﴾ دون اسمه العلم لما تتضمّنه الإضافة إلى العرش من الشأن الجليل الذي هو مطمع الآلهة في ابتغاء القربة والزلفى من سعة ما عنده تعالى على المعنى الأول، أو الذي هو مثار حسد الآلهة إياه وطمعهم في انتزاع ملكه تعالى على المعنى الثاني١.
مطلب: في بيان آية التسبيح وغايته:
- لمّا أقام الله ﷿ الدليل القاطع على كونه منزهًا عن الشركاء؛ وعلى أنّ القول بإثبات الآلهةقول باطل، أتبعه بما يدلّ ويؤكِّد على تنزيهه عن هذا القول وتلكم الفرية والبهتان فقال منزهًا ذاته وممجّدها ومقدّسها عمّا لا يليق بها ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ ٢.
- ولم يقتصر التنزيه على لفظة ﴿سُبْحَانَهُ﴾ وإن كانت تؤدي إلى المعنى المراد؛ ولكنّما جيء بعدها بقوله: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا٣ كَبِيرًا﴾، وذلك لمزيد التأكيد لمعنى تنزيه الله ﷿ عن قولتهم الشنيعة في حقِّه العظيم وشأنه الجليل.
_________
١ انظر: تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: ج١٥ ص١١٢.
٢ انظر: تفسير الطبري ج١٥ ص٦٥؛ تفسير القرطبي ج١٠ ص٢٦٦؛ التفسير الكبير للفخر الرازي ج٢٠ ص٢١٧؛ تفسير ابن كثير ج٣ ص٤١؛ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ج ١٥ ص١١٣.
(علوًا) مفعول مطلق عامله (تعالى) جيء به على غير قياس فعله للدلالة على أنّ التعالي هو الاتصاف بالعلوّ بحقّ لا بمجرد الادّعاء (التحرير والتنوير لابن عاشور ج١٥ ص١١٣) .
1 / 34
ومبالغة في النزاهة -أيضًا- وصف العلّو بالكبر؛ وليدلّ على أنّ المنافاة بين ذاته وصفاته ﷿ وبين نسبة الشريك له بلغت في القوة والكمال بحيث لا يشوبها شيء من جنس ما نسبوه إليه١ والمعنى: أي تعاظم عن ذلك -تعالى- تعاظمًا كبيرًا غاية في الكمال لايشوبه شيء من جنس ما نُسب إليه، فإنّ مثل هذه الفرية والبهتان ممّا يتنزه ويترفع عنه مقامه الأسمى٢.
لطيفة: ذكر صاحب محاسن التأويل (القاسمي) ٣ لطيفة بلاغية ههنا فقال: "قال الشهاب: وذِكْرُ العلّو بعد عنوانه بـ (ذي العرش) -في الآية قبلها- في أعلىمراتب البلاغة"٤.
مطلب: في فائدة ذكر تسبيح السموات والأرض ومن فيهن بعد تسبيح الله ذاته:
- بعد تنزيه الله تعالى ذاته العليّة من تلك الفرية الزريّة يذكر سبحانه تسبيح السموات والأرض ومن فيهنّ له بقوله: ﴿تُسَبِّحُ٥ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ
_________
١ انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج٢٠ ص٢١٧؛ فتح القدير للشوكاني ج٣ ص٢٣٦؛ التحرير والتنوير لابن عاشور ج١٥ ص١١٣.
٢ انظر: محاسن التأويل للقاسمي ج١٠ ص٢٣٢.
٣ هو جمال الدين أو محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، من سلالة الحسين بن علي ﵁ إمام الشام في عصره علمًا بالدين وتضلعًا من فنون الأدب، مولده ووفاته في دمشق. رحل إلى مصر، وزار المدينة. له مؤلفات أشهرها: محاسن التأويل في التفسير موعظة المؤمنين. ولد عام ١٢٨٣؟ وتوفي عام ١٣٣٢؟. (انظر: الأعلام للزركلي ج٢ ص١٣٥) .
٤ محاسن التأويل للقاسمي ج١٠ ص٢٣٢.
٥ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف (تسبح) بتاء جماعة المؤنث، وقرأ الباقون (يسبح) [انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج ٢ ص٣٠٧] .
1 / 35