[البقرة: 185] رحمة منه تعالى ولا تطيق النفس رفع الهاجس ولا الخاطر بعده، ولا حديث النفس بعد الخاطر، ولا الهم الشىء بعد حديثها، وإن تبدوا ما فى أنفسكم يشملهن لفظه، ولو أن المراد فيه العزم بعد الهم، فأخبرهم الله بأن المحاسبة على العزم، لأنه هو الذى للنفس طاقة على تركه، والأربعة قبله ضرورية، وذلك دليل على أن لا تكليف بالمحال، وهو ولو كان غير واقع لكنه جائز، وقيل: واقع، وفائدته القبول، والتهيؤ، ثم يظهر أنه لا يكلف به بعد أن تهيأ، وقيل: كما جاء فى قصة نبى، فإن أمر بأكل أول ما يظهر له جبل فعزم على أكله؛ فلما قرب منه ازداد صغرا حت وصله، فوجده لقمة عسل، وإما أن يقع ويبقى فلا، ولا خلاف فى جواز التكليف بالممتنع لغيره، كتعلق علم الله بخلافه كتكليف من علم الله أنه لا يؤمن بالإيمان، وذلك أولى من أن يقال: " المعنى لا يكلف الله نفسها إلا غاية طاقتها " ثم نسخ بقوله:
يريد الله بكم اليسر
[البقرة: 185] على أنه نزل بعد هذا وتلى قبله، ولا دليل على ثبوت هذا، وأولى من أن يقال قوله: ما فى أنفسكم على عمومه، ثم نسخ بقوله تعالى " لا يكلف الله نفسا "... الخ، فلا يكلف الله إلى آخره بيان لما فى أنفسكم ولا نسخ. روى لما نزل، وإن تبدوا... الخ جاءوا، فقالوا: كلفنا الصلاة والصوم والزكاة والجهاد وأطعنا، ولا طاقة لنا بما فى النفس وجثوا على ركبهم، فقال صلى الله عليه وسلم:
" أتقولون كأهل الكتاب سمعنا وعصينا "
، وقولوا: سمعنا وأطعنا فنزل، آمن الرسول، قلت: ولعل معنى النسخ فى ذلك بيان أن ذلك غير مراد بالتكليف، ثم والله رأيته لبعض المحققين ممن تقدم، والتكليف إلزام ما فيه الكلفة أى المشقة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته { لها ما كسبت } من خير تثاب عليه، وما كسب لها ميتة أو حية فى هذه الأمة { وعليها ما اكتسبت } من الشر، تعاقب عليه، وهكذا اللام للخير، وعلى للضر عند الإطلاق، ويعكس لدليل، كقوله تعالى: ولهم اللعنة، فهى للاستحقاق، وعليهم صلوات من ربهم ورحمة، أو يستعملان كذلك عند التقارب كالآية، وكقوله تعالى:
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها
[الجاثية: 15] والاكتساب افتعال، ومن معانيه المبالغة، فإن النفس تنجبذ إلى الشر اللائق بها أكثر مما تنجبذ إلى الخير لثله عليها، أو أصل الشر أن يكون صعبا للعقاب عليه ولخسته بالنهى عنه، فكأنه لا يرتكب إلا بعلاج، وليس عليها وزر غيرها، إلا ما يلحقها بسنها سيئة { ربنا لا تؤاخذنآ } هذا إلى آخر السورة من جملة ما يحكى بقوله تعالى: وقالوا، وقوله تعالى: " لا يكلف الله " إلى: ما اكتسبت معترض، لا كما قيل: إن قوله تعالى: لا يكلف الخ. من مقولهم أيضا، وما ذكرته من دخول قوله تعالى " ربنا لا تؤاخذنا " فى جملة مقولهم أولى من تقدير، يقولون ربنا لا تؤاخذنا، وأولى من قول الحسن: قولوا ربنا لا تؤاخذنا... الخ، والمعنى: لا تؤاخذنا بما يورث النسيان والخطأ من قلة المبالاة وترك التحفظ وغيرهما، مما يدخل تحت وسعنا وقدرتنا، وأما نفس النسيان والخطأ فمر فوعان كما فى الحديث، أعنى رفع العقاب عليهما، فذلك مجاز بطريق ذكر المسبب فى قوله { إن نسينآ أو أخطأنا } وهو النسيان والخطأ وإرادة السبب، وهو قلة المبالاة وما ذكر معها، ومثل ذلك أن ترى نجسا فى ثوبك أو بدنك قبل وقت الصلاة فتتركه، فتنى فلا يحسن ذلك، إذ لولا التأخير لم يقع ذلك، وقيل: المراد بالنسيان الشرك، وقيل الخطأ المعصية، ويجوز إبقاء الكلام على ظاهره، بأن يكون الأصل المؤاخذة على النسيان والخطأ كالسم يهلك من لم يتعمده كما تعمده، فتجاوز الله عنهما، دعوا فأجاب الله لهم من لدن آدم، فكرروا الدعاء، أو أمرهم الله أن يدعوا تذكيرا للنعمة واعترافا. والمؤاخذة عليها غير ممتنعة عقلا، مع أنا لا نعتبر التحسين والتقبيح العقليين فى التكليف، ويضعف أن يقال هذا الدعاء أول الإسلام، إذ لا دليل عليه، ويضعف أن يقال المراد الدعاء بدوام عدم المؤاخذة على النسيان، والخطأ، حتى مات صلى الله عليه وسلم، ولم تزل عليه المؤاخذة بهما، فانقطع الدعاء بدوام عدمها، أو تدام تعبدا، والمفاعلة فى تؤاخذنا ليست على بابها، بل كالمسافرة، أو على بابها، بأن يعتبر أن المعصية كالمحاربة لله { ربنا } تأكيد للأول، أو ربنا استجب لنا { ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } عطف على تؤاخذنا، أو على استجب المقدر، والإصر الأمر الثقيل يأصر حامله، أى يحبسه فى مكة لثقله، والذين من قبلنا بنو إسرائيل، كانت عليهم تكاليف شاقة، كالتكليف بقرض موضع النجس غير العورة فى بعض وفى بعض الأزمة من أجسادهم وثيابهم، وقتل النفس فى التوبة فى عبادة العجل، وفى غيرهم، فى بعض الأشخاص، يكتب الله على باب أحدهم توبتك من ذنب كذا أن تقتل نفسك، وخمسين صلاة فى اليوم والليلة، وكربع المال زكاة، وقال بعض محشى الكشاف يقطعون الموضع النجس من ثيابهم ومن الجلود التى يلبسونها، كالخف والقرق لا من أجسادهم، لأنه يؤدى إلى نجس آخر، هو الدم، وليس المراد فى الآية ما أصابهم من مسخ وقذف كما قيل، لأنه لا تكليف فيه، والكلام فى التكليف { ربنا } تأكيد أو يقدر، ربنا ارحمنا { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من التكليف، فهو تأكيد، أو البلاء والعقوبات فلا تأكيد، ويستدل بهذا على جواز التكليف بما لا يطاق لكنه غير واقع كما دل عليه، لا يكلف الهل نفسا إلا وسعها، ومر كلام فيه، والمعتزلة لم يقولوا بجوازه فضلا عن وقوعه { واعف عنا } أى امح ذنوبنا ولا تؤاخذنا { واغفر لنا } عيوبنا، أى استرها، فلا تفتضح بها، أو بذنوبنا دنيا ولا أخرى، فبعد عدم المؤاخذة يمكن الافتضاح، وبإعطاء كتبنا فى أيماننا، وبالجنة، وقيل اعف عن أفعالنا، واغفر أقوالنا وارحمنا بثقل الميزان { أنت مولنا } سيدنا ونحن عبيدك، ومتولى أمورنا دنيا وأخرى { فانصرنا على القوم الكفرين } أى لأن من حق السيد أن ينصر عبيده ورعيته، ولذلك كان بفاء السببية، والنصر على كل كافر، محارب أو غير محارب، لأن من شأنهم حب المضرة لأهل الإسلام والذل، ولا بعد فى شموله كفرة الجن، لأنهم يضرون الأبدن ويحبون المضرة والذل للمسلمين كما يحبونها لغير المسلمين، روى مسلم،
" لما نزلت هذه الآية، أى لا يكلف الله نفسا إلى آخر السورة وقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقب كل كلمة، قد فعلت... "
اه، وكذا رواه ابن جرير الطبرى لكن مرسلا، وهن سبع، فبعد غفرانك قد غفرت لكم، وبعد، لاتؤاخذنا الخ لا أؤاخذكم، وهكذا، كما جاء عن ابن عباس بالتصريح بمعنى فعلت. وروى مسلم عن أبى مسعود الأنصارى عنه صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه عن قيام الليل "
صفحة غير معروفة