الجواب أن المراد بالأجل مدة لها نهاية وزمان لا ينتهى، { ثم أنتم تمترون } تشكون أيها المشركون فى البعث، وثم لاستبعاد أن يكون امتراؤهم حقا جائزا بعد أن ثبت عندهم أنه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم، فكيف لا يقدر على ردهم بعد الموت؟ فإنه أهون من خلقهم فى بادئ الرأى وسواء فى الحقيقة.
[6.3]
{ وهو } أى الله بمعنى واجب الوجود، أو الشأن فتكون الجملة بعد خبره { الله } أى المعبود، ولتضمنه معنى المعبود علق به قوله { فى السماوات وفى الأرض } وذلك نظرا إلى أصل لفظ الجلالة فى الاشتقاق فيجوز أن يتعلق به أيضا اعتبارا لمعنى العلو أو التحير إليه، أى العالى الشأن فيهما، أو المتحير إليه فيهما، أو باعتبار معنى المالك أو المتصرف أو نحو ذلك، أو تعلق به لملاحظة أحد تلك المعانى بلا نظر إلى اشتقاق، فصلح التعلق، ولو على القول بعدم الاشتقاق، كما علق بأسد لملاحظة معنى الشجاع بلا اشتقاق فى لفظ أسد، أو عبر عن علمه بما فيهما بكونه فيهما، تعالى عن الكن، ويضعف تقدير وهو الله المعبود أو المدبر فى السماوات وفى الأرض لقلة حذف النعت، ويضعف تعليقه بسركم لضعف تقدم معمول المصدر ولو ظرفا، إلا أنه يسهله أن هذا المصدر ليس منحلا إلى حرف المصدر والفعل مع أن المعمول ظرف، ويضعف التعليق بيعلم من قوله { يعلم سركم وجهركم } لأنه يوهم استقراره فيهما حاشاه، وكون المعمول فيهما لا يسيغ هذا التعليق كما قيل، وأما قولك: رميت الصيد فى الحرم إذا رميته وأنت فى غير الحرم فأساغه أن الرمى صادفه فى الحرم، أو فى الحرم حال من الصيد، والسر أفعال القلوب، والجهر أفعال الجوارح { ويعلم ما تكسبون } يعلم نفس المكسوب من طاعة أو معصية، ومن ثواب أو من عقاب فيجازيكم، أو السر والجهر ما قد يخفى وقد يظهر، وما تكسبون أفعال الجوارح، ودخل فى الكسب الترك لوجه الله عز وجل كترك المعصية لوجه الله سبحانه وتعالى.
[6.4]
{ وما تأتيهم } المضارع لحكاية الحال، والأصل وما أتتهم، أو للاستمرار التجددى، والهاء لأهل مكة { من } صلة للتأكيد، و { آية } دليل { من آيات ربهم } دلائله، أو معجزة من معجزاته، أو آية من القرآن أو ذلك مطلقا، والمراد الدالة على الوحدانية، وأضاف الآيات للرب عز وجل تفخيما لشأنها، فذلك تهويل عليهم باجترائهم في حقها { إلا كانوا } والمعنى ما أتتهم إلا كانوا، وما تأتيهم إلا يكونون، والآيتان بمعنى النزول إن كانت الآية قرآنية، وبمعنى الظهور إن كانت معجزة فى الخلق،وبمعنى الحصول إن أريد الكل، أو الظهور مطلقا، فإن الحصول والظهور من لوازم المجئ { عنها معرضين } مهملين النظر فيها، والجملة حال.
[6.5]
{ فقد كذبوا بالحق } القرآن أو التوحيد { لما جاءهم } والباء لكون التكذيب بالقرآن كالدليل على التكذيب بما سواه، ولكونه كاللازم للتكذيب بغيره من المعجزات فهى للسببية أو للتعليل، أى كذبوا بالمعجزة أو الدليل لأنهم كذبوا بالقرآن أو التوحيد، أو سبب تكذيبهم بالدليل أو المعجزة تكذيبهم بالقرآن، وإذا فسرنا الحق بالقرآن ترجح أو تعين أن يراد بالآية غيره، ويجوز أن يراد بالحق الآية، فمقتضى الظاهر فقد كذبوا بها لما جاءتهم، ووضع الظاهر ليصفها بأنها حق، وصح هذا لأن الإعراض ليس نصا فى التكذيب، إلا أنه سبب للتكذيب، أو ملزوم له، ويجوز أن يكون المراد بالحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز على ضعف أن تكون الباء تعليلا لجواب شرط قائمة مقام فاء الجواب، أى إن كانوا معرضين عن الآية فلا تعجب، لأنهم قد كذبوا بما هو أعظم آية وهو الحق، وفيه كثرة الحذف، وفيه النيابة معه، وفيه أن الحق من الآيات، وصف الله عز وجل كبار مكة أولا بالإعراض عن التأمل فى الدلائل والآيات لأنه أدنى قبحهم، فإن المعرض عن الشئ قد لا يكذبه، ولا يستهزئ به. وثانيا بالتكذيب لأنه أقبح من الإعراض إلا أنه قد لا يستهزئ، وثالثا بالاستهزاء وهو أشد قبحا إذ قارنه التكذيب المقرون بالإعراض، فهو الغاية في القبح، ولذلك ختم به إذ قال { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } وقد يكون الاستهزاء بلا تكذيب، وهو دون التكذيب، والأنباء أنواع العذاب سماها أنباء لأنها ينبأ أى يخبر بها، وإضافتها لما كانوا به يستهزئون، لأن ما كانوا به يستهزئون هو الآيات المتلوة والمعجزات، وهن سبب لأنواع العذاب، وملزوم لها بتوسط استهزائهم، أو أضافها لما كانوا به يستهزئون لأنهن الآيات، وهن مخبرات بأنواع العذاب، والمراد مضمون أنباء ما كانوا به يستهزئون، فحذف المضاف، والنبأ ما يعظم وقعه من الأخبار، وهو أخص من الخبر، وفى الآية إيذان بغاية عظم عذابهم، وهو فى الدنيا مستتبعا بعذاب الآخرة، ويضعف أن يفسر بعذاب الآخرة أو بهما، أو بظهور الإسم وعلوه، لأنه لا يناسب ذكر الإهلاك فى قوله عز وجل.
[6.6]
{ ألم يروا } أى أهل مكة فى سفرهم إلى اليمن شتاء، وإلى الشام صيفا، وإلى غيرها للتجارة أو غيرهما { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } إلخ، فإنه إهلاك فى الدنيا، إلا أنه متتبع بعذاب الآخرة، وللانتقام لدين الله عز وجل، وكم خبرية للتكثير مفعول لأهلكنا، والجملة مفعول للرؤية البصرية، علقتها كم لأن معنى التعليق التعميد عن نصب مفرد أو مفردين، أو مفرد وجملة، سواء دخل المعلق على جملة اسمية أو فعلية، والقرن أهل عصر فيهم نبى أو فائق فى العلم،ولو قلت المدة كما قال الزجاج، ويحتاج سموا لاقترانهم مدة من الزمان، أو المقدار الأوسط من أعمار كل أهل عصر، أو ثمانون سنة، أو سبعون سنة، أو ستون أو أربعون أو ثلاثون، أو تسعون، أو عشرون، أو خمسون أو عشرة، أو ثمانية وعشرون، أو مائة وعشرون أو مائة، لقوله صلى الله عليه وسلم لصحابى: تعيش قرنا. فعاش مائة، أو القرن تلك الأزمنة، فيقدر مضاف أى أهل قرن، ولفظ القرن من قرن الشئ بالشئ، واصحابى الذى قال له: تعيش قرنا فعاش مائة هو عبد الله بن بشر المازني، ويجوز أن الرؤية علمية، وأنهم عارفون ذلك برؤية الآثار، وبسماع الأخبار، والمراد من قبل زمانهم أو من قبل خلقهم، كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وقوم شعيب، وفرعون وغيرهم، وكأنه قيل ما حالهم، فقال عز وجل { مكناهم فى الأرض } كعاد وثمود { ما لم نمكن لكم } أو الجملة نعت، والمراد ما لم نمكن لكم يا أهل مكة من طول العمر وعظم الجسم والعدد وسعة الرزق والكثرة، وما واقعة على التمكين فهى مفعول مطلق موصول أو نكرة موصوفة، وليس المراد أنها نعت لمحذوف فضلا عن أن يقال أنها لا ينعت بما، بل معناها التمكين الذى لم نمكنه، أو تمكين ما لم نمكن... إلخ.. ولا يجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف، أى تمكينا ما إلخ..ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا لمكنا لتضمنه معنى أعطينا، ومكن يتعدى بنفسه تارة وبالحرف أخرى كنصحته، ونصحت له، وذكر أبو عبيدة اللغوى أنهما لغتان، قيل واللام أكثر. ومكناه فى كذا أثبتناه فيه { ولقد مكناكم فيما إن مكناكم فيه } ومكنا له جعلنا له مكانا. إنا مكنا له فى الأرض { أو لم نمكن لهم حرما آمنا }. أى جعلنا لهم حرما آمنا مكناه، ولكم خطاب التفت الكلام فيه عن الغيبة فى يروا وأهلكناهم، وإنما قلت الخطاب لأهل مكة لما فيه من الارتباط لما قبله، ولو جاز كونه لجميع الناس، وأبعد من هذا كونه للمؤمنين { وأرسلنا السماء } المطر كما روى عن ابن عباس، وكل ما علاك فهو سماء، أو السحاب، فإنه علاك، أى أرسلنا ماء السحاب، أو السماء الدنيا أى أرسلنا ماء السماء الدنيا { عليهم مدرارا } وجه إرسال السحاب أو السماء الدنيا مدرارا، إرسال مائها على حذف مضاف، كما رأيت أو كأنها أرسلت هى لأن إرسال المطر منها، والله قادر أن يبلغ الماء من السماء الدنيا فى أقل من لحظة، أو جعله الله مستمر النزول في الأزمنة المتطاولة إلى مواقعه، ومدرار متتابع أو كثير مأخوذ من درت الناقة مثلا تتابع لبنها للحالب لكثرته، أو كثر، حال من السماء، وذكر، ولو جعلنا السماء بمعنى السماء الدنيا أو السحاب مع أنهما مؤنثان لأن مفعالا وفعولا وفعالا فى المبالغة يستوى فيهن المذكر والمؤنث، وتفسير السماء بالسحاب أو المطر أولى لشمول الماء النازل من السماء الدنيا والمنعقد من البحار والعيون والبخار { وجعلنا الأنهار } صيرناها أو أوجدناها { تجرى من تحتهم } قيل من فى مثل هذا زائدة فى الإثبات والتعريف، وقيل بمعنى فى، ويجوز أن تكون ابتدائية فإنها ولو جرت متطاولة إلا أن كل مسكن مبدأ لما بعده، والمعنى من تحت مساكنهم، أو تحت أبدانهم، فإن الماء الجارى يعلوه القائم والقاعد { فأهلكناهم } استأصلناهم والفاء للتعقيب، أو عاطفة على محذوف أى كفروا فأهلكناهم بلا فاء فى المقدر أو بها { بذنوبهم } أى بسبب ذنوبهم من شرك، ومعاصيهم، ولم يمنعهم ثمار أشجارهم، وحب حرثهم الكثير العظيم المتولد من الأنهار والمطر ولا كثرة عددهم ولا قوة أجسامهم وآلاتهم.
فخافوا يا أهل مكة أن ينزل بكم الإهلاك كما نزل بهم، وقد كفرتم كما كفروا بتكذيب الأنبياء والكتب وسائر معاصيهم، وهذا محط قوله: ألم يروا إلخ { وأنشأنا من بعدهم } بعد إهلاكهم { قرنا آخرين } بدلهم، يعمرون البلاد، وهذا بيان لكمال قدرته، فلا ينقص إهلاكه تلك القرون من ملكه شيئا، بل كلما أهلك أمة أحدث بعدها أخرى. فخافوا يا أهل مكة أن يبدلكم بغيركم، والجمهور على أن القرن مائة سنة، للحديث المذكور، والقول بأنه مائة وعشرون هو قول إياس بن معاوية بن زرارة بن أبى أوفى، والقول بالثمانين لابن عباس، رواه عنه تلميذه صالح، والقول بالسبعين للفراء، واحتج القائل بالسبعين بقوله صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة