ولما أيس من ليلى حين ارتحلت مع زوجها واشتد هيمانه أجمع قومه أن يتقدموا إلى أبيه في حمله إلى مكة فعل الله أن يخفف عنه، ففعل وسار معه ابن عمه زياد بن كعب فمروا بحمامة على دوحة تنوح فوقف المجنون صاغيًا لها ويخلف معه ابن عمه فقال له سر بنا فقد أبعد الرفاق فتنفس الصعداء وأنشد:
أأن هتفت يومًا بواد حمامة ... بكيت ولم يعذرك بالجهل عاذر
دعت ساق حر بعدما غلت الضحى ... فهاج لك الأحزان إن ناح طائر
تغنى الضحى والصبح في مر حجنة ... كثاف الأعالي تحتها الماء حائر
كان لم يكن بالغيل أو بطن ايكة ... أو الجزع من قول الاشاءة حاضر
يقول زياد إذ رأى الحي هجروا ... أرى الحي قد ساروا فهل أنت سائر
وإني وإن غال التقدم حاجتي ... ملم على أوطان ليلى فناظر
ودخل مكة فنظر إلى الناس وهم يدعون ربهم محرمين فأنشد:
دعا المحرمون الله يستغفرونه ... بمكة وهنا إن تمحى ذنوبها
وناديت أن يا رب أول سؤلتي ... لنفسي ليلى ثم أنت حسيبها
فإن أعط ليلى في حياتي لا يتب ... إلى الله خلق توبة لا أتوبها
فزجره أبوه عن ذلك وأمره أن يدعو الله أن ينسيه ذكرها وأخذه حتى أمسكه أستار الكعبة ثم قال له قل اللهم انسني ذكرها وامح من قلبي حبها فقال اللهم اجمعني بها وارزقني حبها وزدني بها كلفأ وفيها تلفًا وأنشد مكملًا للأبيات السابقة:
يقر لعيني قربها ويزيدني ... بها عجبًا من كان عندي يعيبها
فكم قائل قد قال تب فعصيته ... وتلك لعمري توبة لا أتوبها
فيا نفس صبر الست والله فاعلمي ... بأول نفس غاب عنها حبيبها
ولما اجتمع الناس بمنى سمع هاتفًا يهتف بليلى فخر مغشيًا عليه إلى الصباح ثم أفاق متغيرًا حائل اللون وأنشد:
عرضت على نفسي العزاء فقيل لي ... من الآن فايأس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوى وأصبح تائبًا ... فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداع دعا إذ نحن بالخيف من مني ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرًا كان في صدري
دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه ... وليلى بأرض عنه نازحة قفر
ثم انساب منهم وكانت هذه سياحته الكاملة فجعل يقتات بعشب البر حتى طالت أظفاره وغطاه شعره فألفته الوحوش فكان يرد الماء معها ثم يهيم على وجهه حتى يقع بالشام فيرى أقوامًا وأرضًا ينكرها فيقول أين جبل توباد من بني عامر وهو جبل. كان يرعى هو وليلى عنده الغنم فيقولون له أين أنت من توباد ويعرضون عليه الثياب والطعام فيأبى ويقول دلوني عليه فيرحمونه ويقولون له اتبع نجم كذا يوصلك إليه فيمضي حتى يقع باليمن فيكون له مثل ذلك إلى أن يظفر أحيانًا بالجبل فينشد حين ينظره:
وأجهشت للتوباد حين رأيته ... وكبر للرحمن حين رآني
وأذريت دمع العين لما عرفته ... ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له قد كان حولك جيرة ... وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
وقلت له أين الذين عهدتهم ... بقربك في حفظ وطيب أمان
فقال مضوا واستودعوني ديارهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لابكي اليوم من حذري ... غدًا فراقك والحيان مؤتلفان
سجالًا وتهتانًا ووبلًا وديمة ... وسحًا وتسجالًا وتنهملان
وعن فتى من قيس أو هو رباح بن مالك قال لما أخذ المجنون إلى مكة للاستشفاء كما مر مررت يومًا وإذا أنا بجماعة قد تعلقوا بشخص متغير اللون ناحل البدن وقد هم أن يلقي نفسه من جبل فسألت عنه فإذا هو المجنون خرج ليتنسم صبا نجد فقلت علام تحبسونه قالوا نخاف أن يجني على نفسه ولو تقدمت إليه فأخبرته أنك من نجد أسكنت روعه ففعلت فجعل يسألني عن موضع موضع ويبكي أحر بكاء ثم أنشد:
ألا حبذا نجد وطيب ترابها ... وأرواحها إن كان نجد على العهد
1 / 49