وعن أبي الفتح بن سحنون قال كان سعدون صاحب محبة الله لهجًا بالقول صام ستين سنة حتى خف دماغه فسماه الناس مجنونًا لتردد قوله في المحبة فغاب عنا زمانًا وكنت مشتاقًا إلى لقائه فبينما أنا بفسطاط مصر على حلقة ذي النون وإذا به وعليه جبة من صوف فنادى يا ذا النون متى يكون القلب أميرًا بعدما كان أسيرًا فقال إذا اطلع الخبير على الضمير فلم ير فيه إلا هو قال فخر مغشيًا عليه ثم أفاق وهو يقول:
ولا خير في شكوى إلى غير مشتكي ... ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر
ثم قال يا أبا الفيض إن من القلوب قلوبًا تستغفر الله قبل أن تذنب قال نعم تلك قلوب تثاب قبل أن تطيع قال يا أبا الفيض اشرح لي ذلك قال يا سعدون أولئك أقوام أشرقت قلوبهم بضياء روح اليقين فهم قد فطموا النفوس عن روح الشهوات فهم رهبان من الراهبين وملوك العباد وأمراء في الزاد للغيث الذي أمطر في قلوبهم المولهة بالقدوم إلى الله تعالى شوقًا فليس فيهم من آنس بمخلوق ولا مسترزق من مرزوق فهو في الملأ حقير وعند الله خطير ثم ولى.
وعن أبي سليمان قال مررت ليلة فسمعت في جبل اللكام رجلًا يقول في دعائه سيدي وأملي وموئلي ومن به تم عملي أعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك وقلب لا يشتاق إليك ودعاء لا يصل إليك وعين لا تبكي عليك فعلمت أنه عارف ثم صعق فتركته وانصرفت وإذا أنا برجل نائم فركضته وقلت قم فإن الموت لم يمت فرفع رأسه وقال ما بعد الموت أشد منه.
وعن عبد الله بن المبارك قال مررت في سياحتي بالشام بطبيب يصف لكل ما يحب فقلت له يا طبيب أعندك دواء المذنوب فقال نعم فلما تفترق الناس قال لي يا هذا عليك بورق الفقر وعروق الصبر واهليلج الصاف وبليلج الرضا وغارقون في الكتمان وسقمونا الأحزان فأمر سهم بماء الأجفان ودعهم في طاجن القلق وأوقد تحتهم نار الفرق وصفهم بمنخل الأرق واشربهم على الحرق فإنه شفاؤك وأنشد:
يا طبيبًا بذكره يتداوى ... وصفوه لكل داء غريب
ليس حزني عليك شيء عجيب ... إنما الصبر عنك شيء عجيب
وسئل أبو بكر الشبلي ما علامات العارف قال صدره مشروح وقلبه مجروح وجسمه مطروح قيل من العالم قال من عرف الله وعمل بما علمه الله وأعرض عما نهاه الله قيل فما الصوفي قال من صفا قلبه ورمى الدنيا وجفا الهوى واتبع المصطفى قيل فما التصوف قال التألف والأعراض عن التكلف وأحسن منه تصفية القلوب لعلام الغيوب وأحسن منه التعظيم لأمر الله والشفقة على عباد الله وأحسن منه من صفا من الكدر وخلص من العكر، وامتلأ من الفكر وتساوى عنده الذهب والمدر.
وعن إبراهيم بن أدم ﵁ قال كنت يومًا من الأيام مارًا بقبر فترحمت عليه وبكيت عليه فسألني من معي عنه فقلت قبر حميد بن جابر أمير هذه المدن غرق في الدنيا ثم استنقذه الله بلغني أنه سر يومًا من الأيام بما هو فيه ثم نام مع بعض محاظيه فرأى رجلًا واقفًا على رأسه وفي يده كتاب فناوله إياه ففتحه فإذا هو مكتوب بالذهب لا تؤثر فانيا على باق ولا تغتر بملكك وسلطانك وخدمك ولذاتك فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم وملك لولا أن بعده هلك وفرح وسرور لولا أن بعده غرور فسارع إلى أمر الله فإنه يقول وسارعوا إلى مغفرة من ربكم فانتبه مرعوبًا وخرج إلى هذا الجبل فما زلت أتعهده حتى مات ودفن ههنا.
وحكي أن ملكًا أراد الركوب يومًا فدعا بثياب الزينة فجيء بها فردها وقال أريد ثياب كذا فجيء بها فردها حتى جيء بأصناف كثيرة ثم اختار ما أراد وفعل كذلك بالدواب فلما ركب نفخ إبليس في أنفه فعلاه من التكبر ما لا يوصف حتى أنه لم يخاطب أحدًا فبينما هو في موكبه إذا برجل رث الهيئة قد قبض على لجام دابته وهو يقول لي إليك حاجة قال حتى أرجع قال لا بل مكانك قال اذكرها فقال أدن مني فطأطأ فقال له أنا ملك الموت فتغير واضطرب وسأله أن يعود فيودع أهله فأبى وقبضه مكانه.
وحكى أنه عارض في ذلك الوقت رجلًا زاهدًا فقال له كما قال للملك فقال حبًا وكرامة فقال له ملك الموت هل لك حاجة تمضي إليها فقال لا حاجة أحب إلي من لقاء الله فقال اختر على أي حالة أقبضك فقال ألك ذلك قال نعم فتوضأ وصلى فلما سجد قبضه.
1 / 19